مجلة البيان للبرقوقي/العدد 49/روح الإسلام
→ كيف يداوى الضجر والقلق | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 49 روح الإسلام [[مؤلف:|]] |
تاريخ الزواج ← |
بتاريخ: 1 - 6 - 1919 |
الفصل الثاني
بقية هذا الفصل
الحياة الدنيا في نظر الإسلام هي البذرة التي تخرج منها الحياة الآخرة. والمبدأ الأساسي للإسلام هو السعي والعمل لمصلحة النوع البشري في تواضع وخضوع وخشوع وبذل الجهد للاقتراب من درجة كمال الذات الإلهية الكاملة. والمسلم الصادق هو كذلك مسيحي صادق من حيث قبوله رسالة عيسى واجتهاده في تنفيذ وصاياه وتعاليمه فلما لا نرى المسيحي الصادق يكرم الواعظ والمعلم (أعني محمداً) الذي نقح وهذب ما وضعه الأساتذة الأولون. أو لم يجد المعلم قوى العالم مبددة مشردة فألف شتاتها ولم شعثها وردها جميعاً إلى منهج الرقي وسبل التقدم؟.
ونحن إذا استثنينا فكرة بنوة المسيح لم نجد فرقاً أساسياً بين الإسلام والنصرانية فهما في جوهرهما واحد - كلاهما نتيجة عوامل روحانية واحدة ذات فاعلية وتأثير في الحياة الإنسانية فكان أحدهما (الدين المسيحي) اعتراضاً على ما كان يدين به اليهود والرومان من مذهب المادية التي لا قلب لها، المجردة من الوجدان والشعور والعاطفة وكان الثاني (الإسلام) ثورة ضد ما كان يدين به العرب من الوثنية المزرية بالعزة والكرامة وضد عاداتهم وتقاليدهم الوحشية الفظيعة. وقد كانت الأمة التي نشر بينها الدين المسيحي وضد عاداتهم وتقاليدهم الوحشية الفظيعة. وقد كانت الأمة التي نشر بينها الدين المسيحي خاضعة لحكومة منظمة، وكانت أمثر مدنية استقراراً من الأمة التي نشر بينها الإسلام ومن ثم كانت الشرور والآفات التي قاومتها المسيحية أخف وأهون من التي قاومها الإسلام - الذي ألقى على شعوب متحاربة وقبائل متضاربة فاضطر إلى مكافحة المصالح الشخصية والخرافات العتيقة. ولا يخفى أن المسيحية في بدء انتشارها اتجهت نحو المشرق ولكنها لم تلبث أن صادفت في تلك السبيل عقبة في شخص رجل غزير العلم غريب الأخلاق والصفات إسرائيلي المحتد لكنه يوناني اسكندري من حيث التربية والمبادئ فقام هذا الرجل ينقل المسيحية إلى إغريقيى (اليونان) ورومة - وهناك استحوذت المسيحية على حضارة وثنية القرون العديدة السالفة ثم أخرجت للعالم أفكاراً جديدة وعقائد مستحدثة. ومنذ تنقلت المسيحية من مهدها زالت عنها صفة المسيحية فصارت ديانة بولس لا ديانة المسيح. وفي هذه الآونة كانت صروح الوثنية القديمة تتداعى لانهدام، وقبل ذلك كانت الفلسفة اليونانية والفلسفة الإسكندرية تهيئان العالم الروماني لقبول فكرة إله غير مكون من المادة - إله اسمه (ديميرجيس) أو (ايون) قد نشأ في قلب الأبدية - وهذه الفكرة اندمجت في مسيحية بولس والمسيحية العقلية (إيديالستيك) الحديثة التي هي أحق أن تسمى مذهباً فلسفياً من أن تدعى ديانة مقررة. إنما هي نتيجة القرون العديدة من المدنية السابقة للمسيح والمدنية التالية لها. أما الإسلام فقد بث في أمة مخالفة وفي ظروف اجتماعية وأخلاقية مخالفة. ولو أن الإسلام استطاع أن يقتحم العقبة التي أقامتها في وجهه مسيحية ذلك العصر الوضيعة المنحطة فتسرب إلى الشعوب الراقية والأمم العليا من سكان الدنيا لاتخذ صبغة أخرى ومذهباً عن الرقي جد مخالف لما يراه المتأمل اليوم بين الشعوب المسلمة الأقل استنارة وعلماً. فمثل هذين الدينين كمثل نهرين ينحدران في بقعتين مختلفتين - كل منهما يحدث من النتائج ما هو ملائم لماهية التربة التي يتدفق فيها. وغير خاف أن المكسيكي الذي يعاقب نفسه ضرباً بورق الصبير وساكن جنوب أمريكا عابد للوثن والطبقات السفلى من الأمم النصرانية لا يصح اعتبارهم نصارى بأي وجه من الوجوه، وما أبعد الفرق بينهم وبين قادة الأفكار المسيحية الحديثة. وقد ثبت أن الإسلام حينما تسرب إلى الشعوب القابلة للاستنارة والرقي وجد على تمام ملاءمة لعوامل الرقي والتقدم فأعان على نشر المدنية وتهذيبها وأكسب العقائد الدينية روحانية وعقلية.
إلا أن ديناً كان من نتائجه وثمراته بطولة علي وإخلاصه ورقة جعفر الصادق ودماثته وطهارة فاطمة وعفافها وقدسية رابعية - إلا أن ديناً أخرج أمثال ابن سينا والبيروني وابن خلدون وجلال الدين الرومي وإبراهيم بن أدهم وكثير غيرهم لدين مشتمل علاى كل عناصر الأمل وأسباب الفوز والفلاح.
يا حسرتا ويا أسفاه على أساتذة الإسلام في العهد الأخير! لقد هبت عاصفة المشاحنات المذهبية على روضة الدين الصحيح والإيمان الصريح فأذبلت زهرتها وأذهبت نضارتها.
وقد شرح أحد وعاظ النصارى في أبلغ بيان وأصدق برهان الفرق بين العقيدة الدينية وعلم الفقه وبين المضار التي حلت بكنيسته بسبب الخلط بين الاثنين وقد أصاب الإسلام من هذه الوجهة عين ما أصاب المسيحية. فجعل الدين حرفة وصناعة بعد أن كان عقيدة يعمل بوصاياها وتعاليمها، وأصبح مراسم ومظاهر بعد أن كان عبادة باعثها الإيمان والإخلاص والتقوى وإتيان ما فيه الخير للناس رغبة في الخير وابتغاء مرضاة الله. قد انطفأت جذوة الغيرة على الدين والاستهامة في حب الله والإيمان به وبرسوله وقد انعدم ذلك الإخلاص الذي لولاه ما انمازت حياة البشر عن حياة البهائم - الإخلاص في صدق العمل وصدق التفكير والنية. إلا أن مسلمي هذا الزمان قد جهلوا الروح وتشبثوا باللفظ فبدلاً من سلوكهم في الحياة المنهج الأرشد الذي أوضحه لهم أستاذهم وبدلاً من نهوضهم إلى الدرجة العليا التي أبانها لهم. وبدلاً من اتباعهم المثل الأسمى والنموذج الأسنى الذي شرح لهم ذلك الأستاذ الجليل - بدلاً من الطموح إلى أشرف الأعمال وأكرم الفعال والأخذ بالصلاح والتقوى ومحبة الله ومحبة الناس من أجله تعالى - بدلاً من كل ذلك جعلوا أنفسهم عبيداً للمصالح الشخصية والأغراض السياسية والمظاهر السطحية الباطلة، ولا غرابة في أن صحابة محمد حين أدهشهم بروائع خصاله وفعاله فملأ قلوبهم عجباً وإجلالاً أخذوا يقدسون أفكاره وأعماله العادية وطريقته في العيشة ودقائق تصرفاته في حياته اليومية ويسجلون كل ذلك ليكون مثالاً للناس ونموذجاً وقدوة فجعلوا ينقشون على صفحات القلوب تلك التعاليم والأوامر والوصايا والقواعد التي كانت تمليها ضرورات الأحوال ومقتضيات الظروف إذ ذاك في أمة صغيرة حديثة النشأة. فأما ما يزعمه الزاعمون من أن أكبر مصلح أخرجته الدنيا وأعظم مؤيد لسلطان الحق والعقل والمنطق - الرجل الذي صرح بأن الكون محكومة ومنظم بقوانين ونواميس وشرائع وأن ناموس الطبيعة إنما يقتضي التطور والارتقاء والتقدم - نقول أن ما يزعمه الزاعمون من أن رجلاً هذه صفاته وأعماله كان يتصور أن تلك التعاليم والوصايا التي أوحت بها مقتضيات الضرورة في أمة شبه همجية يصح أن تبقى على حالها بلا تغيير ولا تبديل إلى آخر الدهر - إنما هو حكم جائر على نبي الإسلام - أو كما قال الشاعر هذا محال في القياس بديع.
كان محمد أدق الناس فطنة وأنفذهم بصراً باحتياجات ومطالب الرقي والتطور في هذا العالم وما تقتضيه تقلبات أحواله الاجتماعية والأخلاقية - وكان أعرف الناس بأن ما نزل عليه من الوحي ربما كان لا يلائم كل ظرف ولا يناسب كل موقف ولا يصلح لمعالجة كل طارئة ومداوة كل حادثة محتملة الحصول. ومصداق ذلك أنه لما ولي معاذ أمر اليمن سأله النبي بأي قاعدة يأخذ في إدارة شؤون ذلك القطر. فقال معاذ أمر اليمن بأحكام القرآن فقال النبي: فإذا لم تصب في الكتاب الحكيم ما تبتغي من الحكم فعلام تعول؟ قال معاذ على سنة النبي قال رسول الله ﷺ فإذا لم تجد بغيتك في ذلك فإلام تعمد؟ قال معاذ: إلى الرأي والقياس فسر النبي بهذا الجواب واستحسنه وأوصى سائر الولاة باتباعه.
ذلك الأستاذ الكبير الذي كان أعرف الناس باحتياجات وقته ومطالب أمته - أمة منغمسة في حمأة الانحطاط الاجتماعي والأخلاقي الموئس - أدرك بنفاذ بصيرته وبعد رأيه بل بنبوة وجداه أنه سيجيء وقت يفرق بين ما هو مؤقت وخصوصي وما هو دائم وعمومي من النواميس والنظامات. فقد قال عليه السلام ما معناه: أنتم في زمن إذا تركتك عشر ما أمرتم به بؤتم بالخسار والدمار وسيجيء زمن يفوز فيه من عمل بعشر ما يوصى به الآن.
أجل إن البلاء الذي حل بأمم الإسلام لا ترجع أسبابه إلى تعاليم محمد، وكيف يكون ذلك وإن الإسلام لأوفر الأديان نصيباً من عوامل التقدم ووسائل التدرج والتطور وليس في كافة الملل والعقائد ما هو أنقى منه وأطهر وأشد التئاماً مع روح النهضة والرقي في مناحي الإنسانية.
إن معظم السبب في خمود جمرة العالم الإسلامي في هذا العصر وركود ريحه وفي جمود تيار النهضة والرقي فيه راجع ولا شك إلى فكرة كاذبة قد علقت بأذهان السواد الأعظم من المسلمين ورسخت في عقائدهم أيما - وهيب أن حق الاجتهاد وحرية الرأي والتفكير قد محي وقبر مع الأئمة الأقدمين وأن الجرأة على تعاطي هذا الحق في العصور الحديثة يعد وإثماً وأن الرجل لا يصح اعتباره مسلماً صحيح الإسلام إلا إذا كان تابعاً لأحد مذاهب الأئمة الأربعة وكان قد انصرف البتة عن حرية التفكير والاستقلال بالرأي إلى إتباع آراء رجال عاشوا في القرن التاسع. وكانت أذهانهم بطبيعة الحال خالية من أدنى فكرة عن مطلب القرن التاسع عشر واحتياجاته.
إن حياة وسلوك الكثيرين من مسلمي هذا العصر لهما اليوم أقل التئاماً مع تعاليم الأستاذ (النبي) ووصاياه وأكثر التئاماً مع آراء ونظريات المجتهدين والأئمة الذين حاولوا - كل على حسب مذهبه ونظره الخاص - أو يؤولوا كلمات الوحي التي هبطت على الأستاذ الأكبر فكان مثلهم مع ذلك الأستاذ كمثل رجال قائمين وسط زحام يصغون إلى خطبة واعظ قد قام على ذروة عالية ينثر مقاله على جموع محتشدة وهو من مكانه الرفيق يشرف على فضاء فسيح ومتسع رحيب بينما أولئك الرجال لا يبصرون إلا ما جاورهم ولاصقهم ولا يفهمون ما قد كمن في غضون كلمه وتضاعيف ألفاظه في المعاني العميقة. والمغازي الدقيقة. والأغراض الخفية. والمرامي القصية. ولا يدركون ماهية الجمع المصغي إلى خطابه فلا غرو وإذا رأيتهم قد شرعوا يوفقون بين كلمات ذلك الخطيب وبين قاصر علمهم ومحدود رأيهم في موضوع مطالب النوع البشري ورقي العالم الإنساني. أولئك الرجال قد غاب عنهم أن تعاليم الأستاذ عامة شاملة في طبيعتها وكنهها وينقصهم مع ذلك ألمعية النبي وتوقد لوذعيته واتصال روحه بينبوع الوحي الفياض - فلا جرم والحالة هذه إذا رأيتهم قد نسوا أن النبي إنما كان يلقي خطابه في ذروة طود عبقريته على العالم أجمع. وأولئك الرجال قد خلطوا بين المؤقت والدائم ولم يفرقوا بين الخاص والعام. وكما حدث في الكنيسة النصرانية كان كثير من أولئك الأئمة المسلمين خداماً للملوك المستبدين الجبابرة الذي كانت أغراضهم وغاياتهم لا تتفق مع وصايا الأستاذ (النبي) وأوامره. فكان أولئك الملوك يضطرون الأئمة المذكورين إلى استحداث القوانين والنظريات واختراع الأحاديث والروايات المنافية لروح الدين وإلى تأويل كلمات الوحي بما لا ينطبق على مغازيها الحقيقية ومن ثم ما نراه من أن معظم القواعد والنظامات التي تخضع لها عقائد الكثيرين من حضنة الإسلام اليوم لا يكاد يصخ القول بأنه مشتق من تصريحات الكتاب الحكيم (القرآن) بل أغلبه مستمد من كتب الشريعة التي غص بها العالم الإسلامي في القرون الأخيرة كما أن العبرانيين انصرفوا عن توراتهم إلى التلمود فكذلك انصرف المسلمون عن القرآن إلى آراء العلماء ورواياتهم. ولا نعني بهذا أنك إذا سألت مسلماً عن الكتاب المشتمل على أوامر دينه كان جوابه شيئاً خلاف القرآن ولكنا نعني أن القرآن ليس بالفعل مصدر التعليم التي تقوم عليها معتقداته وتصرفاته.
وفي أثناء القرون الوسطى كان المرجع الذي يعمد إليه للفصل والقضاء في مسائل الدين المسيحي ليس هو العهد الجديد (الإنجيل) ولكن كتاب سوماتيولوجيكا تأليف توماس أكويناس وهذا هو الحاصل في هذه الأيام فإنك لا ترى الرجل النصراني الصحيح المذهب يستمد عقيدته من نظره الخاص وبحثه الشخصي في تعاليم المسيح في الإنجيل. وإذا فرض أن مثل هذا الرجل أراد فعلاً أن يطلع بنفسه على شيء من الوحي المقدس لم يزد على قراءة قواعد الإيمان فإذا اتفق أنه كان بطبيعته ميالاً للبحث والتحقيق اقتنع بقراءة قانون إيمان الكنيسة الإنجليزية ولكنه يتبجح مع ذلك فيقول أنه استمد عقيدته ودينه من الإنجيل ولا يرضى أن يعترف بالمصفاة التي من خلال ثقوبها ترشحت عقيدته. وعلى هذا النحو يستمد الدين الإسلامي في هذه العصور ويقتبس وبهذه الطريقة يبنى ويشاد. وإذا تأملت الحقيقة وجدت أن جانباً عظيماً من معتقدات مسلمي هذه العصور وتصرفاتهم لا أساس لها البتة في الكتاب الحكيم (القرآن).
ونحن مع كل ذلك لا ننكر أن كل مذهب من مذاهب الأئمة يشتمل على شيء كثير من بذور الإصلاح وجذور الترقي وإذا كانت أسباب التقدم قد انتقصت اليوم ودولاب الرقي قد تعطل فإنه لا تبعة في ذلك على الأئمة المشرعين ولا حرج. وإنما السبب فيه راجع إلى عجز في إدراك أسرار القرآن وروح تعاليم الأستاذ الأكبر بل تعاليم الأئمة أنفسهم.