الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 54/خواطر ليوباردي

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 54/خواطر ليوباردي

بتاريخ: 1 - 4 - 1920


الكونت جياكو موليو باردي أكبر كتاب إيطاليا وشعرائها بعد دانتي. فضله أرنولد - النقادة الانجليزي العظيم - على اللورد بيرون من حيث الكتابة والأسلوب وغزارة الاطلاع والقدرة الفنية، وفضله أيضاً على وردزورث من حيث القوة الشعرية. وقد عاش ليوباردي في أوائل القرن الماضي عيشة معذبة يلاقي الأمرين من اعتلال صحته وسوء معاملة أبيه إياه. ومات وهو في الثامنة والثلاثين، وقد خلف كتباً كثيرة وأشعاراً طويلة ممتلئة بالحزن والكآبة والسخط والألم، ناظراً إلى الحياة نظرة سوداء، غير واجد في المجتمع إلا البؤس والشقاء، وتعد خواطره هذه من أبدع ما كتبه الكتاب من عهد باسكال وبيكون إلى اليوم.

- 1 -

كان الفيلسوف شيلو الذي يعد أحد حكماء اليونان السبعة الذي يقول أنه ينبغي لمن أوتوا بسطة في الجسم أن يكونوا ذوي شمائل عذبة وأخلاق لبينة رقيقة كي يوحوا إلى الناس عاطفة الحب لهم لا الخوف منهم. وكذلك أقول أنه ينبغي لمن أوتوا الأذهان العظيمة أو المواهب الكبيرة أن يعملوا دائماً أبداً على التلطف وحسن المعاشرة، إن لم أقل التواضع الحقيقي لمن حولهم. ينبغي أن يتذكروا عظيم الجريمة التي يجب أن يكفروا عنها، وعناد العدو الذي يجب عليهم إرضاؤه - فالأول تفوقهم، والثاني حسد الناس لهم! وكذلك كان يعتقد القدماء إذا ما رأوا أنفسهم في أوج الرفاهة والنعيم، أنه ينبغي لهم إرضاء آلهتم، فكانوا يقدمون على التضحية وامتهان النفس وتعذيبها تكفيراً عن شيء قلما يكفرون عنه، وهو التنعم والسعادة.

- 2 -

إن المجتمع مهما تعددت طبقاته يرجع إلى قسمين: نفر قوي يتحكم وآخر يشقى من جراء هذا الحكم. وما من قانون أو قوة تستطيع أن تمنع هذه الظاهرة. بل إن الناس مهما تقدمت المدنية وارتقت الفلسفة لا بد منقسمون إلى هاتين الطبقتين. فعلى الذين يستطيعون الخيرة أن يختاروا ما يشاؤون وإن كانت الحقيقة أن الجميع لا يملكون هذا الاختيار في جميع الأوقات.

- 3 - ليس هناك حرفة كحرفة الأدب ناضبة المعين غير مجدية محترفها شيا. ولكن للتدليس في هذا العالم قوة تستطيع أن تجعل حتى حرفة الأدب منتجة مثمرة. إن الخداع هو روح الإنسانية وعنصرها الحي القوي. وما من موهبة أو فضل لا تسعين به بقادرة على أن تؤثر في قلوب الناس تأثيراً صحيحاً أو كاملاً. وإنك لا تكاد تختبر رجلين أحدهما ذو مواهب صادقة في أي عمل من أعمال الحياة والآخر ذو مواهب داعية، إلى وجدت هذا أكثر نجاحاً وظفر في الحياة من الأول. إن الخداع على تعدد أنواعه يستطيع أن يسود في أحيان كثيرة دون الاستعانة بالحق، ولكن الحق الخالص غير المشوب با لخداع لا يكون إلا قليل الغناء والأثر. ولا أعتقد أن هذا نتيجة طبع سيء فطرت عليه الإنسانية ولكنني أعتقد أنه ناتج من أن الحقيقة الخالصة الناصعة تكون غالباً ممتقعة غير جذابة. فلا بد للتأثير في الناس من أن نمزجها بالألوان ونكملها بالمبالغة والتفاخر وبذلك نستطيع أن نلقي في أذهانهم صوراً أسمى وأكثر من الحقيقة الواقعة. بل إن الطبيعة نفسها تعمل على خديعة الإنسان، فهي تمنحه الخيال والأوهام ولن يطيب له العيش فيها بل لن يطيقه ويسيغه بدونهما.

- 4 -

يعتقد بعض الشباب أنهم ينالون استحسان غيرهم إذا ما تكلفوا هيئة الكئيب الحزين، قد تكون الكآبة المتكلفة مقبولة إلى قدر معلوم ولا سيما من النساء. ولكنما إذا كانت كآبة صادقة حقيقية فإن الناس لا يطيقونها ويفرون منها، ولا شيء أبهج وأدنى إلى الفوز في المجتمعات من طلاقة الوجه وبشاشة النفس وابتهاج الأسارير. فالحقيقة أن الناس إذا فرغوا من أحاديثهم كانوا - مع احترامي الشديد لأولئك الشبان - أميل إلى الضحك والجذل منهم إلى البكاء والتقطب.

- 5 -

إن جهل الناس بالناس هو ذلك الذي لم يتعلم بعد أن أفرغ الكلمات وأخلاها من المعاني وأبعدها عن الصدق هي تلك المنح والوعود التي يدفعها الإشفاق والعطف أو حب المساعدة وإسداء الخير، مهما كان المصدر الذي قيلت منه. وكلما ظهرت هذه الكلمات بمظهر الأريحية والرغبة الصادقة وتكررت بحماسة وتأكيد كانت أدعى إلى قلة الثقة بها والارتياب في وفائها. فكن حذراً غير متسرع في قبول كل طلب ملح في خدمتك ومنفعتك ولو كان مصحوباً بأحر مظاهر المروءة والعطف. فإنك لو ركنت إلى هذا المظهر من الأريحية أو خدعت بهذا الإلحاح المتكرر وأقضيت بحاجتك لمن يريد أن يوليك الجميل لم تلبث أن تري وجهه امتقع وراح يغير في الحديث ويجيبك إجابات متقطع ويتركك أخيراً في حال غامضة مبهمة، ويكون حظك أسعد الحظوظ لو استطعت أن تقف له على أثر بعد هذه لمقابلة أو أن تسمع عنه شيئاً زمناً طويلاً.

ذلك لأن الناس لا يرغبون كثيراً في إسداء الصنيعة إلى غيرهم، لأن إسداءها يورثهم مشقة وتعباً ولأن مصائب أصدقاؤنا لا بد تاركة أثر من الرضى في نفوسنا وإنما يرغب الناس حقيقة في الاشتهار بالمروءة والعطف واكتساب شكر الآخرين ودلهم عليهم بالغنى وعزة الثراء إذ يعرضوا عليهم المساعدة والجود. وفي أغلب الأحيان لا يكون الناس راضين عن العطاء ولكنهم راضون أن يعرضوا هذا العطاء، وكلما ازددت رفضاً وإباءاً ازدادوا إلحافاً ورجاء ليغنموا نتيجتين: جرح كبريائك ورجوعهم بعد رفضك غير ملزمين بما وعدوا. وبهذه الطريقة تراهم يتظاهرون بشجاعة غريبة بالاهتمام بالمسألة والرغبة في إنجازها دون أن يخافوا فضيحة أمرهم مؤملين أن يكسبوا من وراء ذلك اعترافات بالجميل دون أن يخسروا شيئاً، حتى إذا ما ظهرت من ناحيتك بادرة الإجابة إلى مطلبهم وقبول منحنهم ولوا منك فراراً!!

- 6 -

لقد صدق لا. بروبير إذ قال أنه لا سهل على الكتاب السخيف أن يشتهر ويعظم أمره إذا كان مؤلفه مشهوراً من أن يشتهر كاتب وضع كتباً قيماً نفيساً. ويمكننا أن نضيف إلى ذلك أن خير طريق لاكتساب الشهرة ربما كانت في أن يعلن الإنسان عن نفسه بثقة ومثابرة ويؤكد بكل الوسائل الممكنة أنه قد اكتسب تلك الشهرة فعلاً.

- 7 -

ظن الإنسان الذي يصرح بمتاعبه وأحواله وبفتح قلب همومه وأحزانه مهما كانت منزلة أقواله من الصدق، إنما يهدم في الوقت نفسه صرح منزلته ومقامه في قلي أعز أصدقائه عليه. ولكن ينبغي للإنسان أن يتماسك لدى الخطوب ويثبت عند صدمات النوائب ويحتفظ بكرامته الشخصية وبذلك يرغم الآخرين على احترامه ويحملهم على الإعجاب بمتانة خلقه وعظمة نفسه. فإجلال الشخص نفسه إن لم يبدأ أولاً في قلب الإنسان فإنه لم يخلق في قلوب الآخرين. وإذا لم يكن الإنسان ذا شعور خاص بكرامة نفسه فإنه يجد هذه لكرامة في مكان آخر.

- 8 -

إن الناس يضحكون غالباً مما يعجبون به كالثعلب الذي يحكم بحموضة العنب الذي يوده ولا يقدر عليه! فالناس أشوق ما يكون إلى الظفر بالحب العميق الصادق مع ما فيه من حزن وفرح وهم في الوقت عينه يحملون عليه ويوسعونه ذماً. وكذلك العاطفة الشريفة أو العمل العظيم الحليق بالإعجاب والإجلال يكتم الناس شعورهم نحوه لا يعترفون به. ولا سيما إذا كان من استحق منهم هذا الإعجاب هو من أصحابهم وطبقتهم فيرون من لهوان على أنفسهم أن يقروا له بذلك الإعجاب والاحترام ويعمدون إلا السخر منه والتحقير به. وهذا العمل مطرد في حياة الإنسانية في كل يوم حتى أصبح من الضروري للإنسان أن يعمل على إخفاء كل مكرمة ونبل أكثر مما يعمل على إخفاء هفوة أو رذيلة. ذلك لأن الرذيلة على ما يظهر هي مبدأ السواد لأعظم من الناس فهم يغفرونها ويصفحون عنها على حين أن المكرمات والعظائم أعمال غير مألوفة ولا شائعة فيقابلونها بالشك والارتياب.

- 9 -

ليس شيء أدعى إلى السخرية والغرابة كتعمد الناس أن يظهروا على غير حقيقتهم. فالفقير والجاهل والقروي والمريض والعجوز كل أولئك لن يكونوا أبداً موضعاً للغمز والاستهزاء والسخرية ما داموا لا يحاولون الظهور بغير ما هم عليه. ولكن العجوز إذا تصابى والفقير إذا ادعى الغنى والريفي إذا تحضر والمريض إذا تظاهر بالصحة والجاهل إذا ادعى العلم فإنهم يصبحون جميعاً خليقين بالسخرية والاستهزاء ومبعثاً للفكاهة والضحك. من ذلك يتضح لنا أنه ليست معايبنا ونقائصنا هي سبب الضحك والسخرية ولكنه تكلف إخفائها والتظاهر بخلافها.

- 10 -

إن الذين لا يغامرون بأنفسهم في المجتمعات والمجالس فلما يكونون من أهل الوحشة وكارهي الإنسانية. فإن المبغض الحقيقي للبشرية إنما تعثر عليه في مزدحم المجتمعات والمجالس لا في مجاهل الأرض وفلواتها. لأنه ليس هي الفلسفة والتفكير بل التجاريب والمشاهدات التي تولد في قلب الإنسان بغض البشر وكراهة النوع الإنساني - ذلك وأن ما من إنسان كاره لأخيه الإنسان انصرف إلى الوحشة والعزلة والانفراد إلا خبت في قلبه شعلة ذلك البغض وانطفأت تلك الحفيظة.

- 11 -

قد مرت بالإنسانية عصور لم تحدث أثراً في عالم الفنون والآداب بل ولا في غيره من عوالم التهذيب والعرفان ولكنها كانت مع ذلك سبباً في إشعال نار الثورة في كل شيء في العصور التي تلتها.

- 12 -

إن النوابغ وأصحاب العقول الكبيرة قد يصبحون على مر الزمن غير مهتمين ولا مكترثين بالشهرة والمديح والهتاف الذي يعلو من أجلهم. ولكنهم لن يغضوا الطرف أبداً عن النقد والطعن الذي يوجه إليهم. فالحقيقة أن كل الإجلال والإعظام والثناء الذي يظفر به أولئك العظماء لا يجزيهم شيئاً عن الألم الشديد الذي يحسونه من نقد قارص أو كلمة واحدة لاذعة ربما رصدت من إنسان لا يقام له وزن ولا رأي. وعلى العكس من ذلك ترى الرجال المغمورين والخاملين الذين ألفوا النقد وعدم الاكتراث لا يتألمون ولا يتعذبون، وتراهم فرحين مبتهجين بالثناء الذي لم يألفوه إذا جادت عليه الأيام بشيء منه.

- 13 -

ليس الموت شراً لأنه ينقذ الإنسان من كل الشرور. وإن في الحرمان بعده من تناعم الحياة ولذائذها لاطفاء لرغباتنا إليها. ولكن الشيخوخة هي الشر المحض إنها بينما تحرم الإنسان من لذاته لا تطفئ رغباته، وتورثه الآلام والأحزان. لكن الناس يخشون الموت ويطلبون الشيخوخة.