مجلة البيان للبرقوقي/العدد 54/قصة الكاس
→ روح الإسلام | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 54 قصة الكاس المؤلف: لودفيغ تيك المترجم: علي أفندي أدهم |
خواطر ليوباردي ← |
الكأس Der Pokal هي قصة قصيرة بقلم لودفيغ تيك نشرت عام 1812. نشرت هذه الترجمة في العدد 54 من مجلة البيان للبرقوقي الذي صدر بتاريخ 1 أبريل 1920 |
للكاتب الألماني لودويج تيك
نقلها إلى العربية الكاتب الفاضل علي أفندي أدهم
(الفصل الأول)
كانت أجراس الظهر تدق في الكنيسة الكاتدرائية العالية، وفي الساحة المنبسطة أمام الكنيسة كان الرجال والنساء في جيئة وذهوب، ورواح وغدو وكانت العربات تكر وتسير، وكان القساوسة يحثون الخطى متجهين إلى كنائسهم المختلفة، وكان فرديناند واقفاً على السلم العريض يرمق الناس وهم قادمون للصلاة وكانت أشعة الشمس تلمع على الأحجار البيضاء، وكان الكل يبحثون عن ملجأ يرد لوافح الشمس وحرها، ويقيهم اصطكاك الهواجر وأوارها، وكان هو الوحيد الذي قضى وقتاً طويلاً معتمداً على عمود بين الأشعة الحارة اللافحة غير محتفل بها كأنه لا يحس وقداتها ولا يتأذى بلسعها لأنه كان مستغرقاً في طوائف من الذكر كانت تنتظم في سلك ذاكرته، مسترسلاً في أفكار كانت تردد في ذهنه وتبرق، وكان يعيد في نفسه صور أيامه المواضي وعهوده الخوالي.
كان يوقظ في نفسه كل عزيمة راقدة، ويشب منها كل همة خابية بذلك الشعور الطريف الذي تخلل حياته وأفاض صبغته على كل رغباته وجعل أزمتها في يده يصرفها كيف شاء.
في مثل هذه الساعة من العام الفائت كان واقفاً هنا ناظراً إلى النساء والفتيات المجتمعات بقلب غير مكترث ووجه متهلل مشرف، وكان ينظر الحفلة المزينة المزخرفة وكانت تلتقي بألحاظه في مكر وخلابة ألحاظ مترعة بالحنان، وكانت خدود تتورد خجلاً وألحاظ ترتد حياء، وكانت عينه المشغولة تلمح القدم الدقيقة وكبف كانت تصعد درجات السلم وكيف كان الثوب الهفهاف يميل على جوانبه فتظهر من تحت أرساغ القدم اللطيفة، وعند ذلك مرت في الساحة حسناء ريانة الشباب مرتدية سوداء، وكانت نحيفة ضامرة نبيلة الطلعة شريفة المحيا، وكانت غاضة الطرف في انكسار وفتور، وكانت تصعد السلالم غير ملتفتة إلى شيء في حسن مستملح، زكان ثوبها الحريري مفاضاً على أحسن الأشكال وأبرع الصور، ولما بلغت آخر درجات السلم رفعت رأسها بغتة فالتقى لحظها بلحظه فصب في عينه شؤبوباً من الضوء الصافي.
وقد أصمته سهام تلك النظرة ونفذت إلى صميم نفسه ثم داست قدمها أطراف الرداء. وبينما هو يسرع نحوها لم يستطع أن يمنعها من الركوع أمامه لحظة وهي في شكل يطبي نافر الهواء ويسلس جامح القلوب، وكانت كلها حياء ولم تكن روحه سوى مرآة تترآءى في صقالها الصورة التي كانت راكعة أمامه وتلك الزهرة المتفتحة التي مثلت لعينه.
وفي اليوم التالي زار الكنيسة وصار هذا المكان مقدساً في عينه وقد كان في نيته مواصلة الأسفار ومتابعة الرحلات، وكان رفقاؤه ينتظرونه بصبر وقلق المنزل ولكن منذ اليوم صار هذا المكان مألف نفسه ومهوى أفكاره ومعقد أهوائه، وكانت صورتها حاضرة لعينه مصورة في قلبه، وكان يراها في أوقات كثيرة ولم تكن هي تتجنبه، وكانت لا تستطيع القرب منه أكثر من دقائق متقطعة منّهبة من خلسات الزمان وغفلات العيش لأن عائلتها الواسعة الثروة الجاه كانت تشدد الرقابة عليها وكان لها خطيب.
وقد كانا يتبادلان الإقرار بالحب ولكنهما كانالا يعرفان ما يصنعان بعد ذلك لأنه كان غريباًٍ وليس في طاقته أن يقدم لمحبوبته ثروة طائلة كما كان ينتظر، وكان يشعر الآن بخصاصته ونضاضة وفره ولكنه لما كان ينظر إلى أسلوب الحياة الذي يعيشه الآن كان يخيل إليه أنه سائر إلى طريق الغنى والثروة وأنه سيفادى العيش أخضر صافياً وكان يرى وجوده قد أصبح طاهراً نقياً وقد صار قلبه مجالاً للعواطف الكريمة وكأنها كشفت له الغطاء عن محاسنها وأطلعته على فتان جمالها وبارع حسنها وصار يشعر أنه ليس بعيداً عن العبادة والدين، وكان الآن يعبر مدخل الكنيسة.
وقد صار لظلال المجهول الخافقة في نواحي المعبد شعور آخر في نفسه لم يكن يخالجها من قبل في أيام لهوه وطيشه وقد هجر أصحابه ومعارفه وعاش للحب، ولما كان يجتاز الشارع الذي فيه منزلها ويراها مطلة من النافذة وكان يقضي نهاره رخيّ البال منشرح الصدر وكان يخاطبها في أغلب الأحيان عند تدجي الليل وانتشار الظلام وكانت حديقة منزلها مصاقبة لحديقة صديق له لم يكن عالماً بسره وقد مر عام على كل ذلك.
كل هذه المناظر مرت صورها في ذاكرته، وكانت تلك الصورة النبيلة مارة إذ ذلك أمام بصره في الساحة الممتدة أمامه، وكانت تضيء بين الجموع كما تضئ الشمس، وكانت نغمات موسيقية لذيذة تصدح في قلبه الملب بالأشواق وبينما هي قادمة كان يعود إلى الكنيسة وهناك قدم لها الماء المقدس وكانت أصابعها البيضاء تهتز عندما تلمس أصابعه ثم انحنت في رفق شاكرة له صنيعه فتبعها وسجد على كثب منها وكان قلبه يكاد يذوب حباً ويقطر حزناً وكان يظن أنه من جروح الاشتياق الرغيبة وصدوعه الدامية تكاد روحه تفنى في توسلات مستحرة وكانت كل كلمة من كلمات القسيس تدوي في أركان نفسه فتزداد حباً وإيماناً وكانت شفتاه ترتعشان والفتاة الحسناء تدني صليب سبحتها إلى فمها الياقوتي ولقد صار قلبه ملآن بالحب بعدما كان منه فارغاً، وزاهياً بالإيمان بعدما كان منه عاطلاً.
ثم أن الراهب رفع الخبز ودق الجرس فانحنت بضراعة وخشوع، وكأن ومض البرق مس إذ ذاك مشاعره ووجداناته، ومثل له أن الصورة التي على المذبح قد دبت فيه الحياة وأن النوافذ المعتمة الملونة كأنها أضواء منتشرة من نواحي الجنة، ثم فاضت مدامعه واستبقت عبراته فخفضت من نيران قلبه، وأطفأت من وقدة أحزانه.
انتهت الصلاة فقدم إليها الإناء المقدس ثم خاطبها ببعض كلمات ثم سارت عنه وتأخر هو قليلاً لكيلا يبعث على الريبة والظنون وأتبعها الطرف حتى اختفت حاشية ثوبها فأخذت بوارح الشوق تنشره وتطويه، ولواعج الحب تدنيه وتقصيه.
وصار يشعر شعور الجوابة الحائر في نواحي غابة فسيحة متباعدة الأطراف وقد غابت عن نظره آخر أشعة من شعاع الشمس الغاربة ولكنه انتبه من رقدته وأحلامه واستيقظ من تأملاته وغفلانه لما لمسته يد رجل متكهل ونادته باسمه فأجفل وتراجع إلى الوراء وعرف صديقه ألبرت، المسن، الملتهب الطباع الداني الغضب والذي كان يعيش في عزلة عن الناس وكان منزله المنفرد مباحاً لألبرت وقال له بصوته الخشن الأبح هل تتذكر وعدنا؟
فقال فرديناند نعم! وهل عقدت النية على أن تفي اليوم بوعدك؟
فأجابه ألبرت نعم وفي هذه الساعة فاتبعني إن شئت.
فسارا في المدينة إلى شارع قاص وهناك دخلا عمارة كبيرة وقال له ألبرت يلزم الآن أن تدخل معي إلى غرفتي المنعزلة حتى لا يكدر صفاءنا أحد.
فمرا من غرف عدة ومن سلالم كثيرة وممرات حمة وكان فرديناند يظن نفسه قد حدق المنزل وأحاط بكل نواحيه خبراً وقد صار يتعجب من كثرة الغرف ومن تنظيم المنزل وتنسيقه الغريب وكان يزيد في دهشته أن يسكن مثل هذا المنزل شيخ أعزب منفرد مع عدد قليل من الخدم ولا ترك الغرف الزائدة عن حاجته للناس.
ثم فك ألبرت مزلاج إحدى القاعات وقال هنا المكان الذي أقصده فدخلا قاعة واسعة عالية مغطاة الحيطان بنسيج أحمر تتقاطع فيه خيوط ذهبية وكانت المقاعد والكراسي مغطاة بالقماش الأحمر نفسه وكان يأتي ضوء أرجواني من خلال الأستار الحمراء الحريرية الضخمة ثم قال له ألبرت انتظر قليلاً وذهب إلى غرفة أخرى فتناول فرديناند بعض الكتب فوجد فيها كتابة غير واضحة ودوائر وخطوطاً، ومن الأشياء القليلة التي استطاع قراءتها استبان له أنها كتب في الكيمياء وقد كان يعلم من قبل اشتهار ذلك المسن بصنع الذهب وكان هنا مزهر معلق على المائدة وكان محلى بلؤلؤ وأخشاب مزخرفة وعليه صور تمثل طيوراً وأهاراً بديعة الرسم غاية في الاتقان ونهاية في الدقة وكان في وسطه لؤلؤة في صورة نجمة قد تمهر فيها صانعها حتى بلغ أتم الإتقان ومنتهى الحذق وكان في وسطها دوائر مستطيلة متقاطعة مثل نوافذ الكنائس القوطية.
فقال له ألبرت وهو عائد أنت تنظر إلى ذلك المزهر وتتأمله؟ إن عمره مئتا سنة وقد أحضرته معي كتذكار لسياحتي في اسبانيا ولكن دعنا من هذا وخذ مجلسنا.
فجلسنا إلى جانب المائدة التي كانت مغطاة كذلك بقماش أحمر ووضع الشيخ المسن عليها شيئاً ملفوفاً بدقة ولباقة - ثم تابع القول فقال رحمة بشبابك الغض - وعدتك أخيراً بأن أنظر لك هل ستضاحك السعادة يوماً ما وهل ستفتر لك مباسم الحياة؟ وسأقوم الآن بإنجاز هذا الوعد وإن كنت تظن الموضوع هزلاً ولا يلمم بك الخوف لأن ما أحاوله سيقع بدون خطر مرعب أو عزائم مخيفة أو دعوات رهيبة تزعج مشاعرك وتقلق حواسك وأن العمل الذي أنا الآن بصدده لا يؤتي إلا من وجهتين ولا يتسور عليه الفشل إلا من ناحيتين وهما إما إنك كاذب في حبك مزور في هواك وفي هذه الحالة لا يجدي العمل ولا يثمر إذ لاشيء يكشف لي سره ويزيل الستار عن خبيئته وإما أنك تكدر سكون الوحي وتعكره بأسئلة لا فائدة منها أو بحركة سريعة عجلى أو بترك مكانك وتشبثك بالصورة فعدني الآن بأن تحافظ على نفسك سكونها وأن تلزم الهدوء.
فوعده فرديناند بذلك وأخرج الربطة التي كانت فوق المائدة من لفائفها.
ولقد كان داخل تلك اللفائف كأس ذهبية مصنوعة صنعاً دقيقاً جميلاً وكان حول قدمه العريضة إكليل من الزهر يتخلله الآس وأوراق أخرى كثيرة وفواكه دقيقة الصنع بديعة الحفر يتخلله ذهب لامع وآخر معتم وكان حول منتصف الكأس منطقة ثمينة عليها صور أطفال وحيوانات وحشية صغيرة تلعب مع الأطفال أو تفر بين يديها ثم أديرت الكأس برشاقة وخفة فانحنت من أعاليها. كأنها تتهيأ لملاقاة الشفة وكان الذهب يتوهج من داخلها. فوضع ألبرت الكأس بينه وبين الشاب وأشار إليه أن يقترب ثم قال له ألا تشعر بشيء لما تغرق ألحاظك في سنا الكأس؟
فقال فرديناند نعم فإن هذا الضوء يشرق في أقصى أعماق قلبي وإني أشعر به كقبلة في صدري الحران المشتاق.
فقال له ألبرت هذا حق فلا تحرك الآن عينك عنه ولكن صوبها نحوه وأثئر طرفك باستقامة إلى لمعان وبريق هذا الذهب وفكر جهدك في المرأة التي يهواها قلبك.
جلس الاثنان صامتين وكلاهما يرمق باهتمام الكأس اللامعة وكان ألبرت قد بدأ قبل ذلك بدقائق يصنع إشارات ساكنة في بطء ثم ازدادت سرعتها حتى صارت جد سريعة. وكان يدير أصبعه في دائرة دائمة حول الكأس اللامعة ثم توقف وابتدأ يصنع الدورات نفسها من الناحية المقابلة، وبعد انتهاء هذا بدقائق أخذ فرديناند يظن أنه يسمع عزف موسيقى مقبلة من الخارج من شارع بعيد ولكن النغمات كانت تقترب مرتعشة في الهواء وأخيراً صار لا يخالجه الشك في أن هذه النغمات مقبلة من الكأس ثم صارت صدحاتها تزداد قوة، وكانت لها قوة تضرب في أعشار القلوب تركت قلبه رجافاً نباضاً على أنغامها المصبوبة المتدفعة وكانت الدموع تنهل من مآقيه وتتفجر في عينه وكانت يد ألبرت الحاذقة الصناع تتجه في نواح مختلفة حول فم الكأس وكان يظهر كأن شرار يتطاير من بين أصابعه وكأن ذلك الشرر كان ينقض في طرق متشعبة إلى الذهب وكان يسمع لها طنين عندما تلاقيه، وكانت النواحي اللامعة تكثر وتتتابع وكانت تتبع حركات يده إلى الأمام والخلف وكانت تنبعث منها أنوار مختلفة الألوان وكانت تزدحم وتلتئم حتى اجتمعت في خيوط غير منكسرة وقد ظهر الآن أن ألبرت كان وهو في الناحية الحمراء المعتمة يلقي شبكة غريبة فوق الذهب المتوهج لأنه كان يجر حزم الضوء إلى هذه الناحية أو تلك كما يريد وكان يليح بها نحو الكأس وكانت تطيعه وتثبت في موضعها كغطاء يروح ويجيء وبنتثر وينتظم وينفصل ويتصل، ولما قيدهما هكذا أخذ يزيد الدائرة حول حافة الكأس وضوحاً فتباعدت المسيقى وصارت تضعف شيئاً فشيئاً حتى غابت آثارها ولما كانت النغمات تولي كانت الشبكة الملتهبة بالشرر تهتز إلى أمام والخلف كأنها تتنزى من الالم وبينا هي يزداد انفعالها إذ نبذت إلى قطع وصارت خيوط الضوء تنصب في الكأس ولما كانت هذه النقط تساقط ارتفع منها سحابة حمراء كانت تتحرك داخل نفسها في دوامات عدة كانت تظهر فوق الحافة كالرغوة ثم برزت نقطة بيضاء مسرعة من خلل الدائرة السحابية وأخذ يتكون في وسطها شبح وظهر فجأة من فتق البخار صورة عين وفوقها جاءت غدائر الشعر تلتوي ثم أخذ يتمشى احمرار رقيق من فوق الظل ومن تحته ورأى فرديناند صورة حبيبته بسامة المحيا مشرقة الوجه وعينيها الزرقاوين وخدها الأسيل الرقيق وفمها المتورد الجميل وكانت رأسها تروح وتجيء ثم أخذت تظهر أكثر جلاء فوق الرقبة الهيفاء البيضاء وانحنت أمام الشاب المأخوذ بالدهشة والسرور.
وكان ألبرت مقبلاً على إقامة الدوائر حول الكأس حتى برزت الأعطاف وكانت الصورة الحسناء تستتم تركيبها وتستكمل شكلها وكانت تنحني في رشاقة مستحبة ثم أخذ يظهر الصدر الناعم المقوس وعلى النهدين البارزين وردتان لهما حمرة سرية كانت تحلو في النفوس وتعذب، ويحسن موقعها في الأرواح ويجمل وكان فرديناند يتوهم أنه يشعر بالنفَس المتردد ولما كانت تلك الصورة تنحني مائلة نحوه بل تكاد تلمسه بشفتيها الملتهبتين نسي من فرط السرور وعده وقام وانحنى على ذلك الفم الياقوتي وقبله وأراد أن يقبض بيديه على المعصمين الجملين وأن ينقذ تلك الصور الآسرة للأرواح السالبة للمهج من سجنها الذهبي فحدث ارتجاج واهتزاز في الصورة الحسناء وانفصلت الرأس عن الجسم وتبددا في خطوط كثيرة العدد وكانت وردة ملقاة في أسفل الكأس كانت تكثل حزمتها بابتسامة عذبة فتناولها فرديناد في لهفة والتياع وضمها لشفته فذبلت من حرارة أشواقه وآضت هواء.
فقال له ألبرت بصوت الغاضب الحنق لقد أسأت كل الإساءة ولم تف بوعدك ونفسك فقطعها لوماً ثم لف الكأس كما كانت وأزاح الستائر وفتح نافذة دخلت منها أضواء النهار ثم خرج فرديناند كاسفاً منكسراً آسفاً حزيناً بعد أن حاول عبثاً أرضاء ألبرت وترك البرت متقد الغضب.
وانفدفع وهو في اضطراب بال وتشرد خاطر في شوارع المدينة حتى أفضى به التسيار إلى أحد أبوابها فجلس خارج الباب تحت رفرف شجرة وكانت قد أخبرته في الصباح أنها ستذهب في المساء مع أقرباء لها إلى الضواحي ولما أسكره الحب ورنحه قام وطاف نواحي الغابات وجاس خلالها وكان ذلك الشكل المأنوس لا يزال ماثلاً لعينه بينا هو يطفو ويرسب في لهب من الذهب.
وكان ينتظر ظهورها لملاقاته في رونق بهائها ولكن الشبح كان ينكسر ثانياً أمام عينه وقد كان مغضباً من نفسه حنقاً عليها لأن هواه الغير المستقر وضجة مشاعره وهياج حواسه، كل أولئك قد بدد نظام الصورة وربما بدد آماله وشتت سعادته إلى الأبد.
ولما صار الطريق بعد الظهر مزدحماً غاصاً بالناس انسحب إلى أعماق الغابات ولكنه كان لا يزال يرمق جانب الطريق البعيد فكانت كل عربة تمر من الباب تلمحها عينه - وأقبل الليل وكانت الشمس الغاربة تتطرح أشعتها الحمراء عندما خرجت من الباب عربة مذهبة مزخرفة وكان يلمع منها ضوء ناري في توهج المساء فانسل إلى ناحيتها وكانت عينها قد لمحته وحنت صدره اللماع الزاهي من النافذة في رفق وقد علت وجهها ابتسامة صافية، ورأى تحيتها الدقيقة وإشارتها وكان واقفاً إلى جانب العربة فانهلت عليه نظرتها ولما اكنت تتحول للذهاب سقطت الوردة التي كانت تزين صدرها عند قدمه فرفعها وقبلها وقد اختلج في نفسه أن تلك الوردة تقول له أنه لن يرى حبيبته مرة أخرى، أن غدر مسراته قد جفت فلن يعود لها تدفق ومسيل، وأن نجم سعادته قد غاله من بعد البزوغ الافول، وان زهرة حباته ستلجّ من بعد النضرة في الذيول.
- * *
(الفصل الثاني)
كانت الخطوات السراع تمر فوق السلالم في هبوط وصعود، وكان المنزل كله في هرج وحركة وجلبة، وكان سكانه يتأهبون لحفلات الغد وكانت ربة المنزل أكثرهم فرحاً وأشدهم إقبالاً على العمل، وكانت العروس قد نفضت يدها من العمل وتراجعت إلى حجرتها لترسل الفكر في مصير حياتها، وكانت العائلة تنتظر ولدها الأكبر وزوجه - وكان ضابطاً في الجيش - والأختين الكبيرتين وزوجيهما وكان ليوبولد الأصغر يتفنن في الخبث لإكثار الفوضى وتعميمها وإطالة الهرج والجلبة، وكان يعرقل أعمال الجميع ويفسد مساعيهم بدعوى أنه يعاونهم على تقويض الفوضى وإبطالها، وكانت أخته أجاثا التي لم تتزوج بعد تحاول عبثاً رده إلى عقله وإقناعه بأن لا يضيع شيئاً وأن يترك الآخرين في سلام، ولكن والدتها قالت دعيه وسخافاته، وخليه وحماقاته، لأن اليوم الكثير منها أو القليل لا يعد شيئاً مذكوراً، وإني أطلب إليكم أمراً واحداً وهو أنه لنزاحم الأشغال عليّ اليوم أرجو أن لا أزعج بأنباء جديدة إلا إذا كانت عن أمر كبير الأهمية خطير الشأن، فإذا كسر أحد طبقاً أو نقص معلقتان أو هم أحد الخدام الأجانب بتحطيم النوافذ فإني لا أعبأ فتيلاً بأمثال هذه الحوادث، ومن أجل ذلك أطلب إليكم بكل رجاء وأتوسل بكل وسيلة أن تريحوا آذاني اليوم من سماعها وإن شاء الله متى انتهت هذه الأيام وجلبتها نعاود النظر في أمثال هذه الحوادث ونتصفح وجوهها ونوسعها تدبراً وتفكراً.
فقال له ولدها ليوبولد لله درّك يا والدتي. إن الشجاعة لتلمح من كلماتك وإن هذه الاحساسات حديرة بربة منزل مثلك وإنه إذا دقت إحدى الخادمات عنقها أو أن الطاهي أخذ منه السكر فحرق المطبخ، أو أن الساقي لشدة سروره أراق النبيذ الجيد كله على الأرض أو شربه، فإن أخبار هذه الحوادث التافهة سوف لا تصل مسمعك، ولكن إذا كان هناك زلزال سيهدم المنزل - مثل هذا الخبر يا والدتي العزيزة لا يمكن أن يحفظ سراً.
فقالت والدته متى يتخلى عن هرائه وسخفه وماذا يقول أختاك عندما يجدانك في هذه الحالة من الميل إلى المرح واللعب والخبث مثلما تركاك من منذ عامين؟
فقال ليوبولد أنهما سيمتدحان ثبات أخلاقي ولا يقولان أني إنسان سريع التحول كثير التلون مثلهما أو مثل زوجيهما اللذين قد تغيرا تغيراً كبيراً في هذه السنين القصيرة.
ثم دخل العروس وسأل عن عروسه فأرسلت الخادمة إليها ثم قال العروس هل ذكر لك ليوبولد طلبي يا والدتي العزيزة.
فقال ليوبولد نعم قد ذكرت لها طلبك بلا شك ولكن الفوضى التي تراها حولنا لا تترك للإنسان منفسحاً ليفكر فكرة مقبولة.
ثم دخلت العروس وحيت عروسها بفرح - ثم قال العروس إن الطلب الذي أبغيه هو أنك لا تعدينها كبيرة إذا أنا أحضرت ضيفاً غريباً إلى منزلكم المزدحم الآن.
فقالت له الوالدة إن المنزل على اتساعه لا يتبسر أن أجد فيه الآن غرفة أخرى.
فقال ليوبولد لقد سبقتكما إلى تسوية هذه المسألة وقد أعددت المخدع المتسع له.
فقالت الوالدة ولم ذلك؟ وأنها محل بغيض وقد مضت سنوات وهو مخزن للأخشاب.
فقال ليوبولد ولكنها الآن مرتبة ترتيباً بديعاً، وصديقنا الذي أعددنا له لا يعير أمثال هذه الأمور التفاتاً وهو لا يبغي منا سوى حبنا ورضانا وهو أعزب يهوى الانفراد والوحدة وإنها المكان الذي يلائمه وقد صادفنا مشقة في أغرائه على المجيئ وحثه على الظهور ثانية بين رفقائه البشر.
فقالت أجاثا أظنه لا صديقكم المظلم الناحية الكريه المتوسم صانع الذهب، فقال العروس هو بعينه إذا كنت تصرين على تلقيبه بذلك.
فقالت أجاثا ولا تسمحي له إذن ياوالدتي بدخول منزلنا، وماذا نصنع برجل كهذا، ولقد نظرته مرة في الشارع مع ليوبولد فخامرني منه الخوف وأن ذلك المجرم المتطاول الأمد، العالي السن، لا يذهب إلى الكنيسة ولا يهوى الله، وهو فارغ القلب من حيث الإنسانية، وقد يصيبنا شر من وراء حضور مثل هذا الكافر في حفلة عرس كهذه.
فقال لها ليوبولد إنك ترمينه بذلك لجهلك أمره ولأن سَحبة أنفه لا تسرك، وإنك تظنينه ساحراً من خدام الشيطان لأن ظلال الشباب قد تحسرت عنه وبهجة الصبي فارقته.
فقال العروس: افسحي يا والداتي العزيزة محلاً لهذا الصديق المسن في منزلك ودعيه يقاسمنا أفراحنا ويساهمنا مسراتنا وإنه يا عزيزتي أحاثا قد قاسى كثيراً من عنت الهموم وطالت معالجته للبأساء ومصابرته للبلايا وأن همومه التوالي جعلته قليل الثقة كارهاً للناس وهو يتجنب الجماعات ويؤثر الوحدة وإن صديقيه الوحيدين هما ليويولد وأنا وغني مدين له كثيراً فعو الذي حول أميالي إلى ناحية مهذبة وهو الذي جعلني جديراً بحب جوليا.
فقال ليوبولد وهو يعيرني كل كتبه ولا يبخل علي بمخطوطاته ولا يمنعني نقوده عند سماع كلمة واحدة وهو رجل سمح الأخلاق كريم النزعة ولعلك يا أختي الصغيرة عندما تنظرينه بعين الرضى تقتربين منه ويزول من نفسك الأعراض عنه والخوف من جهامة نظره.
فقالت الوالدة لا أرى بأساً في إحضاره هنا وقد سمعت عنه كثيراً من ليوبولد حتى لقد استشرفت إلى لقائه وتطلعت إلى الوقوف على أمره ولكنني لا يمكنني أن أقيمه في مكان أليق من المخدع المذكور.
وفي الساعة نفسها طار إليهم خبر حضور أضياف من أفراد العائلة وهم الأختان المتزوجتان وأخوهما الضابط، وكان معهن أولادهن وكانت الوالدة تسر من رؤية حفيداتها وكان الكل قد شملهم السرور واحتواهم الفرح ثم تجاذبوا أطراف أحاديث مروحة مبهجة ثم إن العروس وليوبولد توجها بعد التحية والسلام ليبحثا عن منزل صديقهما الشيخ الهرم الحزين، وكان يقيم أكثر أيام السنة في الضواحي على بعد فرسخ من المدينة ولكن كان له أيضاً محفوف بحديقة على كثب من باب المدينة وهناك جمعتهما به قذفات الاتفاق وقد وجداه في قهوة كانا قد اتفقا معه على الالتقاء بها ولما حان المساء أتيا به بعد محادثة قصيرة إلى المنزل فتلقته الوالدة بالبشر والحفاوة ووقفت البنات بعيدات عنه وكانت أجاثا خجلة وكانت تتجنب نظراته وتتقيها وعند انتهاء أحادي ثالاستقبال دخلت العروس عليهم فلما أبصرها وضحت على وجهه آيات الفرح الشديد وإنه يحاول جهده أن يحبس قطرة من الدمع متحدرة وقد سر العروس لسروره وحدث بعد ذلك وهما واقفان عند نافذة أن قيض على يده وقال له ما قولك الآن في جوليا الجملة الحسناء؟ أليست هي ملكة من السماء؟
فقال الرجل المسن والانفعال باد عليه إني لم أنظر جمالاً كهذا الجمال الفتان البارع وإني أقول أنها قد بلغت من القسامة والحسن إلى حد أنه يمثل إلى أن عرفتها في أزمان تصرمت وهي وإن كانت غريبة عني فإن صورتها كانت لا تغب عن ناظري وكانت مرسومة أبداً في مخيلتي.
فقل له الشاب إني أفهم مغزى أحاديثك فإن الشيء الصادق الحسن الجليل الفخم عندما يغمر مشاعرنا ويبهر حواسنا يكون على رغم ذلك غير مستغرب في عيوننا كأنه شيء لم نسمع به أو لم ننظره ولكن على العكس من ذلك فإن روحنا الداخلية في ساعات كهذه تصير واضحة لنا وتستيقظ في نفوسنا الذكر الراقدة وتنتبه وجداناتنا الهاجعة.
ولم يشاركهم هذا الغريب في الأحاديث عند تناولهم العشاء وكانت عينه موجهة إلى العروس في لهف واهتمام حتى أربكها بنظراته وأخافها ثم قص الضابط حوادث غزوة كان من أبطالها وأفاض التاجر المتمول في ذكر التجارة وما يتهددها من الأخطار وأخذ المزارع يتكلم عن الاصلاحات التي يزمع إدخالها في ضيعته.
ولما انتهى العشاء استأذن العروس وعاد لآخر مرة إلى غرفته المنعزلة لأنه كان قد اتفق أن الزوجين يسكنان في منزل الوالدة وكانت قد أعدت الغرف لهما ثم انفرط عقد الجماعة وقاد ليوبولد الغريب إلى غرفته وقال له وهما سائران أنك تسامحنا لاضطرارنا إلى أن نقيمك في مكان بعيد أسباب الراحة فيه غير متوفرة ولكنك قد نظرت بعينك كثرة أفراد عائلتنا وبعضهم سيحضر غداً وإني أعلم أنه ليس في وسعك أن تفر من يدنا لأنك لا تدري طريقك في هذا المنزل الواسع الرحيب.
ثم سارا من مرات كثيرة وترك ليوبولد صديقه بعد أن حياه ثم وضع الخادم مشعلين على المائدة وسأل الغريب إن كان يطلب مساعدته في خلع ملابسه، وتركه لما أعفاه من ذلك وخلا إذ ذاك الغريب في نفسه.
فاخذ يقول لنفسه وهو يروح ويجيء في الغرفة كيف نبعت من قلبي هذه الصورة اليوم واضحة جلية ولقد نسيت الماضي البعيد وخلتها أمام عيني ولقد عدت إلى الشباب وكان صوتها في أذني حلو الرنين كما أعهده ولقد ظننت أني أستفيق من حلم ثقيل ولكن لا - لقد صحوت من رقدتي وإن تلك الدقائق اللذيذة لم تكن سوى وهم جميل.
وقد كان مهتاج الخاطر مضطرب الذهن وأخذ ينظر إلى بعض الصور المعلقة على الحوائط ثم أجال نظره في الغرفة ثم قال اليوم كل ما أرى على حاله ولم يتغير شيء وإني لأذكر أني عرفت هذه الدار من أزمان ماضية بعيدة ثم أخذ يجمع تذكراته من جوانب الماضي ونواحيه ورفع بعدُ الكتب الكبيرة وكانت إحدى الأركان ولما قلب صفحاتها خر رأسه وكان معلقاً على الحائط غطاء عود ولما كشف الغطاء وجد آلة قديمة قد أخلق الزمن جدتها وبدد أوتارها فقال لا لست مخطئاً وهذه العود لها صورة خاصة وهو العود الإسباني عود صديقي الراحل من أزمان - ألبرت المسن -.
وهذه كتب السحر وهذه الغرفة التي أطلعني فيها على الرؤيا المباركة وقد بهت احمرار الجدران ولكن كل ما يتعلق بتلك الساعات في نفسي واضح جلي وقد كان ذلك سبب ما تغشاني من الخوف عند قدومي إلى هنا من الممرات التي قادني فيها ليوبولد.
فيالله! هاهنا على تلك المائدة ارتفعت الصورة ونمت كأنها قد سقيت وانتعشت من احمرار الذهب وهنا ابتسمت لي تلك الصورة التي كادت ترميني بالجنون هذه الليلة وهاهنا كنت أحادث ألبرت.
ثم خلع ملابسه ولم ينم إلا حُثاثاً واستيقظ عندما ضرب الفجر بعموده وفتح النافذة وكانت الحدائق والمباني كما كانت إذ برد شبابه قشيب وإذ آماله زاهية متفتحة الزهرات فقال وقد تصعدت من زفراته لقد مرت أربعون عاماً على ذلك المساء ولقد عشت في كل يوم من تلك الأيام المشرقات أطول ما بيني وبينها الآن.
ثم دعته الجماعة وأمضى الصباح في أحاديث مختلفة وأخيراً دخلت العروس في زينتها وبهائها فلما لحظها أظهر عليه تأثر شديد شاهدوه الحاضرون ثم ساروا إلى الكنيسة وتمت هناك حفلة الزواج ولما عادوا إلى المنزل قال ليوبولد لأمه الآن يا أماه ماذا تقولين عند صديقنا الكهل الطيب السريرة. فقالت لقد كنت أظن صورته تبعث على القلق والخوف أكثر من ذلك وإنه رجل عواطف وشعور وقد نرى فيه صديقاً ناصح الجيب وافر الإخلاص.
فقال أجاثا: أتؤملين الإخلاص في صاحب تلك النظرات الحائرة المتوقدة وهذا الموجه الممتلئ بالتجعدات وهذا الفم الأصفر الغارق وهذه الضحكة الغريبة التي ترن في سخرية واستهزاء.
لا. فليدفع عنها الله شر صداقته، وإن الأرواح الشريرة إذا ظهرت في صورة إنسان فإن مما لا نزاع فيه ولا مماراة أنها تظهر في صوراته.
فقالت والدتها إني أظنه أقل سناً من ذلك وأجمل وإني أنظره بالعين التي تنظرين إليه بها وفي استطاعة الإنسان أن يلحظ عليه أنه حاد الطبع فوار الإحساس وإنه قد راض نفسه على أن يحجز فيها مشاعره وأنه اعتاد أن يحزن إحساسه في صدره وقد يكون - كما يقول ليوبولد - لاقى من أبكار الخطوب الفواجع ونوازل الهموم الصوادع ما جمع في نفسه الأحزان وألف فيها الأشجان حتى فقد صراحته البسيطة التي هي في العادة نصيب السعيد وقسط المنعم.
ثم دخلت بقية الجماعة فوقف مجرى الحديث ثم حضرت المائدة وجلس الغريب بين أجاثا وبين التاجر الغني ولما ابتدأ شرب النخب صاح ليوبولد قائلاً انتظروا قليلاً يا أصدقائي المبجلون وإني سأحضر الكأس الذهبية لأديرها على الحاضرين وهم بترك مكانه ولكن والدته أشارت إليه أن يلزم محله وقالت له لا يمكنك أن تعرض موضعها لأني حفظتها في مكان خاص ثم انفلتت لإحضار الكأس.
فقال التاجر: إنها خفيفة الحركة فانظر كيف تسير في رشاقة وقد أربى عمرها على الستين وأنها أبداً ضحاكة الوجه والبشر والإيناس وهي موفورة السرور في هذا اليوم خاصة لأنها ترى نفسها قد عادت إلى رونق الشباب في جوليا.
فوافقه على ذلك الضيف الغريب ثم عادت السيدة وفي يدها الكأس وكانت ملآى بالنبيذ ثم أديرت عليهم فكان كل منهم يشرب نخب أعز الناس عليه وأحبهم إليه فجوليا شربت نخب زوجها وهو شرب نخب حبيبته جوليا واقتدى بهم الآخرون عندما أفضنت إليهم الكأس ولكن الوالدة أبطأت عندما وصلتها الكأس.
فقال لها ولدها الضابط في الجيش في خشونة أسرعي وأديري الكأس إننا نعرف اعتقادك في خيانة الرجال ونبذهم الحفاظ وأنهم ليس فيهم أحد يستحق الحب من المرأة فقولي لنا إذن من أعز عليك؟
فنظرت إليه والدته وقد غابت عن وجهها مظاهر السرور وعلته لمحات الكدر وقالت إن ابني من أدرى الناس بطبائعي وقد ركز رأيه في، فليسامحني الحضور إذا أنا كتمت عنهم ما جال بفكري الآن ولعل ولدي يستمر صادقاً في حبه مخلصاً في هواه حتى يظهر بطلان اعتقادي وفساد فكري، ودفعت الكاس بدون شرب، وقد عرت الحضور من ذلك حيرة.
فقال التاجر وهو مقبل على الغريب أنه مما يروى عنها أنها كانت لا تحب زوجها وكانت تهوى رجلاً غيره نكث عهده ولم يستمسك بموثقه ولقد كانت في صباها من ربات الحسن والملاحة.
ولما وصلت الكأس إلى فرديناند أخذ يحدق فيها وقد تملكته الدهشة لأنها كانت الكأس التي أخرج منها ألبرت المسن الشيخ الجميل ثم أخذ ينظر إلى ذهبها وإلى تماوج النبيذ بها وارتعشت يده وصار يظن أنه ليس من الممتنع المستحيل أن يخرج من تلك الكأس المسحورة الصورة التي يعرفها وتجلب معها الشباب الراحل والعيش الزائل ثم قال بصوت مسموع هل الذي يلمع داخل الكأس نبيذ؟ فقال التاجر: نعم أكنت تظنه شيئاً آخر. اشرب وكن مسروراً.
فسرت رعدة خوف في أضلاع الرجل وقال اسم فرانشسكافي صوت عال مرتح \ جف ووضع الكاس على فمه فرمته الوالدة بنظرة دهشة واستفسار.
ثم قال فرديناند وقد استحيا من حيرته من منذ كم اشتريتم تلك الكأس؟
فقال ليوبولد إنها في المنزل من قبل مولدي وقد اشتراها والدي وسائر المنزل وأمتعته من رجل كبير السن أعزب كان دائم العزلة والصمت وكان جيرانه يظنونه ساحراً.
ولم يقل الضيف إنه يعرف هذا المسن لأنه كان في حيرة وخيال.
ثم رفع الطعام ونزل فرديناند منفرداً مع الوالدة وانصرف الصغار يستعدون لحفلة الرقص فقالت الوالدة اقترب مني فإن سنوات رقصنا قد تصرمت وإذا كنت لا ترى في سؤالي نكراً فاسمح لي أن أعلم منك هل أبصرت كأسنا مرة أخرى قبل اليوم وما الذي سبب لك كل هذه الأزمات النفسية والثورات الداخلية؟
فقال لها إني يا سيدتي أسألك الصفح وأطلب إليك المعذرة لما بدا من آثار انفعالات وإني من ساعة دخولي منزلك شعرت كأني غبت عن نفسي وإني في كل دقيقة أنسى أن شعوري بيضاء قد كللها المشيب وأن القلوب التي كانت تنبض بحبي قد أسكتها الموت وأن ابنتك الجميلة التي تلقى اليوم أسعد أيام حياتها تشبه حسناء عرفتها في أيامي الماضيات حيث الشباب غض نضير وماء العيش سلسال غير وإني لأحسب ذلك معجزة خارقة للعادة وأعجوبة شاذة عن المألوف وقد اختلفت إلي هذا المنزل قبل اليوم وعرفت تلك الكأس في حادثة لا تزال منقوشة في ذاكرتي وإنه ليعز على يد الأيام أن تمحوها منها وهنا أخبرها قصته وقال في ختامها إني في مساء ذاك اليوم وأنا في الحديقة نظرت صببتي آخر نظرة لما كانت تسير بها العربة وقد سقطت من صدرها وردة التقطتها ثم فقدت مني وأثبتت أنها لم ترع أمانتي ولم تحفظ عهدي وتزوجت بعد ذلك بأيام قليلة.
فقالت السيدة وقد ثارت سواكن نفسها وهبت في قلبها رياح طال ركودها في صوت مرتفع ألست أنت فرديناند؟
فقال: نعم هذا اسمي يا سيدتي
فقالت السيدة: أنا فرانشكا فقاما ليتعانقا ثم تراجعا إلى الوراء وأخذ كل منهما يحدق في الآخر ويتدبره وكانا يبذلان الجهد ليجمعا من أطلال الزمن ودمن الماضي تلك الصورة التي كان يعرفها كل منهما في الآخر، ومثلما يوجد دقائق في الليالي الكدراء الممتلئة بالزوابع والأعاصير والسحب السوداء تومض فيها النجوم اللامعات خلسة وتختفي فكذلك كانت تنبعث لعينيهما الملامح الزائلة من الحواجب والعيون والشفاه وكانا كأنهما يريان شبابهما واقفاً على كثب منهما بين الدموع والبسمات فانحنى فرديناند ثم قبل يدها وتساقطت من عينيه دمعتان كبيرتان ثن تعانقا عناقاً قلبياً مخلصاً.
ثم قالت: هل توفيت زوجتك؟
فقال متنهداً إني لم أتخذ زوجة لي طول حياتي.
فقال وهي تضرب كفيها إذن أنا التي خنت عهدك - ولكن لا إني لم أكن خائنة فإني عند عودتي من الضواحي حيث أمضيت شهرين سمعت من كل أصدقائك وأصدقائي أنك رجعت إلى وطنك وتزوجت هناك وأطلعوني على خطابات منك تؤكد ذلك وتدعمه وكانوا يستفيدون من يأسي وحيرتي وغضبي ولهذا رضيت الزواج من آخر وكان يستحق مني ذلك ولكن أفكاري وقلبي كانا دائماً في حوزتك.
فقال فرديناند:
إني لم أترك هذا البلد ولكني سمعت بعد مضي زمن أنك تزوجت ولقد أرادوا أن يفرقوا بيننا وقد تم لهم ذلك ولقد صرت والدة سعيدة وإني سأعيش في الماضي وسأحب أولادك كأنهم أولادي ولكن ألا ترين شيئاً يبعث على الغرابة في أننا لم نلتق مرة قبل ذلك.
فقالت: -
لقد كان خروجي من المنزل نادراً وزوجي تغير اسمه بعد أن مضى على الزواج وقت قصير لميراث استحقه وبذلك كنت لا تستطيع أن تعرف أو أن يداخلك الظن من قربنا منك.
فقال فرديناند: - لقد كنت أحاشى الناس وعشت للانفراد والوحدة. وقد كان ليوبولد الشخص الوحيد الذي اجتلب انتباهي وحبب إلي الخروج إلى رفقائي بني الإنسان وإنه يا صديقتي المحبوبة كحلم مخيف مرعب أن نظن كيف افترقنا وكيف التقينا ثانيا.
ولما دخل الصغار كان يبكيان وكانا في تأثر شديد ولم يقل أحدهما عما حدث فلقد كان السر جليلاً مقدساً وبعد ذلك كان الرجل الهرم صديق العائلة ولقد التقيا في شكل غريب ليرتبطا رابطة لانفصم عروتها ولا تحل عقدتها ولم يفرق بينهما إلا محتوم الموت.
تمت القصة