مجلة الرسالة/العدد 1013/في ظلال مولد الرسول
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 1013 في ظلال مولد الرسول [[مؤلف:|]] |
من أحاديث الإذاعة ← |
بتاريخ: 01 - 12 - 1952 |
تفسير آية
للأستاذ سيد قطب
(تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، منهم من كلمهم الله، ورفع بعضهم درجات. وآتينا عيسى ابن مريم البيات، وأيدناه بروح القدس. ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، ولو شاء الله ما اقتتلوا، ولكن الله يفعل ما يريد).
(تلك الرسل). . لا هؤلاء الرسل. . إنهم جماعة خاصة، ذات طبيعة خاصة. ثم يجيء التفضيل والتفاضل في دائرة هذه الجماعة، أو هذه الطبيعة.
فما الرسالة؟ ما طبيعتها؟ كيف تتم؟ لماذا كان هؤلاء وحدهم رسلاً وبماذا؟
أسئلة طالما أشفقت أن أبحث لها عن جواب! إن حسي ليفعم بمشاعر ومعاني لا أجد لها كفاء في العبارات. ولكن لا بد من تقريب المشاعر والمعني بالعبارات!
إن لهذا الوجود سننا أصيلة، يشير إليها هذا القرآن فيقول: (سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا) هذه السنن هي القوانين الكونية التي أودعها الله في الوجود، ليسير على وفقها، ويتحرك بموجبها، ويعمل بمقتضاها.
والإنسان يكشف عن أطراف من هذه القوانين، كلما ارتقى في سلم المعرفة، يكشف عنها - أو يكشف له عنها - بمقدار يناسب علمه المحدود، المستمد من الملاحظة والتجربة، وهما وسيلتان جزئيتان في طبيعتهما؛ ولكنهما تقودان أحياناً إلى أطراف من القوانين الكلية، في آماد متطاولة من الزمان. ثم يظل هذا الكشف جزئياً لأن سر التناسق بين تلك القوانين كلها، الناموس الأزلي الخالد الذي بين القوانين جميعاً، ذلك السر يظل خافياً لا تهتدي إليه الملاحظة الجزئية، ولا التجربة الجزئية مهما طالت الآماد.
هنا يجيء دور الرسالة. دور الطبيعة الخاصة التي آتاها الله الاستعداد اللدني لتتجاوب في أعماقها - بطريقة ما نزال نجهل ماهيتها وإن كنا ندرك آثارها - مع ذلك الناموس الخالد الذي يسير الكون كله على هداه. . هذه الطبيعة الخاصة هي التي تلتقي الوحي، فتطيق تلقيه، لأنها مهيأة لاستقباله. أنها تتلقى الإشارة الإلهية التي يتلقاها هذا الوجود، لأنها متصلة اتصالاً مباشراً بناموس الوجود. . . كيف تتلقى هذه الإشارة، وبأي جهاز تستقبلها؟ نحن في حاجة - لكي نجيب - أن تكون لنا نحن هذه الطبيعة التي يهبها الله من يشاء من عباده. و (الله اعلم حيث يجعل رسالته).
كل الرسل أدركوا حقيقة (التوحيد). وكلهم بعثوا بها. ذلك أن إيقاع الناموس الواحد في حسهم كله هداهم إلى مصدره الواحد الذي لا يتعدد - وإلا لتعدد الناموس وتعدد إيقاعه في حسهم، وهم المتصلون اتصالاً مباشراً بالناموس الكوني في أعماقهم - وكان هذا الإدراك في فجر البشرية، قبل أن تنمو المعرفة الخارجية، وقبل أن تتكشف بعض القوانين الكونية. . وكلهم دعا إلى عبادة الله الواحد، لأن هذا المنطق الفطري، الناشئ من إيقاع الناموس الواحد، في الفترة الواصلة، المتصلة بناموس الكون الواحد.
ويوماً بعد يوم تكشفت أطراف من قانون الوحدة الأزلي الخالد في نظام الوجود. . . وحدة التكوين، ووحدة الحركة، وأخيراً - في هذه الأيام - وحدة (الذبذبات) لكل أنواع الذرات التي يتألف منها الكون المعروف. . . لقد تكشف أن الذرة - وهي طاقة - هي أساس تكوين جميع القوى والأجسام، ثم تكشف أن عدد (الذبذبات) الكهربائية واحد في جميع الذرات. . إنه طرف من قانون الوحدة يكتشف بمقدار ما تطيق الملاحظة والتجربة أن تبلغ. . أما الطبائع الخاصة الموهوبة فقد أدركت القانون كله في لمحة، لأنها تتلقى إيقاعه وتطيق وحدها تلقيه.
إنهم لم يجمعوا الأمثلة والشواهد على تلك الوحدة عن طريق التجارب العلمية؛ ولكنهم وهبوا جهاز استقبال كامل مباشر، فاستقبلوا إيقاع الناموس الواحد استقبالاً داخلياً مباشراً، فأدركوا إداركاً مباشراً أن الإيقاع الواحد لا بد من مبعث عن ناموس واحد، عن مصدر واحد. . واليوم تنبئ وحدة عدد الذبذبات الصادرة من جميع الذرات التي تلقتها أجهزة العلم الحديثة وسجلتها. . تنبئ على أن ذلك الجهاز اللدني في تلك الطبائع الخاصة الموهوبة، كان أسبق، وكان أدق، وكان أشمل وأكمل؛ لأنه أدرك ما وراء وحدة الإيقاع، من وحدة المصدر، ووحدة القدرة، ووحدة المشيئة.
ترى قد بلغت شيئاً في تصوير تلك المشاعر والمعاني، التي تفعم حسي تجاه الرسالة؟ أرجو. وإلا فليكتف القراء مثلي بتلك المشاعر والمعاني! و (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض). . والتفضيل هنا قد يتعلق بالمحيط المقدر للرسول. كأن يكون رسول أمة، أو جيل، أو أجيال، أو جميع الأجيال. كما يتعلق بالميزات التي يهبها لشخصه أو لأمته. أو بطبيعة الرسالة ذاتها ومدى شمولها لجوانب الحياة الكونية والإنسانية.
وقد ذكر النص هنا مثالين في موسى وعيسى؛ وأشار إشارة عامة إلى سواهما: (منهم من كلم الله - ورفع بعضهم درجات - وآتينا عيسى ابن مريم البينات، وأيدناه بروح القدس).
ولم يذكر محمداً - ﷺ - في صدر الأمثلة، لأن الخطاب موجه إليه، وهذا إخبار له عن غيره من الرسل فقد سبق هذه الآية قوله تعالى:
(تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين)
وحين ننظر إلى مقامات الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - من ناحية الاستعداد لإدراك الوحدة الكبرى، ومن ناحية شمول الرسالة لكل جوانبها، ومن ناحية محيطها وامتدادها نجد محمداً - ﷺ - في القمة العليا - فالإسلام هو أكمل تصوير لتلك الوحدة: وحدة الخالق الذي ليس كمثله أحد، ووحدة الإدارة التي يصدر عنها الوجود كله بكلمة: (كن). ووحدة الوجود الصادر عن تلك الإدارة، ووحدة الناموس الذي يحكم هذا الوجود، ووحدة الحياة في الخلية الساذجة إلى الإنسان الناطق، ووحدة البشرية من آدم إلى آخر أبنائه في الأرض، ووحدة الدين الصادر من الإله الواحد إلى البشرية الواحدة، ووحدة الرسل المبلغين لهذه الدعوة، ووحدة المؤمنين الذين لبوا دعوة الدعاة، ووحدة النفس البشرية جسماً وعقلاً وروحاً، غزيرة وميلاً وشوقاً، ووحدة العمل والعبادة ما دام كلاهما متجها إلى الله، ووحدة الدنيا والآخرة داري العمل والجزاء.
ومحمد - ﷺ - هو الذي أطاقت روحه التجارب المطلق مع الوحدة الكبرى، كما أطاق عقله تصور هذه الوحدة وتمثلها.
كذلك هو الرسول الذي أرسل إلى البشر كافة، من يوم مبعثه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. والذي اعتمدت رسالته على الإدراك الإنساني الواعي دون ضغط حتى من معجزة مادية قاهرة، ليعلن بذلك عهد الرشد الإنساني.
ومن ثم كان هو خاتم الرسل، وكانت رسالته خاتمة الرسالات، وهذا ما يعني أن أبرزه هنا، تفسيراً لانقطاع الوحي بعده. فلقد ارتسمت للبشرية في رسالته تلك الوحدة الكبرى وأعلن الناموس الخالد الذي لا يتبدل ولا يتحول. ومن ثم لم تعد إلا التفصيلات والتطبيقات، التي يستقبل بها العقل البشري، ولا تحتاج إلى رسالة إلهية أخرى.
وبعد فلقد اقتتل أتباع (تلك الرسالة) ولم يغن توحد طبيعتهم، وتوحد طبيعة الرسالة التي تجمعهم، عن اختلاف اتباعهم من بعدهم: حتى ليقتتلون من خلاف!
(ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات، ولكن اختلفوا، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، ولو شاء الله ما اقتتلوا، ولكن الله يفعل ما يريد).
ولكن هذا الاختلاف لم يقع مخالفا للمشيئة الإلهية؛ بل وقع وفق سنته المقررة، مشيئته المقدرة.
إن اختلاف الطبائع والمشاعر والأفكار سنة من سنن الخالق لتنويع الخلق - مع وحدة الأصل والمنشأ - وما كان الله ليجعل عباده جميعا نسخا مكررة، كأنما طبعت على ورق (الكربون)!
لا بد إذن لتكون للحياة قيمتها، وليكون الاختلاف والتقابل وسيلة للتكامل والتنوع، أن يكون هنالك اختلاف في الطباع والمشاعر والأفكار. ومتى وجد الاختلاف على هذا النحو فإنه يستتبع نتائجه؛ وإحدى نتائجه الاقتتال، الذي وقع بين أتباع الرسل. . فهو إذن وفق المشيئة، بمعنى أنه جار على السنة.
(ولو شاء الله ما اقتتلوا) لو شاء أن يجعل التماثل هو الناموس لا التنوع، لما وقع الاختلاف، ولما وقع الاقتتال.
(ولكن الله يفعل ما يريد). . ولقد أراد أن تجري السنة بما جرت؛ فوقع في الكون ما يقتضيه جريان السنة في طريقها المرسوم، وفق المشيئة الكبرى، لتحقيق حكمة خاصة تجري بها هذه المشيئة.
سيد قطب