الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 20/النجاح

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 20/النجاح

بتاريخ: 31 - 8 - 1914


ماكس نوردو اسم عرفه قراء هذه المجلة بما نشرته لهم ملخصاً عن كتابه الأكاذيب المقررة في المدينة الحاضرة ولهذه النقادة غير كتاب الأكاذيب كتب عدة نبحث في موضوعات شتى، فمنها كتاب الانحطاط والاضمحلال ومنها كتاب الفنون وأهل الفنون ومنها كتاب الغرائب وهو الذي نلخص عنه هذا الفصل في موضوع النجاح.

والنجاح على كونه طلبة العامل والعاطل، ومنية الكبير والصغير، فقليلاً ما كتب فيه الكاتبون، وقل في هذا القليل من أصاب وأفاد، لأن للنجاح صناعة يموت أكثر الناجحين على سرها. أو يبوحون ببعض السر ويكتمون بعضه خجلاً أو استئثاراً. إلا أن نورد وسلك في هذا الفصل مسلك التعريض بأسباب النجاح في عصرنا هذا، فجر وسائله ولم يأت في جده وهزله بكلمة لا يؤيدها الواقع أو يقوم عليها الشاهد من العيان. ولكنها حقائق لا يقبلها ولا يثق بها إلا رجل أفلح أو رجل أخفق. فأما المفلح فيعلم بم نجح، وأما المخفق فيعلم لمَ لمْ ينجح، وأما الذين هموا بالنجاح ولم يمارسوه، وعشوا إلى ضوء ناره ولم يواقعوه، وحلموا بإدراكه ولم يحققوه، فأولئك يثقون بأحلامهم وأمانيهم أكثر من ثقتهم بهذه الحقائق المؤيدة وإن كانت غير شريفة، والتجارب الصعبة على كونها أسهل من الشرف في إحراز النجاح.

وقد أفرغه في قالب الدعابة والسخر ولكن فيه من روح التذمر والنقمة ما يحسده عليه شوبنهور أمام الساخطين. مع أنه استهل هذا الكتاب بفصل مسهب في التيمن والتطير، فكان زبدة كلامه أن التيمن أعمق في الطباع من التطير، وأن النفوس أسكن إلى حسن الظن بالناس والحياة منها إلى سوء الظن بهم.

ولما ظهر هذا الفصل حسبه بعض الجهلاء جادوا في قوله، وفهموا أنه يجيز استخدام هذه الوسائل ولم يفهموا أنه ينكرها ويشهر بها، فقرعوه أقبح التقريع وسبوه في أخلاقه ومبادئه، فذيل الفصل في الكتاب بكلمة قال فيها إنه كان يود لو أتيح له نشر صور هؤلاء الكتاب لأنهم ولا ريب من عجائب المخلوقات في هذا القرن العشرين.

وكأنهم استغربوا من الرجل مجاهزته بأن النجاح يغتنم أحياناً بالخداع والتلبيس - استغربوا منه ذلك جرياً على مذهب المتشددين في تربية الناس وهم أحوج الناس إلى من يتشدد في تربيتهم، والقائلين بتجاهل مثالب المجتمع وهم من حسور النظر بحيث لا يعلمون مثالب المجتمع أو محامده، وطالما سمعناهم يحتمون على الكاتب إذا كتب في النجاح أن ينبه القراء إلى التعويل على أنفسهم وإلى تمحل أسباب النجاح وابتغاء الوسائل إليه. قلنا إن كان هذا واجباً فأوجب منه أن ننبه الأمة إلى أن المعول في نجاح تلك الوسائل إنما هو عليها. فإن زمناً من الأزمان لم يخل من وسائل للنجاح كائنة ما كانت. وإنما على الأمة أن تحذر لئلا تكون تلك الوسائل مما لا يحذقه إلا أرزالها، ومن لو نجحوا الأضر نجاحهم بها، وكان تقدمهم وبالاً عليها، ولئن كان من واجب الفرد أن يسعى ليستحق النجاح فلا نزاع في أن واجب الأمة أن تسعى لينال النجاح من يستحقه، إذ ليس كل من ينال النجاح ويستحقه، ولا كل من يستحق النجاح يناله.

ولو كان العامل وحده هو المؤثر في عمله للزمته وحده تبعة النجاح أو الخيبة، ولكن للنجاح أركاناً هي العمل والعامل ووقت العمل ومكانه. فربما كان العامل واحداً في البلدين فينجح هنا ويحبط هناك وربما كان العامل بعينه والبلد بعينه ولكنه ينجح في وقت ويحبط في وقت آخر. وقد تكون البيئة واحدة والعمل هو هو فيقدم عليه اثنان يظفر أحدهما ويفشل الآخر. فلا يجوز أن يتجه اللوم كله إلى العامل. فربما كان الفشل في بعض البيئات أشرف للرجل وأصون لمروءته وأدل على قدرته الصحيحة من نجاحه. وهؤلاء النشوئيون واضعو قاعدة بقاء الأنسب لا يتخذون النجاح معياراً للأفضلية، ولا يقولون أن بقاء الأنسب معناه بقاء الأرقى والأحسن. بل قد يكون الأمر على نقيض ذلك. قال سبنسر: ليس المراد بقانون بقاء الأحسن أو الأقوى هذا المعنى الذي تنطوي عليه حروف هذه الكلمات في عرفنا. ولكن المراد به بقاء أولئك الذين هم أصلح بتركيب أجسامهم للحياة في البيئة والأحوال التي وضعوا فيها. وكثيراً ما يتفق أن ما هو أحط وأصغر في التقدير الإنساني يسبب البقاء.

ونحن بادئون بتلخيص ذلك الفصل. سأل نوردو: ـ

أي غاية نتوخاها من هذا التعليم المدرسي ومن عامة أصول التربية والتهذيب؟؟ قال لا لبس في جواب هذا السؤال. إذ لا ينبغي أن تكون الغاية القصوى من ذلك إلا أن نجعل الحياة أوفق لنا بتعميقها، ومضاعفة خيراتها، وتزيين ظاهرها وباطنها. وإذا التمسنا الإيجار فأن تزيدنا وتزيد المجتمع الذي نحن فيه رغداً ورفاهة. وليس لهذه الحقيقة إلا وجه واحد فأما من يخالف في ذلك من علماء التربية فهم يقعون دون المرمى. وربما قال أحدهم أن غاية المدرسة هي تكوين الشخصية. فلعمري ما معنى هذا الكلام إذا نحن أنعمنا في تحليله؟؟ ما كانت الشخصية لتصب في قالبها لجمال محياها أو لتروق نظر الناظرين إليها كما يصب التمثال. ولكنها خلق يرام به شيء من النفع. وما المثابرة على الغرض، والثبات في الأعمال، والإصرار على الرأي والصدق في الرغبة، والإقدام إذا أعوز الأمر إلى الخصام، إلا درع يستلئمها الرجل وسلاح يتقلده في كفاح الحياة وتنازع البقاء. وهم يسلمون بأنها أخلاق تمهد لصاحبها الغلب على أعدائه ومنافسيه. يقولون وإذا شاء الله مرة أن يظهر الذي هو أدنى على الذي هو أعلى ففي هذه الأخلاق سلوة وشفاء لا لم الفشل وعون على الرضى عن النفس، بل وعلى المباهاة بتلك الخصال التي نجم عنها اندحار المهزوم وخيبته.

وربما قالوا أيضاً أن الغرض من المدرسة إنماء العقل، وتقوية العزيمة، وتهذيب المشاعر لتحس الطيب والجميل من الأشياء. فقل لي ما هو فحوى كلامهم هذا؟؟ إن العقل ينمو ليتفهم به الرجل أسرار الطبيعة وأمزجة الناس، فيتمتع بما في معرفة طبائع الأشياء وعناصرها من اللذة والغبطة - ذلك إلى حد تنتهي عنده لذة المعرفة وغبطتها. ثم يتذرع بها إلى ذود الضرر عنه وجلب المنفعة إليه، وأما العزيمة أو الإرادة فإنما يستحب أن تقوى ليدرأ بها ما يؤذيه ويثبطه، ولا يقصد بتهذيب الأذواق وإعدادها للإحساس بالجمال والخير إلا أن تكون باباً يلج منه إلى النفس مشاعر لاذة لها، سارة لوجداناتها، فهل لهذا الكلام فحوى إلا أن تصير الحياة أوفق للإنسان؟؟.

قال نوردو فإذا نظرنا إلى مدرسة اليوم بأساليبها وبرامجها أترانا نجدها كافلة بهذه الغاية، مفضية إلى هذه الجهة؟؟ قال كلا فإنها لا تخرج إلا تلاميذ يطرحون سلاحهم للصدمة الأولى، وكأن الذين سنوا طرائق التربية طغمة من دهاة الساسة أرادوا أن يستحوذوا على عروض الحياة ويحرموا منها الناس أجمعهم، فاجتمعموا على ابتكار هذه الطرائق يعلمون الناس كيف يعجزون عن تحصيل تلك العروض، وكيف يقنعون من الغنيمة بالإياب. ثم تطرق من هذا إلى دعابة مفعمة بالجسد والحقيقة الدنيوية، قال: بين النظام المدرسي الآن فجوة لا يحسن أن تظل بعد اليوم فارغة. ولقد لهوت حيناً بأحلام كنت أرددها وكنت أمني النفس بإنشاء مدرسة تعلن للملأ جهرة أنها لا تنوي أن تشتغل بغير آلات النجاح وتجهيز تلاميذها له، ولا تأبه للخيالات المجردة أو تعيرها جانباً من همها. وكنت أعلم أن أناساً من عصريينا صعدوا سلم النجاح واقتعدوا كاهله، وما حضروا في مدرسة النجاح درساً ولا فتحوا بين يدي أساتذتها كتاباً، ولكن هذا لا يقدح في سداد الفكرة فقدما نشأ في أزمان الهمجية، وفي أصقاع لا أثر لمعاهد العلم فيها، رجال بذوا قرناءهم بالحذق والمعرفة، معرفة حصلوها بفطنتهم وجمعوها بطول الجد والمراقبة، ولكنها طريقة في التعليم ما أشقها على الرجل المستقل بأبحاثه ودروسه. قال ولو التفت العصامي الذي اخترق في الزحام سمته إلى النجاح بسائق لدنى من نفسه لآسفه أن ينظر إلى ذلك السمت فيرى كم زاوية فيه سلكها ثم تنكبها، وكم عقبة تسنمها ثم انحدر عنها، وفيفاء مرحلة جاس خلالها وكانت له ندحة عنها لو وفق إلى دليل خبير، أو وقف على مداخل تلك الأنحاء ومخارجها.

قال ولكني أحجب النساء عن باب مدرستي لأنهن غوان عن نصائحها إذ ليس نجاح المرأة إلا أن تكون حظية في عين الرجل والنساء مدلولات بالفطرة على ما يحبب فيهن الرجال. وما ظلمهن إلا من يعلمهن الرسم والتاريخ وذبح اللغات الغريبة باللحن في نطفها وما شاكل ذلك مما يرعب الرجال منهن. قال: وأن المشارقة بما هدتهم إليه البديهة الموروثة، والحكمة الأصيلة قد تعودوا النظر إلى المسائل بعين أسد وقريحة أصوب من أهل الغرب، فما رأيناهم يعلمون البنت إلا الغناء والرقص والبراعة في الضرب على أداة من أدوات الطرب، ويعلموهن قص القصص، وخضب الأنامل بالحناء، وكحل الدفون بالأئمد، وما يلحق بهذه الصناعة التي تتصبى إليهن الرجال وترغبهم فيهن بما تزخرف من محاسنهن وتزين لشركائهن في الحياة فيتعلقون بهن. هذا وبناتنا المسكينات يعوقهن التعليم المدرسي عن مجاراة غرائز المرأة وإن كانت مجاراة هذه الغرائز أنفع لهن وأجدى من جميع ما يلقنه أولئك الأساتذة سيان من يلبس النظارات منهم ومن لا يلبسها. وسرعان ما تستدير إحداهن المدرسة بمصاعبها وتكاليفها حتى تنطلق مع أميالها وتربي نفسها التربية التي خلقت لها ثم تتعلم بوحي من غرائزها كيف تنقش وجهها بالطلاء الأحمر وتدممه بدقيق الأرز ولا تبالي أن تلبس أوقح الحلل وأبعدها عن الحشمة وأن تمشي وتقوم وتجلس على هيئة تكشف لك سر ما أسخطك لأول وهلة من تفصيل ملابسها، وإن تقلب مروحتها برشاقة ذات معان وألغاز، وتعرف كيف تسبل أهدابها وتشيع أجفانها بغمزات تستهوي النفوس إليها، وتغري الأهواء بها. وكيف تتخذ لوجهها أملح الحركات وألطف الإشارات، وتتصنع سذاجة الطفولة في نبرات صوتها، وعبث الشبيبة في غراراتها، إلى أن قال: وماذا يعنيها من نقد الناقدين؟؟. فأما أترابها من النساء فهي لا تؤمل عندهن عطفاً ولا مودة، وهبهن قد عطفن عليها وأزلفن إليها بالمودة فأي ربح لها في ذلك؟؟ وأما الرجال فماذا عليها من أن يعرض عنها أحد العلماء أعراض الإنكار والاستياء إذا كان فتيان النوادي وظرفاء الشبان يرصدونها بمجاهرهم ويلحظونها بعين الإعجاب والاستحسان.

وكما استثنى نورد النساء من مدرسته كذلك استثنى منها أشباههن من الرجال أصحاب القامة المديدة، والسبال المفتولة، والطلعة الوسيمة، والهياكل الجسيمة، وهم شبيهون بالنساء في أن نجاحهم عند غير جنسهم. فكما أن المرأة لا تعول على رأي النساء فيها كذلك لا حاجة لخلب النساء إلى التفاهم مع أبناء جنسه أو التعويل على رأيهم فيه. نجاح تلك الوسائل إنما هو عليها. وإلى تمحل أسباب النجاح وابتغاء الوسائ

وكذلك استثنى من مدرسته رجال العبقرية لأنهم شواذ الناس وإنما تشاد المعاهد للأوساط والأنداد. وإن رجلاً - كما يقول - مثل بيتهوفن كان يبلغ ما بلغه في فن الألحان حضر مدرسة الموسيقى أو لم يحضر. فأما الذين حرموا من المزايا ولم يحرموا نفساً تواقة إلى الامتياز على الناس بطنطنة الأبهة وفخامة الألقاب فأولئك الذين أفتح لهم أبواب مدرستي وأوصى رئيسها أن يقول لمن يضع ابنه في كفالته: تعال يا صاح! ألا تفصح لي عن باطن نيتك وما أنت مختارة لولدك؟ - فإن كان قصدك أن يقضي ولدك حياته في عالم وهمي، يلبس فيه أكاليل الفلج ذوو الكفاءة وأولو المقدرة، ويبحث فيه الناس عن الفضيلة العاكفة في خدرها فيجزونها، وعن البلادة والغرور والخسة فلا يجدونها، وينقبون فلا يرون فيه محلاً لغير الخير والجمال، ولا موضعاً لسوى الحق والكمال - أو كنت تختار لولدك أن يتمسك باحترام نفسه ويؤثره على إطراء الناس له. يصغي إلى ما يمليه عليه ضميره ويعرض عما يتمدح به الكافة من السوقة والغوغاء، ويغتبط بقضاء واجبه ومحاسبة ذمته أكثر من اغتباطه برضى الناس عنه، فاعلم أن لا محل له في مدرستي، وأولى لك أن تأخذ بيده إلى المدارس العتيقة فيرتل هناك ما يشاء من قصائد الشعراء الأقدمين والمحدثين، ويتلهى بما يشاء من العلوم والمعارف، ويسلم بما يفرغه في أذنيه معلموه وأساتذته، وأما أن تختار لولدك أن يكون رجلاً من أولئك الرجال الذين يحييهم الناس في الطرقات، الذين يسافرون في المركبات المحجوزة، وينزلون في أفخر النزلات، ويصيبون من العقدة والجاه ما يسول لهم استحقار العظمة المغمورة، والزراية على الفضيلة المجهولة، فهاته إلى فأنا الزعيم له بذلك - فأما أنه يذكر بين سير فلو طرخس فذلك مالا أضمنه لك، ولكني أضمن لك أن يدون اسمه يوماً ما بين أعظم الأسماء في سجل الحكومة.

ثم قال أنه سيرتب مدرسته درجات حسب درجات حسب درجات المدارس المعهودة لأن أكثر الناس لا يتطلعون من التعليم المدرسي إلى الانتظام في سلك الجامعات، أو يطمعون في درجة الأستاذية. وطلاب النجاح منهم من يقنع بما دون الوزارة في السياسة، ودون الملايين في الغنى والثروة، فلا حاجة لهؤلاء بما هو أعلى من المبادئ الأولية في علم النجاح. فلهذا أعددت في المدرسة قسماً عاماً لمن لا يبتغون أكثر من النجاح في الحرف الصغيرة والمكاسب الوضيعة ونصيحتي إلى هؤلاء الصدق والأمانة - قال وقد يظهر أن في هذه النصيحة شيئاً من خبث ماكيافللي ولكن الواقع والمشاهد أن الصدق نافع لطلاب القسم الأول من علم النجاح - لأن الناس كلهم على بصيرة بتمييز الجيد والردئ من صنعتهم - إذا أتقن الإسكاف صنع حذائه وباع البدال السكر نقياً ولم يبعه على الناس رملاً. فكلاهما على ثقة من نفاق بضاعته، والبركة في رزقه، وإن أجهل الناس يشعر بضيق الرداء أو سعته ويتعذر عليه أن يلحظ عيب السرير إذا كان معيباً، فاعلم أنه لا ينفع هؤلاء الصناع إلا تجويد الصنعة، والصدق في المعاملة.

فأما الطامحون إلى عظيم المراتب، المغامرون في جليل المطالب، الراغبون فيما هو أسمى وأسمق من معقول الناس فنصيحته إليهم أن يتجنبوا الحياء ما استطاعوا. فقد يكون الرجل على قدم راسخة في العلم. وعلى قسط وافر من التفوق في الفكر، مليئاً بإنجاز العظائم، مضطلعاً بكبريات العزائم فإذا كان مع هذا حيياً وقوراً فأنذره بسوء العقبى وأيئسه من الإقرار بفضله والاعتراف بحسناته، إلى أن قال: ولا يغرنك قول من قال: لا تتكلم عن نفسك فهذا هذر وهذيان. ولكن ليكن كلامك كله عن نفسك أولاً لأن الكلام عنها يطربك، وثانياً لأنك تصرف المجلس عن التحدث بغيرك - وقد يكون من أندادك - ما دام المجلس يصغي إليك. وثالثاً لأن إثارة من كلامك ستبقى في ذاكرة أشد مبغضيك. وليكن لك من الحزم ما يفهمك بالبداهة أن لا تذكر نفسك إلا بخير. ولا تقف في هذا عند حد بل عظم نفسك وترنم بالثناء عليها وسرد مناقبها ومآثرها واستعمل لذلك جهدك في الفصاحة والخلابة، وأضف إلى نفسك أفخم الصفات وأربع أعمالك إلى السماء السابعة وقل إنها أحسن مستخرجات العصر وأعجب محدثاته. وأكد لسامعيك أن العالم بأسره يعجب بها ولا تنس إذا لزم الأمر أن تنقل بعض أقوال المعجبين بك والمقرظين لك، فإذا لم يكن قد تناهي إليك منها ما تنقله فاختلقها للتو والساعة. وسترى أن نجاح نصيب إذا انتصحت بنصيحتي نعم إن من العقلاء من يسخر منك أو يستوقحك ولكن أين هم العقلاء؟؟ إن هم إلا فئة صغيرة وليست هذه الفئة هي التي تقتسم بين الناس جوائز الحياة. . فإذا دعيت يوماً إلى وليمة قالت ربة الدار هذا رجل صاحب دعاوى عريضة لا يقنع بالقليل من الحفاوة ولا يرضى إلا بأن أجلسه إلى يميني وأخصه بالمحل الأول على المائدة وإلا فقد يسوءه أن يتقدم عليه سواه ويبرح الدار محنقاً وقد يكون بين المدعوين رجل من أولى الكفاءة الصحيحة فلا تزيد ربة الدار على أن تقول له لا أخالك تمانع في إيثاره بذلك المكان؟ إنك ولا شك أرفع من هذه السفاسف ثم ينتهي الأمر بأن تحفظ لنفسك المكان الأول في كل وليمة، ويألف الناس تقديمك والترحيب بك حتى لا يخالج صدورهم تردد في ذلك قال ولا تنبذ الحياء كل النبذ ولكن أدخره لتعود إليه متى وجدت من المادحين ما يغنيك عن مدح نفسك.

وانتقل نوردو من ذلك إلى معاملة الأنداد والقرناء فقال: إياك والإصاخة إلي نصح الناصحين لك بتجميل رأي أمثالك فيك، فإنها خرافة فاشية بين الأغمار وما أمثالك إلا مزاحموك - كلهم من أربة النجاح الذي هو من أربك، فكلما اتسع حيزك ضاق حيزهم، وانتقص قدرك من أقدارهم فلا تنتظر منهم إنصافاً ولا ترج من لدنهم إخلاصاً وإنهم ليجسمون أغلاطك ولا يأتلون سعياً في طمس مزاياك فاقصر همك على فريقين الفريق إلا على الذين بيدهم رفعتك ونباهتك والفريق الأدنى الذين هم تحتك من الدهماء والعامة واحرص على أن تبدوا للأولين صغيراً جداً وللآخرين كبير جداً كأن الفريقين ينظران إليك من طرفي مجهر. وليس هذا بالعلم السهل ولكنك حرى أن تتمكن منه بالمزاولة والتجربة.

قال: فإذا بلغت المدى وخلفت أندادك وراءك وتبوأت المكانة التي يرجى خيرها ويخشى شرها هنالك تشعر بالسرور الذي يداخلك من سرعة انتقال المذمة الشائعة إلى محمدة رائعة، والجفوة إلى المحبة، والأغضاء إلى الإعجاب والثناء ثم قال وإنك أشد ما تكون فقراً أحوج ما تكون إلى تجميل بزتك والظهور بمظهر أصحاب الضياع والكور. وربما أعوزك ذلك إلى المال وقد لا يتيسر لديك الكفاية منه. فماذا أنت صانع؟؟ إذن فافترض يا بني. اقترض ولا يكرثك أمر الوفاء - إنك إن عشت عيشة الأوفياء فسكنت السطوح وأكلت الخبز القفار لا تأمن بعد قليل أن تنبحك الكلاب وتتجه إليك شبه الشحنة ويوصد الكبراء أبوابهم دونك ولا يعبأ بك حتى البدال الذي تشتري منه ميرتك الساعة التي تسدد فيها دينه عليك. أما إذا أفرطت في الاقتراض وأسرفت في الاستعارة فإنك تعيش عيش المترفين ويكلأوك الدائنون كما يكلأ والد ولده. رغبة في بقائك وإشفاقاً على أموالهم المرهونة بحياتك، ثم يتمنون لك الغنى ويسعون لك في اليسار.

وكان ختام المقالة هذه النصيحة الجامعة: لا تحتفل غاية الاحتفال بعمل ولا تبهظ نفسك في تجويده معتمداً على أن عملك يعلن عن نفسه فإن صوت الأعمال خافت يغطي عليه صلق الأوساط الحاسدين. ولغة الأعمال غريبة لا يسمعها الزعانف ولا يفقهون معانيها، وقل أن يعرفك أو يقدر عملك إلا النخبة المعدودون، والخاصة المنصفون. على أنهم مع عرفانهم قدرك وتقديرهم عملك لا يخفون إلى مسعدتك من قبل أنفسهم ما لم تعترض أعينهم غصباً. فما بالك يا بني تبدد عمرك في الأمانة والاجتهاد إنما عليك أن تدرس أطوار الجمهور وتتعرف مواطن غفلته فتستخدمها فيما يفيدك واعلم أن الناس لا طاقة لهم بالتمييز والحكم فاحكم لهم أنت، وليس لهم فكر ممحص أو نظر بعيد فإياك وما يكدر أذهانهم، ويعضل على أدمغتهم، وأن الناس بلداء الإحساس، ثقال السمع فليكن ظهورك بينهم بجلبة يسمعها الأصم ويبصرها الأعمى، وإن الناس لا يفهمون التورية والمزاح، ولا يتأولون الحروف والألفاظ فكن لهم واضحاً في مخاطبتك، سهلاً في عبارتك، وعدد لهم بلهجة ظاهرة يفهمونها ولا يرتابون فيها، كل ما هو بشين في أعدائك وكل ما هو حسن فيك، وأن الناس ضعاف الذاكرة فاهتبل هذه الغرة فيهم ولا تحجم عن طريق تؤديك إلى غرضك فإنك متى أدركته لم يذكر أحد كيف وصلت إليه فبهذه المبادئ الأساسية تصبح غنياً وعظيماً وتستتب لك الأمور في هذه الدنيا. بتلخيص وتصرف.

عباس محمود العقاد