الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 20/ابن الرومي

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 20/ابن الرومي

بتاريخ: 31 - 8 - 1914


(تابع الكلام على طيرته وتعليلها)

بقلم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

(وبعد) فإن ما أوردناه من أخبار ابن الرومي على قلتها، وما سقناه من شعره على نزارته، خليق أن يرى القارئ أنه هنا بإزاء رجل غريب ليس كالناس، وإلا فلو أن ابن الرومي كان غير شاذ، وكانت حاله مألوفة، وأمره غير خارج عما عهد أهل عصره، لما أنكروا من أموره شيئاً، ولما وجدوا من أحواله داعياً إلى العجب، ولا باعثاً على التضاحك واللعب، وإذا كان هذا هكذا فنحن خلقاء أن نتلمس أسباب هذا الشذوذ لعلنا أن نهتدي إلى بعض السر إذا لم نوفق إليه كله، نقول بعض السر لأن النفس الإنسانية أعمق من أن يسبر غورها نظر الناظر، وأغمض من أن يحسر عنها ظلال الإبهام فكر مفكر، تلك دعوى يقصر عنها باعنا ولا يسعها طوقنا، لأن للحقائق المادية حداً تقف عنده، وغاية تنتهي إليها، وإنما يقول أحدنا بالأغلب في الظن إذا قال وبالأرجح في الرأي إذا نظر، فإذا أصاب فموفق مجدود وإن أخطأ فمشكور ومحمود، وليس يعيب أحداً أنه سعى فخاب وإنما يعيبه أنه قصر وفرط، لأن دواعي الخطأ أكثر من دواعي الإصابة إذ كانت الوسائل قليلة محدودة والغايات لا أخر لها ولا نهاية.

على أنه مهما يكن من الأمر فإن من الحقائق التي صححها القياس وأيدتها كل الدلائل في هذا العصر، أن العبقرية والجنون صنوان، وأنهما جميعاً مظهران لشر واحد هو اختلال التوازن في الجهاز العصبي وقديماً أدرك الناس ذلك فقال العرب ذكاء المرء محسوب عليه وفطن أرسطا طاليس إلى ما ينتاب العظماء من المرض ويظهر عليهم من آيات اضطراب الذهن واعتلاله، وفرق أفلاطون بين نوعين من الجنون - الجنون العقيم المعتاد والجنون الذي ينتج الشعراء ويخرج الأنبياء والعظماء وهذا ليس في رأيه داء أو شراً بل هبة من الآلهة. وأدرك سنيكا ودريدن ما بين الذكاء والجنون من الصلات، وسمى لامارتين النبوغ الجنون المفرط أخو الذكاء المفرط لأن حالات العقل متشابهة في العبقري والمجنون وذلك إن ذهن العبقري يفيض بالخواطر ويجيش بمختلف الذكر ويرى من الصلات بين الحقائق والأصوات والألوان ما يعجز الرجل العادي عنه، والمجنون في كل ذلك قرينه وضريعه، كلاهما يرجع السبب في أساليب تفكيره وعمله إلى فرط نشاط أو شدة اهتياج أو فتور أو نحو ذلك في بعض نواحي الذهن، وليس الفرق في درجة حدة الإحساس، وقد يكون السبب في الحالين وصول مقدار جم من الدم الفاسد إلى موضع في الذهن، وقد تكون خلايا هذا الموضع العصبية ووشائجه بطبعها مفرطة الحس، وكثيراً ما تصير العبقرية جنوناً أو ينقلب الجنون عبقرية وليس بنا إلى شرح ذلك للقارئ حاجة لئلا نخرج عما قصدنا إليه وإنما نقول إن الذي غلط النسا فيما مضى من الزمن وورطهم فيما تورطوا فيه من الجهالات وأداهم إلى التعلق بالمحالات هو حسبانهم أن العقل البشري شيء غير محسوس وأنه جوهر روحاني متصل بالجسم ولكنه غير خاضع لقوانين المادة، وقد أبان العلم الحديث خطأ هذا الظن وفساد ذلك الزعم فليرجع القارئ إلى مصنفات العلماء في هذا المعنى إذا أراد التحقيق.

وبعد فإنه لم ينته إلينا شيء عن أبوي ابن الرومي وذلك ما نأسف له لأن للوراثة أثراً كبيراً وفعلاً لا يستهان به وما يدرينا لعل بعض الخفاء كان يبرح لو عرفنا عنهما شيئاً ولكن أحرى بمن قصر في حق ابن الرومي أن يقصر في حق أبويه! ومن ذا الذي يتوقع من مؤرخي العرب أن يعنوا بغامضين خاملين وقد ناموا عن نبيه مذكور! غير أن مما يعزينا أن شعر ابن الرومي كاف في الدلالة على مرضه وإثبات اعتلاله.

فأول ما يلفت النظر من ذلك رثاؤه لأبنائه الذي رزئهم واحداً بعد واحد وكان له ثلاثة كما هو ظاهر من قصيدته التي يقول فيها:

بكاؤ كما يشفى وإن كان لا يجدي ... فجودا فقد أودي نظير كما عندي

ألا قاتل الله المنايا ورميها ... من القوم حبات القلوب على عم

توخى حمام الموت أوسط صببتي ... فلله كيف اختار واسطة العقد

على حين شمت الخير من لمحاته ... وأنست من أفعاله آية الرشد

طواه الردى عني فأضحى مزاره ... بعيداً على قرب قريباً على بعد

لقد قل بين المهد واللحد لبثه ... فلم ينس عهد المهد إذ ضم في اللحد

ألح عليه السقم حتى أحاله ... إلى صفرة الجادي عن حمرة الورد

وظل على الأيدي تساقط نفسه ... ويذوي كما يذوي القضيب من الرند عجبت لقلبي كيف لم ينفطر له ... ولو أنه أقسى من الحجر الصلد

وما سرني أن بعته بثوابه ... ولو أنه التخليد في جنة الخلد

وإني وإن متعت بابني بعده ... لذاكرة ما حنت النيب في نجد

وأولادنا مثل الجوارح أيها ... فقدناه كان الفاجع البين الفقد

لكل مكان لابد اختلاله ... مكان أخيه من جزوع ولا جلد

هل العين بعد السمع تكفي مكانه ... أم السمع بعد العين يهدي كما تهدي

لعمري لقد حالت بي الحال بعده ... فيا ليت شعري كيف حالت به بعدي

ثكلت سروري كله إذ ثكلته ... وأصبحت في لذات عيشي أخازهد

أريحانة العينين والأنف والحشى ... ألا ليت شعري هل تغيرت عن عهدي

كأني ما استمتعت منك بضمة ... ولا شمة في ملعب لك أو مهد

محمد ماشئ توهم سلوة ... لقلبي إلا زاد قلبي من الوجد

أرى أخويك الباقيين كليهما ... يكونان للأحزان أوري من الزند

إذا لعبا في ملعب لك لذعا ... فؤادي بمثل النار عن غير ما قصد

فما فيهما لي سلوة بل حرارة ... يهيجانها دوني وأشقي بها وحدي

وأنت وإن أفردت في دار وحشة ... فإني بجار الأنس في وحشة الفرد

عليك سلام الله مني تحية ... ومن كل غيث صادق البرق والرعد

وهذه القصيدة صريحة في أن أبناءه كانوا ثلاثة وأن محمداً ابنه هذا كان أوسطهم وأسبقهم إلى القبر في حداثة السن وطراءة العمر ولسنا ندري أي داء أصابه فمضى سابقاً أجله إذ ليس في القصيدة ما يشير إلى شيء من ذلك وإن كان فيها وصف ذبوله ولكنه وصف شعري لا يصح التعويل عليه في تعيين المرض.

وفي رثاء أحد الباقيين يقول:

حماه الكرى هم سرى فتأوبا ... فبات يراعى النجم حتى تصوبا

أعيني جوداً لي فقد جدت للثرى ... بأكثر مما تمنعاني وأطيبا

فإن تمنعاني الدمع أرجع إلى أسى ... إذا فترت عنه الدموع تلبها

وفي ثالث بنيه هبة الله يقول: أبني إنك والعزاء معاً ... بالأمس لف عليكما كفن

تا الله لا تنفك لي شجناً ... يمضي الزمان وأنت لي شجن

ما أصبحت دنياي لي وطناً ... بل حيث دارك عندي الوطن

ما في النهار وقد فقدتك من ... أنس ولا في الليل لي سكن

ولقد تلي القلب ذكرته ... أنيى بأن ألقاك مرتهن

أولادنا أنتم لنا فتن ... وتفارقون فأنتم محن

وليس يخفي أن فقدان أولاده جميعاً في حدثاتهم لا يدع مساغاً للشك في اعتلاله واضطرابه وإنه لم يكن صحيحاً معافى في بدنه.

ومما هو جدير بالنظر والتأمل في شعر ابن الرومي لدلالته فحش أهاجيه وإكثاره فيها من ذكر أعضاء التناسل ذكراً لا نظنه ضرباً من التكلف لمجرد الذم والقدم ولا نحسبه شيئاً لا يستند إلى أصل. لأنه إذا كان هذا كذلك فكيف نؤول اتهام الناس له بالعنة تارة وبالتخنث أخرى. وكيف نفسر موت أولاده على هذه الصورة؟ أليس البرهان من ذلك كله لائحاً معرضاً لكل من أراد العلم به وطلب الوصول إليه، والحجة فيه وبه ظاهرة لمن أرادها والعلم بها ممكناً لمن التمسه؟ وانظر أي باطل نتكلف إذا نحن زهدنا في هذه الدلائل على وضوحها وجلائها واي جهل يركبنا إذا أثرنا الجهل على العلم وعدم الاستبانة على وجودها وتعجبني كلمة للعقاد في شعور ابن الرومي بالعلاقة بين تبرج الأزهار وتبرج النساء وإحساسه بالصلة بين محاسن الطبيعة ومحاسن المرأة قال وربما كان علة هذا الشعور الغامض اضطراب في جهاز التناسل أهاج جميع أجزائه فهز خيوطها ونبه وشائجها القديمة المختلفة ومنها الإحساس بذلك التبرج كما هو في قلب الطبيعة وهذا صحيح لأنه لابد لذلك من سبب يحور إليه ولو وقف الأمر عند بيت لقلنا معنى عن له ولكنه لا يزال يكرره في حيثما سنحت له الفرصة فكأنه يريد أن يلفتنا إليه: تأمل قوله:

ورياض تخايل الأرض فيها ... خيلاء الفتاة في الأبراد

وقوله في موضع آخر يصف الرياض:

تبرجت بعد حياء وخفر ... تبرج الأنثى تصدت للذكر

وقوله من قصيدة في وصف العنب: لو أنه يبقى على الدهور ... قرط آذان الحسان الحور

وقوله:

لمن تستجد الأرض بعدك زينة ... فتصبح في أثوابها تتبرج

وقوله:

(وظلت عيون النور تخضل بالندى ... كما أغرورقت عين الشجي لتدمعا)

(براعينها صوراً إليها روانياً ... ويلحظن ألحاظاً من الشجو خشعا)

وبين أغضاء الفراق عليهما=كأنهما خلا صفاء تودعا

هذا وليس أقطع في الدلالة على ضيق خلق ابن الرومي ونزق طبعه وقصر أناته من أهاجيه هذه والظاهر منها أنه كان يندفع في الشتم والذم وبسط اللسان في الناس لأهون سبب ومن أجل أشياء لا تهيج الرجل السليم الرشيد كأن يعيبه واحد بمشيته أو ينعي عليه صلعه فيفور فائره ويمتلئ غيظاً على عائبه ويتناوله بكل قبيح ويلصق به كل سوءة شنعاء ومعرة دهماء. وفي ضيق الخلق وتوعره برهان على الاضطراب واختلال توازن الأعصاب.

ولا ريب أن الناس كانوا يتحككون به ويهيجونه لما يعلمون من ضيق حظيرته وسرعة غضبه لأن الناس في العادة لا يستثيرون بالدعابة إلا الطياش لعلمهم أن الحليم الراسخ الوطأة لا تقلقله المجانة والمفاكهة أولست تري الأطفال والصبيان في الطرقات هل يستفزون إلا المرهق ومن يعلمون عنه الخفة والحدة والحدة وسرعة البادرة ولقد كان أهل زمانه يعيبون شعره على إقرارهم بمزيته وحسنه وإنشادهم له في المجالس وإملائه على طلاب الأدب في حلقات الدروس فهل تحسب أنهم كانوا يفعلون ذلك إلا ليستثيروه ويضحكوا منه؟ ولقد روينا لك فيما أوردناه من اخبار ابن الرومي أن بعضهم قال: كان ابن الرومي إذا فاجأه الناظر رأي منه منظراً يدل على تغير حال فهل بعد هذا شك في مرض ابن الرومي واختلال أعصابه؟.

بقي علينا أن ننظر في طيرة الرجل وأسبابه. (البقية في العدد الآتي)