الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 57/إلى قرائنا

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 57/إلى قرائنا

مجلة البيان للبرقوقي - العدد 57
إلى قرائنا
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 31 - 10 - 1920


نلفت نظر قرائنا الأفاضل إلى شيء طالما لفتناهم إليه بالقول والفعل. ذلك هو أن سنة البيان إنما هي عشرة أعداد لاغير، وإن البيان يستريح في شهري أغسطس وسبتمبر من كل عام. على هذه السّنة سار البيان منذ نشأته إلى اليوم، غير أنه كان بودنا أن نعوض على قرائنا من هذين العددين كتاباُ قيما يغني غناءهما، ولكن ما حيلتنا وأمر الورق وغير الورق من الغلاء، على ما يعرف القراء. وهذا وقد كان لدينا من الموضوعات التي أعدت لهذه السنة مواد مدخرة موفورة كان من حقها أن تنشر في الأعداد الماضية، لذلك اضطررنا لأن نؤثرها على المواد الأخرى الجديدة بنشرها في هذا العدد، ومن بين هذه الموضوعات الجديدة التي أرجأنا الشروع في نشرها تلك الرسائل التي ألمعت إليها صحفنا اليومية والتي عنونت بهذا العنوان سياحة في الآخرة أو صوت من الموتى وهذه الرسائل الغربية كتبها روح شهيد الوطنية المصرية المرحوم محمد فريد بك وقد استزار أحد كبار الروحانيين الأدباء اللذين عنوا في عصرنا هذا باستحضار الأرواح، وأصابوا في هذا الأمر الخطير أقصى غايات النجاح، هذا الروح الكريم فزاره زورات عدة في ليالي متتابعة، وكتب له هذه الرسائل التي وصف فيها سياحة له في الفردوس قابل فيها كثيراً من عظماء المشرق ورجالاته من أنبياء وعلماء وفلاسفة وأدباء وشعراء ممن ظهروا تحت أديم سمائه قديماًً وحديثاً، وجرى بينه وبينهم أحاديث شتى في موضوعات مختلفة هامة، فنظرة قراءنا الأفاضل إلى الأعداد القادمة.

مزايا الترجمة

الترجمة منبع من المنابع التي تندفق منها الوطنية الصادقة النقية لأنها ضرب شريف من أسمق ضروب التضحية وأسماها، وهي من أشد مسلزمات الأمم ومتطلباتها، ومن قوى حوائجها ومفتقداتها. ولعل الأمة في إبان نهضتها أحوج إلى الترجمة والنقل منها عند ازدهار النهضة ونضوجها، فإن الأمة لا تتحرك ولا تتقدم ما لم تضرب امواجَ حياتها رياح الأفكار القوية، فإنه كلما كان الفكر في امة أبعد مدى وأوسع دائرة كانت آمالها أبعد وطموحاتها أسمى وكان المثل الأعلى في نفوس أفرادها أجل وأفخم واكثر صفاء وتهذيباً فلا نقعد بهم العزيمة عن العمل لبلوغه ولا يأتلون سعياً وراء تحقيقه، والترجمة من أفض الوسائل وأمثل الطرق لتنوير العقول وتوسيع نطاق المعرفة ومن ذلك مشحذة للذهن ومثار للتفكير، ولقد كانت الأمم في العصور القديمة المنصرمة تغامر في معترك الحياة بالقوة البدنية ولكن الفكر الآن هو أمضى سلاح وأقوى مجن في التنازع على الحياء، وان النهضات الصادقة الحقة هي التي تستند على أساس متين راسخ من المبادئ الكبيرة والأفكار الخطيرة والمذاهب الحية المتوقدة، وقد آن الآن لنا أن نقذف من حالق بكل فكرة ميتة هامدة وكل مبدأ خامد هاجع حتى لا يعتاق سبيلنا ويعترض تيار تقدمنا ولقد سئمنا تلك الأفكار الفجة النيئة والآراء السقيمة البالية، وانه لما يحزننا ويحز في نفوسنا أن نعلم أننا كنا نعيش محفوفين بأفكار قديمة قد ترشفت منها الأيام قطرات الحياة وخرافات فارغة لبس فيها من متعة للخيال ولا مسلاة للذهن بينما بيرون يصدح بأناشيد الحرية فيهتز لها قلب أوروبا ويخفق، وجبتي يلقي حكمته في ويمار فيستقبلها العلم بلهف والتياع وترى بها الفوش الظماء والقلوب الصوادي وبينما العالم في بحر مزيد بتيارات الأفكار الجديدة وبركان مورا بالآمال المضطربة الحديثة، وان مما يهون علينا ذكرى تلك الحال المكمدة ان نرى الأمة الآن وقد أخذت تصوغ حياتها الفكرية على أوضاع مؤتقة جديدة وسنن طريفة حديثة تلمح من جنباتها دلائل الحياة ويطالعك من نواحيها آثار التماسك والقوة، وان روح السخط والمال والتذمر والنقمة بادية في نفوسنا متفشية في أقوالنا، وان في نفوسنا الرياح الثائرة الهوجاء والزوابع العاصفة الهزجة، ولكن ليس لهذا السخط والتذمر من كبير قيمة وعظيم شأن ما لم يكن دافعنا إلى النهوض بالأعمال الكبيرة وحافزنا إلى الاضطلاع بالأعمال الجسيمة وإلا كان دليلاً على ضعف نفوسنا وخور عزيمتنا، وان الملل ليشرف النفس ويعليها إذا أصلحت عواصفه وأمطاره ثرى النفس وهيأتها لزرع الجليل الصالح بعد اقتلاع الحقير الفاسد وابادته.

واننا بالترجمة نتجاوز الحدود التي تفصلنا عن الطوائف الأخرى من الانسانية وتمزج حياتهم الفكرية بحياتنا، وان الفرد منا يقف في الحياة في خوف بين ماض ناء سحيق ومستقبل غامض مريب ولكنه إذا عرف أنه يفكر بذهن الانسانية جمعاء وبرمق السكون بلواحظها وإذ أحس ان قلبه ينبض بآمالها وان نفسه تهتز لمخاوفها سرى عنه ذلك ألم الوحشة وسكب على قلبه شآيبب العزاء ورد عليه الامن المفقود والسكون المسلوب وصار يشعر بقوته وعظمته أمام قوة اللانهاية وعظمتها.

ان الترجمة تزيد التيارات الفكرية قوة وتدفعاً وان العظمة لا تظهر مستكملة بصورتها مستوفية لشرائطها إلا حيث التيارات الفكرية القوية، والعظمة التي تظهر في غير ذلك تكون ناقصة بتراء، ولا تستسر العلاقة بين نهضة الشعوب وبين الدب القوي الحافل بالأفكار إلا على ذوي النظر الحسير والفكر الكليل فإن الأدب القوي يحرك الطبائع ويهز النفوس ويرسل نوره وحرارته في كل مناحي الحياة ووجوهها وان الأمة إذا ثملت برحيق فكرة كبيرة رأيت آثار تلك الفكرة متوثبة في كل نفس من نفوس أفرادها ظاهرة في أعماله مستجلية في أحاديثه وأقواه وإن كان يختلف مقدار فهم كل فرد لجوانب الفكرة المتعددة.

إن كل فرد منا يرقد في أعماق نفسه تاريخ الإنسانية بأسرها، وتقيم في ذهنه كل فكرة أمّت الكون ولكنها تروح في النفس غامضة خفية، وكلما كانت النفس شاعرة بذلك مستيقظة له كانت تواقة إلى المطالعة نزاعة إلى البحث والتفكير وصارت ترى في كل دور من أدوار التاريخ صفحات من نفسها وترى في كل فكرة خيالاً للفكرة التي كانت تختلج بنفسها ومثل هذه النفس تنسى نفسها وتنكرها لتتعرف ما حولها في مختلف الأمكنة والأزمنة وهي لهذا الانكار والتناسي تلتقي بذاتها الكبرى ونسها العظمى وما يصدق على الفرد في تناسبه نفسه لعرفاتها يصدق على الأمة ولذا فإن الأمة عند يقظتها تكثر من النظر فيما حولها، ولعل هذا ما يدعو فريقاً منا للترجمة فإنها من وسائل النظر إلى ما حولنا، واننا بالترجمة نستثير في نفوسنا كل ألأحلام والآمال والافكار والخواطر التي واجهت الانسانية في رحلة حياتها وتخرج الدرر الكامنة في بحر النفوس وتطلق الانغام العذبة الشجية المحبوسة في الصدور وتهدم الاسوار والحواجز التي تمنع شخصيتنا من الاتساع وتجعل آمالنا ضيقة غير مترامية وعزائمنا محصورة وليست بعيدة نائية وتمنعنا من أن نعيش في الدائرة الشاملة لكل الدوائر والتي لا ينبغي لأمة كبيرة أن تعيش في غيرها - دائرة اللانهاية. . . . . .