الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 4/الحب والزواج

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 4/الحب والزواج

بتاريخ: 20 - 12 - 1911


للفاضل عباس محمود العقاد

دافيد هيوم أكبر فيلسوف إنكليزي في مباحث ما وراء الطبيعة وهو من فطاحل رجل الأب والتاريخ والاقتصاد السياسي عندهم. وهذا فصل من فصوله كتبه على أسلوب له يمزج فيه الحقيقة بالخيال ويورد الأفكار طي الفكاهات والدعابات. قال:

لا أعلم ما بال النساء وحدهن يغضبهن كل بحث يتناول التنديد بالزوجية أو يتنسم منه رائحة الدعوة إلى العزوبة كأنما يحسبن أنهن المعنيات دون الرجال بكل ما يقال في هذا الصدد وكأنما يحسبن أنهن المعنيات دون الرجال بكل ما يقال في هذا الصدد وكأنما يرين أن قسطهن من الخسارة يكون أكبر من قسط سواهن إذا جر ذلك التنديد إلى نتيجة المرقوبة، وهي التنفير من الزواج. أو لعلهن يدركن أن تلك المآخذ والنقائص التي ينعيها الكتاب على الزوجية إنما ترجع إلى عملهن وان أسبابها آتية من تلقائهن. فإذا صدق حدسي فما أجدرهن أن لا يضعن هذا السلاح الباتر في أيدي أخصامهن - وأعني بهم الرجال - أو يوجهن خواطرهم إلى هذه المظنة.

ولقد طالما حدثت نفسي أن أكتب فصلا في الزواج يلتئم عند بنات الجنس اللطيف مع تلك النزعة المأثورة عنهن فأعوزتني المواد وتعارضت الآراء وخرجت من التفكير وقد رأيتني إلى الهجاء أميل مني إلى الاطراء وقلت لنفسي إذا لم يكن بد من الثناء فلأذيلن تلك الأمدوحة بأهجوة وإلا فالسكوت أولى.

أما أن أشوه جمال الحقيقة أو أمس طلعتها الناصعة بدهان الدهان، فذلك مالا أظنهن يدعونني إليه أو يرقهن أن يسمعنه عني. ذلك على أنه ربما كان في قلب وجوه الأحوال من المناوأة لهن أكثر مما فيه من النفع والجدوى. ولا يفوتهن أن الحقيقة ينبغي أن تكون أحب إلي وأدنى إلى قلبي حتى من بنات حواء.

فأنا الساعة سأكون سفير أبناء جنسي لدى النساء، أفصح لهن عن أشد ما نشكوه من الزوجية والزوجات فإذا آنست منهن ميلاً إلى المفاوضة والاتفاق في هذه المسألة التي نعدها أم المسائل وكبرى ذرائع الخلاف فلا بأس نرجيء بقية الخلافات والتجنيات فتلك أمرها هين وخطبها متدارك.

فإذا لم يكن قد تطرق الخطأ إلى حكمي على الرغم منى فإن أطوار المرأة تنبيء بأن حب الهيمنة على الرجل والتفرد بالأمر والنهي دونه من أخص صفاتها وألزم طباعها. وأن ما كان بينها وبين الرجل من شقاق ونزاع فإنما مثاره هذه الصفة. وإن كان تعلقنا بهذه النقطة واستنادنا إليها قد يعد في عرف بعضهن دليلاً على أننا ننعتهن بوصف قد امتلك عقولنا واستحوذ على حواسنا.

ولقد يبدو لي مع هذه أنه ليس في أميال المرأة ميل له من السلطان على نفسها والتحكم في أخلاقها ما لهذا الميل. وفي نوادر التاريخ رواية ظاهرة في تأييد ما أقول.

فقد رووا أنه حدث فيما غبر من الأيام أن نساء (سيثيا) ضقن ذرعاً بما يكابدنه من الرجال فأهبن بكيدهن العظيم وتآمرن فيما بينهن على الإيقاع بهم، ثم كتمن الأمر وأخفينه - وذلك أغرب مافي هذه المؤامرة! - حتى تمكن من تنفيذه قبل أن يفطن إليهن أحد، فباغتن الرجال في أسرة النوم وعلى موائد الطعام والشراب فشددن وثاقهم وغللن أيديهم إلى أعناقهم وقيدن أرجلهم ثم جمعنهم في صعيد واحد وتنادين إلى مجلس عام يتدبرن فيما ينزله بأولئك الأعداء الألداء من صنوف العذاب وضروب التشفى والتنكيل وينظرن في الانتفاع بهذا الظفر فلا يقعن بعد ذلك في أصفاد الأسر والاستخذاء.

فأما إبادة الرجال جميعاً فذلك مالا أحسب أنه خطر لأحداهن أو جامت حوله آراؤهن، رحمة منهن ورفقاً وإن لم يبق موضع للرحمة والرفق بعد ما تجرعنه منهم من غصص العيش وكابدنه من مضض العسف والجور. فقر رأيهن بعد الحجاج الشديد واللغط والفديد على أن يسملن أعينهم وتجاوزن في سبيل الحرية والسلطة عن تلك الخيلاء التي كانت تحلو لهن إذ يترنحن بين التيه والدلال ويعرضن الجمال على أعين الرجال.

فودعنها وإن كانت أعز مودع عليهن وبكين الزينة والخضاب، وزخارف الحلي والأثواب، ثم هون عليهن أمرها أنهن سيتعوضنها بالحرية والنجاة من الأسر - قلن إننا لن نسمع بعد تأوهات العشاق ومناجاة الأحباب ولكن لايغيب عنا أننا سوف لا نسمع أيضاً صيحات الامر وزعقات السيادة والزجر. وسيرحل عنا الحب أبداً ولكنه سيحمل معه الاستعباد.

ولشد ما أحزن البعض هذا الحكم فرثوا لأولئك المناكيد وقالوا ما كان أقسي قلوب النساء على الرجال المساكين، فإنهن حرمنهم نعمة البصر لينقادوا إليهن ذلك الانقياد الأعمى ولئن أبقين عليهم مسامعهم فما هي بمغنية شيئاً بعد الإبصار ولو كانت تغني لصلمنها ولم يتعدينها إلى الأعين فيفقأنها وأنا أعلم أنه قل بين أهل الخبرة بأحوال الزواج من لا يستخف فقد الاذن بالقياس إلى فقد البصر لاسيما وأن وراء فقد الأذن الراحة من سماع المطالب الجمة والقوارص المصمة.

وكيفما كان هذا الرأي فإن كثيراً من بنات اليوم من لا يعولن كل التعويل على هذه الطريقة ولا يبالين أن يتركن لأزواجهن عيونهم اعتقاداً منهن أنهن أدرى بتسخيرهم صاغرين سواء ذهبت أبصارهم أو بقيت في رؤسهم ولسوء حظ الرجال أن كان هؤلاء الأزواج ممن لا يصونون الجميل أو يعترفون بالإحسان فاقتسروا نساءهم على أن يحذون حذو أخواتهن لاسيما بعد أن صرح الزمن زهرة صباهن وأطفأ في وجوههن رونق الشباب وما أيسر الأمر إذا كان للمرأة النفوذ والسيطرة.

ولا أدري لعل سيداتنا الأيقوسيات يقلدن جداتهن السيثيات ولكني طالما تولاني العجب إذ كنت أرى امرأة منهن تنتقي من بين الرجال زوجاً مغفلاً غبياً وتؤثره على سواه رفيقاً لها في الحياة وكأنها ترى أن غفلته وغباوته مما يعنيها على تذليله وترويضه. فما ترددت في الجزم بأن بين جنبيها نفساً تربو على نفوس أولئك السيثيات بربرية بمقدار ما تزيد عين البصيرة التي تسلمها هذه عن العين الباصرة التي قد سملها أولئك.

بيد أني لا أكون عادلاً إذا أنا لم أنجح بسر يختلج في صدري ويتردد على لساني، فلقد يكون ولع النساء هذا بالسلطة أثراً لسوء تصرف أبناء جنسنا بسلطتنا. وقد أنبأت حوادث التاريخ أن الطغاة إذا أرهقوا رعاياهم ولجوا في الطغيان والعدوان أحفظوا أولئك الرعايا وحفزوهم إلى التمرد. فإذا تمردوا فتكوا وأهلكوا ونكبوا وأخربوا وضيعوا وروعوا، وانقلبوا هم طغاة كأولئك الطغاة الذين ينقمون عليهم بل أشد. ومن يدري لعل أمر النسوة معنا على حد ما علمنا؟

هذا ما صيرني أود لو تخلى كل منا عن مزاعمه فلا حاكم ولا محكوم ولا سيد أو مسود بل نجري في الأمور بالهوادة بيننا ويأخذ كل منا فيما يخصه بلا رقابة أو إيحاء من الآخر كأننا ندان متساويان ولا ننس أننا شطرا جسد متعادلان كما قال أفلاطون.

فقد جاء في مرويات ذلك الفيلسوف الحاذق أن الإنسان لم يكن في أصله كما نحن الآن.

وإنما كان بدنا مندمجاً جامعاً بين الذكر والأنثى في جسد واحد فكان زوجاً وزوجة يشتركان روحاً وجسداً. ولا حاجة بنا إلى القول بأن هذا الإنسان المركب قد كان في منتهى الكمال والهناء فكان كل فرد مزدوج منه يعيش ملتئما متحداً لا يفكر في الانفصال ولقد أبطرت السعادة هذا النوع، وقديماً ترافق البطر والسعادة، فانقلبوا على الآلهة ونفضوا عنهم مخافة الأرباب. قال فأراد الآلة الاقتصاص منهم وقال قائل منهم إننا إن نقتلهم نيأس مما يقدمونه لنا من البخور والنذور فاختاروا لهم معشر الآلهة قصاصاً غير القتل. وبعد أن تشاوروا ما أجمعوا على أن يكتفوا بايهان قواهم فعمدوا إلى كل إنسان فشقوه شطرين، فانفصمت وحدته وضعفت بذلك منته.

ومنذ ذلك العهد انقسم النوع الإنساني رجالاً ونساء. بيد أن ذلك الانقسام لم يمح من أنفسهم تلك الذكرى القديمة فما زال كل شطر يصبو إلى شطره ويتلهف عليه فينقب عنه ويفتقده حتى إذا التقيا تضاماً باشتياق وابتهاج وأخذا في عناق والتزام ووفاق والتئام.

ولكن كثيراً ما كانت الأشطر تضل الاهتداء إلى بعضها فتتصل بغير شطرها. ففي هذه الحال يعودان إلى الفراق والطلاق ولا يزالان في انطباق وافتراق واتصال وانفصال حتى يعثر كلاهما بجزء يندمج فيه كل الاندماج ويطابقه تمام الانطباق

كذلك ارتأى أفلاطون منشأ الشقاق والوفاق بين الأزواج ولو أتيح لي أن أكمل هذه الأسطورة الأفلاطونية لقلت وهاك أسطورتي:

بعد أن شق جوبيتير الذكر والأنثى ندم على ما أحله بنوع الإنسان من النقمة الشديدة وأخذته الشفقة على عبيده في الأرض بعد أن عاين ماحاق بهم من الويل واستولى عليهم من القلق فباتوا وقد هجرتهم السكينة وفرت منهم الطمأنينة ورأى كيف أنهم مالبثوا منذ حلت بهم نقمته يضجرون من الحياة ويتأففون من هذا الوجود ويحسبون ما وهبهم من نعمة الحياة شقاء وبلاء قد أصبح النوع الإنساني منذ ذلك الحين ولا هم له إلا الأسف على ذلك التآلف القديم والحنين إلى استرجاعه فعطلوا العلوم وكفوا عن الأعمال ولم يجدوا في ملذات الدنيا ومسراتها ما يملأ ذلك الفراغ الذي أحدثه في كل جسد بعد نصفه عنه.

فصحت نية ذلك الإله الغفور الرحيم على أن يصفح عن زلتهم ويتجاوز عن رعونتهم وطيشهم وإذا كان لا سبيل إلى ذلك التآلف وجوبيتير لم ينس بعد عصيانهم وتألبهم على الآلهة. فلا أقل من أن يعوضهم عنه بما يسيهم ذكره وينسيهم خبره.

فأوحى إلى ملكي الحب والزواج أن اهبطا إلى الأرض فاجمعا تلك الأعشار المتفرقة والأشطر المحطمة وألحماها وأرأبا ما تصدع منها كأحسن ما في وسعكما

فصدع الملكان بالأمر الإلهي وهبطا إلى الأرض فوجدا من شوق الناس إلى التلاحم والتواصل ما مهد السبيل لهما وسهل عليهما قصدهما فدأبا بلا مال وانكبا على العمل. وما زال النجاح موالياً لهما فلحما ورقعا وأصلحا.

ولكن حدث في يوم من الأيام أن شجر بنهما الخلاف لشأن من شؤونهما فتغير كل منهما على صاحبه وأسر في نفسه الكيد له وتصديه في عمله.

وكان للزواج معاون في شغله هو الحسبان. كان هذا المعاون لا يفتأ يملأ رأس رئيسه بهواجس المستقبل ومشاغل العيش وهموم العائلة والأطفال والخدم فقلما راعياً في أعمالهما غير ذلك. واصطفى الحب له نصوحاً هو الطرب وما كان أسلم من الحسبان نصحاً لمولاه أو أصوب منه رأياً فكان يمنعه أن يمتد ببصره إلى أبعد من لذة برهة وطرب ساعة.

وبعد أن نسي الناس مصابهم أو كادوا. جاء هذا الشقاق بين الحب والطرب من جانب والزواج والحسبان من الجانب الآخر فجدد لهم هماً شاغلاً وحرك في نفوسهم قلقاً ساكناً. فكان الحب إذا أصلح نصفين ووفق بينهما أسرع الحسبان واستصحب معه الزواج ففصلا هذا من ذاك وألصقاه بنصف آخر قد أعداه له. فإذا أراد الطرب أن يثأر لنفسه عمد أيضاً إلى نصفين وفق بينهما الزواج فتسرب اليهما خلسة واستعان بالحب فجعلا يصلان أحدهما أو كليهما بصلة خفية إلى نصف من أنصافهما المهيأة لهذه المآرب.

ولم يطل على ذلك الأمد حتى علا ضجيج البشر إلى لاسماء وجأروا بالدعاء إلى عرش جوبيتير فاستدعى إليه الملكين وأمرهما أن يقدما إليه صحيفة أعمالهما. فطفقا يتحاوران ويتنصلان وجوبيتير يسمع. فلما فرغا من الأخذ والرد والتنصل والاتهام رأى أنه لا سبيل إلى إسعاد البشر إلا بالتوفيق بين الحب والزواج فأصلح بينهما. وأراد أن يكون واثقاً من دوام هذا الصلح إلى ماشاء فشدد عليهما أن لا يبر ما أمراً أو بيتاً في عقد إلا بعد مشاورة معاونيهما الحسبان والطرب واسترضائهما.

فأيما قران تحققت فيه إرادة أبي الآلهة وتراضى عليه الحب والزواج والحسبان والطرب فذلك القران السعيد الذي يتألف منه ذلك الإنسان المركب ويجتمع به النصفان الغائبان. نعم إننا أضعنا منوال جوبتير الذي يحيك حاشيتيهما ويحبك طرازيهما. ولكن لنا من خيوط القلوب وعلائق الأرواح ما هو أمتن وأقوى على أن يدمج ذاتين في ذات واحدة. يحدب كلاهما على صاحبه فيضحك لضحكه ويبكي لبكائه وتمتزج أوطار نفسيهما فتحس كل نفس أن ألم الأخرى ألمها وأن ما يسر إحداهما يجب أن يسر الثانية فتخشى خشيتها وترجو رجاءها.