مجلة الرسالة/العدد 1013/الميسر والأزلام
→ على هامش الدفاع عن الشرط الأوسط | مجلة الرسالة - العدد 1013 الميسر والأزلام [[مؤلف:|]] |
تركيا ← |
بتاريخ: 01 - 12 - 1952 |
5 - الميسر والأزلام
للأستاذ عبد السلام محمد هارون
لماذا استسقم العرب بالأزلام؟
كان العرب في الجاهلية على حيرة من أمرهم: أديان شتى، وقبائل شتى؛ لا نظام لهم يجتمعون عليه، ولا حكومة موحدة يرجعون إليها، ويقفون عد الحدود التي ترسمها، والقوانين التي تضعها فتكون موضع التنفيذ. والصحراء التي يضطربون فيها فتغتالهم حينا وتبسط عليهم جناح الأمن حيناً، وكذلك حال الفزع التي كانت تصاحبهم من أشباح الحرب والغارات التي تصبحهم وتمسيهم، وتفاجئهم في ساعة من ليل أو ساعة من نهار. وكذلك حالتهم المعيشية التي تصيبهم بالبؤس المدقع والجوع القاتل أحياناً لاضطراب الحياة الاقتصادية. وكثرة حوادث القتل والاغتيال التي يتعذر عليهم إصدار حكم فيها. كل أولئك جعلهم في حيرة من أمرهم، وألقى عليهم ظلا ممتداً قاتماً من التردد والحيرة، والشك والاضطراب. فكان لا بد لهم مما يذهب عنهم هذه الحيرة القاتلة، فلجئوا إلى وسائل شتى ظنوها تجلب إليهم شيئا من الروح والطمأنينة وإن صارت عليهم حربا فيما بعد ذلك. لجئوا إلى التفاؤل والطيرة فحكموا الطير والحيوان في أمورهم، أيقدمون أم يحجمون. وتفاءلوا بالأصوات والكلمات يلتمسون فيها المعنى الذي يبسطهم فيمضون فيما هم بسبيله، والمعنى الذي يقبضهم فيرتدون إلى حيث الأمن والسلامة.
قال الجاحظ: ويدل على أنهم يشتقون من اسم الشيء الذي يعاينون ويسمعون قول سوار بن المضرب:
تغنى الطائران ببين ليلى ... على غصنين من غرب وبان
فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغراب اغتراب غير داني
فاشتق كما ترى الاغتراب من (الغرب) والبينونة من (البان) وقال جران العود:
جرى يوم رحنا بالجمال نزفها ... عقاب وشحاج من البين يبرح
فأما العقاب فهي منها عقوبة ... وأما الغراب فالغريب المطوح
فلم يجد في العقاب إلا العقوبة، ووجد في الغراب معنى الغربة واستخبروا الجماد، فكانوا يضربون بالحصى ليحكم بينهم في امرهم، يطيعون حكمه وهو الجماد الذي لا يسمع يبصر ولا يغني شيئاً.
كان يفعل ذلك دهماء العرب ذوو النفوس اللينة الضعيفة.
ويذكرون أن النابغة الذبياني كلن من أولئك. زعم الأصمعي أن النابغة خرج مع زيان بن سيار يريدان الغزو، فبينما هما يريدان الرحلة إذ نظر النابغة وإذا على ثوبه جرادة تجرد ذات اللون، فتطير وقال: غيري الذي خرج في هذا الوجه! فلما رجع زيان من تلك الغزوة غانما سالما قال:
تخبر طيره فيها زياد ... لتخبره وما فيها خبير
أقام كأن لقمان بن عاد ... أشار له بحكمته مشير
تعلم أنه لا طير إلا ... على متطير وهو الثبور
والبيت الثاني من هذه الأبيات يدلنا على مقدار إيمان بعض العرب بالطيرة، وخضوعهم التام لسلطانها كما أن البيت الرابع يدلنا على نظرة العقلاء منهم إلى الطيرة، وأنها من صميم الاتفاق لا غير. وكان زيان من دهاة العرب وساداتهم.
وممن كان لا يرى الطيرة شيئاً المرقش من بني سدوس، إذ يقول:
إني غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحاتم
فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم
فكذاك لا خير ولا ... شر على أحد بدائم
فالعرب في جاهليتهم كانوا يضطرون إلى ذلك ليجتلبوا قوة العزيمة فيما ضعفت عزيمتهم فيه، وليقطعوا الشك قطعاً بذلك الحكم الحاسم الذي يخضعون له خضوعاً كاملاً.
1 - فكان العربي إذا أراد السفر والنقلة من موضعه استسقم بالأزلام، ففي السفر مخاطر كثيرة، مخاطر الطريق أن يضل به أو تعترض لله من جباته السباع، أو تطيح به العاصفة الهوجاء، ومخاطر الرحلة التي يعتليها فقد تهلك راحلته فتستبد به مشقة السفر. وتحدثه نفسه بعد ذلك، أيؤوب سالما غانما، أم يغتاله الهلاك وتطويه الخيبة، فلا بد له أن يقوى عزمه باستشارة الأزلام فهي التي تأمره، وهي التي تنهاه.
2 - وكان العربي إذا ابتغى تجارة وليس التجارة أمراً هيناً عند العرب، فلا بد للتجارة في اغلب الأمر من رحلة إلى شرق البلاد أو غربيها، أو شمالها أو جنوبها، وفي ذلك التعرض للسلب والنهب والعداوات القبلية. فهو قبل أن يضع رجله في غرز ناقته يستفتي الأزلام لتبشره بالفوز وتؤيد رأيه في القيام بهذه الرحلة، أو لترده عما عسى أن يكون قد كمن لله في ثنيات الطريق من مخاوف وأخطار.
3 - وكان العرب يلقون بالاً كبيراً إلى الانساب، يتحرجون أن يدخل الأجنبي في انسابهم، مبالغة منهم في حصانة القبيلة وتماسكها، فإذا شكوا في نسب مولود أو رجل فليست لهم وسيلة تذهب عنهم ذلك الشك إلا أن يحتكموا إلى الأزلام لتخبرهم بصحة نسبه أو بطلان ذلك.
4 - وكانوا إذا في حرب عرجوا قبل ذلك على أمين الأزلام ليكشف لهم بالأزلام عما يخبئ الغيب لهم من فوز وغنيمة، أو خيبة وإخفاق فيمضون أو يرتدون.
5 - وإذا حصل بينهم (مداراة) أي خلاف وخصومة، فإن الحكم فيها هو الأزلام.
6 - وإذا أرادوا استنباط المياه وأرادوا أن يحفروا بئراً ضربوا بالقداح يستأمرونها في ذلك.
7 - وكذلك الأمر إذا عزم أحدهم على الزواج، أو على ختان ولده، أو على بناء قبته، وسائر شؤون الحياة التي يطرأ عليه فيها الشك والاضطراب.
أزلام الاستقسام
وأزلام الاستقسام هذه شبيهة بقداح الميسر، فهي عيدان تسوى مثل ما تسوى عيدان قداح الميسر. وإنما سميت هذه القداح بالأزلام لأنها زلمت، أي سويت. ويقال: رجل مزلم وامرأة مزلمة، إذا كان خفيفا قليل العلائق. ويقال: قدح ملزم، وزلم إذا ظرف وأجيد قده وصنعه. وما احسن ما زلم سهمه، أي سواه. ويقال لقوائم البقر أرلام، شبهت بالقداح لطاقتها.
وقد أسلفنا القول أن قداح الميسر تحز فيها حزوز، أو ترسم برسوم تميز بعضها عن بعض. ولكن أزلام الاستقسام كانت تعلم بعلامات خر تتفق مع الغرض الذي أعدت له، وذلك بكتابة خاصة تسجل عليها، كما سيأتي.
ويختلف الرواة في عدد هذه الأزلام فيبلغون بها الثمانية عداً. كتب على واحد منها: (أمرني ربي)، وعلى واحد منها: (نهاني ربي) وعلى واحد: (منكم)، وعلى واحد: (من غيركم) وعلى واحد: (ملصق) وعلى واحد: (العقل) أي الدية. ويضمون إلى هذه الستة قدحاً غفلاً لم يكتب عليه شيء، فإن خرج الغفل مرة أعيد الضرب إلى أن يخرج غيره من القداح.
وذكر ابن حبيب في المحبر أنه قد كتب على أحدهما (افعل) وعلى الثاني (لا تفعل) وعلى الثالث (نعم) وعلى الرابع (لا) وعلى الخامس (خير) وعلى السادس (شر) وعلى السابع (بطيء) وعلى الثامن (سريع). وذكر أيضاً أنه كتب على بعضها (صريح) وعلى الآخر (ملصق). كما ذكر أن قداح (المداراة) التي سبق الكلام عليها كانت بيضاء ليس فيها شيء. وذكر أيضاً أنه كان للحضر والسفر سهمان فيأتون السادن من سدنة الأوثان فيقول السادن: (اللهم أيهما كان خيراً فأخرجه لفلان). فيرضى بما خرج له.
وذكر ابن كلب عند الكلام على (هبل): (وكان في جوف الكعبة، قدامه سبعة أقدح مكتوب في أولها (صريح) والآخر (ملصق) فإذا شكوا في مولود اهدوا له هدية ثم ضربوا بالقداح، فإن خرج (صريح) ألحقوه، وإن خرج (ملصق) دفعوه. وقدح على الميت، وقدح على النكاح، ثلاثة لم تفسر لي على ما كانت. فإذا اختصموا في أمر أو أرادوا سفراً أو عملاً أتوه فاستقسموا بالقداح عنده، فما خرج عملوا به وانتهوا إليه).
قال: (وعنده ضرب عبد المطلب بالقداح على ابنه عبد الله) وسنذكر هذا الأمر بتفصيل عند الكلام على العامل الديني.
وذكر أيضاً في الكلام على ذي الخلصة: (وكانت له ثلاثة اقدح: الآمر، والناهي، والمتربص).
وقال ابن هشام: (وكانت عند هبل قداح سبعة كل قدح منها فيه كتاب. قدح فيه (العقل) - أي الدية - إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة، فإن خرج العقل فعلى من خرج حمله. وقدح فيه (نعم) للأمر إذا أرادوه يضرب به في القداح فإن خرج قدح نعم عملوا به. وقدح فيه (لا) إذا أرادوا أمرا ضربوا به في القداح فإن خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر. وقدح فيه (منكم)، وقدح فيه (المياه) إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القدح فحينما خرج عملوا به.
وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاماً، أو ينكحوا منكحاً، أو يدفنوا ميتاً، أو شكوا في أحدهم ذهبوا به إلى هبل).
وقال الجاحظ: (واستعملوا في القداح الآمر، والناهي، والمتربص. وهن غير قداح الأيسار).
وفي صبح الأعشى: (افعل، لا تفعل، نعم، لا،، خذ، سر، سريع). وقال: (وإن كان بين اثنين اختلاف في حق سمى كل منهما سهما وأجالوا القداح، فمن خرج سهمه فالحق له).
واختلاف الروايات في ذلك يدلنا على أن العرب ما كانوا يلتزمون في صناعة الأزلام نهجا معينا يقسرون عليه أنفسهم، وإنما كان لكل كاهن من كهانهم، ولكل حكم من حكامهم طريقة خاصة فيما يكتب على أزلامه من الإشارات، كما يدل على أن لكل قضية من قضايا الاستفتاء أزلاماً خاصة بها تناسبها وتنهض لها.
للكلام صلة
عبد السلام محمد هارون