مجلة البيان للبرقوقي/العدد 49/حديث المائدة
→ تاريخ الزواج | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 49 حديث المائدة [[مؤلف:|]] |
نابليون في منفاه ← |
بتاريخ: 1 - 6 - 1919 |
لعل قراءنا الأفاضل لم ينسوا أنا نشرنا في هذا الكتاب الرائع نحواً من اثني عشرة قطعة مختارة في السنة الثانية والثالثة والرابعة - وقد طلب إلينا اليوم أن نعود إلى هذا الكتاب فنستوعب أطيب ما فيه كما طلب إلينا أن نعود إلى حضارة العرب في الأندلس وإلى دون جوان للشاعر بيرن - وحديث المائدة هذا كما بينا في غير مكان من هذه المجلة يقع في ثلاثة أجزاء فجزء للشاعر وآخر للأستاذ - ونحن الآن نختار من جزء الأستاذ والكتاب للكاتب الأمريكي الأشهر وندل هولمز.
(13)
قال الأستاذ:
أردت أن أجعل أو لظهوري على المائدة محلى بكلمة نبيلة وحكمة جليلة تكون بمثابة قانون عام ووصف دقيق للحياة البشرية. فوجهت نظري إلى رجل فقيه من رجال الكنيسة كان جالساً أمامي لأجاذبه أهداب المحاورة حتى تسنح الفرصة فأقذف بين يديه بالكلمة النبيلة والحكمة الجليلة أعني الغرض الأهم الذي ترمي إليه هذه الحياة فقلت له: تفضل عليّ بقطعة من السكر الذي أمامك يا سيدي. الإنسان حيوان محتاج إلى معونة بني جنسه.
فقال الفقيه: ما أقلّ ما سألتنيه يا سيدي. ثم ناولني السكر.
فقلت: الحياة حزمة كبيرة مؤلفة من أمور صغيرة.
فابتسم الفقيه كإنما ظن أن كلمتي هذه هي خاتمة عبارات الشكر والثناء الموجهة إليه بمناسبة مسالة السكر.
فقلت له: أراك تبتسم، لعل رأيك في الحياة هو أنها حزمة صغيرة مؤلفة من أمور كبيرة.
فقهقه الفقيه ضاحكاً ولكنه كبح جماح ضحكته ثم قال: الرأي عندي أن الحياة حزمة كبيرة مؤلفة من أكور كبيرة.
وهنا رأيت الفرصة قد سنحت لإبراز الحكمة الجليلة فانبريت أقول: الغرض الأعظم من هذه الحياة. . .
في هذه اللحظة قاطعني جاري وكان فتى حديث السن يدعونه جون فقط بلا لقب ولا كنية. فقال لي: صه! أنصت إلى رأس الغول فإنه يريد أن يتكلم.
فتلفت حول المائدة أفتش ببصري على رأس الغول الذي أشار إليه جاري جون فأبصرت لدى الطرف الأقصى من المائدة رأساً كبيراً فوق جثة ضئيلة معوجة مشوهة موضوعة فوق كرسي عال قد رفع محموله (أي الجالس عليه) إلى مستوى المائدة وأصاره بمتناول سهل من طعامه. وكان منظر هذا المخلوق من فرط غرابة التشويه وقبح الهيئة بحيث يخيل إلي أو أنه إحدى لعب الأراجوز وأن وراءه محركاً مستتراً قد أبرزه هنيهة تأملاً وعما قريب يسحبه ويبرز لعبة أخرى من تصاوير حرفته وتهاويل مهنته. فأقبلت أنصت إلى مقالة هذا الرجل المشوه فإذا هي كما يأتي:
بلدي بوستون إنه محتدي ومسقط رأسي وفيه أريد أن أموت وأقبر وفي ترابه المحبوب تدفن عظامي ويغيب رفاتي، ولا تعيرونني بضيق مساحة بلدي وتواضع بنيانه وتهدم بعض أركانه واعوجاج طرقاته والتواء مسالكه. فلقد ولدت بأشدها اعوجاجاً وفيه درجت وترعرعت وفي تعاريجه الملتوية رتعت ومرحت.
فقال الفتى جون بصوت خافت لم يسمعه المحدث المشوه الخلقة وسمعته أنا لأني جاره وملاصقة لا عجب أنك لطول جولانك في مسالك بلدك المعوجة خرجت كأنما أفرغت في قوالبها فأتيت أشد الخليقة تلوياً واعوجاجاً.
هذه الكلمة لم تصل إلى أذن الرجل الدميم الضئيل فاستمر في مقاله.
أجل، إن مدينة بوستون مملوءة بالطرق الحرجة المعوجة ولكني أقول واصرح بأنها قد فتحت من الطرق المؤدية إلى حرية التفكير وحرية القول وحرية العمل أكثر مما فتحته أي بلدة أخرى حاضرة أو غابرة - حية أو ميتة - مهما بلغ من سعة سبلها وارتفاع مناراتها!.
وهنا دخل في حلبة الحديث رجل من أصحاب المائدة نبيل الهيئة له سمت وأبهة وكبرياء وروعة أسود الشاربين غزيرهما عليه صدرية ممن القطيفة وسلسلة ضخمة ذهبية ودبوس من الماس قد بلغ من فرط الضخامة ما يدعو إلى ظل خفيف (لا تخطئ غرضي أيها القارئ - فإني لا أعني أكثر من ظل خفيف فقط) من الشك والارتياب بحقيقة جوهره وكنه معدنه. هذا الرجل ينتمي إلى مدينة عظيمة من أعيان مدائن البلاد (الولايات المتحدة) وهو يجلس على المائدة إلى جانب ابنة صاحب الفندق - فنتاة حسناء عظيمة الثقة بصاحبنا المذكور راسخة العقيدة في حوله وقوته وهي أيضاً موضع اهتمامه وعنايته ومطمح أمله ورغبته. قال هذا الرجل: ما مبلغ ارتفاع دار الندوة (مجلس الشورى، مجلس البلد الذي هو أشبه بمجلس المديرية أو البلدية) في بلدتك بوستون؟
قال الرجل المشوه: ما مبلغ ارتفاع دار ندوتنا؟ ارتفاعه يوازي أول درجة في السلم المؤدي إلى ذروة الفكر الحر واستقلال الإرادة والعمل، أليس ذلك كافياً؟
فقلت: أجل إنه لكذلك. وهنا ألقي بالحكمة الجليلة التي قد ضاق بها صدري وصبري فطرحتها على بساط المحاورة دون انتظار الفرصة أو المناسبة فقلت: الغرض الأعظم من الحياة هو التوفيق بين الإنسان وبين ظام الكائنات. وقد قامت الكنيسة بذلك إذ كانت هي الآلة الموسيقية الوزانة التي بفضلها تتم الموازنة والملاءمة بين نظام الإنسان ونظام الكائنات. ولكن هذه الآلة الوزانة (أعني الكنيسة) تحتاج هي ذاتها إلى ضبط وميزان. فمن ذا الذي ترى يقوم بوزنها وضبطها؟
فتقدمت للكلام امرأة حادة الصوت حادة الطرف حادة المفاصل حادة الأخلاق عليها ثوب أسود كأنما كانت لبسته في الأصل للحداد ثم أبقته بعد ذلك على سبيل الاقتصاد فقالت: إذا كنت تطلب من يقوم بضبط هذه الآلة الوزانة (أي الكنيسة) التي وظيفتها التأليف بين نظام الإنسان ونظام الكائنات فعليك بالإنجيل.
فقلت لها: هذا كلام مستحسن ولكن فيه مجالاً لشيء من التعليق والتعقب تقولين اذهب إلى الإنجيل وقد غاب عنك أن الإنسان إنما يستمد من الإنجيل بمقدار ما يحمل إليه - أعني بمقدار ما يحتويه صدره من العلم بالحياة والخبرة بشؤون الدنيا المكتسبة بالنظر والتأمل والتجارب فضلاً عن سلامة الفطرة ونفاذ البصيرة. وأنت إذا قارنت بين نظرة الرجل الساذج في الكتاب المقدس وبين نظرة رجل مثل مارتين لوثر صاحب المذهب البروتستانتي أو قارنت بين اطلاعة تلميذ من طلاب الأدب على بعض صفحات شكسبير وبين اطلاعة مثلها من النقادة الجهبذ (وليم هازليت) أو العلامة الضليع (وليم سكليجل) اللذين فنيا العمر في دراسة نفثات ذلك الشاعر الأكبر فأي فرق بعيد وأي بون شاسع. وإنما مثل الأذهان البشرية المختلفة في انغماسها في كتاب أحد الفحول العظماء واستمدادها العلم من ينابيعه كمثل المواد المختلفة الجوهر تغمسها في سائل بعينه فإنها لا تأخذ كلها من السائل بمقدار واحد بل كل واحدة تتشرب منه على قدر كفاءتها وقوتها أو كما يقول علماء الكيمياء على قدر قابليتها فهي لا تزال تمتص من السائل حتى تتشبع تماماً أي حتى تبلغ أقصى غاية التشبع الت يسميها أولئك الكيماويون نقطة التشبع وعلى هذا الحد فإن قابلية التشبع في ذهن مارتن لوثر وذهن وليم هازلت أو ذهن وليم سكليجل أعظم بمقدار غير محدود منها في ذهن الرجل الساذج أو تلميذ الأدب كما أن نقطة التشبع في تلك الأذهان الهائلة الرهيبة أبعد بمسافة غير محدودة منها في ذهن ذلك التلميذ أو ذلك الساذج. فلا يفوتك أيتها السيدة أن الرجل الذي قد عاشر الناس ولابسهم وخبرهم وجربهم - الذي قد سبر أغوارهم وقاس أعماقهم - الذي قد عامل القساوسة والشمامسة والأساقفة وساومهم وعقد معهم عقود المبايعات والمقارضات بدلاً من مجادلتهم في المسائل الدينية والنقط الفقهية - اتضح له بعد طول الممارسة أن الدنيا تشتمل على عدد عديد من الغدرة الخونة المتنكرين فقي ثياب الأخيار والفجرة المكرة المتظاهرين بهيئة الأتقياء الحاملين شعار القديسين والأبرار - والذي يفضل غوصه على درر الحقائق في أوقيانوس الحياة وبفضل إفضائه وخلوصه إلى لباب الإنسانية وصميمها وجوهرها - أدرك أن جميع ما تنطوي عليه صفحات الكتب المقدسة من روح الله وسره وآياته إذا قورن وقيس بالموجود في السموات والأرضين وكا بينهما وفي غضون لجة الإنسانية المائجة الملتطمة المضطربة وفي أنحاء هذا الشعور (أعني الحياة) الحي المتدفق العديم الحصر والحد ظهر كأنه نقطة في القوس الكهربائي الهائل العظيم الذي يصل ما بين قطبي الأبديتين - (1) قطب الأبدية الماضية (أبدية القدم) السالب و (2) قطب الأبدية المستقبلة (أبدية الخلود) الموجب - أجل إن أمثال هذا المجرب الخبير جدير أن يدرك في النهاية أن كل ما تستطيع الكتب المقدسة أن تحتويه من الروح والسر الإلهي هو بالقياس إلى ما تحتويه بطارية هذا الكون المتحركة الفعالة كذرات التبر المطلية بها صفحات كتاب مؤلف من الأوراق الذهبية الرقيقة إذا قيست بالكامن في أحشاء الأرض من كتل الذهب وأفلاذ العسجد. أجل إن الرجل المتقلب بين الأحياء يسمع كلماتهم ويبصر حركاتهم ويفهم نواياهم ويدرك خباياهم لجدير أن يعلم من الأمور والمسائل ما لم يكن ليجده بين دفات إنجيله. لقد انقرض ذلك العهد الذي كان فيه علماء الدين والفقه والفلسفة يحبسون أنفسهم في حجراتهم ويخندقون حولها. أما إنك لن تستطيعي أن تحبسي الغاز في مثانة ولا العلم في دماغ العالم الفني والأخصائي إذ في الحالة الأولى لا بد أن يتسرب من منافس المثانة فيخرج بعضه من حيث يدخل الهواء فيحل محله نتف متفرقات من المعلومات العامة - فهذا ما لا بد من أن يحدث ولو عصبت دماغ ذلك الأخصائي وحصنته ولففته في خمسين غلاف من دبلوماته العديدة المصنوعة من الجلد السختيان أو المسكوفي. هذا رأيي ومعتقدي وإني لأقسم لك بأغلظ الإيمان أنه ما لم يمزج الطب بشيء من البديهيات والتجارب وما لم تمزج العلوم الدينية بشيء من الأمانة والصدق فلسوف ترانا نحن الأمة نثب ونثور فننقض على ما تحتوي هذه الصروح الثلاثة - الدب والدين والقضاء - من شرفات الهذر والهراء والهذيان بالمعاول والفؤوس والقضب والصوالجة فندمرها تدميراً ونردها أنقاضاً مهدمة كأن لم تغن بالأمس.
إذا أراد المرء أن يكون من مذهب المحافظين (الذين يذهبون إلى وجوب إبقاء القديم من العادات والمذاهب والنواميس والشرائع) فليكن في ذلك معتدلاً أي أنه لا يكون جامداً البتة. فإما أن يترك الإنسان مصارف روحه وبالوعاتها مسدودة ونوافذها مغلقة فيحجب أشعة النور من المغرب وأنفاس النسيم من المشرق - ويترك الفيران مطلقة تعيث وتفسد في مخازن المؤن والذخائر، والديدان والحشرات تملأ بطونها في الحجرات والمقاصير، والعناكب تحيك نسيجها وتضرب خيامها على المرايا حتى يتولد تيفوس الروح بسبب الإهمال فنغط في سبات غشيته. أو نهذي في حميا سوريته، فذلك ما لا يصح لعاقل قط أن يفعله.
لقد أطلت الكلام جداً وأفرطت إطناباً وغسهاباً. ولكن ذلك دأبي وديدني ولا عجب فأنا أستاذ المائدة وماذا عسى تنتظرين من أستاذ ميدانه قاعة التدريس وأفراسه كرائم الكلم المهذب وغاياته دقائق المعنى البديع وقد قضى أيامه يتكلم وغيره ينصت، لا أنكر أن ذلك قد يكون من معايبي ولكن لا حيلة لي وليس في طاقتي تغيير خلقي.
ولقد أذكر كلمة قالها لي صديقي وسلفي في زعامة أصحاب المائدة أعني (المتصرف في نادي المائدة) بهذه المناسبة وفي هذا الصدد إذ قال لي ذات مرة: خبرني أيها الأستاذ، أرأيت إذا كنت تقول ولا تصغي لقائل وتسلب ذهنك حلي الحكمة ولا تكسوه من أسلاب غيره من اللباب الحالية وتستنبط مت ينابيع صدرك ثم لا تمدها بفيوض القرائح الثجاجة، ألا تخشى أن يصاب ذهنك يوماً ما بالجدب والمحل وبالعقر والعقم؟ سأحدثك بحديث لي يشبه عملك هذا عسى أن يكون لك عبرة وموعظة اجتمع عندي مرة مبلغ من النقود فأودعته بعض المصارف وأخذت عنه دفتراً من الشيكات يمكنني من سحبه على دفعات ملائمة لمقتضيات الحاجة. فاستمرت الحالة على أحسن ما يرام مدة من الزمن كلما أردت المال بعثت بواحد من الشيكات إلى البنك فعاد إلي بالضالة المنشودة كعفريت سليمان قبل أن يرتد طرفك وكأنما دفتر شيكاتي هذا قاموس من قواميس الأحكام النافذة والأوامر المطاعة اينما فتحته أصبت منه ما شئت من مترادفات اللذة والسعادة ففي ذات يوم وقد أرسلت شيكاً إلى البنك رد إلى الشيك مكتوباً عليه قد نفذت ذخيرتك - إنا لله وإنا إليه راجعون. لقد أصبح دفتري كمية من الأوراق المهملة! وهكذا يكون مصيرك أيها الأستاذ إذا بقيت تنفق من بنك معلوماتك بإدمان الحديث دون أن تمده بالذخيرة عن طريق الإصغاء للغير. وسيجيء يوماً تريد أن تسحب من مصارف ذهنك فيرتد إليك الشيك مكتوباً عليه قد نفذت ذخيرتك.
فقلت: هذا كلام لا بأس به ولكني أعلم أن الحياة أسرع إلي ضرب دنانير الأفكار وصوغ نقود الآراء من لساني إلى صرف هذه العملة على شكل ألفاظ ولكمات. أفرأيت أنك لو عمدت إلى أزهار بستانك لتمسح بمنشفتك قطرات الندى من عيون نرجسها وخدود وردها وثغور أقاحها في ريعان بكرة صلة أو في ظلال عشية مطلولة أتظن أن أزاهيرك تبقى بعد ذلك عاطلة من عقود الندى وقلائد الطل أم تصوغ لها يد السماء من جمانها ولؤلؤها حلياً جديدة؟ لا مراء أنك لا تلبث أن تجدها محلاة بل أبهى مما سلبت يداك درراً صغاراً وكباراً. ولآلئ عوناً وأبكاراً.
ها أنا ذا أستاذ المائدة - رجل ما زال يقطف أزهار الحياة حتى بلغ إلى ثمارها فلم يجدها في كل الأحايين مرة شاحبة الصبغة حزينة اللون بل وجدها أحياناً حلوة بهيجة اللون مصقولة الأديم، رجل كان يتعثر وسط الكتب والمؤلفات طفلاً صغيلاراً وإذا مد الله من أجله فلسفو يتعثر بينها شيخاً متهدماً كبيراً - رجل مملوء ذهنه بأفكار وخطرات هي على علاتها جياشة نغازة قد صيرت ذهنه أشبه شيء بالساق النائمة التي إنما سميت نائمة لفرط يقظتها وتنبه أعصابها - فامتلاء ذهنه بالخطرات النغازة هو كامتلاء الساق النائمة بالأبر والأشواك الوخازة. رجل يعرض من لوح قلبه على مؤثرات الحياة وعوامل الكون عوداً رناناً أوتاره المشاعر الحية والعواطف الحساسة - رجل له معرفة بالخيوط الدقيقة والألياف الرقيقة المكون منها ذلك النسيج المهلهل الذي نسكنه نحن معشر الحشرات الآدمية الطنانة الصخابة برهة قصيرة ننتظر ذلك العنكبوت الشاحب الرهيب المسمى الموت - رجل راض مستسلم لحقائق الحياة المرة القاسية وإن كان يحمل في يده مفتاحاً ذهبياً لمارستان خصوصي في أعماق نفسه لا يعلم به سواه ولا يطلع عليه غيره مملوء بالخيالات الخرافية والأوهام الخزعبلية والأحلام الكاذبة والأماني الخداعة الجنونية - رجل هو أميل إلى إرسال ذهنه يرتع في أفانين شتى من رياض الفكر والتأمل من أن يقصره على ينبوع واحد من صنوع الآبار العلمية يغوص فيه حتى يسبر أغواره ويبلغ قراره - رجل يعنى بأدق دقائق الكون وأجل جلائله على حد سواء لا ينصرف عن تأمل ألطف ذرة في تركيب أضأل جراثيم الأرض استصغاراً ولا عن تدبر نظام أروع أبراج الفلك استعظاماً واسكتباراً - رجل هذا مزاياه وخلاله أتظن أنه لن يجد على مائدة الكون - بعد أن التهم سلفه (المتصرف) ما أصاب عليها من العلف والزاد - شيئاً يشبع جوعه ويسكن شغفه بطلب العلم وولوعه!. إن عملية التفاعل أعني التجاذب والتدافع والتآلف والتنافر والتمازج والتزايل بين ذهن الإنسان وجو انسلنية المحيط به لهي عملية دائمة ومستمرة سواء أراد ذلك أم لم يرد فهي كعملية التفاعل بين دمه وبين الهواء الذي يتنفسه في رئتيه. وكما أن لعملية التفاعل الحادثة بين الدم والهواء المتنفس نتيجة أي حاصل أي مادة جديدة ناشئة من اتحاد بعض عناصر المادتين المختلفتين بعد تحلل كل مادة إلى عناصرها المكونة لها - فكذلك عملية التفاعل الحادثة بين الذهن وحو الإنسانية المحيط به لها نتيجة أي حاصل يمكن التعبير عنه باصطلاح الكيماويين بأنه المادة الغازية المتخلفة عن عملية الاحتراق الذهني أو عملية الفكر المحترق - أو باصطلاح الفيسيولوجيين بأنه إفراز عملية التنفس الذهني - هذا الحاصل الناتج عن عملية التفكير لا يمكن إحرازه ونيله أي إخراجه إلى حيز التعبير الصريح الواضح الجلي إلا بشرطين أساسيين وهما (1) موافقة صاحب التفكير المحدث من أذهان سامعيه جواً ذهنياً تكون درجة حرارته ملائمة مناسبة و (2) قابلة (هي في اصطلاح الكيماويين الوعاء الذي تنتهي إليه خلاصة العملية الكيماوية أعني الحاصل الكمياوي وهي هنا كناية عن درجة استعداد السامعين وقابليتهم لفهم مغازي الحديث) صالحة ملائمة. ولذلك كان حسن التعبير عما يجيش بالنفس من أشق المشاق في كثير من الأحايين ولا سيما عندما تحولب دونه عقبات وموانع من كدورات الذهن وارتباكاته أو من علل البدن وآفاته. فلقد حدثني مرة عالم مشهور وأديب مذكور فقال أنه لما أراد أن يلقي أول محاضراه ضاق عليه مجال القول وانحبس به عنان الكلام فأتم محاضرته في ربع ما كان قد حدد لها من الزمن وأحس كأنما قد أنفذ ذخيرة معلوماته ونفض إلى السامعين جملة معارفه ومحفوظاته. وخرج مرة إبراهيم (نبي الله) إلى قومه لينشدهم إحدى أناشيده المعروفة المألوفة فارتج عليه فلم يفه ببنت شفة إذ خانته الذاكرة وطفق يكد القريحة لتجود له بفاتحة الأنشودة وعبثاً حاول فلم يجد مخرجاً من هذه الأزمة إلا شرح الحالة إلى الجموع المحتشدة لسماع أنشودته فأسعفوه فوراً فصاح منهم ألف صوت في نفس واحد بما قد نسيه من فاتحة تلك الأنشودة. وقد كان الشاعر المقدس (جون ملتون) لا يجيد قرض الشعر ولا توحي إليه ملائكته (لا أقول شياطينه) إلا في موسم محدد من العام - من منتصف الخريف إلى منتصف الربيع. وأعرف رجلاً من مشاهير الخياطين من سلالة الشاعر المذكور لعله قد ورث شيئاً من دقة إحساسه ورقة شعوره وفرط تأثره بألطف المؤثرات وأخفى الأسباب والعوامل فمما حدثت عن ذلك الرجل أنه ترك مرة أحد الزبائن يفلت من قبضته دون أن يشتري حلة من بضاعته وكان إلى جنبه إذ ذاك صاحب لي فقال له ذلك الخياط النابغة وضرب بيده على جبينه (تباً لهذا الصداع. أما والله لولاه لألبست هذا الرجل حلة برغم أنفه) عجيب وايم الله! نبضة خفيفة في رأس ذلك الخياط ولكنها عطلت تلك الآلة الدقيقة (الذهن) التي من شأنها استدراج الآدمي الطارئ (س) إلى الدخول في قطعة معلومة من القماش (ص).
مثل الرجل المفكر في أول ظهوره وتسليط أفكاره الحادة على ما يحيط به من العادات والعقائد والتقاليد المرلفة من مزيج من الحق والباطل كمثل الكيماوي الذي يصب أحماضه الحادة على المواد القلوية فيحدث تفاعلاً بين الحامض والقلوي ينتهي باتحاد العناصر المتآلفة من الفريقين وصيرورتها ملحاً متعادلاً لا هو بالحامض ولا هو بالقلوي. فهذا الملح المتعادل هو الرأي النهائي للرجل المفكر عن أي نظرية أو مشكلة من المسائل ومتى وصل إلى هذا الرأي الأخير الناضج ألقى كانونه وبودقته. ومخباره وأنبوبته. ووضع ملحه المستخلص في زجاجة ثم جلس فاستراح وادعاً مغتبطاً. ولهذا السبب تراني إذا دخلت إحدى المكاتب فرمقت المؤلفات والمصنفات في قماطرها خيل إلي أنها دكان كيماوي دهني مملوءة بأصناف الأملاح على اختلاف أشكالها وألوانها مما هو نتيجة اتحاد الفكر الفردي مع الحوادث المحلية والنظريات العامة.