مجلة البيان للبرقوقي/العدد 50/المرأة والروح العسكرية
→ روح الإسلام | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 50 المرأة والروح العسكرية [[مؤلف:|]] |
أثران خالدان ← |
بتاريخ: 1 - 9 - 1919 |
للأستاذ عبده برقوقي المحامي
إن للأنظمة السياسية والاجتماعية واصطباغها بالروح العسكرية والاقتصادية شأناً كبيراً وتأثيراً عظيماً في تحديد مركز المرأة الاجتماعي ودرجتها من الاحترام العام. وذلك لأن الأمة التي تتغلب عليها الروح الاقتصادية مهما كانت جهالتها وسذاجتها تعظم نساءها وتعلي قدرهن وتحيط حقوقهن بسياج متين من القوانين والعادات التي تدفع عنهن كل افتيات. فال تبيح تعدد الزوجات وإن إباحته مقتته ولا تجعل للرجل سلطاناً مطلقاًَ على المرأة بل تبين حدوده ومعالمه بشكل نير واضح. ولا تكره البنت على الزواج بالشاب الذي يختاره لها والدها بل المرجع في ذلك إلى رأيها واختيارها.
وللبنت في بعض القبائل الساذجة التي من هذا القبيل أن تخطب بنفسها الشاب الذي تريده ولا تنتظر أن يتقدم إليها بل ترسل والدها إليه ليخطبه. أما الأمم والقبائل التي تتغلب عليها الروح العسكرية فعلى عكس هذا الخلق. تستهين بالنساء وتعبث بحقوقهن وتسيء معاملتهن.
وإذا تصفحنا الأمم واستقرأنا العادات واستوعبنا القوانين تتجلى لنا صدق هذه النظرية. ففي بولينيزيا نجد قبيلتي فيجيان والسامون على طرفي نقيض من الأخلاق. فالأولى مفطورة على حب القتال وترى الروح العسكرية منسكبة في مشاعرها وأنظمتها.
فرؤساؤها يتمتعون بسلطة لا حد لها وهي منقسمة إلى طوائف بعضها فوق بعض الأدنى يطيع الأعلى طاعة تقرب من العبادة وعلى رأس الجميع رجال الحرب وهم على جانب عظيم من القسوة والعنف. ولها جيش منظم على رأسه ضباط بدرجات مختلفة. فهذه القبيلة الحربية يذيع بينها تعدد الزوجات إلى أبعد مداه ويقتني رؤساؤها عشرات الزوجات إلى المئة وتحتقر النساء وتزدريهن وتبيح للرجل أن يبيع زوجته وأن يذبحها ويأكل لحمها إذا أراد.
أما القبيلة الثانية فالروح الاقتصادية سائدة فيها. لها حكومة دستورية ورؤساؤها يعينون بالانتخاب. وسلطتهم مقيدة محدودة. وبها نظام اقتصادي محكم الترتيب والنظام. فحث الإضراب عن العمل معروف لديها ومسموح به للعمال وبها نقابات للصناع وأجراء يعملون باليومية.
يقابل هذا أن النساء فيها مستمتعات بنصي بوافر من الرفاهية والاحترام العام لا يعملن إلا الأعمال السهلة الخفيفة. وإذا تزوج رجل بامرأة وجب على كل منهما أن يحمل بائنة وفي الغالب تكون البائنتان متساويتان وإذا افترقا بعد عشرة طويلة تقسم ثروتهما بينهما مناصفة فتأخذ الزوجة النصف.
وإذا انتقلنا إلى الأمم الراقية القديمة منهاوالحديثة نجد أن قدماء المصريين كانوا على درجة عظيمة من المدنية، ويجلون الصناعة ويتقنون أنواعاً كثيرة منها ويقدسون الفنون الجميلة ويعنون بها عناية كبيرة كما تدل عليهم آثارهم المجيدة. وكانوا على جانب عظيم من العلم وحسن الملاحظة وبعد النظر ورفاهية العيش. ولم يصلوا إلى هذه الغاية إلا بعد تدرج طويل وتطور استغرق قروناً عديدة في أثنائها ثبتت الروح الاقتصادية واستقرت في أعماق قلوب المصريين حتى أن الروح العسكرية التي ظهرت بينهم فيما بعد وقدستها ديانتهم لم تقو عليها، وظلت الروح الاقتصادية سائدة على مشاعر المصريين وأفكارهم. وكانت المرأة إزاء هذه المدنية الزاهرة محترمة الحقوق، وكان تعدد الزوجات على الرغم من إباحته نادراً ومستهجناً والطلاق ممقوتاً من الذوق العام والحصول عليه من أصعب الأمور. وكانت الروابط العائلية واضحة نيرة وخاضعة إلى أحكام دقيقة، وكان أساس الحياة الزوجية التآزر والتضامن والمساواة بين الزوجين. وكانت النساء تغشى المنتديات وتشارك الرجال في الحفلات العمومية كما تفعل الأوروبيات الآن.
وظلت المرأة المصرية حافظة مركزها مع ما أصاب مصر من الرزايا والكوارث الوطنية التي أفقدتها استقلالها وأوقعتها تحت نير الأجنبي. ولم تقدر قوانين الأمم التي تداولت الحكم على مصر أن تضعف مركز المصرية أو تهضم حقها. وظل مواطنونا الأقباط متمسكين بتراث أجدادنا فقد نقل المقريزي عن أخلاق وعادات الأقباط في عهده أنه لو باع أحدهم شياً يذكر في العقد أنه باع بعد الاستئذان من زوجته. ولا تزال العادات القبطية إلى عصرنا هذا تحرم الطلاق وتعدد الزوجات بتة ولذا تجد الحركة النسائية بينهم سائرة إلى الأمام بخطوات واسعة، وعن قريب ستتوج المحافل المصرية بنسائها الأقباط. ولكن المصريين لمسلمين عدولا عن كثير من عادات أجدادهم وذلك لامتزاجهم بالأمم الحربية التي فتحت بلادهم واستقرت بين ظهرانيهم واقتبسوا بعض عادات وأخلاق الفاتحين.
ولا يغيب أيضاً عن البال أن عهدنا بالإتجار في الرق غير بعيد، وأن كثير من الوجهاء إلى وقت قريب كانوا يذهبون إلى الأستانة ويشترون النساء للتزوج منهن أو التسري بهن.
غير أن هذا كله كان قاصراً على الطبقات العليا أما سواد الأمة وجمهورها فقد ظل بعيداً عن ذلك تقية منه. فالفلاح المصري الصميم يقنع عادة بزوجة واحدة ولا يطلقها إلا في الندرة ويعاملها معاملة القرين بخلاف الطبقات الأخرى التي اختلطت بالعرب والترك وغيرهم من الأمم الحربية التي نزحت إلى مصر فإنها شديدة البأس على نسائها وأطفالها، يكاد الرجل أن يكون ملكاً مستبداً، كلما قام أو قعد وقف له الجميع إجلالاً وإعظاماً، وإذا جلسوا معه فخشب مسندة مطرقين إلى الأرض لا ينبسون بكلمة ولا يردون له رأياً ولا يأنسون به. ولن تجد في مصر أكثر زواجاً وطلاقاً من البدو أو ممن أصلهم بدو.
لكن منذ أمد غير بعيد أخذت هذه الطبقات تتجانس مع بقية الأمة وتقترب عاداتها من العادات المصرية القديمة وتتقلص عنها قسوتها على النساء وشدتها على الأطفال والفضل في ذلك راجع إلى شرف محتد الأمة المصرية ومجدها الأثيل وإلى نسيم الرقي الاقتصادي والعلمي الذي هب على مصر فأنعش حياتها المادية والأدبية وحملها على السعي في إصلاح شؤونها السياسية والاجتماعية وتطلب نصيب أوفر من الحرية في الحكومة والعائلة وسيصل بها التطور في المستقبل القريب إلى ائتلاف في العادات والأخلاق ووحدة في الأحوال الشخصية فيتقاضى المسلم والقبطي أمام محكمة واحدة وعلى قانون واحد ولا يكون بينهما فرق في الزواج والطلاق. وقد برهنت المرأة المصرية في حركة الأمة الأخيرة على صدق هذه النبوة فقد اشتركت النساء في تعضيد الحركة الوطنية وضممن أصواتهن إلى أصوات الرجال وقابلن ذوي الشأن من أجانب ووطنيين وعرضن عليهم مطالب الأمة وسرن في الشوارع وعلى رؤوسهن تيجان الكمال والوقار يشهدن العالم كله على أن المرأة المصرية الحديثة جديرة بمركز نساء الفراعنة العظام.
إن نظام الحكومة صورة من النظام العائلي وعلى قدر ما لرئيس العائلة من سلطة يكون سلطان الحكومة. وإذا كان رب الدار جباراً مستبداً كان الحاكم كذلك. والبلد الذي تكون روحه عسكرية يكون الرجل فيه خشن المعاملة قاسي القلب شديد البطش صعب المراس يحتقر من دونه من النساء والأطفال والضعفاء. فالحاكم الروماني أول عهد رومة بالحياة السياسية كان مطلق الإرادة لا رقيب عليه ولا حسيب وكذلك كان الأب الروماني في ذويه، والسبب في ذلك أن رومة كانت أمة حربية من قمة رأسها إلى أخمص قدميها. وظل الاستبداد فيها آخذاً برقاب العائلة والأمة إلى أن ضعفت الروح العسكرية، ورجحت عليها الروح الاقتصادية، وقد تم هذا حينما أصبحت رومة إمبراطورية عظيمة تضم بين ذراعيها بلاداً شاسعة وأمما عديدة وقلت بذلك نسبة المشتغلين بالحرب إلى مجموع الأمة فإن الروح العسكرية لا تتوقف قوتها على كثرة الوقائع التي انتصرت فيها الأمة وإنما على نسبة الجنود إلى مجموع الذكور القادرين على العمل فإن كان جميع الذكور جنوداً مستعدين للقتال والنزال كانت الروح العسكرية على أتم قوتها وإن لم يكونوا كذلك وازدادت طبقة العمال والتجار والزراع ضعفت الروح العسكرية بنسبة هذه الزيادة وتقوت الروح الاقتصادية، والأمم الصغيرة المتعادية إذا اتحدت وألفت منها إمبراطورية عظيمة تضعف فيها الروح العسكرية ولو أنها في هذه الحالة تزداد خطراً على جيرانها وتكثر مواطن الخلف بينها وبين ما يماثلها من الإمبراطوريات فإن نسبة المحاربين فيها مهما كانت عظيمة لا تصل إلى النسبة التي كانت في جزئياتها. وهذه هي حال الإمبراطورية الرومانية بعد تأسيسها واتساعها. وهناك أمر آخر جدير بالعناية وهو أن الاحتفاظ بالبلاد الشاسعة التي امتلكتها رومة أوجب عليها ترقي الصناعة والزراعة وإشغال عدد كبير من رجالها في تهيئة أدوات القتال ومعدات النقل لجيشها العرمرم وفي أثناء هذا الرقي الاقتصادي والنمو السياسي كانت المرأة الرومانية تعلو أيضاً حتى وصلت مع الإمبراطورية إلى ما يقرب من الكمال ثم تدهورت وانحط شأنها حينما انفرط عقد الإمبراطورية وتناثرت أجزاءها إلى إقطاعيات صغيرة متعادية فانتعشت الروح العسكرية وضعفت الروح الاقتصادية ولبثت المرأة كذلك مهملة محتقرة حتى انقرضت الإقطاعيات ونشأت على أنقاضها الممالك الحديثة.
والممالك الأوروبية الحديثة ليست كلها على وتيرة واحدة في معاملة النساء لأن الروح العسكرية فيها على درجات مختلفة من الشدة والضعف فمركز المرأة الفرنساوية أو الألمانية أقل من مركز المرأة الإنكليزية لأن الروح الفرنساوية أو الألمانية أميل إلى العسكرية من الروح الإنكليزية وليس لإنكلترا بسبب موقعها الجغرافي وانفصالها عن القارة الأوروبية جيش كبير بخلاف فرنسا وألمانيا فإن الخدمة العسكرية فيهما تستنفد عدداً عظيماً من الشبان وتمنعهم من القيام بنصيبهم من الأعمال وتلقي بعبء هذا النصيب عل عاتق النساء.
فترى النساء في فرنسا وألمانيا يشاركن الرجال في العمل في الحقول ويزاولن خارج المنازل أشغالاً كثيرة بخلاف الإنكليزيات فإن عملهن سهل خفيف والإنكليزي مشهور بظرفه مع النساء حتى يضرب به المثل في ذلك ويترك لأولاده الذكور والإناث على حد سواء مجالاً عظيماً من الحرية.
أما الألماني فيعود أولاده على الطاعة والنظام وقد قالت سيدة ألمانية أقامت مدرسة في إنكلترا مدة طويلة أن متاعب التدريس في المدارس الإنكليزية أشد منها في ألمانيا وذلك لنزوع الروح الإنكليزية إلى الحرية وانطباع الروح الألمانية على الطاعة والنظام.
وقد بلغت الروح العسكرية في فرنسا مدة حكم نابليون الأول مبلغاً عظيماً أقست قلوب الرجال وملأت نفوسهم كبراً وأنفة حتى أنستهم واجبهم نحو الضعفاء في كثير من الأحيان.
وقد حكي عن نابليون أنه قال يجب أن يكون للزوج على امرأته سلطان مطلق.
أما في أمريكا فقد بلغت المرأة مركزاً سامياً لم تبلغه نساء البلدان الأخرى لضعف الروح العسكرية وعدم الحاجة إلى جيش كبير.
وإذا رجعنا إلى الشرق الأقصى تتجلى لنا صحة النظرية بوضوح تام فإن الصين منذ ألفي سنة لم تستقر على حال من القلق والثورة بسبب تفكك أجزائها وتحللها ثم تجمعها واتحادها وتعاقب ذلك على مدى هذه القرون الطويلة ومكثت أجيالاً عديدة في حرب وكفاح مع التتار والمغول وفشا عن ذلك روح عسكرية قوية واستبداد مطلق في الحكومة والعائلة واستهتار بالمرأة إلى درجة الإتجار فيها والتسري بها وإشغال كاهلها بأشق الأعمال كجر العربة والمحراث ولكن في هذه الأيام الأخيرة تحسنت حالتها نوعاً ما بفضل ما أصاب الرأي العام من التطور والرقي والطموح إلى الحرية.
وكذا اليابان فإن حروبها الداخلية الطويلة أكسبتها روحاً عسكرية ووصمت الحكومة فيها والعائلة بطابع الاستبداد المطلق فالمرأة من زمن غير بعيد كانت تسام الهوان وتباع وتشترى للتسري بها وكان الرجل يعاملها بمنتهى القسوة ويطلقها متى أراد ويقتلها أوي صلبها إذا ظن بعفافها سوءاً. ولكن منذ ما أخذت اليابان بأسباب المدنية الحديثة والرقي الاقتصادي ارتفع شأن المرأة وارتخت قيودها وزال عن كاهلها مظالم كثيرة.