الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 50/رسائل في علم الفلك

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 50/رسائل في علم الفلك

بتاريخ: 1 - 9 - 1919


الرسالة الأولى

الفلك عند الأقدمين

علم الفلك هو العلم الذي يبحث في العالم السماوي وما فيه، كالشمس والقمر والنجوم والكواكب، وكل ما يتعلق بهذه الأجرام كحركتها وأحجامها وأبعادها وكسوفها وخسوفها، والوظيفة التي يؤديها كل منها في هذا النظام المحكم الدقيق.

وينماز الفلك عن سائر العلوم الطبيعية، بأنه بحث في أشياء هي فوق متناولنا فلا يستطيع المرء أن يصل إليها فيعلم منها ما جهل، ولا أن يحصل على أجزاء منها ليختبرها ويمتحنها فتعينه على الاستنباط والاستنتاج. ومعلوم أن هذه الأجرام هي أبدية بالنسبة إلى آجال الباحثين فيها وأعمارهم. ولهذا العلم فضل المتقدم هو أنه الذي حدا بالإنسان - وهو في طفولته الأولى - على أن ينعم النظر في السماء وما حوت، ويجتهد في أن يحلل ما يراه من ترتيبها ونظامها ويعلل ما يشاهد من سيرها وحركاتها، حتى وجدت فيه ملكة الملاحظة وقوة التفكير وأمكنه الوصول بعقله فحسب إلى نتائج دونها عقبات حتى تكاد تكون فوق طاقة البشر.

وإنا لا ندري متى ابتدأ علم الفلك، فقد أتى عليه ولا مراء حين من الدهر كان في حيز العدم. ولكن هذا الوقت وراء التاريخ، ليس ثم من يعرفه على التحقيق. وحسبنا دليلاً على مقدار قدمه، وبعد عهده، أن أجدادنا الأقدمين - الذين عاشوا آلاف السنين قبل المسيح عليه السلام - خطوا فيه خطوات واسعات، ونهضوا به نهضة حفظ لهم الدهر ذكراها على مر السنين وتتابع الدهور. حتى أن من بين الأقاويل التي تحوم حول أهرامهم الخالدة، ما يؤيد أنها شيدت بناء على مشاهدات فلكية صحيحة ودقيقة. ثم تلقنه اليونان عن المصريين، فأعاروه جانباً عظيماً من اهتمامهم، ووسعوا نطاقه، وأحدثوا فيه أشياء كثيرة. . ومما يروى أيضاً أن للهينيين آثاراً فيه منذ القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد، وللهنود علم به قبل هذا التاريخ، وأن قساوسة بابل قد ضربوا فيه بسهم حوال ذلك العهد.

على أن أقدم المشاهدات الفلكية التي يوثق بصدق روايتها حدثت في القرن الثامن قبل الميلاد.

ومن البديهي أن أول ما يلفت نظر الإنسان - منذ تكونت فيه القوى العقلية - هو أن هنالك نورين يتناوبان الإضاءة على هذا العالم: أحدهما، وهو الأقوى يظهر نهاراً وثانيهما وهو أقل من سابقه يظهر ليلاً، وأن هناك ضوءاً ثالثاً هو اضعف بكثير من الاثنين يسطع في السماء ليلاً كأنه المصابيح المتألقة - وهو ضوء الكواكب. بيد أن هذه المشاهدة مع بساطتها المتناهية، أدهشت عقول أهل تلكم الأجيال الغابرة، وحيرت أفهامهم، وجعلتهم يذهبون في تعليل نظامها مذاهب شتى، ويلصقون بها الأقاصيص الجمة والخرافات العديدة ومنهم من عظم في نظره ش أنها إلى حد أن اتخذها إلهاً يسبح بحمدها ويقدس لها كما قال تعالى في الذكر الحكيم عن إبراهيم عليه السلام:

{فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي، فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي، فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغة قال ربي هذا أكبر، فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون}

فلما انعموا النظر في هذه الأضواء وطفقوا يراقبونها، تبين لهم أنها لا تنير فقط، بل تتحرك في وقت معاً - فالشمس مثلاً - وهي مصدر الضوء الأقوى - تشرق كل يوم من المشرق، ثم تصعد في السماء إلى أن تبلغ كبدها في منتصف النهار، وبعدها تأخذ في الانحدار حتى تغيب في المغرب. على أنهم لاحظوا فوق ذلك أن نقط الأفق التي تظهر منها الشمس، والأخرى التي تغيب فيها وارتفاع الشمس وقت الظهيرة، وحدة إضاءتها - كل هذه ليست ثابتة وإنما يتخللها اختلاف تدريجي يصحبه تغيير محسوس في الجو والزراعة وما إلى ذلك.

ففي الوقت الذي تكون فيه الشمس أعلى ما يكون وقت الزول، تكون حرارتها شديدة ويكون النهار أطول أمداً من الليل. فإذا جاء الوقت الذي يقل فيه ذلك الارتفاع إلى النهاية، ضعفت حرارتها وارتد النهار قصيراً. وبذلك عرفت الفصول المختلفة وسمي المدى الذي يكمل فيه هذا التغيير (عاماً).

وراقبوا القمر - وهو مصدر ضوء الليل - فإذا به يتقلب في أشكال عديدة لا يخطئها البصر، تتعاقب بترتيب منتظم في مدة ثابتة معينة. فيكون هلالاً صغيراً ضئيلاً يظهر بعد غروب الشمس مباشرة ولا يلبث أن يختفي، ثم ينمو في الليالي التالية فلا يكاد يمضي الأسبوع الأول حتى يظهر في شكل نصف دائرة قطرها في اتجاه مضاد للغرب. ثم يستمر في الازدياد حتى يصير في نهاية الأسبوع الثاني قرصاً كامل الاستدارة يظهر عند غروب الشمس ويأفل عند شروقها. . ثم ينقص شيئاً فشيئاً حتى يعود كما بدا (كالعرجون القديم) ثم يختفي بعد ذلك ليلتين أو ثلاثاً يظهر بعدهن الهلال الجديد ليدور نفس الدورة مرة أخرى.

وتعرف هذه الأشكال المختلفة بأوجه القمر وبواسطتها وبواسطة المدة التي تتم فيها - وهي الشهر القمري - وباختلاف الحالة الجوية التي مر ذكرها منذ هنيهة - التي تعرف بالفصول - بواسطة هذه الأشياء استطاع الناي في تلكم الأزمان الغابرة أن يقسموا أوقاتهم، وينظموا أعمالهم ويعينوا مواعيد اجتماعاتهم وغزواتهم ومواقيت زرعهم وحصادهم. وتسنى لرعاتهم أن يعلموا مواطن العشب والكلأ ويعرفوا متى يقيمون ومتى يظعنون.

أما الكواكب فإنهم ألفوها منتشرة في الفضاء أنى نظروا وحيثما ولوا وجوههم فلما راقبوها أثناء الليل رأوا أنها تتحرك حركة بطيئة مع حفظ مراكزها بالنسبة لبعضها تماماً حتى ليخيل للرائي أنها مثبتة على ظهر كرة هائلة تدور بها عل نقطة ارتكاز ثابتة. وتسمى هذه الكرة الوهمية (الكرة السماوية) كما أن النقطة الثابتة تدعى (القطب) وتجلى لهم أن النجوم التي على مقربة من ذلك المرتكز الخيالي لا تغيب عن الأبصار مطلقاً بل تتحرك في دوائر كاملة لا تتجاوز الأفق مهما اتسعت. . أما باقي أجزاء من دوائر قد خفي عنا باقيها. . وأن منها ما يبزغ في وقت معين في السنة ثم يحتجب، كما أن منها ما يظهر في ليالي الشتاء فقط وأخريات في ليالي الصيف.

ولما كانت النجوم جماً عديدها، متشابهة أشكالها، متقاربة أحجامها لم يك ثمة طريقة لتعيين إحداها إلا بمراعاة مركزها بالنسبة إلى النجوم الأخرى، لذلك قام الفلكيون منذ نيف وأربعة آلاف سنة فقسموها إلى مجموعات أطلقوا عليها أسماء ما تشابهه ولو بعض الشبه - من الأشياء المعروفة لديهم. . . فالدب الأكبر مثلاً يطلق على السبع النجوم الظاهرة الترتيب في السماء المعروفة باسم بنات نعش ولو أن الشبه بين ترتيب نجوم هذه المجموعة وبين الدب بعيد ضعيف لا يكاد يذكر.

وقد اختبرت اثنتا عشرة مجموعة هي على شكل دائرة في السماء لتدل على موضع الشمس في أي شهر من شهور السنة، وأسموها الأبراج وهي: العقرب، والقوس، والجدين والدلو، والحوت، والحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان.

وكونت في السماء، عدا هذه الأبراج، من ثلاثين إلى ستة وثلاثين مجموعة منها المثلث، والقوس، والنسر الطائر، والثعبان، والكأس، والسفينة.

ولقد علم الأقدمون وثبت لديهم أن النجوم تظل مضيئة في السماء نهاراً كما تبين ساهرة ليلاً. ولتلك من أعظم ما استكشفوا وأهم ما وصلوا إليه، إذ أنها أول استنتاج لحقيقة لم يروها بأعينهم بل كان رائدهم إليها التفكير ليس غير. وإن هذه النتيجة أيضاً من القدم بحيث لا يعي التاريخ لها اسماً تعزى إليه.

ومن آثار الأقدمين أيضاً أنهم استكشفوا أجراماً خمساً لا تتحرك كقطعة واحدة في المجموعة السماوية بل تشابه الشمس والقمر في أنها تسير وتغير أماكنها بالنسبة للنجوم الأخرى. وأنها لتشابه القمر على وجه خاص في أن نورها ينقص ويزيد من آن لآخر. فأطلقوا عليها اسم (الكواكب أو السيارات) ليفرقوا بينها وبين النجوم الثابتة. وهذه النجوم هي:

عطارد: وهي أقرب الكواكب إلى الشمس وأسرعها سيراً. وهو لا يظهر إلا أحياناً على مقربة من الأفق بعد غروب الشمس أو قبل شروقها مباشرة.

الزهرة: وهي ثاني الكواكب قرباً إلى الشمس، وتلقب (بنجمة العشاء) عندما ترى بعد الغروب وبنجمة الصباح عندما ترى قبل الشروق.

المشتري: ويضاهي نوره - في بعض الأحيان - ضوء الزهرة وهي عند تمامها.

المريخ وزحل: ويكون نورهما كنور أسطع النجوم الثابتة عندما يأخذان من السماء مكاناً حسناً.

ولا يهذبن بك الوهم فتظن أن الأقدمين قد جهلوا شكل الأرض، فإنهم قد علموا ذلك علم اليقين. وأثبتوا كرويتها من عدة قرون قبل الميلاد، ببراهين لا تقل وضوحاً وجلاءً عن تلك التي نقرؤها في أحدث كتب الجغرافيا وأن منهم من قاس قطرها أيضاً كما سيمر بك في الرسالة الثانية.