الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 50/روح الإسلام

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 50/روح الإسلام

بتاريخ: 1 - 9 - 1919


مقدمة هذا الكتاب

إن استمرار الرقي الديني بين البشر لموضوع عظيم الأهمية لدى المولعين بدراسة الحياة البشرية وإن تيقظ الذهن الآدمي إلى إدراك أن هناك شخصية أي إرادة عليا تشرف على الكون، وإن ما عاناه الأفراد والأمم من المجهودات والتطورات حتى وصلوا إلى فكرة أن هناك روحاً عامة تتخلل جميع أجزاء الكون وتدبره وتنظمه - لتفسح المجال لمباحث من أهم وأخطر ما يعنى به الإنسان.

إن تطور العقيدةالدينية من عبادة الأشياء المادية إلى عبادة الله قد صادف من العقبات ما أخره عن حينه المناسب. فلقد انحرف جماعات وأفراد من الناس عن منهج الرقي والتقدم وأطاعوا الأغراض والمطامع وانقادوا لأهواء نفوسهم ومآربها. فارتدوا إلى عبادة شهواتهم ممثلة في معبودات طفولتهم. ولكن صوت الله الخفي لا يزال يرسل دعوة الحق وإن لم تسمعها الآذان - فإذا جاء الأجل قام أولياؤه بإعلان واجبات الإنسان نحو نفسه ونحو الخالق. أولئك رسل الله الصادقون. قد ظهروا بين شعوبهم فلم يزد أمرهم على أن كانوا أبناء عصورهم ونتائج أوقاتهم. فكانوا لذلك يمثلون أماني الروح البشرية وطمحاتها نحو الحقيقة والنزاهة والنقاء والعدل. فكان كل واحد من أولئك الرسل كأنه مجموعة الاحتياجات الروحانية الكامنة في صدر عصره. لذلك جاء كل منهم ليشرف أمة وضيعة. ويرفع من قدرها ويطهرها ويصلحها. فمنهم ن جاء مدلياً إلى الناس بتعاليم محصورة، فهذا لا يتعدى تأثيره منطقة محدودة. ومنهم من جاء برسالة ليملأ بها السماء والأرض وينشرها في أرجاء العالم أجمع - رسالة ليست بمقصورة على شعب واحد أو أمة واحدة بل موجهة إلى الإنسانية بأسرها - كذلك كان محمد. فلم تكن رسالته مقصورة على العرب ولم يبعث لعصر واحد أو إقليم واحد. ولكن للناس كافة إلى آخر الأبد، إن ظهور هذا المعلم الكبير الذي كانت حياته صحيفة نقية بيضاء لم يكن مجرد صدفة واتفاق أو حادث منفصل غير متصل بسلسلة تاريخ العالم فإن عين تلك الأسباب وتلك الآفات وتلك الحاجة الشديدة إلى إيجاد الثقة والاعتقاد في القوة الخفية المنبثة في ذرات الوجود المسيطرة على الكون - تلك الأسباب والدواعي التي أدت إلى ظهور نبي كانت حياته مأساة على شواطئ الجليل في عهد أغسطس قيصر - تلك الأسباب بعينها هي التي تحركت وثارت وأحدثت من النتائج الهائلة ما أحدثت في القرن السابع بعد الميلاد أي قبل ظهور محمد.

كانت فاتحة القرن السابع بعد الميلاد عصر انحلال وطني واجتماعي وديني وكانت ظواهره تتطلب عقيدة جديدة تسترد القوى الشاردة الضالة إلى سبيل الرقي الروحاني المؤدي إلى تطهير العبادة الشخصية. هذه الظواهر كلها كانت تتطلب ديناً أدل على القدرة الإلهية وأظهر للسلطة السماوية من اليهودية والنصرانية. هذا وإن اللهيب المقدس الذي أذكاه زرادشت وموسى وعيسى كان قد انطفأ في دماء البشر إذ لبثت ديانة زرادشت بعد فسادها تكافح المسيحية التي كانت قد أصبحت أفسد منها قروناً عدة - فخمدت أنفاس الإنسانية ما بين معترك الملتين وراحت أسعد أقاليم الدنيا من جراء هذا العراك وهي موارد بلاء ومسايل دماء وما زال استمرار التنازع على السيادة وتمادي الحرب الضروس حتى امتص دماء الحياة من قلوب أمم العالم. وأصبح سكان الأرض تدوسهم القسوسية الجامدة والكهنوتية الميتة تحت أقدامها الحديدية وهم يضجون إلى الله من مظالم زعمائهم، فلا غرو أن أصبحت الحاجة أشد ما كانت إلى منقذة ومخلص.

بناء على ما تقدم أقول أننا إذا أردنا أن ندرك قيمة ما أداه محمد في العالم الأدبي الروحاني فعلينا أولاً أن نلقي نظرة عامة على الحالة الاجتماعية الدينية لأمم الأرض قبيل وحوالي الوقت الذي ظهر فيه الإسلام.

يزعم المؤرخون أن هضبة بكتيريا التي يسميها جغرافيو العرب أم البلاد هي مهد البشر ومنبت الأديان والأمم. ونحن إذا نظرنا إلى هذا الموطن القديم - مهد النوع الإنساني - بمصباح الإثنولوجي (علم أجناس البشر) فتأملناه من خلال نور ذلك المصباح المبهم الضئيل - رأينا طوائف أسرات مجتمعة في هذا المكان العتيق لا تزال تأتلف وتلتئم فتكون فضائل وقبائل ثم يدفعها التكاثر والتزاحم فتندفق وتستفيض أمواجاً تترى متواليات لتعم وجه البسيطة. والظاهر أن الفرع الحامي (نسبة إلى حام) كان أول من انشق عن الجرثومة الصلية وهجر الوطن الأولي. ثم تبعه الطورانيون الذين يقال أنهم شعبة من الأسرة اليافثية. ويظهر أن بعض هؤلاء ضرب شمالاً ثم انتشر في الشرق فأسس الفرع المغولي الحاضر. وقسم سار غرباً فاستوطن أذربيجان وهمذان وغيلان وهي بقاع واقعة في جنوبي بحر قزوين وجنوبه الغربي وكانت تعرف قديماً ببلاد ميديا. ثم انشعب فيما بعد قسم من هؤلاء فانخدر جنوباً إلى سهول بابل الممرعة الخصيبة فأسر الجاليات الحلامية القديمة ثم خالطها وامتزح بها على توالي الأزمان فكون معها الأمة الأكاديين وهم الـ الكوشيون الذين جاء ذكرهم في الإنجيل والتوراة فهذا الشعب الخليط أوجد بابل وأحدث نوعاً من الدين كان من أسمى مجاليه وأرقى أطواره أشبه بمذهب الحلول (مذهب ألوهية العالم أعني الاعتقاد بأن الله حال في كل شيء حتى يصح القول بأن كل شيء هو الله وأن الله هو كل شيء) أما في أسفل أطواره فإن هذا الدين بما فيه من عبادة الشياطين وآلهة الشمس والقمر وتضحية بالأطفال للإلهين بعل ومولوخ وتضحية عذر الأبكار للإلهين بلتيس وأستوريث وتحليل السفاح - فإنه آية على عصر اقترنت فيه المدنية الراقية بأرذل الفسق والفجور والفحشاء والمنكر وأباح الدين فيه استعمال العنف والقسوة.

ثم هاجر بعد ذلك من الوطن الأصلي الفرع السامي (نسبة إلى سام) فاقتفوا آثار الطورانيين ذاهبين غرباً حتى استوطنوا شمالي دلتا الجزيرة ثم قووا وتكاثروا فغزوا الدولة البابلية وقهروها وأسسوا مملكة مترامية الأطراف كانت لها السلطة والسيادة على جميع الولايات المجاورة أولئك هم الآشوريون الذي استتب لهم الملك واستكمل لهم الجبروت والصولة في مقر دولتهم المؤيدة المنصورة بين النهرين العظيمين دجلة والفرات فارتقوا حيناً ما إلى منزلة الديانة التوحيدية (القول بوحدانية الله) كما تشهد بذلك تعاليمهم الدينية.

وبينما كان السواد الأعظم من الجالية السامية يتدرج في مراتب التقدم والرقي ويأخذ في أسباب القوة والتكاثر في أعلى الدلتا انحدرت فئة قليلة نحو الجنوب إلى بقعة يقال لها يور داخل حدود المملكة الكلدانية. وكان لهذه القبيلة زعيم وقد حكم على نفسه بالنفي والطواف في الأرض. هذا الزعيم هو والد الذين تألف منهم التاريخ في المستقبل. أما سيرة هذا الرجل وما تضمنت من منفاه وتجولاته اندمجت في سلك الأساطير المقدسة لعدة من الأديان.

ولعل الأسرة اليافثية كانت أطول تلك الأسرات مكثاً في المواطن الأولى. فبينما الشعوب الأخرى التي انشعبت عن الجرثومة الأصلية كانت تؤلف دولاً وتحدث أدياناً كان الفرع اليافثي يتطور على أسلوب خاص به. لكن سير الأمم الذي بدأ لم يكن ليوقفه شيء. فجعلت القبائل واحدة أثر أخرى تهاجر نحو الغرب مدفوعة بروح القلق والتطلع الغريزية في القبائل الهمجية أو بضاغط التزاحم والتكاثر وضيق المجال وطلب النجعة في مواطنهم الأصلية. فأول من هاجر من القبائل اليافثية البلجيون والكلت. ثم تبعهم قبائل أخرى حتى لم يبقى في المواطن القديمة إلا الآريون الأصليون. فقسم من هؤلاء كان يقطن جوار باداخستان وقسم عند بلخ حيث لبثا قروناً عدة منعزلين عن الأمم المجاورة لا يتأثران بحروبهم ولا بحركاتهم. وأن ضوء التاريخ الذي طلع فجره على الشعوب الغربية مؤسسي الممالك والمدنيات ليسقط شعاعه أيضاً على هؤلاء الأقوام القديمة ويجلو لنا كما لو كان من وراء غيم وضباب عدة قبائل منها على تلك الهضبة حتى نراها قد برزت من الوحشية إلى الهمجية وأخذت تشعر بوجود معنى روحاني يعم الكون ويشمل الوجود أجمعه. في ذلك الحين أخذت الأفكار الروحانية تحل محل القوى الطبيعية والظواهر الكونية التي ما برحت حتى ذلك الحين تعبد من أولئك الأقوام عبادة خوف وخشية مشفوعة بالرعشة والارتجاف فجعل بعض هؤلاء الأقوام يرجعون كافة المعاني والتصورات المنتزعة من القوى الطبيعية والظواهر الكونية إلى مصدرين أساسيين - النور والطلام - فجعلوا الشمس بشير الحياة والنور رمز الإله والخير الذي بالرغم من احتباس قوته وتقيد صولته سيفوز فيما بعد على قوة الشر والظلام ويقهرها. وعند البعض الآخر من هؤلاء الأقوام كانت المعاني والتصورات التي أصبحوا ينسبونها للوثن الذي كانوا يعبدونه من قبل تتداخل وتتدامج بعضها في بعض - فأحياناً تبدو كوحدات كاملة شخصية متفرقة متميزة وأحياناً تتضام وتتلاحم حتى تصير شيئاً واحداً. وبعد ذلك نرى سحب الغموض والإبهام تنجاب وإذا بتلك التألفات القبلية والتكونات الفصائلية قد تحولت إلى تألف النظامات الملوكية وإذا بالمشروعات الزراعية قد حلت محل رعي الماشية وسوم البهائم وشرع في إيجاد الصنائع والفنون الأولية، وانتشر استعمال المعادن، وأهم منكل هذا هو أن فكرة وجود شخصية عليا مسيطرة على الوجود أجمع أخذت تتسرب إلى تلك الأذهان المقفلة وتكره نفسها على الدخول فيها عنوة وقسراً. فالملوك الأقدمون أمثال كيومورز هوشانج وغيرهما ممن شاد بذكرهم وتغنى بحديثهم شاعر الفرس الأكبر الفردوسي بشعر يسحر الألباب هو أمثلة ونماذج على مدنية تتقدم وترتقي. والظاهر أن دخول النظامات الملوكية في القبائل الآرية الأصلية كان معاصراً لتلك المشاحنة الدينية التي وقعت بين فرعي الأسرة الآرية فأدت إلى طرد الفرع الشرقي من مواطنه الأصلية هضبة بكتريا. وذلك أن أستاذاً يدعى زرادشت أحدث بين الآريين الغربيين ثورة دينية عظيمة فنشبت عن الحركة المذكورة معركة دينية شديدة كان من آثارها تلك اللعنات الشائعة الخالدة التي صبها شعراء الفيديين على عدو أمتهم ودينهم - زرادشت هذا. وإن أهاجي أولئك الشعراء الموجهة ذد الملة الجديدة هو أقطع دليل على أن هذا الانشعاب الديني كان السبب في انشعاب فرعي الأمة الآرية الأصلية وانصداعهما.

ولعلها كانت اول حرب دينية وقعت للبشر. في هذه الحرب استطاعت القبائل الغربية المتدينة بمذهب الثنوية (أي القول بوجود إلهين - إله خير وإله شر أو أصلين هما النور والظلمة) أن يطردوا أخوتهم - المتدينين بمذهب خليط - نصفه الإسراك أي تعدد الآلهة ونصفه الحلول أي الاعتقاد أن الله حال في كل شيء - فيقحموهم أرض باروبا ميسادي وعلى ذلك تدفق الآريون الشرقيون في بلاد الهند فاجتاحوا الأمم القديمة السوداء يوسعونهم ذبحاً وأسراً ويعاملونهم معاملة الأرقاء والعبيد.

على أن الفرق بين الديانتين الفيدية والزرادشتية لم يكن إلا نسبياً محضاً - وذلك أن ديانة زرادشت استعاضت عن عبادة الشيء بعبادة السبب فصيرت آلهة الفيديين أبالسة وصيرت عبدة الفيدية كفاراً. بينما شعراء الفيديين من وجهة أخرى وصموا إله أضدادهم أهورا بالشر وسموع أصورا أي القوة المعادية للإله وصبوا اللعنات الملتهبة على رأس زرادشت.

إن تاريخ ميلاد زرادشت الأول ومسقط رأسه مجهولان محتجبان في ظلمات الخفاء. غير أنه قد زهر في عهد داراهستابيس أستاذ آخر تسمى بعين هذا الاسم زرادشت فأحيا التعاليم القديمة ونظمها ووسع أساسها.

تدفق سيل الغزوات الآرية في الهند مستفيضاً شرقاً وجنوباً مدة عدة قرون وبديهي أن الجاليات الآرية تأثرت بوثنية الأمم التي غزتها وملكتها أو التي استقرت بينها - حتى نتج عن ذلك التأثر السيء عبادة السكتي الوحشية الخبيثة القذرة من ناحية - وشهوانية مذهب كرشنا السافلة من ناحية أخرى.

ولكن صميم الأمة الآرية بقي لقرون عديدة محتفظاً بالأفكار والعواطف التي انتقلت معه من وطنه الأصلي واستمرت هذه الأفكار والعواطف تؤثر فيه تأثيرها غير أن هذا الصميم (صميم الأمة الآرية) كان قد كتب عليه أيضاً أن يفقد هذه البقية الباقية من الفكار والعواطف. وذلك أن القوم طاب عيشهم وصفا زمانهم ولاحظتهم عيون الإقبال والسعادة وانفسحت لهم نعمة فانغمسوا في اللهو والترف وباتوا بمعزل عن الحياة الجدية العملية التي كان يحياها أخوانهم الآريون الغربيون - وكانوا فوق ذلك واقعين تحت تأثير مخيلاتهم التي كانت مخصبة لدرجة فاسدة مريضة ولم يكن لهم نظام أخلاقي أدبي موضوع في قانون نافذ فعال ففقدوا عقيدة اسلافهم الروحانية ثم أحرزوا على توالي الأيام قانوناً - ولكن هذا القانون كان يمثل تلك الأفكار التي تتفشى في عصور مادية قذرة خبيثة.

ثم حدثت بعد ذلك ثورة نشأت عن غرائز ثورية وسلبية تسلطت على الذهن الهندي، ولكن البوذية على ما امتازت به من الأغراض السامية والمطامح العالية لم تكن بأية حال ديانة إيجابية فعلية. فهي وإن وافقت الزاهد المنعزل المتعبد عديمة التأثير على الجماعات والجماهير. وإن فشلها وخيبتها مع وجود أحسن الظروف ملاءمة ومناسبة كانت خاتمة سيرتها في الهند باعتبارها نظاماً دينياً.