مجلة البيان للبرقوقي/العدد 50/أثران خالدان
→ المرأة والروح العسكرية | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 50 أثران خالدان [[مؤلف:|]] |
رسائل في علم الفلك ← |
بتاريخ: 1 - 9 - 1919 |
خطابان من مازيني إلى مسز كالاريل
نقلهما إلى العربية الكاتب الفاضل على أفندي أدهم الموظف بجمرك مصر وأهداهما إلى البيان
يذهب فريق من المفكرين إلى أن ولوع بع النفوس بالكمال المطلق وشغفها بالمثل الأعلى هما كتعلقها بأمل لا يتحقق وكلفها بوهم لا يصدق ولكنهم لا ينكرون على ذلك الولوع بالكمال فائدته في تهذيب النفوس وإيقاظ الشعور ولا يجهلون أثره المحمود في حياة الفرد والجماعة، وهم يشبهونه بحجر الفيلسوف وأكسير الحياة اللذين كانا من أشد البواعث على تقدم علم الكيمياء وأنا نري أن نلحظ الموضوع من جانب آخر وهو أن كل بطل باسق الأفعال ضخم الآمال يعبر لنا ن نفسه عن حلم رائع أرسلته فيها الطبيعة وهو يستفرغ همته ويبذل غاية ما في وسعه في أن يلائم بين العالم الخارجي وبين ذلك الحلم المشتملة عليه نفسه وأن السعي وراء ذلك هو على شقاء العظماء ومصدر ما يلاقونه من الصعاب وإذا نظرنا إلى حياة رجل من فحولة الرجال مثل مازيني في ظلال تلك الفكرة تبدت لنا أسباب الأخطار التي صادفته في حياته فلقد عاش الرجل أكثر حياته طريداً كالمثل الشرود ولما نبت به بلاده وأخذت تلفظه الأقطار إلى أن ألقى عصا المسافر في لندن التقى هناك بعائلة كارليل ونشأت له صداقة متينة معها وكان يخص المسز كارليل بالجانب الأوفر من تلك الصداقة ويجمل الظن بالحياة أن يقف الإنسان على حقيقة تلك الصداقة وذلك الود النقي المتبادل إذ يعلم أن الصداقة الشريفة والصفاء المحض ليسا وهماً من أوهام العقول المسترسلة وراء الأحلام الهائمة في أدوية الخيال، وقد كانت مسز كارليل شاعرة أدبية من النساء العبقريات الساميات اللب الكبيرات الروح وقد كان في مزاجها نزوع إلى الحزن ولم يكن أسلوب الحياة المنعزلة التي كانت تعيشها مع زوجها ما يسلسل أنوار السرور في ليل الحياة المكتئبة وكانت معاشرة زوجها من أشق الأمور وأصعبها احتمالاً لوعورة أخلاقه وتسخطه الدائم وملله المستمر، وقد كتب إليها مازيني خطابات عدة جديرة أن تلهم النفوس الحائرة الصبر والقوة بما يتفجر في خلالها من ينابيع التفاؤل العذبة ومن بين هذه الخطابات الخطابان الآتيان.
1
خطاب من مازيني إلى مسز كارليل
صديقتي العزيزة:
لم أجد سبيلاً إلى الكتابة إليك أمس كما كان في نيتي لوفاة زوجة صديقي بتروسي. لقد كانت حزينة لدى والموت ولكنه حزن معافى من العيوب بريء من النقصان، وهكذا ينبغي أن يكون حزنك وهذا ما أريده بك، بل هذا ما يبتدر إليك ويستبق نحوك لو عملت الروية لحظات وجلت هنيهات في مضمار الفكر وقد أحاط بك اليقين وانبعث في صدرك الإيمان. إن الأفراح والآلام وإيماض الآمال ببروق النجح وانقشاع غبرتها عن الخيبة هي - كما تعودت أن أقول - مثل الأمطار وضوء الشمس لا بد للمسافر أن يلاقيها في طريقه، فلنحمد الله ولنشكره إذا طلع علينا أضواء الشمس، ولنشتمل في بردتنا ونوثق عراويها ونضم أزرارها إذا حل علينا الغيث نطاقه وأرسلت السماء أمطارها، ولا يخامرنا الشك أو يداخلنا الريب في أن سقوط الأمطار أو لشروق الشمس أدنى تأثير على نهاية الرحلة المنشودة، ومثل هذا لا تسقط دونه معرفتك ولا يعزن عن علمك ولكنه يعوزك يقين يعمر قلبك ويهبك القوة على النهوض بما يوحي به إليك فكرك ويرد إلى فسك ذلك اليقين من إضمار المحبة للناس والانطواء على المودة لهم وقد يخلص لك إذا أشرقت في مدجيات أحزانك أنوار الإيمان الديني وربما يسلس لك القياد ويعطيك الليان إذا أنت فكرت فيمن مات من الأحباب والأصدقاء ونشرت مطوى أخبارهم وجددت قديم ذكرهم، وأنت تعرفين كلفي بك ونزوعي إليك فلا تصوحي مني أزاهير اليقين ولا تنضبي فيّ ينابيع الرجاء ولا تكوني عليّ حرباً فكفاني مساورة تلك الأضاليل التي تحف بي من كل جانب وتطالعني من كل مرقب وتميل بنفسي إلى ناحية الهاوية السحيقة ولا تزيدي نفسي حزناً ولوعتي اتقاداً بسوء أسوتك وشر قدوتك وبما يبدو عليك من شواهد المادية ولوائح الأنانية، وإن عهدي بك راسخة العقيدة ناصعة الإيمان فلماذا لا تحضرك خاطرة أن الله أراد بهذه الحياة الفانية أن يبلونا وأنه عما قليل سيقيمنا في ظلال راحته ويبسط فوقنا جناح حنانه إذ لك والدين وإن كانا الآن بعيدين عن منال الإحساس مرتفعين على متعلق المشاعر فلم لا تفضين إليها بذات صدرك وتناقلينهما حديث أشجانك فإن لحظة واحدة تستغرقينها في مناجاتهما لأجدى عليك من كلماتي برمتها وأجمل أثراً في نفسك من نصائحي بجملتها، ولو كان والداك أحياء الآن كما يقول الناي أما كنت تستفيضين في جوارهما وتفزعين إليهما وتخبئين رأسيك في صدريهما فيتسرب السلو إلى قلبك ويتندى برد الهدوء على كبدك فتحسين بأنك مدينة لهما بالقوة حتى لا يستشعرا منك الخجل أم قد تشعبت بك الظنون وتقسمتك الأوهام فدار في خلدك أنهما قد سلكا طريقاً لا رجعة منها وأن روحيهما الخالدتين الفياضتين بالحب قد انتثر عقدهما وانحل نظامهما فليس لهما أبد الدهر ناظم يقدح عندك في معاقد حبك لهما ويقلل من فرط إجلالك إن غيبتهما المقابر ونصبت عليهما الصفائح.
ولقد طال ما استشعرت أن مناجاتي لأرواح أصدقائي كانت لي مصدر قوة غير منتظرة ومثار عزم غير مرتقب ولقد كانت تتصبب في نفسي مسايل تلك القوة وتجيش فيها غوارب ذلك الاعتزام وأنا على سطح تلك الغراء ولم أرتفع بعد عن الأرض، تودين الآن أن تصدعي منا متلائم الشعب وتفرقي مجتمع الشمل كوني منيعة الجانب على المكاره وجلدة على الخطوب وكوني صادقة العهد لمن أوقفت لهم حبك وحبست عليهم إعجابك وكوني ملء عيون أصدقائك مهابة وقلوبهم جلالاً فإن أكثرهم يلقى من عاديات الزمن ونكبات الدهر وما يحلل من بأس الأقوياء ويوهن من عزائم الأشداء، بل تكاد نفسه تسيل على نصال الألم في صمت وسكون تعوزه كلمة منك ترفه عن نفسه وتخفف من جواه وتبعث فيه القوة والعزيمة فانهضي إلى العمل ولا تنتبذي منا مكاناً قصياً واعلمي أن الشيطان لما أراد أن يغوي المسيح زين له العزلة وحبب إليه الخلاء.
صديقك مازيني
2
خطاب آخر من مازيني لمسز كارليل
صديقتي العزيزة:
قضيت سحابة الأمس خارج المنزل وقرـ خطابك لما عدت في المساء فلم أجد نهزة صالحة للكتابة إليك، وكانت روح الحزن تطالعني من خلال كلماتك القليلة ذلك الحزن العميق الولاج، ولا أقول الحزن الذي ليس لصدعه رأب ولا لدائه طباب، ومما يستدعي الأسف ويستوقد اللوعة أنه ليس في وسع أحد مهما بسط له من القوة وأوتي من الأيد أن يرد عنك عرام الحزن ويكف غرب المصاب فأنت وحدك - وإذا أرسلت رائد طرفك في صفحات حياتك الغابرة بهدوء لا ترنق صفوة رياح العواطف، ولا تهتاج ساكنة ثوائر النزعات - في وسعك أن تعمري في ليل النسيان تلك الخيالات التي تزورك، والأشباح التي تطرقك، أنت - ولا أحد سواك - في وسعك أن تبصري نفسك أن الحاضر سواء أصلدت أخلاقه صلابة أم رقت عذوبة لا منصرف لنا ولا متحول عن أن نلاقيه بأنفس كثير الرزايا عندهن قليل، فلا تزدهف لبناً حوادثه ولا تهفو بأحلامنا رواياه وإلا فأين منازل الإجلال اللائق بروحك الخالدة ومعاهد الإيمان بالزمن المقبل الخطوات، ذلك المستقبل الذي ستشرق فيه الشمس جلواء الطلعة لا تحجبها عن النواظر مطارف الغيوم أو جلابيب السحب. إن كل ما تحويه قدرتي وتحده طاقتي أن أنصح لك أن تنصبي في طلاب القيام بالواجبات، وليس مرمى خاطري هنا الواجبات التي تضفي على حياتك ظلال السعادة، فإن السعادة من وراء طاقة البشر ومن فوق إمكانهم، وإنما معقد أفكاري وقبلة خواطري الواجبات الدينية التي تفيض في نفسك قوة المثابرة وتكسو الحياة حلة مقدسة وتهون عليك الاستسلام للمقادير، ولكني على ثقة أن نصيب تلك الواجبات منك الصد والاستهتار، إنا كلينا يحمل في مخيلته صورة للحياة جد مختلفة عن الصورة المرتسمة في ذهن الآخر، وقد كتب لنا في لوح المقدور أن نسير في طريقين متوازيين، ولكن عرفاني بقيمة تلك الواجبات ما زال هو الدافع الصادق الذي يتجافى بنفسي عن مهابط الكفر والإلحاد، وينأى بي عن مساقط اليأس والقنوط ويحثني على المسير متلفعاً برد الهدوء في طريق حياة تزداد على تسلسل الأيام إقفاراً ويتكاثر حملها على تجرم الأعوام ثقلاً. وإني أعترف إليك وأنا مبلول الجوانح قرير العين أنه بما استقر في علمك عني ومما سأدرجه عنك في سبائب الكتمان أني أضطلع من الأيام بأعباء ترق عنها صفحة احتمالك، وقد لاقيت من مؤلم الخداع ومرير الشكوك ما لم يضطرب بمثله جنانك ولم يتلجلج نظيره في خاطرك ولكني جاعل قيد عياني أن لا سعادة تحت السماء وأن حياتنا تضحية لغرض أسمى وأنبل وأوفر سعادة وأكثر بلهنية، وكفاني من الأيم أن يكون لي أحباب وإذا بخلت الأيام بذلك فكفاني أن يكون لي والدة ترصدني رعايتها وتكلؤني عنايتها من نواحي إيطاليا أو من نوافذ السماء فذلك كاف ليحميني الوقوع في الشرك والارتطام في الوهدة وما يسفر عنه ذلك من التفرق والانشعاب وذلك يكفيني لأنصلت في طريقي مجتمع القوة مثابراً على السعي والدؤوب حتى تصل بي الأيام إلى حافة القبر - القبر الذي ستوجف إلي ساعته إن لم أكن في طلبه دائم الإلحاح مرتفع العقيرة.
فانهضي أيتها العزيزة وانشطي من عقال الأحزان وانفضي عنك غبار الهموم واعلمي أن مسيرنا سواء أرمضتنا الهموم أم لم ترمض ضربة لازب - ذلك المسير الذي تجلل وجوهنا فيه تلك الابتسامة الحزينة ونتقارض فيه التشجيع. إنا نحمل بين جنبينا سراً مقدساً لا يجب أن نزيله لمخلوق مهما تعاظمت قدرته وتعالت كلمته، تقولين أن حياتك خاوية فارغة - أكانت حياتك ناضبة من فعال الخير ممحلة من الحب فأعيدي ذكر والدتك وافعلي الخير وارتقبي عناية الله واعلمي أن وجودنا ليس سخرية من الله وإنه لم يرسل في نفوسنا عبثاً ذلك النزوع إلى الكمال ولم يلهمنا ضلة ذلك الطموح إلى السعادة الذي نشقى منه الآن وثقي بالله الأيام الباقية.