الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 4/شذرات

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 4/شذرات

بتاريخ: 20 - 12 - 1911


مقتبسات من امرسن

رالف والدو إمرسن أشهر كاتب أمريكي على الإطلاق ولد في مدينة بوستن للخامس والعشرين من شهر مايو عام 1803 وتوفي في السابع والعشرين من شهر أبريل عام 1882. وأحرز مكانة عالية بكتاباته فأصبح معدوداً من كتاب الطبقة الأولى في اللغة الإنكليزية. وإليك بعض مقتبسات من فصوله:

(1) فلسفة الفنون

الحد بين الطبيعة والصناعة في الفنون الجميلة

الموسيقى والفصاحة والشعر والتصوير والنحت والمعمار، إذا نحن سردناها كما نفعل الآن لم يكن ذلك إلا إحصاء ظاهرياً للفنون الجميلة. ولقد أغفلت فن البلاغة لأنه لا يبحث إلا في وضع الشعر والفصاحة. وأرى المعمار والفصاحة من الفنون المشتركة التي يقصد بها الجمال حيناً والنفع أحيانا.

ومما يشاهد أن شيئاً من روحية كل فن من هذه الفنون يذهب عنها حتى يتهيأ تجسدها ووضوحها للحس فيتلاقى عندها فعل الصناعة بفعل الطبيعة وأن لكل منها ناسوتا من المادة يتلبس به. وفي كل منها تقف الفكرة المبتدعة إلى حد محدود عند تلك المادة التي يتجلى فيها ذلك الفن.

فالشعر ناسوته الألفاظ ولئن لم تكن الألفاظ مادية إلا من جانب واحد فقد وضعها الناس من قبل وتداولتها الألسنة في آرابها. فالشاعر لن يبتدعها ابتداعاً لأداء مقاصده. فهي ليست اذن من بنات فنه ولا من ثمرات الروح الملهمة في ذلك الفن.

والموسيقى قاعدتها تموجات الهواء واهتزاز الأوتار الأدوات المرئية وإن نبرة من خيط أو سلك مشدود لتبعث في النفس من لدن الأذن سرورها بالرنة العذبة. ذلك وإن لم يؤلف الموسيقار من تلك النبرات لحناً أو يستنزل وحي الأنغام والأدوار من آلهة فنه.

والفصاحة في الحيز الذي تعتبر من قبله فناً جميلاً، نراها تتحسن وتكتسب شيئاً من تأثيرها وفعلها في النفوس من أحوال الخطيب الجسدانية في الإشارة والإيماء ورنة الصوت وقوة الصدر وتغير السحنة. وفي كل ذلك من النقص من روحية اللذة والسرور قدر ما فيه من النقص في عمل الصناعة نفسها، نقصاً يرجع بها إلى حيز الطبيعة (والطبيعة والصناعة في الاصطلاح الفني كلمتان متقابلتان من حيث أن الحالة الطبيعية للأشياء هي بقاؤها على ما هي عليه. وإن الحالة الصناعية لها هي انتقالها من ذلك الطور وتشكلها في أطوار أخرى).

وفي التصوير تزيغ الألوان والنقوش البصر قبل أن ينفذ إلى سر الجمال المودع في رسم المزرعة أو المنظر الطبيعي. وكذلك في النحت والمعمار فالمادة في الأول كأن يكون التمثال من مرمر أو حجر مجب مثلا، والمادة والحجم في الثاني تحدثان في نفس الرائي سرورا لايمكن إلا أن نعده سرورا مستقلاً عن ذات الفن في ذلك التمثال وتلك البنية.

فرح الفن تبدو في النموذج والطريقة. إذ أنه في هذين لا في التمثال أو الهيكل من حيث هما تظهر قدرة الصانع. فالرونق الذي يزيد به تمثال المرمر على نموذج الطين، والفخامة والعظم والجلال التي يمتاز بها الصرح الممرد أو الهرم المشيد على رسميهما في القرطاس. ذلك من عمل الطبيعة وليس من عمل الصناعة.

(2) الشجاعة

المعرفة ترياق الخوف. ويدخل في هذه المعرفة التجربة والتعقل. فالخطر على الطفل من الصندوق أو الموقد أو حوض الاستحمام أو السنور قد لا يقل عن الخطر على الجندي من المدافع والكرات والخنادق والمتاريس وكلاهما يتغلب على خوفه حالما يعرف وجهة الخطر ويلم بوسائل الدفاع والدرء عن نفسه. وكلاهما قد يستسلم لذعر أو قلق ليسا في الواقع إلا نتيجة تصورات وخيالات ولدها في المخيلة الجهل بحقيقة الخطر المحدق بكليهما فالمعرفة تؤيد القلب فلا يجفل من اقتحام المخاطر، وهي التي تنزع الخوف من الصدور. ومثلها التجربة وما معناها إلا المعرفة من طريق الاختبار.

إنما يقهر من يأنس من نفسه القدرة على القهر. وإن الذي لا يحجم عن الأمر إنما هو الذي أقدم عليه مرة قبل ذلك. والسائس المروض للجواد الجامح هو الذي يستطيع أن يمتطيه آمنا. وليس إلا الجندي المدرب يرى شظية القذيفة فيتزحزح عن طريقها ساكناً. والعادة تخلق جندياً باسلاً ممن لا يجعله الشعور بالواجب جندياً وإن كان ذلك الشعور فيه مكينا: ذلك لأن كثرة ممارسته للخطر مكنته من تقدير الخطر. فقد رأى رأى العين إلى أي حد يبلغ فلم يدع للخيال موضعاً للتخمين والتقدير.

النواتي لا تساوره المخاوف إلا ريثما يحسن أن يقبض على الشراع ويقوي على تسخير الريح أو تصريف البخار. والجندي لا يجد الفزع إلى قبله سبيلاً ما دام يحمل على كتفه رامية متينة ويحكم التصويب والتسديد. وذلك النواتي الخبير يعد لكل خطر مفاجئ عملاً يتقيه به. فالتقلبات والطوارئ التي تخلع قلوب السفر هلعاً لا يقابلها الرجل إلا بإصدار الأوامر المتوالية والإشارات المتتالية. والأعاصير والتيارات والجنادل لا معنى لها عنده إلا أنها داعية العمل الكثير. لا أكثر ولا أقل. والصياد لا ترعبه الدببة والضواري التي يثيرها ولا الراعي يخاف ثوره كلا ولا مربي الكلاب كلبه العادي ولا العربى السموم.

. . . . . . . الشجاعة هي وزن الخطر وما يعادله من القوة كذلك هي في كل غرض ومعرض. سواء في شؤون الحياة أو العلم أو التجارة أو المجلس أو العمل. ومدارها في كل هذه المواضع على اقتناع النفس بأنها لا تقف أمام قوة أكبر منها. ويجب على القائد أن يقرر للجنود أنهم رجال وأن أعداءهم ليسوا إلا رجالاً.

فالمعرفة هي العلاج كله. فإن الوهم هو الخطر الحقيقي وهو منشأ الجبن والذعر وما أسهل ما تذعن العين. فإن الطبول والإعلام والخوذ اللامعة ولحى الجند وشواربهم كثيراً ما تتملك قلب المرء قبل أن تصل سيوفهم وحرابهم إلى جسده.

ولا ينبغي أن ننسى اختلاف البنى والأمزجة فإن لها أثراً كبيراً في استعداد المرء لمقاومة الطوارئ. وقد لاحظوا أن أضيق الناس خيالاً أقلهم خوفاً، تراهم يلبث أحدهم جامداً حتى يشعر بالألم. أما أصحاب الأمزجة الدقيقة الحساسة فهم يتوقعونه ويتألمون من خوف الألم أكثر من الألم نفسه.

ولا شك أن الوعيد يكون أحياناً أرهب للنفس من العقاب. وقد يمكن أن يحس المشاهد ألماً أشد مما يحسه المصاب. فما الآلام البدنية إلا وهم سطحي مقره في الجلد والأطراف والغرض منها أن تنبهنا إلى أخذ الحيطة لأنفسنا في حين اقتراب الخطر. وهي لا تتعمق في الإنسان إلى أعضائه الحيوية وأجهزته الرئيسية فقد لا تحس هذه ألماً حتى في حال الموت، وقد لا تتأثر حواس المرء بالجرح البالغ والصدمة القاتلة تأثرها بالخدوش واللكز الخفيف.

قلنا أن الألم وهم سطحي، والخوف إنما هو من الألم فليس الخوف إلا وهم سطحي مثله. وإنه ليخيل لي أن الشهيد الذي كان يحترق بالنار ما كان يحس من لذعها ما يحسه واقف ينظر إليه عن بعد. فإن عذاب ذلك الشهيد ليس إلا هواجس تقوم بأذهاننا وإن أول ما يمس بشرته هو آخر ما يحسه. أما الآلام الأخيرة فأنها تضيع في غيبوبة الذهول والإغماء.

(3) حافظ الشيرازي

كان حافظ أمير شعراء فارس. ولقد خص بمواهب خارقة، فكانت له قريحة كقرائح بندار وأنا كريون وهوراس وبيرنس وزاد عليهم نظرته الصوفية إلى أعماق الطبيعة وأحشاء الكون: نظرة تتغلغل إلى أبعد مما يصل إليه نظر واحد من هؤلاء الشعراء.

. . . . . ولقد كان يتغنى بالصهباء، ويبسم للورود الحمراء، ويتغزل بالفتيان، وينسب بالعذارى الحسان، ويطرب لأهازيج العصافير، ويبتهج بالصباح المشرق المنير، ويهتز لشجى الألحان، وتوقيع القيان، ولكنه كان يخفى وراء ذلك ولها متأصلاً بكل صورة من صور الجمال وتهافتاً على الطرب والأنس يمزجه بازدراء قداسه المرائين وحكمة قصار الأنظار من الغافلين.

ذلك ما كان يدور عليه أكثر شعره. فإذا هممت باتهامه في أخلاقه وشيمه ألقى إليك بيتاً من الشعر يلوح لك منه كيف أن الشهوة كانت أصغر مشتهيات الرجل، وقذف العالم بأكبر ما سمع من احتقار مظاهره وحظوظه. ومن تلك الأبيات ما يهبط إلى الناس من أعلا ذروة الفكر الإنساني كقوله:

آتنى بالكأس أحيي الر ... وح من أعذب راح

ما يرى في عالم الأر ... واح مخمور وصاح

أو ملوك وعبيد ... بين أبناء القداح

. . . . . قيل أنه أبصر غلاماً مليحاً في أسواق شيراز فقال فيه:

وهبتك قلبي يا ابن شيراز مدنفا ... وقلب الفتى أغلى وأكبر ما أهدى

ولو كنت ذا ملك وهبت لخاله ... بخارى متاعاً سائغاً وسمرقنداً

فتناشد الناس البيتين واتصل خبرهما بتيمور في قصره فأمر به فأحضر. فلما مثل بين يديه، قال له: أيها الرجل كيف اجترأت أن تنزل هكذا من شأن مدينتي اللتين ما رفعتهما إلا بعد أن دككت المعاقل والحصون ولا عمرتهما إلا بعد أن دمرت المدن والبلاد؟

قال عفواً يا مولاي! إنني لولا كل هذا السرف والبذل في لم أكن من العوز والفاقة بالحال التي ترى!!

عباس محمود العقاد

كيف يكتب الكاتب

من فصل لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

واختر من المعاني ما لم يكن مستوراً باللفظ المنعقد مفرقاً في الإكثار والتكلف فما أكثر من لا يحفل باستهلاك المعني مع براعة اللفظ وغموضه على السامع بعد أن يتبين له القول - وما زال المعنى محجوباً لم تكشف عنه العبارة فالمعنى بعد مقيم على استخفائه وصارت العبارة لغلوا وظرفاً خالياً - وشر البلغاء من هيأ رسم المعنى قبل أن يهيء المعني عشقاً لذلك اللفظ وشغفاً بذلك الاسم حتي صار يجر إليه المعنى جراً ويلزقه به إلزاقاً حتى كأن الله تعالى لم يخلق لذلك المعني اسماً غيره ومنعه الإفصاح عنه إلا به والآفة الكبرى أن يكون ردئ الطبع بطيء اللفظ كليل الحد شيديد العجب ويكون مع ذلك حريصاً على أن يعد في البلغاء وتصفح دواوين الحكماء ليستفيد المعاني فهو على سبيل صواب ومن نظر فيها ليستفيد الألفاظ فهو على سبيل خطأ - والخسران ها هنا في وزن الربح هناك لأن من كانت غايته انتزاع الألفاظ حمله الحرص عليها والاستهتار بها إلى أن يستعملها قبل وقتها ويضعها في غير مكانها ولذلك قال بعض الشعراء لصاحبه أنا أشعر منك. قال صاحبه ولم ذاك. قال لأني أقول البيت وأخاه وأنت تقول البيت وابن عمه وإنما هي رياضة وسياحة والرفيق مصلح والآخر مفسد ولا بد مع هذين من طبيعة مناسبة - وسماع الألفاظ ضار ونافع فالوجه النافع أن تدور في مسامعه وتغيب في قلبه وتخيم في صدره فإذا طال مكثها تناكحت ثم تلاقحت وكانت نتيجتها أكرم نتيجة وثمرتها أطيب ثمرة لأنها حيئذ تخرج غير مسترقة ولا مختلسة ولا مغتصبة ولا دالة على فقر إذ لم يكن القصد إلى شيء بعينه والاعتماد عليه دون غيره - وبين الشيء إذا عشش في الصدر ثم باض ثم فرخ ثم نهض وبين أن يكون الخاطر محتالاً واللفظ اعتسافاً واغتصاباً فرق بين. ومتى اتكل صاحب البلاغة على الهوينا والوكال وعلى السرقة والاحتيال لم ينل طائلاً وشق عليه النزوع واستولى عليه الهوان واستهلكه سوء العادة. والوجه الضار أن يحفظ ألفاظاً بأعيانها من كتاب بعينه أو من لفظ رجل ثم يريدان يعد لتلك الألفاظ قسمها من المعاني فهذا ألا يكون إلا بخيلاً فقيراً وحائفاً سروقاً ولا يكون إلا مستكرهاً لألفاظه متكلفاً لمعانيه مضطرب التأليف منقطع النظام فإذا مر كلامه بنقاد الألفاظ وجهابذة المعاني استخفوا عقله وبهرجوا علمه ثم اعلم ان الاستكراه في كل شيء سمج وحيثما وقع فهو مذموم وهو في الظرف أسمج وفي البلاغة أقبح وما أحسن حاله ما دامت الألفاظ مسموعة من فمه مسرود في نفسه ولم تكن مخلدة في كتبه وخير الكتب ما إذا أعدت النظر فيه زادك في حسنه وأوقفك على حده.