مجلة البيان للبرقوقي/العدد 49/تاريخ الزواج
→ روح الإسلام | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 49 تاريخ الزواج [[مؤلف:|]] |
حديث المائدة ← |
بتاريخ: 1 - 6 - 1919 |
إن أول دور للزواج هو دور الإباحة المطلقة والمسافحة الخالية من كل قيد ونظام لا حائل يمنع الرجل من المرأة التي يريدها ولو كانت في حيازة غيره على أن حيازة النساء لم تكن معروفة في هذا الدور بل كن مشاعاً للرجال لا يستأثر أحد بإحداهن بل له أن يعاشر من يريد، ولا يوجد في القوانين والعادات ما يحرم عليه هذه المعاشرة على أن القوانين والعادات الاجتماعية كانت مفقودة في ذاك الوقت لأنها لا تنشأ بين الأفراد والمنعزلين وإنما تنشأ بين الجماعات ولم تكن الجماعات موجودة بعد بل كان الإنسان عائشاً في فئات صغيرة لا تكون اجتماعاً بالمعنى الذي يتولد عنه قيود وروابط اجتماعية. وكانت المعاشرة وقتية تنصرم في الحال ولا تلبث إلا ريثما يقضي الرجل غرضه وفي بعض الأحايين تطول إلى أن يفطم الطفل عن الرضاع ويصبح قادراً عن الأكل. ولم تكن للقرابة حومة تمنع الرجل من التمتع بذويه ولا يلحقه من جراء ذلك عار ومن آثار هذا إباحة قدماء المصريين زواج الأخوة بالأخوات وفي بعض نواحي أفريقيا إلى وقتنا هذا يتزوج الملك بابنته الكبرى والملكة بابنها الأكبر ليبقى الدم الملوكي نقياً لا يشوبه دم آخر.
وكان التبذل غير مستهجن فلا يعيب الرجل أن يسترسل في شهواته ولا يشين المرأة أن تفرط في عرضها أو تتجر بعفافها بل كان العفاف رذيلة تترفع عنه النساء النبيلات ويستعيبن الامتناع عن إجابة رجل إلى طلبه. وكان لا يرغب في العذراء وإنما تحتقر وتزدرى لأن عذارتها دليل على خلوها من الصفات المحبوبة من الرجال. ومن حسن الضيافة أن يمتع الضيف بامرأة من نساء القبيلة وهذه عادات لا تزال موجودة إلى الآن بين قبائل الأسكيمو وكلفورنيا ونيوزيلندة.
ولا يوجد عند القبائل الوحشية الحديثة العهد بنظام الزواج صيغة لفظية له بل ينعقد عادة بأفعال تفيد قبول أحد الزوجين معاشرة الآخر أو إذعانه كرهاً لهذه المعاشرة كأن تشعل نار ويجلس الاثنان حولها أو تقدم المراة لخطيبها قليلاً من التبغ وورقة من الفلفل أو يجلس الاثنان في وعاء من شأنه عادة أن يستعمل في حمل الماء ويوضع فيه بعض المأكولات، وعند الرومانيين يقتسم الزوجان فطيرة ويأكلانها سوية.
والزواج لدى هذه القبائل ضعيف الوثاق سهل الانفكاك يكفي لحل قيوده أن يطرد الرجل زوجته ففي كلفورنيا الجنوبية يجوز للرجل أن يتزوج من النساء بقدر ما يريد ويعاملهن معاملة الرقاء وإذا مل صحبة إحداهن طردها. وإذا أخرج الرجل في نيوزيلند امرأته من داره يعتبر أنه طلقها. وفي تاهيتي ينصرم حبل الزواج متى شاء أحد الزوجين. وفي القبائل التي تسود فيها المرأة على الرجل كسكان نيكارجوا الأقدمين تنفرد المرأة دون الرجل بحق الطلاق وكلما ارتقت القبيلة وازدادت حضارتها وتوثقت عراها الاجتماعية تقلصت تلك الفوضى من الزواج ونشأت حدود ومعالم لم تكن موجودة من قبل وضاقت الدائرة التي يجوز للرجل أن يختار منها امرأته، ومن أقدم أنواع التضييق تحريم الزواج من نساء القبيلة وإباحته من نساء القبائل الأخرى وذلك لا يكون إلا بالسبي والخطف، ومن القبائل ما يعمل العكس فيحرم الزواج من الأجنبيات ويبيحه من نساء القبيلة.
وقد اختلف علماء الاجتماع في معرفة أي النوعين أقدم، الزواج من داخل القبيلة أو الزواج من خارجها، وأي القبائل أرقى في المدنية والحضارة، القبائل التي تحرم الزواج من بني نسائها أو القبائل التي تحرمه من الأجنبيات، والظاهر أن كلا الفريقين في مستوى واحد من الرقي فإنه يوجد على التلال الواقعة في الشمال الشرقي من الهند وفي القوقاس قبائل يلوح عليها أنها من أصل واحد لتشابهها في اللغة والخليقة، وعلى درجة واحدة من المدنية ومع ذلك بعضها يحرم الزواج من الخارج والبعض الآخر يحرمه من الداخل.
إن منشأ تحريم الزواج من بين نساء القبيلة راجع على رأي بعضهم إلى ما غرسته الطبيعة في الإنسان من حب بقاء النوع والمحافظة على النسل من الضعف والتلاشي وذلك أن تعاقب الزواج من الأقارب يورث العقم ويمنع التناسل وهذا الرأي غير وجيه إذ لو كانت الغريزة هي التي دعت إلى تحريم الزواج من بين نساء القبيلة لوجب أن يكون التحريم عاماً لدى جميع القبائل، ولما وجدت قبيلة واحدة تبيحه، أجل إن التزاوج بين الأقارب مضعف للنسل إلا أن هذا ليس العلة الأولى في تحريمه فإن مساويه لم تستكشف إلا حديثاً والتحريم قديم جداً وسابق هذا الاستكشاف الذي يقتضي خبرة طويلة وقدرة على التفكير والتعليل وربط النتائج بالأسباب، ومثل هذه الأمور غير متوفرة حتى الآن بين القبائل الوحشية التي تحرم هذا الزواج.
ويرى بعض العلماء أن العلة في سبي النساء الأجنبيات للزواج بهن راجع إلى قلة نساء القبيلة بسبب عادة وأد البنات أو لسبب من الأسباب الأخرى. ولكن الواقع يكذب ذلك فليس معنى وأد البنات إبادة النساء وإفناؤهن عن آخرهن ولا إنقاص عددهن إلى ما دون عدد الرجال وإنما معناه حفظ التوازن بين الرجال والنساء وكان يقتل منهم العدد العظيم بسبب الحروب المتتابعة التي كانت تنتاب القبائل ولا يقتل من النساء إلا اليسير فعددهن والحالة هذه يزيد على عدد الرجال فاستن وأد البنات للتخلص من هذه الزيادة فقط لا لإبادتهم ولو كانت القبائل التي تخطف نساء القبائل الأخرى تفعل ذلك لقلة نسائها لما أباحت تعدد الزوجات ولكانت تمقته وتحرمه أشد التحريم بيد أن المشاهد أن سبي النساء مقترن دائماً بإباحة تعدد الزوجات وهذا كاف في تفنيد هذا الرأي.
ويرى هربرت سبنسر أن عادة الزواج من خارج القبيلة ناشئة عن الحروب الطويلة التي كانت تضطرم نيرانها من وقت لآخر بين القبائل وذلك أنه في نهاية كل قتال يأخذ المنتصر من الغنائم والأسلاب ما كان سهل الحمل كثير الفائدة كالماشية والحلي والنقود أو يفخر به لدلالته على الشجاعة والاقتدار والتنكيل بالأعداء مثل الجماجم والآذان والشعور.
والسبي الجامع لهاتين المزيتين فإنه يعلي قدر الرجل من حيث دلالته على الظفر بالأعداء ويكسبه زوجات يتمتع بهن وأرقاء يستخدمهن في مرافق حياته. وكلما ازداد عنده عدد هؤلاء النسوة ازداد غنى ورفعة فلا غرو أن تتفانى القبائل الحربية في اقتناء النساء المسبيات وتتيه بهن عجباً وفخراً وتعتبر الزواج بهن غاية المجد والشرف وتأنف رجالها من أن تتزوج من بين نسائها. وإذا عجز الرجل عن أن يقتنص في الحرب امرأة يتزوج بها احتال على خطفها حتى لا يكون مرذولاً عند قبيلته محتقراً بين أخوانه.
ونشأ عن عادة سبي النساء وخطفهن، وعن تفكك روابط الزوجية وعدم الاعتداد بحرمتها انتساب الأطفال إلى أمهاتهم لا إلى آبائهم وذلك لتعذر معرفة الأب في معظم الأحايين ونشأ عن ذلك عادة أخرى وهي اعتبار البنات التي تولد في القبيلة من أمهات أجنبيات كأنهن كذلك أجنبيات يجوز لرجال القبيلة الزواج بهن.
ولكن حينما تخلد القبائل الحربية إلى السكينة والسلام وتأخذ بأسباب التحضر لا تلبث طويلاً حتى تكف عن شن الغارات من أجل سبي النساء وتتهاون في تحتيم الزواج بالأجنبيات وتتلاشى هذه العادة وتزول ولا يبقى منها إلا آثارها فقط، وأول من يتخلى عنها طبقة الأشراف فهي التي تبدأ أولاً بالزواج من نساء القبيلة وتكتفي في ليلة العرس بتمثيل ما كان يقع عادة من السبي من الكر والفر والضرب والامتناع لتأصل هذه الأمور في النفوس وتعذر انتزاعها منها مرة واحدة. ثم تسري العدوى من هذه الطبقات إلى الطبقات الأخرى وهذا شأن كل عادة جديدة فإنها تنشأ أولاً بين الطبقات العليا ثم تنتشر منها حتى تعم الطبقات السفلى.
ولا يزال جيراننا ومواطنونا سكان شبه جزيرة سيناء عالقين بأهداب هذه العادات القديمة فإنهم في ليلة العرس يقوم الرجال ويتظاهرون بالدفاع عن العروس والزود عنها ويضربون العريس ويجلدونه بالسياط مكأنهم يحاولون منعه من خطف العروس وتمتنع هي عن الذهاب معه وتقابله بالضرب واللكم والسب وتساعدها في ذلك أترابها وكلما بالغت في ذلك علا قدرها وازداد إعجاب الناس بها.
أما القبائل التي لا تقوى على قتال جيرانها الأشداء وتخشى بأسهم فإنها تبتعد عن كل ما يستفز غضبهم ولا تجرأ على أن تخطف امرأة منهم بل تحرم ذلك كل التحريم وتمقته كل المقت وذلك لشدة ما كانت تلاقيه من الويلات والمحن كلما قام بعض أفرادها واختطفوا امرأة تنتمي إلى قبيلة قوية - إن لخطف النساء وضعف الروابط الزوجية وإباحة المسافحة أثراً سيئاً جداً فإن المجتمع الذي يزاول هذه الأمور يكون مفكك الروابط مشتت الشمل لا تتآزر أفراده ولا تتعاون إنما تتخاذل وتتشاكس وذلك لأن عاطفة القرابة بينهم ضعيفة جداً تكاد تكون معدومة فإن الأطفال تنتسب إلى الأمهات لا إلى الآباء والانتساب إلى الأم قصير المدى لا يشمل غير الأطفال ومن عداهم فأجانب لا يحبونه ولا يشعرون نحو بعضهم بعاطفة قرابة أو نسب بل كل منهم قائم بنفسه لا يعنيه من شؤون غيره إلا قليل ولا يعرفون من القرابة غير الأمومة والأخوة على أن عاطفة الأخوة نفسها غير تامة بينهم لأن الأخوة عندهم أخوة لأم وليسوا بأخوة أشقاء. والمجتمع الذي بهذا التفكك والانحلال لا يستقر على حال من القلق ولا يهدأ له بال ولا ترتكز له قوة سياسية تجمع كلمته وتدفع عنه أذى أعدائه.
ومن مساوئ هذا النظام إهمال الرجال شؤون الأطفال وعدم الاكتراث بهم والعناية بتربيتهم وترك كل ذلك على عاتق المرأة التي لا تقدر أن تقوم به على أحسن وجه فتضعف الأطفال ويصيبهم الهزال وتتفشى فيهم الأمراض الخبيثة ويحصدهم الموت حصداً ومن ينجو منهم يعيش سقيماً طول حياته ويشيخ منم غير أوان ويدركه الهرم وهو في سن الشباب.
تعدد الأزواج
في وسط هذه الفوضى التي تكاد تكون مطلقة لا يخلو الأمر من أن يستأثر بعض الرجال ببعض النساء ويمنعوهن عن غيرهم ولو بالقوة أو يقصر رجل نفسه على امرأة مخصوصة أو على بضع نساء وبعبارة أخرى كانت جميع أنوا الزواج من تعدد الأزواج والزوجات والاقتصار على زوجة واحدة موجودة ولكن بلا نظام يحول دون التنقل من نوع إلى آخر والتعرض إلى نساء الغير إذا كان هذا الغير ضعيفاً. ولأسباب مخصوصة يضيق المقام عن تبيانها لتشعبها واختلافها بين قبيلة وأخرى يغلب أحد هذه الأنواع على الأنواع الأخرى ففي المناطق الجليدية من الصين حيث الغذاء قليل والطبيعة قاسية تتزوج المرأة بعدة رجال ليتعاونوا جميعاً على العناية بالطفل والاهتمام به وذلك أن رجلاً واحداً غير قادر على القيام بشؤون الطفل بل لذلك لا بد من تآزر رجال عديدين وإلا هلك الطفل وصغر الهيئات الاجتماعية وتشتتها في طلب الرزق أسباب تدعو إلى الزواج بامرأة واحدة وإلى إحكام رابطة الزواج واستمرارها مدى الحياة فالبشمن يبيحون تعدد الزوجات ولكن قل من يتزوج بأكثر من امرأة. ولا يوجد تعدد الزوجات إلا حيث يزيد عدد النساء على عدد الرجال زيادة عظيمة بسبب حرب طاحنة أودت بحياة كثيرين من الذكور أو لأن المواليد الإناث أكثر من المواليد الذكور لأسباب طبيعية غير اعتيادية إذ المعتاد أن الذكور والإناث متقاربون دائماً في نسبة المواليد إلا إذا طرأت ظروف أخلت بهذا التوازن.
إن تعدد الأزواج آخذ في الاضمحلال وذلك لأن الجماعات التي تتبعه تكون حتماً قليلة النسل ضئيلة العدد لا تطيق الدفاع عن نفسها ولا تقوى على مناهضة أخصامها خصوصاً وأن روابط القرابة واهية ضعيفة لضياع الأنساب والجهل بالأسلاف لا يعرف الإنسان جده ولا أباه ولا تمت الأفراد بعضها إلى بعض بحبل القرابة إلا من جهة الأم فقط وقرابة الأم قصيرة المدى لا تمتد إلا إلى جيل أو جيلين على الأكثر ثم تنقطع وتصبح الأقارب أجانب ولا ينتصرون لبعضهم ولا بشد أحدهم إزر الآخر ويتنافس الأزواج فيما بينهم ويتنازعون الرئاسة وهو معروف بين القبائل التي تعيش في الداخل من جزيرة سيلان حيث يجوز للمرأة الغنية أن تتخذ من الأزواج بقدر ما تريد وبين قبائل الأسكيمو حيث يجوز للمرأة أن تتزوج بعدة رجال ولكل رجل من هؤلاء أن يتزوج بعدة نساء. وهو على أربعة أنواع: - النوع الأول أن تتزوج المرأة بعدة رجال لا قرابة بينهم ويتزوج كل رجل من هؤلاء الأزواج بعدة نساء وبعباة أخرى يتكون هذا النوع من مزيج من عائلات تجمع بين تعدد الأزواج وتعدد الزوجات فيكون لكل رجل عدة زوجات ولكل امرأة عدة أزواج مثل قبائل الأسكيمو.
النوع الثاني أن تتزوج المرأة بعدة رجال لا قرابة بينهم أيضاتً ولكن لا يسمح للرجل بأن يتزوج بامرأة أخرى بل يقصر نفسه على امرأة واحدة ولا يتعداها إلى غيرها.
النوع الثالث أن تتزوج المرأة بعدة رجال بعضهم أقارب بعض.
النوع الرابع أن تتزوج المرأة بعدة رجال أخوة.
وأحط هذه الأنواع وأقربها إلى الفوضى النوع الأول وذلك لأن الطفل الذي يولد في هذه البيئة لا يعرف أباً ينتسب إليه ولا يجد عطفاً من أحد. ومن يعطف عليه والرجال لا يعرفون أولادهم بل لا يمكنهم أن يعرفوا أن لهم أولاداً حقيقة ولا في أي فئة من الأطفال الذين يغشون أمهاتهم توجد أولادهم حتى يشملوا هذه الفئة خاصة بالعناية والرعاية حباً بأطفالهم. أما الأنواع الأخرى ففيها مكان للشفقة الأبوية فإن الرجل وإن كان لا يعرف ولده تحقيقاً إلا أنه من مفروض أن هذا الولد إن وجد فهو موجود بين أطفال المرأة المتزوج بها ومن الجائز أن يعرفه بواسطة العرافين أو بأخبار المرأة بذلك، ويمتاز النوعان الثالث والرابع بكون الأزواج أقارب أو أخوة وبذلك لا تكون أطفال المرأة الواحدة أخوة لأم فقط بل يكونون بين أخوة أشقاء أو أولاد أعمام تجمعهم وحدة الدم ورابطة القرابة الأبوية. ولكنهم لا ينتسبون إلى أب واحد بل إلى مجموع الأزواج الذين ينتسبون هم أيضاً إلى مجموعة أجداد وهلم جرا.
تعدد الزوجات
تعدد الزوجات لا يوجد إلا في البلاد التي يزيد فيها عدد النساء على عدد الرجال زيادة عظيمة أما البلاد التي يتساوى فيها العددان أو يكونان قريبين من بعضهما فإنها تحرمه بتة أو تمقته وذلك لأن زواج البعض في هذه الحالة بأكثر من امرأة يحرم البعض الآخر من وجود نساء يتزوج بهن ويقضي عليه بالعزوبة طول حياته. ولهذاالسبب ولأسباب أخرى أهمها زيادة الحاجيات والتغييرات التي طرأت على حياتنا الاقتصادية والاجتماعية أصبح تعدد الزوجات ممقوتاً من الذوق العام بعد ما كان من المفاخر التي يتسابق إليها الأغنياء ويحسدهم عليها الفقراء وأمسى زوج الاثنين يخجل من أن يعلم عنه ذلك ذلك فيخفيه وكان بالأمر يظهره ويتيه به على الأخوان.
إن تعدد الزوجات غير خاص بالشعوب الإسلامية بل شائع بين أمم أخرى كثيرة مختلفة العادات والأديان والأجناس والمناخ فتراه في نيوزيلاندة وصومطرة وفي شمال أمريكا وجنوبها وفي مجاهل أفريقيا وجنوبها وشرقها وفي الكنجو ومدغشقر وفي كثير من نواحي آسيا ومباح أيضاً في بلاد أخرى كثيرة ولكنه غير معمول به فيها لأسباب عديدة أهمها الفقر مثل البشمن فإنهم يجيزون تعدد الزوجات غير أنه نادر بينهم لشدة فقرهم.
وحيثما يوجد تعدد الزوجات يوجد الزواج بامرأة واحدة على نسبة أعظم فلا ترى بلداً انفرد بها تعدد الزوجات أي لا يتزوج الواحد من أهلها إلا باثنتين أو أكثر بل المشاهد في جميع البلاد التي تبيح تعدد الزوجات أن المتزوجين بأكثر من امرأة أقلية صغرى وأن الأكثرية تكتفي بالزواج بامرأة واحدة.
ويرجع تعدد الزوجات في أصل وجوده إلى سببين مختلفين أحدهما تاريخي والثاني اقتصادي فالأول يرجع إلى عهد القبائل الحربية وتعديها على جيرانها لسلب الأموال وسبي النساء وإلى تفوق بعض الأفراد جثمانياً وعقلياً وتفردهم بالسطوة والجاه وأخذهم كل امرأة تعجبهم من القبيلة اقتساراً، والسبب الثاني يرجع إلى استخدام المرأة في الأعمال الشاقة وذلك أن الرجل في بعض البلاد لا يزاول عملاً ما غير الصيد والقتال، والمرأة هي التي تقوم بكل الأعمال الأخرى فيقتني الرجل من الزوجات بقدر طاقته ليستخدمهن في أعماله ويستثمرهن في إنماء ثروته وكلما كثرت نساؤه ازداد غنى وخف بالتالي الحمل الملقى على عاتق كل منهن ولذا لا تجد النساء في هذه البلاد ينكرن على أزواجهن الإكثار من الزواج ولا ينقمن عليهم من أجل ذلك بل على العكس يفرحن له.
سبق أن بينا أن الارتباط العائلي والاجتماعي في الجماعات القائمة على نظام تعدد الأزواج ضعيف واه يكاد يكون في حكم العدم لجهل الإنسان بآبائه وأجداده أما الجماعات القائمة على نظام تعدد الزوجات فالروابط العائلية والاجتماعية فيها أشد وأمتن لوجود صلة الدم والنسب بجانب صلة المصاهرة وعلم الناس بها ومعرفتهم لها واحترامهم إياها.
ولكن لتعدد الزوجات مضار عظيمة، منها فقدان المحبة والإخلاص بين الرجل وزوجاته وتجرد علاقات الزوجين ببعضهما من روح الكمال والجمال واقتصارها على إشباع الرغبات المادية فلا تخلص المرأة لزوجها الود ولا تغار على صالحه كثيراً ولا يعني الرجل بشؤون امرأته ولا يعتد بما تحب وتكره بل يهملها ويهمل أولاده منها ويتركهم لعنايتها من غير أن يرعاهم هو أيضاً ويتدبر أمورهم وما أضر هذا الإهمال على الأطفال، يورثهم أمراضاً كثيرة مادية وأدبية. وقد ذكر بعض السياح أن سود أفريقيا لا يغازلون نساءهم ولا يغارون عليهم ولا يفقهون معنى الحب بل ولا توجد في لغاتهم لفظ يدل عليه.
وأشد من هذا، الكراهية التي يبذرها تعدد الزوجات بين الأخوة لأب فإنهم يشبون على البغضاء الضغينة ويضمرون لبعضهم الحقد لكثرة ما يقع بين أمهاتهم من التحاسد والشقاق وما تلقنه كل أم لأولادها من بغض الآخرين وما أشد ما لاقته الدول الشرقية من جراء تعدد الزوجات فإنه لا يكاد الخليقة أو السلطان يموت حتى تهب الثورة وتتمزق أحشاء الدولة وتنقسم إلى فرق وأحزاب يقود كلاً منها أحد أبناء السلطان المتوفي ليحارب أخاه لأبيه ويغتصب منه الملك ولقد تلافى أحد السلاطين هذه الكارثة بأن ذبح جميع أخوته حين جلوسه على العرش واستأصل شأفتهم ولا تزل بعض العائلات الشرقية تتقلب على أحر من الجمر وتصطلي جذوة الانقسام والشقاق بسبب تعدد الزوجات.
يتوهم البعض أن تعدد الزوجات يفضل الزواج بامرأة واحدة من حيث التناسل وزيادة السكان ونمو العمران وهو وهم لا أساس له من الصحة إلا في حالة واحدة وذلك حينما يفوق عدد النساء عدد الرجال بكثير أما إذا كان العددان متساويين أو متقاربين فالزواج بامرأة واحدة خير وأدعى إلى التكاثر فإن المتزوج بنساء كثيرات لا يسعه أن يلتفت إليهن جميعاً على السواء ويساعدهن على أداء وظيفتهن التناسلية بدون محاباة بل لا بد أن يهمل بعضهم لعيب فيهن ويفقدن وظيفتهن وبقدر عدد هؤلاء النسوة المهملات تقل نسبة المواليد.
إن الاقتصار على زوجة واحدة خير من تعدد الزوجات فإنه يدعو الزوجين إلى التآلف والوداد ويغرس في قلوب الأطفال محبة بعضهم البعض ويجعل من أفراد الأمة كتلة صلبة عمادها التضامن الاجتماعي ولحمتها الارتباط العائلي المتين.
عبده البرقوقي