مجلة البيان للبرقوقي/العدد 57/مختارات
→ اعترافات | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 57 مختارات [[مؤلف:|]] |
دول العرب ← |
بتاريخ: 31 - 10 - 1920 |
من حديقة اببقور
للكاتب الروائي الفرنسي الخالد أناتول فرانس
القراءة والتمثيل
لا أظن من الحتم اللازم الذي ليس عنه معدل أن انتظام سمط اثني عشر مائة شخص لسماع رواية يكوّن جماعة ملهمة بالحكمة التي لا يتسور عليها الخطأ ولا يمس أنحاءها النقص - بيد أن الجمهور - كما يبدو لي - يحمل معه إلى المرسح بساطة القلب واخلاص العقل وهذان يمنحان قيمة خاصة للمشاعر التي نعالجها هناك وكثيرون ممن لا يستطيعون أن يكوّنوا لأنفسهم فكرة أو يصدروا لها حكماً عما قرأوه؟ في وسعهم أن يذكروا ملخصاً حسناً دقيقاً لما عرض على نواظرهم في المسرح، وإنك قد تمر الكتاب مراً عند قراءته وقد تقرأه إذا شئت بإمعان وروية وترجع فيه الفكر وتقلب النظر وإن الكتاب يترك كل شيء للخيال ولذا فإن العقول المجدبة والأذهان العادية لا تجد إلا لذة ضعيفة فاترة قليلة الآثر في الكتب، والمرسح على خلاف ذلك فهو يضع كل شيء إزاء العين فهو غني بنفسه عن كل مساعدة وتعضيد من الخيال ولهذا السلبب لا يكلف بد ذووا العقول المفكرة والخواطر الخطارة المتأملة لأن هؤلاء يقدرون الفكرة ويزنون الموقف بما يمده في نفوسهم من آفاق التفكير وما يفسحه من أطراف التأمل وبقدر ما يثيره من أصداء الانغام التي تطن في عقولهم وتتجاوب في أذهانهم، وأما في المسرح فإن قوة خيالهم تظل معطلة مقيدة وهم يجدون فيه سرورا منفعلاً يؤثرون عليه سرور القراءة الفعال - وما هو الكتاب؟ أليس هو سلاسل متصلة من علامات صغيرة مطبوعة؟ أليس هو كذلك في الأصل والجوهر؟ وإنه على القارئ أن يجلب لنفسه الصور ويلتقيها ويتخير الألوان والاحساسات والعواطف التي تناسب هذه العلامات وسيتوقف عليه إن كان الكتاب فاتراً كليلاً أو بارعاً حاراً متوقداً بحرارة النوازع والوجدانات أو هامداً بارد كالثلج أو إذا فضلت أن أذكر ذلك في صورة أخرى - كل كلمة من كلمات الكتاب بنان مسحور يحرك في ألياف ذهننا ويهزها ويرعشها كما تهتز وتر المزهر وهو يثير النغم في تجويفه أرواحنا، وليست مادة الأمر وأكبر ما فيه متوقفة على مهارة الفني ومكانة من الاستاذية ومقدرته على استنزال الوحي فإن الصو الذي يوقظه يترتب على طبيعة الاوتار داخل نفوسنا وليس هذا شأن المسرح فإن هناك بدلاً من العلامات الصغيرة السوداء في الكتب ترى صوراً وأشباحاً حية وعوضاً عن الحروف الدقيقة المطبوعة التي تترك مجالاً واسعاً للحدس والتخمين ترى رجالاً ونساء لا تميد فوقهم ظلال الغموض ولا تحجبهم أستار اللبس والإبهام وترى كل شيء مقيداً في مكانه ثابتاً في موضعه. ولذا فإن ما يحدث في نفوس الحاضرين من التأثيرات يختلف ويتباين في دائرة محدودة ومجال ضيق تابع للاختلافات التي أركزها القدر في الطبيعة البشرية من ناحية مواجهة الأشياء والنظر إليه ولذا نشاهد دائماً دور التمثيل - إذا لم تتداخل فيه الخلافات السياسية أو الأدبية - كيف يؤسس بين الحاضرين تبادلاً في الشعور واشتراكاً في الاحساس صادقاً نقياً وإذا فكرنا أبعد من ذلك وتذكرنا أن فن التمثيل هو ألصق الفنون الأخرى بالحياة ينبغي لنا أن نفطن إلى أنه أقرب إلى الفهم والتقدير وينتج من ذلك أنه هو الوحيد من بين سائر الفنون الأكثر التئاماً بأرواح الجمهور، وثقتهم بآرائهم فيه أوفر من ثقتهم في غيره.
إلى جيريال سياليز
لا أستطيع أن أقول أن دنيانا هذه هي أردأ دنيا ممكنة، وأني لأعتقد اعتقاداً ل كفاء له بأن من أشد المداهنة والافراط في الملق المعيب أن نمنحها الأسبقية والتفوق على غيرها ولو كان هذا التفوق في الشر والخبث، وإن ما يمكننا، أن نتصوره عل الدنى الأخرى لقليل جداً والفلك الطبيعي لا يقدم إلينا معلومات دقيقة صحيحة وافية خاصة بأحوال الحياة حتى على سطح تلك السيارات الأقرب إلينا والأدنى منا، وكلنا نعلم أن الزهرة والمريخ فيهما مشابه كثيرة من الأرض وهذه المشابه نفسها ضمانة كافية وحجة بالغة لاعتقادنا أن الشر هنا كما هو في السموات العلى، وإن دنيانا هذه هي إحدى مقاطعات دولته العظيمة المترامية الأطراف المبسوطة الظل، وليس هناك من سبب يدعو إلى افتراض أن الحياة أجمل على سطح تلك العالم الضخام الكبيرة نظائر المشتري وزحل وأورانوس ونبتون التي تمرق في سكون في أقطار السماوات وتنزلق بهدوء في منحرقات الفضاء حيث الشمس قد أخذت تفقد قسماً من حرارتها وضوئها ومن يستطيع أن يخبرنا أي نوع من المخلوقات تسكن هذه العوالم المتلفعة في أبخرة كثيفة سريعة التحول. وإذا قضينا من ناحية المشابهة لا يمكننا إلا أن نظن أن كل نظامنا الشمس شبيه بمذبح متسع بعد النواحي قاصي الأطراف تولد فيه الحياة الحيوانية لتشقى حتى يطيح بها الموت وليس هناك من عزاء ولا تأس في توهم أن النجوم الثوابت قد ترسل أضواءها إلى سيارات أسعد حالاً وأحسن شأناً من أرضنا فإن النجوم الثوابت قريبة الشبه لشمسنا من هذه الناحية وقد حلل العلم تلك الأشعة الضئيلة التي يكلفها نقلها إلينا السنين والأجيال وتحليل هذا الضوء يثبت أن المواد التي تحترق على سطوحها هي نفسها المواد المنتشرة المتماوجة حول الشمس التي لا تزال منذ خلق الإنسان وظهوره تبعث الحرارة في حياته الشقية المؤلمة السخيفة وأن تلك المشابهة كافية وحدها لتملأ جوانجي بالكره الممض الأليم للعالم.
وأن التجانس في التركيب الكيماوي يقوي في نفسي فكرة أنه ليس هناك اختلاف في احوال الروح والجسد بالعوالم الأخرى الممتدة إلى مسافات لا يتصور أبعادها ولا نتوهم حدودها وأكبر ظني أن كل المخلوقات المفكرة في عالم سيريوس أو في غيره تحيا حياة وبؤس وشقاء كخلائق هذه الأرض ولكنكم قد تقولون أن كل ذلك لا يكون الكون! نعم إن عندي شبهة قوية في أنكم في جانب الصواب وأني أشعر أن هذه العوالم الضخام العظام الرائعات ليست شيئاً والحقيقة التي أخفيها اني واثق من انه إذا كان هناك شيء فإن ذلك الشيء محتجب عن أبصارنا خاف على عيوننا واني لأشعر بأننا نعيش محفوفين بمجرد خيالات وتصورات وإن نظرتنا للكون هي نتيجة الكابوس الذي يتخلل ذلك النوم الهادئ العميق نوم حياتنا وأن ذلك لأشد الضربات وأفتكها لأنه من الواضح أننا لا ندري شيئاً وان كل الأشياء تعمل على خداعنا وان الطبيعة لتتهافت بجهلنا وعجزنا تهافتاً قاسياً مراً.
لذة المجهول
أشد اللذاذات تأثيراً في أرواحنا واهتياجاً لأشواقنا لذة المبهم الخفي وأن الجمال الغير المغطى بالسجوف والأستار ليس جمالاً وان أشد ما نهواه هو المجهول وأن الوجود ليصبح غير محتمل إذا منعنا لذة الأوهام وروقة الأحلام وان خير جزاء وأحسن هدية تقدمها لنا الحياة هي اشعارها إيانا بشيء لا يدركه التعبير ليس جزاءاً منها وأن الحقيقي يساعدنا بقدر ما في رسم وتصوير ناحية من نواحي الخيالي وقد يطون هذا أكبر مزاياه وأسمى فوائده.
الطفلة الصغيرة هناك طفلة صغيرة عمرها تسع سنوات ا، اواثق من أنها أرجح عقلاً من كل الحكماء وقد قالت لي في التو واللحظة ان الإنسان يرى في الكتب ما لا يراه في الحقيقة لأنها جد بعيدة عن عنها أو لانها قد انفرط زمانها ومضى عهدها ولكن ما نراه في الكتب نراه رديئاً ممسوخاً أو محزناً مكمدا واني أظن أنه ينبغي للأطفال الابتعاد عن قراءة الكتب وانه يوجد في الدنيا آلاف الأشياء الصالحة للنظر والمشاهدة ولا نراها في الكتب مثل البحيرات والجبال والأنهار والمدن والحقول والبحر والسفن والسماء والنجوم.
اني أشايعها على فكرها وأن لنا ساعة نعيشها فلماذا نتعب رؤوسنا ونذيبها من أجل أشياء كثيرة؟ ولماذا نحاول أن نعرف كل شيء ما دمنا نعلم أننا سوف لا نعلم شيئاً أننا نعيش في الكتب أككثر مما نعيش في الطبيعة وأننا لنشبه ذلك الأبله الذي استمر مسترسلاً في قراءة إحدى مؤلفات الإغريق وإزاء عينيه كان بركان فيزوف الثائر يواري خمسة مدن تحت رماده.
الاستسلام
ليس عندنا من شيء نعمله في هذه الدنيا سوى الاستسلام للظروف وان الطبائع الأنبل تعرف كيف تخلع على الاستسلام ذلك الاسم الجميل - الاقتناع - وأن الأرواح السامية تستسلم وتلقى مقادتها إلى الأيام رفرح مقدس وهي لا تزال تجاهد بين الشك المؤلم المكمد وبين الحزن الشامل الغالب وتحت السماء الخاوية المقفرة لتحفظ الفضائل القديمة السالفة نقية الصفحة مطهرة الأديم وهي تؤمن بأنها مرغمة على الإيمان وحب الإنسانية يملأ نفوسها حرارة وحمساً بل هي تفعل أكثر من ذلك. إنها تنقب باهتمام نقي طاهر عن تلك الفضيلة التي تضعها المسيحية في لذروة العليا والمستقر الاسمي لانها تستصحب الفضائل وتحل محلها فضيلة الأمل، فلنشعر نفوسنا حلاوة الأمل لا في انسانية فإن بكل مجهوداتها العظيمة ومساعيها الجسيمة لم تستط إخماد جذور الشر المشبوبة ونيرانه المتأججة، ولكن لنعقد الآمال وننيط الرجاء بالمخلوقات التي لا يمكن لعقولنا أن نتصورها والتي يوماً ما ستترقي من الإنسان كما ترقى الإنسان من الحيوانات الوضيعة ودعنا نحيّي باحترام وإجلال هذه المخلوقات الأسمى من الإنسان أهل الأزمنة المقبلة ولنجعل أملنا مرتكزاً على اللم العام وعلى العمل فإن قانونهما التحول والتبدل وان لنشعر بوقع ذلك الألم الواهب للحياة في نفوسنا وأنه هو الحادي بالإنسانية في مسيرها إلى الكمال الإلهي الذي لا محيد عنه.
الحزن الفلسفي
لقد طالما عبر عن الحزن الفلسفي في كلمات محزنة المعنى، وكما أن المؤمنين السالكين الذين ترقوا إلى الدرجات العالية في الكمال الأخلاقي يذوقون مطارب الاستسلام ومباهج الزهد فكذلك العالم العارف يغريه كون كل ما حوله مظهراً فارغاً وادعاء باطلاً على أن يستقى من حياض ذلك الحزن الفلسفي وأن ينسى نفسه من ملذات اليأس الساكن الوديع، وهذا الحزن الصامت الجليل من مرة لا يرغب إبداله بكل عبث الحياة ولهوها وزينتها وبهائها ولا يود بيعه بكل الآمال الفارغة التي تستهوي جماعة الجهال وترضي فريق العامة، وإن المعترضين الذين يتناسون الجمال الفني لهذه الأفكار ويرون فيها سما للمجتمع وفناء للأمم قد يخفقون من حدة كرههم إذا علموا أن عقيدة الوهم العام وأن كل الأشياء في فيض وتتابع فلا قرار لها قد انتشرت واستفاض أمرها في العصر الذهبي للفلسفة اليونانية مع زيفون وانها كانت يسكن إليها ويطمئن لها في أكثر عصور الحضارة تهذيباً وتمدينا أصفى العقول وأهداها وأشدها إحساساً وتنبهاً أمثال ديموقريتس وابيقور وجاسندي.
طيران الزمن
الزمن وهو يطير يجرح أو يقتل أحمى وأحد عواطفنا وأرق وأحلى مشاعرنا وهو يسكت الإعجاب ويخرسه ويجرده من عنصريه الرئيسين وهما الدهشة والعجب وهو يهدم صروح الحب ويذهب بسخافاته اللذائذ وهو يهز قواعد اليقين ويميل برواسي الأمل ويعري كل نمو بريء من وروده واوراقه ويا ليته يترك لنا الشفقة فلا نرمي من الشيخوخة في سجن ضيق مسود الأرجاء شبيه بالقبر وان من طريق الرحمة أن أبقينا على رجولتنا ودعنا لا نتحول إلى أحجار مثل الذين حابوا الآلهة في لأساطير القديمة ولنشعر قلوبنا الرأفة بالضعيف ونأخذ من أحزانه بنصيب لا يقاسي الاضطهاد وبالمنعَّم المسعود لأنه مكتوب واهاً لمن يضحك ولنأخذ الجانب الصالح وهو أن نشارك المتألمين في آلامهم ولنقل من أطراف الشفاه وأطراف القلب لصرعى الدهر وضحاياه قول المسيحي الصالح لمريم دعيني أقاسمك الهموم دعيني علي أدهم
كم من مؤخر غاية قد أمكنت ... لغد وليس غد له بموات
حتى إذا فاتت وفات طلابها ... ذهبت عليها نفسه حسرات
تأتي المكاره حين تأتي جملة ... وأرى السرور يجبى في الفلتات
خير أيام الفتى يوم نفع ... واصطناع الخير أبقى ما صنع
ما ينال الخير وبالشر ولا ... يحصد الزراع إلا ما زرع
خذ من الدنيا الذي درت به ... واسل عما بان منها وانقطع
وأرض للناس بما ترضى به ... واتبع الحق فنعم المتبع
وابغ ما استطعت عن الناس الغنى ... فمن احتاج إلى الناس جزع
قد بلونا الناس في أخلاقهم ... فرأيناهم لذي المال تبع
أبو العتاهية