مجلة البيان للبرقوقي/العدد 50/حضارة العرب في الأندلس
→ محاورة بين فقيه متدين وفيلسوف ملحد | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 50 حضارة العرب في الأندلس [[مؤلف:|]] |
روح الإسلام ← |
بتاريخ: 1 - 9 - 1919 |
الرسالة الثانية من المرية إلى قرطبة
أظنك يا أخي لا تزال على ذكر من أن الرسالة الأولى من هذه الرسائل كتبت ونحن على متن البحر - قبل أن نصل إلى مرافئ الأندلس، أما هذه الرسالة الثانية فقد وضعناها بعد أن انفصلنا من مرفأ المرية وحططنا رحالنا في قرطبة حضرة هذه البلاد عاصمتها وقد خصصت هذه الرسالة بوصف كل ما مر بنا من حين اقترابنا من ميناء المرية إلى أن وصلنا إلى قرطبة.
أما المرية فهي إحدة مدن الأندلس الكبيرة واقعة في شرقيها، وهي على ساحل البحر الرومي البحر البيض المتوسط وهي مرسى للسفن القادمة إلى هذه البلاد الأندلس - وفي مينائها يربض الجانب الأكبر من أسطول الأندلس الأعظم والجانب الآخر يرسي في بجاية - وسيمر بك قريباً واف على هذين البلدين - المرية وبجاية ـ.
ولما صافح مركبنا أمواه المرية - وكان يسير بحذائنا مركب آخر علمنا أن فيه أبا علي القالي اللغوي وافد العراق وسائر من قاموا معنا من الإسكندرية في مركب أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر - آنسنا من جانب الميناء - ميناء المرية أسطولاً كبيراً قادماً علينا حتى إذا صار منا أدنى ذي ظلم أخذ يحيينا من فيه بالرايات والأعلام - وكان فيه الأمير عبد الرحمن بن رماحس قائد أساطيل الأندلس الأكبر - إذ أمره الحكم بن أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر وولي عهده أن يتلقانا في وفد من وجوه الأندلسيين ويجيء معنا إلى قرطبة تكرمة من الأمير لنا ولأبي علي القالي حفظه الله - فكان من رجال ذلك الوفد شاعر الأندلس يوسف بن هارون الرمادي وأبو بكر بن القوطية سيد علماء اللغة في الأندلس وابن رفاعة الألبيري أحد أدباء البيرة وفتى نشأ يتوقد ذكاء ويقطر أدباً وألمعية يسمى أبا بكر الزبيدي وكثير غير أولئك من علماء الأندلس وأعيانها وقوادها - وهذه عمرك الله آية محسة على عناية الأمير بالعلم وأهله - ولا بدع فقد وقفنا من ذلك على الشيء الكثير الذي سما بهذا الأمير في أعيننا. فمن ذلك فيما تحققناه أنه يبعث الحين بعد الحين في شراء الكتب إلى الأقطار، رجالاً من التجار، ويرسل إليهم الأموال لابتياعها، حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه في ربوعها، وقد بعث في كتاب الأغاني لأبي فرج الصفهاني و إليه فيه ألف دينار من الذهب العيني، فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه إلى العراق وكذلك فعل القاضي أبي بكر الأبهري في شرحه
ثمت قمنا إلى جرد مسومة ... أعرافهن لأيدينا مناديل
وأنشد القالي الكلمة في البيت - أعرافها لأيدينا مناديل - فما كان من الأديب ابن رفاعة الألبيري - وقد لاحظنا في خلقه حرجاً وزعارة إلا أن استعاد أبا علي البيت متثبتاً مرتين في كلتيهما ينشد أعرافها فقام ابن رفاعة وقال: مع هذا يوفد على أمير المؤمنين ويتجشم الرحلة لتعظيمه وهو لا يقيم وزن بيت مشهور بين الناس لا تغلط الصبيان فيه والله لا تبعته خطوة ثم هم بالانصراف، فندبه الأمير ابن رماحس أن لا يفعل فلم سيجد فيه حيله، فاضطر ابن رماحس إلى أن يكتب إلى الحكم يعرفه ويصف له ما جرى من ابن رفاعة ويشكوه، فجاء جواب الحكم إلى ابن رماحس بما نصه كما أطلعني عليه ابن رماحس:
الحمد لله الذي جعل في بادية من بوادينا من يخطيء وافد العراق إلينا، وابن رفاعة أولى بالرضا عنه من السخط، فدعه لشأنه وأقدم بالرجل غير منتقص من تكريمه، فسوف يعليه الاختبار إن شاء الله أو يحطه
وفي عصر ذلك اليوم دعانا الأمير ابن رماحس لأن نتفرج برؤية الأساطيل وهي تلعب لعبتها التي تلعب إذا هي همت بحرب أو رجعت من قتال ظافرة وذلك لأن أسطولاً أندلسياً آب من إفريقية في ذلك اليوم مفلجاً مظفراً في معركة نشبت بينه وبين أسطول المعز لدين الله - فذهبنا إلى الميناء وركبنا زورقاً وأخذنا نشاهد حركة الأسطول ونجتلي أنواعه وعدده وآلاته ونحن نأتي لك على شيء مما شاهدنا. . .