الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 57/اعترافات

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 57/اعترافات

بتاريخ: 31 - 10 - 1920


الشاعر الفرنسي الخالد الفرد دي موسيه

الفصل العاشر

فلما أبصرت وجه الشبه بين هذه المرأة وبين حبيبتي ثارت في ذهني المضطرب فكرة مخيفة شرعت أنفذها للتو واللحظة.

في الدور الأول من رواية غرامنا كانت حبيبتي تزورني سراً من حين لآخر وكانت أوقات زيارتها هذه أعياداً تحل بغرفتي الصغيرة فكنت أنثر الأزاهير في جوانب الحجرة وأوقد نار المدفأة حتى تتأجج وتتوهج وأصنع طعاماً طيباً ثم أنصب الخوان. أنصب عليه الألوان. فأنها قطع البساتين وأفانين الرياحين.

وزخرف البيت كما زخرفت ... روضة حزن جادها هاضب

إذا ما بساط اللهو مد وقربت ... على عجل أنماطه ونمارقه

وكم من برهة قضيتها جالساً على وسادتي تحت المرآة أمتع نظري الساعات الطوال برونق محياها الجميل وقلبي قلبها يتجاوبان بنجوى الغرام وأسرار الصبابة وأنظر إلى حجرتي الحقيرة وقد بدلتها تلك الساحرة الحسناء بنفثات سحرها المبين فأصارتها مقصورة من جنة رضوان وحولت تلك الغرفة التي طالما بللت جنباتها بدموع الجوي فردوسا مشرق الجو ضاحك الأرجاء، الا فأجمل بها وأحسن من غادة ورد الشباب قد قامت كالدمية الغالية النفسية الجمال بين المرتخص المذال من اسمال ثيابي ورثات كتبي وأسفاري وقديم أثاثي وأدواتي. وما كان أبهي سناها أشرق ضياها وسط ذلك الجو الموحش المظلم. وما كان أذكى سراجها الوهاج وأثقب نجمها الوقاد في دياجير ذلك الفقر المدلهم وحنادس ذلك البؤس الحالك!

وأني والله منذ فقدت عشيقتي ما برحت هذه الذكريات تنتابني. وما فتئت هذه الهواجس تعتادني حتى سلبتني القرار نهاراً والمنام ليلاً وكأنما جدران غرفتي كانت تحدثني عنها بأوضح عبارة والات بيتي تنث عليَّ حديثها سراً وجهاراً. وكنت لا أطيق إلى هذه المناجاة اصغاء. وكذلك كلما دنوت من فراشي حدثني عنها فراشي ففررت منه إلى الشارع وكنت أرتاع لرؤية الفراش الا ساعة يشغلني عن الخوف البكاء فتحول دون مرآة دموعي.

وسرت بالفتاة الآنفة الذكر إلى غرفتي وسألتها أن تقعد ثمت وظهرها إلي وأن تنضر ثيابها عن شطرها الأعلى ثم نضددت متاع الغرفة من حولها وصففته كما كنت أصنع في حضرة حبيبتي ووضعت الوسائد والمضاجع بحيث كانت في ذات ليلة بعينها من ليالي وصالها قد تذكرتها إذ ذاك. والواقع أن المرء لا يزال يتذكر من بين خواطر مسراته الغابرة في حادثة بعينها قد غلبت على غيرها من الخواطر وضحت في عالم الذكرى على سائر ما يلوح به من المعالم - كمثل برهة أو ساعة قد تفوقت على كل ما عداها وسادت فكانت نموذجاً ومثالاً

فهذه لعمرك لحظة يزفها إليك وسط القدر وسط ملايين اللحظات العديدة لا كمثلها لحظة فتهفت بك ملائكة السعادة.

ابشر يا فتى وطوبى لك! لقد ألقت يد الحظ في جعبتك سهماً من النار وركبت في عجلتك ضلعاً من النضار.

وبعد استيفاء الترتيب والتنضيد أشعاث بالمدفئة نارا طار لهبها واحتدم شواظها ثم قعدت فأطرقت وأرسلت عنان فكري في واد سحيق من الخواطر الحزينة والهواجس السوداء أو أغرقت احساسي في أعمق لجة من اليأس والقنوط وأقبلت على قلبي فأهويت إلي أوهد أعماقه وجعلت أتلمس ما هنالك فإذا بي لا أجد ثمت إلا الكمد القارح والألم المبرح والجرق الكاوية والحسرات المضاضة وإذا بصميم قلبي يتفتت ويتفرى. ثم أخذت أتغنى بأخفت صوت لحناً كانت حبيبتي لا تزال أيام وصالنا.

أتغنى بهذا اللحن وأنصت إلى صدى شجاه في صحارى قلبي المقفر، ثم قلت لنفسي الحمد لله على ما قد صرت إليه اليوم. وربك أقضى سعادة الإنسان في هذه الدنيا! هذه الغرفة جنتي وهذه الفتاة ابنة الشوارع وطريدة الانسانية حوريتي! ولا جرم! أو ليست في منزلة حبيبتي ودرجتها قد صيغت على مثالها وطبعت على غرارها. وبما أصلحك الله تفضلها معشوقتي وبأي شيء تفوقها. هذا هو الذي يفضي إليه العاشق في النهاية من المرأة الذي يهوى. هذا هو الشمع الذي تنتهي إليه بعد أن تجرد قرص الخلية من العسل. هذه عكارة الكاس بعد أن ترشف رحيقها! هذه هي أقذاء القدح الذي تديره علك الآلهة بعد أن تشرب مابه من المن والسلوى! هذه جيفة الحب القذرة.

فلما سمعت الفتاة المسكينة غنائي شرعت تغني هي أيضاً. فاصفر وجهي وارتعدت فرائضي حين رأيت ذلك الصوت الخبيث الممقوت ينبعث من مخلوقه هي أشبه الناس بحبيبتي فكأنه كان عنواناً على ما كنت أحسه إذ ذاك واكابده وما كان ذاك الصوت المنبعث غليظاً أجش من حنجرة الفتاة إلا صوت الدعارة والفجور ذاته. وخيل إلي أن صوت حبيبتي قد آض كذلك الصوت منذ خانتني وحفرت ذمتي. وتذكرت البطل الروائي الخرافي (فوست) الذي حينما شرع يرقص مع الساحرة الجميلة ابصر فأرة حمراء تثب من حلقها.

فناديتها صه لا ابالك ثم نهضت فدنوت منها فقعدت على فراشي مبتسماً ثم انطراحت بجانبها كأني تمثال نفسي ملقى على قبري: فناشدتكم الله يا أهل هذا الجيل! يا من تلهون بالمراقص والنلاعب ثم تذهبون إلى المضاجع فتمترون النوم من صفحات كفرية من كفريات فولتير أمام الملحدين أو هزلية من هزليا بول لويز كوريير - ناشدتكم الله يا أهل هذا الجيل يا من هذا بأدبهم وذاك ديدنهم - إذا وقع هذا الكتاب الخامل المغمور في أيديكم صدفة لا تسخروا منه ولا تهزؤا ولا تتهموني بأني أشتكي آفة موهومة ونكبة خيالية محتجين بأن العواطف من كواذب الاحساسات وأن آلام الحب أوهام وأحلام وأن التعقل والتروي خير ملكات النفس وأصح وظائفها وأنه لا حقائق في هذه الحياة إلا البورصة والبنك والاسهم ومائدة الطعام ومائدة القمار وصحة البدن وقوة العضلات والانانية والاستهانة باحساسات الغير وقلة المواساة واسترخاء المفاصل ليلاً على الفراش تحت لبشرة المضمخة بالملاب والعبير.

  • * *

لما انتبهت في الصباح شعرت بوخز الضمير ولذعة الندم ورأيتني قد سقطت في عيني إلى الحضيض الأوهد من السفال والدناءة فوثبت من الفراش وأمرت الفتاة أن تلبس ثيابها وتترك البيت بأسرع ما يمكن، ثم اني لبثت ساكناً ساكتاً أتلفت حوالي بنظرات الساخط الآسف ثم استقرت نظراتي على ركن الغرفة المشتمل على مسدساتي وخناجري.

وبينما كنت أحس نفسي كأنها فريسة في براثن اليأس الحازب والبث الكارب كانت الفتاة لا تزال باقية في الغرفة قد وقفت أمام المرآة وأخذ تصلح هيئتها وترجل شعرها وهي تبتسم ولبثت كذلك ربع ساعة كدت أثناءها أن أنسي كل ما جرى بيني وبينها حتى لكأنها لم تكن وكأني لم أرها ولم ألقها، غير اني لم ألبث بعد تلك البرهة أن أحسست بها فزجرتها وأمرتها بالخروج بأشد لهجة واعتقها فتهيأت للانصراف في الحال وتأهبت ولوت اكرة الباب للذهاب بعد أن أومأت بقبلة.

في هذه اللحظة دق الباب فنهضت مسرعاً وفتحت باب خزانة دولاب فخبأت فيها الفتاة ثم فتحت الباب فدخل صاحبي ديزينيه بصحبة فتيان من جيراني.

كان ديزينيه مشرق الوجه متهلل الجبين فشرع يداعبني قائلاً إن وجهي يدل على طول السهاد والأرق ليلة أمس ولما لم أكن بحال من الانشراح تسهل علي احتمال أمازيحه سألته بالله أن يكف عني غرب لسانه.

فلم يكترث لرجائي ولكنه أخذ بلجهة تهكمه المعهودة يشرح لي سبب مجيئه وهو ان حبيبتي لم تقتصر على عشيقين حتى عززتهما بثالث وأنها أساءت إلى خصمي بمثل ما أساءت إلي. وان هذا الخصم لما تبين الأمر ثارت ثائرته وأحدث هياجاً رنت له أنحاء باريز حتى أصبحت المسكينة بعد هذه الفضيحة مضطرة إلى مغادرة المدينة ما لم تكن قد أصرت على تعريض نفسها لفضيحة أعظم.

كل هذه التصريحات لم تزدني إلا كآبة إذ كانت ترمي إلي اتهامي بالغفلة والغرور والحماقة. فلم انبسط لصديقي ديزينيه ولم أهش لحديثه ولم ازد على افاضته في النصح الا تجافياً وانقباضاً وتجهما وعبوسا. ولكنه لم يحفل بحالتي ولم يكترث وتمادى في إيلامي وإيجاعي إذ كان قد عاهد نفسه على أن يتولى علاج دائي ليشفيني من علة الحب. ورأى أن ما له علي من حرمة الإخاء والصداقة قد اكتسبته هذا الحق بلا مراء.

ولم يكشف ديزينيه بتلك المعالجة القاسية المستديمة ولكنه حينما أبصر كربتي وخجلي طفق يضاعفهما جهد طاقته. ولكن شواهد الجزع تزايدت على صفحة وجهي بما زجره عن التمادي في قوارصه والوافحه حتى تبين خطأه فأمسك عن الخوض في هذا الحديث وكف عني قوارعه - وأخذ يلعب دوراً صامتاً ولكن هذا كان أسوأ لي وآذى.

فأقبلت أوجه له بضعة أسئلة واني لا تمشي في الغرفة جيئة وذهاباً والله يعلم أن هذ القصص الذي أداه لي عن حبيبتي كان من أوجع ما جرح مسمعي وامضه ولكني كنت مولعاً بإعادته وترديده. ولقد حاولت جهدي أن أكسو ديباجة وجهي قناعاً من الانشراح والطمأنينة ولكن عبثاً أحاول. وألحفت ديزينيه بالسؤال فإذا به قد عاد أخرس من صنم وتمثال. وأصمت من رسم محيل وطلل بال. فجعلت أجول في الغرفة وأهدر بالسؤال أثر السؤال. وأرغي وأزيد وهو صامت وادع رخى البال. وأفور كالتنور وهو أجمد من الثلج وأبرد من الزلال.

وهنا يعجز لساني عن شرح ما كابدت إذ ذاك من الكرب والقلق. والوجد والحرد والحنق. وكيف وأيسر ما في الأمر أن أرى المرأة التي ملكتها زمامي قلبي. وأسلمتها مقاليد حبي. وأرعيتها بأرض الهوى. وأمطرتها وسمي مدامع الجوي والتي منذ فقدتها لم أذق نوماً. ولم أجد للحياة طعما. وما أراني إلا باكيا عليها ما بكي المزن بدموع الغمائم.

وتفجعت لفقد الأليف ثاكلات الحمام - أن أرى المرأة التي هذه منزلتها قد صبحت من الملوثات الاعراض المجرحات الأديم بمقاريض الثلب والقدح في المجالس والأندية والمحافل، المعرضات لسخرية كل ساخر وتهزئ كل هازئ، لقد أحسست إذ ذلك كأن شيطاناً من المردة الا الأبالسة قد تناول من أعماق الجحيم مكواة من الذع شواظها ونحاسها فأقبل يبصم بها على عاتقي أشنع من العار وأبشع وصمة من الخزي والفضيحةّ!.

وكلما ازددت تفكراً وتدبراً ازدادت الدنيا في وجهي ظلاماً. وكلما التفت إلى ديزينيه أبصرت على وجهه ابتسامة ثلجية ونظرة منكرة غير مألوفة.

وأخيراًُ قال لي أسرك الحديث. إلا أن أطيب ما فيه خاتمته. لقد جرت تلك الحادثة يا صديقي اوكتاف في ليلة قمراء. . . فبينما الخصمان يتشاجران في غرفة المعشوقة ويهدد أحدهما الآخر بالذبح والقتل كان يتمشى بالشارع تحت النافذة شبح وكان يشبهك إلى حد أن اعتقد الجيران أنه أنت لا مراء، ولا محالة. فأجبته قائلاً: من قال ذاك من رغم أني كنت أطوف الشارع ومن ذا الذي بصرني هنالك؟ ٍ

حبيبتك بالذات. انها لتقص ذلك الحديث على كل من أبدى رغبة في سماعه. . ونقصه بمثل ما نقصه نحن من الابتهاج والمرح والدعابة وتصرح بأنك لا تزال تهواها وإنك تقوم االيل الطويل على بابها ديدبانا، إلى غير ذلك من امثال هذه النكت والأمازيح على أنه حسبك من كل هذا أنها لا تزال تتحدث بمثل هذه الأقوال علانية على رؤوس الملأ.

وليعرف القارئ اني ما كنت قط في وقت ما من الحاذقين في فن الكذب وتلفيق الأحاديث فكنت كلما حاولت اخفاء الحقيقة خانني صوتي وخذلني وجهي فبدا على هذا وذاك آيات الاضطراب وإمارات الارتباك. ولكني جعلت مع ذلك احتفاظاً بكرامتي أحاول الانكار والجحود بتكلف الكذب والتمويه بيد أني ارتبكت أثناء ذلك واحمر وجهي بما كشف للحاضرين من حقيقة حالي وثم عن مكنون صدري. فعند ذلك ابتسم يزينيه.

فقلت له احترس يا صديقي. احترس وخذ حذرك ولا تتعد حدودك!

وطفقت أدور في الغرفة كالمجنون لا ادري ماذا أصنع. وكان بودي لو قدرت أن أضحك ولكن كان ذلك محالاً. وأخيراً قلت له، وكيف كان في استطاعتي أن أعرف تلك الحقيقة - كيف كان في طاقتي أن أعرف أن تلك الشقية -.

وهنا عض ديزينيه على شفته كأنه يريد أن يقول لقد كنت تعلم ذلك حق اليقين.

فأمسكت عن الكلام وجعلت من لحظة إلى أخرى ألفظ كلمة سخيفة مضحكة. وجعل دمي - وكان ما برح منذ نصف ساعة يفور في أوعيته ويغلي - ينبض في صدغي أشد نبض وآلمه. ثم أستأنفت الكلام فقلت:

أجل يا ديزينيه. لقد كنت أجوب الشارع تحت نوافذ غرفتها باكياً منتحباً بعبراتي شرقا. وفي طوفان مدامعي غرقا. ومع ذلك كله فقد كانت المعركة بين النظيرين تجري في غرفة تلك الغادرة الخائنة. لا حول ولا قوة إلا بالله! أفي مثل تلك الليلة وطعنات غدرها في صميم قلبي لم تبرج غضة جديدة تفور بدم حياتي وتغلي وجراح مهجتي دامية وهامية. وكبدي على جمرات الجوى تنضجها نار الأسى الحامية أفي مثل تلك الليلة ومثل هاتيك الحال تتمادى الغادرة في سخرها مني واستهزائها بي لا يزعها وازع ولا يردعها رادع؟

أحقاً ديزينيه إن ما تذكره من هذا ألمر قد جرى وكان؟ ألا يجوز أن تكون في ما تحدثني به واهماً أو حالماً؟

أيمكن أن يكون ذلك حقاً أو محتملاً أو جائز؟ وكيف تدري؟

وهنا شرد لي وعزب حلمي وبلغ الحنق والحرد مني أقصاه فتهافت قاعداً على كرسي ويداي ترعشان.

قال ديزينيه هون عليك يا صديقي فالخطب أيسر. إن حياة العزلة التي عشتها منذ شهرين قد أضرت بك كثيراً كما تشهد بذلك حالك. فأراك يا اوكتاف أحوج ما تكون إلى شيء من اللهو والرياضة فزرنا تلك الليلة لتنازعنا العشاء واخرج غداً إلى بعض المنتزهات فتناول به غذاؤك.

فكانت اللهجة التي برزت فيها هذه الألفاظ أوجع لي وآلم من كل ما نطق به ديزينيه إذا كنت تنم على معنى الرثاء والرحمة وأنه كان يعاملني كما لو كنت طفلاً.

وكنت جالساً ناحية منهم بمعزل وقد نفر جاشي ووهي جلدي وانهارت دعائم ثباتي وعزمي فبذلت كل جهد في استرداد حلمي واستثابة رشدي فقلت في نفسي لقد نكبت بالخيانة من حبيبتي وبسوء النصيحة من صديقي إذ يشير علي أن أتداوى من دار يأسي بالفسق والفجور والدعارة على أني معرض بعد للوقوع في هاوية هذه المنكرات إذ كا لا عاصم لي منها سوى ما يغشاني من حزني الرهيب المقدس الطاهر! ولكن شر المصاب وأشد البلية أن هذه الدرع الوحيدة التي أتحصن بها من الوقوع في حبائل الفساد - هذا الحزن العميق المطهر الذي أراه أثراً مقدساً لما فقدته من نعمة الحب - أقدس نعم الحياة وأطهر لذات الدنيا. . . .

هذا الحزن الرهيب المقدس - وقايتي من الانغماس قي بيئة منكرات العصر وعصمني من لتورط في حمأة مفاسد الجيل.

هذا الحزن - هذه الوقاية - هذه العصمة والدرع والجنة - قد تحطمت في يدي وتصدعت تحت صدمة هذا النبأ الفظيع الذي سمعته الآن من تلك الغادرة التي لم يكفها أن تسخر من حبي حتى هزأت كذلك بحزني وبثي وضحكت من قنوطي وبأسي.

لقد جعلت تهزأ بي وتسخر واني لواقف على اعتاب دارها أنتحب وأبكي! لقد جعلت ذكريات الماضي تنبعث من لجة ضميري فتطفو على يمه عندما فكرت في ذلك وخيل إلي أن خيالات الوصال أخذت تثور من مكامنها واحدة نلو أخرى وكأنها قد قامت تشرف على أعماق هاوية سحيقة موحشة سوداء حالكة ومن فوق هذه الهاوية كان يدوي صدى ضحكات صفراء ساخرة معناها هذا جزاؤك!.

لو أن العالم أجمع هزأ بي وضحك مني ما باليت قط. ولكن الذي مضني وأرمضني وادمى فؤادي هو أن الساخر والهازئ كان تلك المرأة التي لم أهو غيرها ولم أعشق سواها - تلك المرأة وذلك الوجه وتأنك الشفتان اللتان امتزجتا بشفتي مليون مرة وذلك البدن وتلك الروح - روح حياتي - ومن ثم كان بلائي ومصيبتي وشقائي.

أجل. تلك محنتي ونكبتي - أن نبصق السخرية القاسية في وجه الحب المنكوب والحزن البائس.

وكنت كلما انغمست في لجة أفكاري شعرت بازدياد غضبي على أني لا ادري هل يصح لي أن أسميه غضباً إذا كنت في الحقيقة لم أعرف ماذا أسمى ذلك القلق الذي كان معتريني إذ ذاك. على أني موقن اني كنت أجد دافعاً جنونياً إلى الثأر والانتقام. ولكن كيف السبيل إلى الانتقام من أمرأة. وعلم الله أني ما كنت أضن بأغلى ثمن أبذله في استحضار السلاح الكفيل لي بإيلامها وإيجاعها. ولكن أي السلاح كفيل بذلك.

لقد كنت أعزل من كل سلاح حتى من مثل ذلك الذي حاربتني وطعنتني وبحده ادمت جراحي. وأعلت صباحي. وإني لمنغمس في عباب هذه الهواجس إذ لمحت خيالاً وراء ستارة باب الخزانة الزجاجي وكان ذلك شبح الفتاة قائمة تنتظر بحيث أودعتها وكنت قد نسيتها. فعند ذلك صحت مسروراً طرباً أنصت إلى ديزينيه لقد عشقت كما يعشق الأحمق والمجنون وجنيت على نفسي بحق كل هزء وسخرية ولكني سأريك اللحظة شيئاً يدلك على أني لست ذلك الأحمق الغبي الذي تخاله اني دفعت الباب الزجاجي بقدمي فاندفع وظهرت الفتاة جائمة بزاوية.

قلت لديزينيه هلم يا ديزينيه سل الفتاة هل حقاً بت ساهراً تحت نافذة أية امرأة؟ تقول إنك ذاهب الليلة إلى وليمة لتناول العشاء وغدا خارج الأرياف للنزهة. فاعلم اني مصاحبك الليلة وغدا. فالبثوا معي حتى المساء ولا تفارقوني وسآتيكم بكل ما تبتغون من آلات الشراب والميسر وغير ذلك ثم لا تذهبون.

لقد كنت أردت أن أجعل قلبي ضريحاً أدفن فيه رفات حبي ولكنني سأقبر حبي الميت ف ضريح آخر ولو آل بي إلى أن أحفر ذلك الضريح الآخر في قلبي. . . يا الله. . . . . يا الله.

وهنا قعدت ودخل ضيوفي الخزانة وأحسست إذ ذاك كيف ينجم شعور الفرح أحياناً من إحساس الغضب المخفف. والحنق المكفف. وإني لقائل لكل من يعجب لما حدث منذ تلك الساعة من الانقلاب الهائل العظيم في سيرتي وتاريخ حياتي. أنلك لست بصيراً بخفايا سريرة الإنسان وخبايا ضميره وانك لا تعرف أن المرء ربما لبث عشرين يتردد في أمره لا يجرأ أن يخطو خطوة حتى إذا ما أخطاها مضى قدماً في وجهتها مندفعاً بقوة السيل الجارف ثم لم يطق بعد ذلك رجوعاً. . . .