الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 61/الفتنة في الهند

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 61/الفتنة في الهند

بتاريخ: 1 - 10 - 1921


غاندي والثورة السلبية

يطالع القراء في الجريدة اليومية أخبار القلاقل التي حدثت في إقليم ملابار الذي تقطنه قبائل الوبلاه. ولعل قليلا من القراء من يعرف شيئاً عن حقيقة هذه القلائل وعن أعمال الزعيم غاندي الذي ينسبون إليه كل حركة في الهند، وقد رأينا أن نفصل ذلك مبتدئين بوصف قبائل الموبلاه نقلا عن نبذة كتبها في جريدة التيمس السر ريس العضو في مجلس النواب:

(الموبلاه قوم مسلمون من نسل تجار العرب الذين نزحوا إلى ساحل ملابار وتزوجوا من الهندوس وأشربوا عاداتهم، ويبلغ عددهم مليوناً ونصف مليون يشتغل أكثرهم بالزراعة ولهم رئيس ديني يقيم في بلدة تيرو انجادى، وهم سنيون شديدو التعصب، يحرمون شرب الخمر تحريماً قاطعاً، وقد أثاروا منذ سنة 1858 نحو 38 اضطراباً، وكان أغلبها بسبب الأمور الزراعية).

أما الفتنة الأخيرة فقد تضاربت الأنباء البرقية في نقل أسبابها عند أول حدوثها، فقالوا أنها بسبب محاكمة زعماء الهنود، ثم نسبوها إلى حركة المقاطعة والتحدي التي يقوم بها غاندي وأنصاره، ثم قالوا إنها ضد الحكم الإجليزي ومطالبة بالحرية، وأخيراً استقر بهم الأمر عند نسبتها إلى هياج خواطر الهنود من جراء القلق على مصير الخلافة ونيت بريطانيا نحو تركيا ومساعدتها لليونان في حرب الأناضول، وقالوا إن الثائرين حملوا الأعلام الخضر!! وعندها إن السياسة الإنجليزية استحسنت الوقوف عند هذا السبب الأخير وجعله هو الباعث الوحيد على قلاقل الهنود، مفضلة أن تكون الفتنة موصوفة بأنها حركة دينية للعطف على تركيا أكثر منها حركة سياسية موجهة إلى الحكم الإنجليزي. والمطالبة بالحقوق القومية. وأمامنا مثل من تاريخنا القريب أيم كان الإنجليز يحاولون عبثاً أن يغيروا من صبغة حركتنا الوطنية سنة 1919 فقالوا إنها هياج ديني من العامة الذين أقلقهم انكسار تركيا ومصير الخلافة. . .

ثم زعموا أنها حركة مدبرة من جمعية الإتحاد الترقي وأن للألمان والبلشفيين أصبعا فيها. . . . ثم قالوا بل هي حركة ضد الحماية الإنجليزية ومطالبة بالحكم الذاتي!. . . .

ولكن الإنكليز لم يفلحوا في تشويه الغرض الحقيقي من حركتنا في المطالبة بالاستقلال كما أفلحوا الآن في حمل الناس على الاعتقاد بأن حركة الموبلاه حركة دينية فحسب!.

والآن ننتهي إلى وصف الزعيم غاندي وشرح مذهبه ليتبين مبلغ تأثير هذا الزعيم ومذهبه في حدوث الفتنة الحالية. لا حاجة بنا إلى القول أن غاندي أكبر الزعماء الآن في الهند وأن شخصيته العظيمة تجبر كل من أقترب منه على الاعتراف بها. وكفى تأيداً لمكانة هذا الزعيم ما ورد في البرقيات من دعوته محمد علي لزيارة ملابار الموبلاه، وقد قابله حاكم الهند العام وطلب منه أن ينصح زعماء الثورة بالهدوء وإلا عرضوا أنفسهم للمحكمة. وبلغ غاندي مكانته هذه في الهند بقوة خلقه ومتانة عقيدته وإيمانه بأن القوة الروحية تقهر القوة المادية إذا اشتبكتا معا. وقد سجن مراراً واحتمل شظف العيش وضنكه دون أن يفل ذلك من عزيمته. وهو يقول إن احتمال الألم والصبر على المكاره وقهر النفس هي التي ستنقذ الهند من الحكم الأجنبي وهو ينادي بأن المقاومة السلبية قوة لا تغلب وإنها صائرة بالإنجليز إلى الخروج من الهند. ونتج من هذه الدعوة إلى المقومة السلبية حركة مقاطعة لكل ما هو إنكليزي، حتى لقد اجتمعت الآلاف من الهنود في مدينة بومباي تحت زعامة غاندي وأخذوا يحرقون أكواما هائلة من الثياب المصنوعة في إنجلترا إعلانا عن عزمهم على مقاطعة المنسوجات الإنجليزية التي تبلغ ما تستورده الهند منها سنويا نحو 400 مليون جنيه كما تقول التيمس كذلك أخرج الهنود أولادهم من مدارس الحكومة وأدخلوهم مدارس أهلية أنشأها أنصار غاندي لنشر العلم الخالي من مساوئ المدنية الغربية. ويعرف أنصار غاندي في الهند بتقشفهم وقلنسوتهم المخصوصة وثيابهم الخشنة المصنوعة في مغازل بلادهم أو بواسطة الأنوال اليدوية. ولا ريب أن فكرة المقاطعة هذه لكل ما هو إنجليزي أنبتت في نفس الهندي شيئا من الإزدراء بالإنجليز والاستخفاف بهم، حتى قال الحاكم العام في تقريره (إن الهنود أصبحوا يحتقرون السلطة الشرعية). وقد كتب أحد الصحفيين الهنود نبذة عن غاندي ومذهبه في صحيفته التي تصدر في بوماي قال فيها:

(يوجد في هذا العصر ثلاثة رجال قد أضافوا رواء جديدا لعبقريتنا، وأروا العالم مقياسا من البنية التي يمكن أن تصل إليها الرجولة الهندية. هؤلاء ثلاثة هم تاجور في الأدب، وبوز في العلوم، وغاندي في الأعمال العامة. يقول بيرك (إن مبادئ السياسة هي مبادئ الأخلاق بشكل أكبر) وهذا عينه مبدأ غاندي إذ يقول (إن السياسة ليس لعبة، إن هي إلا نشر الفضائل المنزلية ووسيلة لتجديد الروح). ويرى غاندي أنكل شيء ترخص تضحيته لنصرة الحق وإن الانحياز إلى الخطأ إثم وشر. وليس في الهند داع يمثل القوة الروحية أكبر من غاندي. وقد هز غاندي بلاد الهند هزة عنيفة وأيقظها من سبات الغفلة والتخدير التي كانت فيه. ولكن ألا يخشى أن يكون غاندي قد أخطأ الطريق؟ وإن جهودنا هذه تصرف عبثا وتضيع سدى؟ ولكن لا فإن حركة التقدم هي روح للجهاد ولست بيائس لأني أعتقد أن روح غاندي الكبيرة أعظم من مذهبه، وإن شخصيته أكبر من عقيدته، قد يكون مذهبه الجديد جافا، فاترا، خائبا، وقد تكون فلسفته غامضة غير مؤسسة، وقد تكون سياسته خطيرة، ولكن أخلاقه صريحة وأقواله متوافقة مع أعماله).

وقد كتبت مجلة النيشن فصلا في هذا الموضوع نلخص منه مايلي: (إن بعد الهند عنا وعن مدينتنا لم يمنع من ظهور رجل عظيم كغاندي، فهو في الهند بمثابة تولستوي في الروسيا، شخصية يتجسم فيها الإلهام الروحاني الخاص بأبناء جنسه. ولعل هناك شبها في الظاهر بين الاساليب التي يتخذها غاندي للحصول على السوارج (الاستقلال) وبين ما كان بفعله الشن فين قديما، فهو يعلن مقاطعة الإنجليز وعدم معاملة جميع عمال الحكومة وعلى الأخص يمتنع هو وأنصاره عن الانتخاب. . . . وهناك وجه لآخر مزعج في الحركة الهندية وهو انضمام رابندراناث تاجور إليها بعد أن رد رتبة الفروسية التي منحتها له حكومة إنجلتلرا احتجاجا منه على فظائعنا في البنجاب. وتاجور هو الشاعر الهندي العظيم الذي كشف للغرب عن أفكار الشرق وصور إبداع تصوير روحانية الهنود وآلامهم وأمالهم في التحرير وتوجههم بقلوبهم إلى اللنهاية! ولا يرى تاجور رأى غاندي في سياسة المقاطعة وعدم التعاون بل هو يريد أن يستعين الشرق بالعلم الغربي والمدنية الغربية لإدراك اللانهاية باقوة الروحانية دون أن يغمر نفسه في الماديات التي تفقده بصيرة الإلهام الشرقية).