مجلة البيان للبرقوقي/العدد 1/حضارة العرب في الأندلس
→ الفكاهات والملح | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 1 حضارة العرب في الأندلس [[مؤلف:|]] |
الروايات والقصص ← |
بتاريخ: 24 - 8 - 1911 |
الرسالة الأولى من الإسكندرية إلى المرية
كان انفصالي عن الإسكندرية للوفود إلى الأندلس بسحرة يوم من أيام سنة خمس وأربعين وثلاثمائة من هجرة النبي ﷺ في سفينة عدوليّه لأمير المؤمنين بالأندلس عبد الرحمن الناصر لم ترقط عيني مثلها وكان عبد الرحمن فيما بلغني مولعاً بإنشاء السفن والأساطيل فأنشأ هذا المركب الكبير الذي لم يُعمل مثله وسير فيه أمتعة وبضائع إلى بلاد المشرق لتباع هناك ويعتاض عنها فمر بكثير من ثغور البحر الشامي وكان آخر ما مر به الإسكندرية
ولما نزلت هذا المركب رأيت فيه كثيراً من أهل بغداد والموصل والشام ومصر يريدون الوفود إلى الاندلس - وممن عرفت منهم عالم لغوي أديب من أهل بغداد يعرف بأبي علي إسماعيل بن القاسم بن عيذون القالي وفقيه مصرأحمد ابن أبي عبد الرحمن القرشي الزهري من ولد عبد الرحمن بن عوف وفقيه مقرئ يسمى أبا الحسن علي بن محمد بن إسماعيل بن بشر التميمي الأنطاكي وتاجر رحلة من أهل الموصل يعرف بابن حوقل وقينة اسمها فضل المدينة - وأصل هذه القينة كما أخبرتني لأحدى بنات هرون الرشيد ونشأت وتعلمت ببغداد ودرجت من هناك إلى المدينة المشرفة فازادت ثم طبقتها في الغناء ثم اشتريت للأمير عبد الرحمن مع صاحبة لها تسمى علم المدينة وصواحب أخرى: وقد عقدت الغربة بيني وبين فضل صحبة - لأن الغريب كما قيل للغريب نسيب - فرأيت منها أديبة ذاكرة حسنة الخط راوية للشعر حلوة الشمائل معسولة الكلام ذلك إلى حذقها في الغناء ولباقتها به مع الظرف الناصع والجمال الرائع فكانت ضنع الله لها سلوتنا في سفرنا وكانت تجلو هموم السفر ومرض البحر بما تنفثه بيننا من حين إلى آخر من سحر الحديث الذي يأخذ بالألباب ويرتفع له حجاب القلوب فهو كما قال أبو حية النميري فيمن يقول:
حديث إذا تخش عيناً كأنه ... إذا ساقطته الشهد أو هو أطيب
لو أنك تستشفى به بعد سكرة ... من الموت كادت سكرة الموت تذهب
ولما أقلعت بنا السفينة من مرسى الإسكندرية تحركت الريح الشرقية نسيماً فاتراً عليلاً ثم غثى البحر ضباب رقيق سكنت له أمواجه فعاد كأنه صرح ممرد من قوارير فبق على صفحة ماء تخاله العين سبيكة لجين كأنا نجول بين سماأين فكان لذلك منظر قيد النواظر وشرك العقول تجلى لنا فيه جمال الكون وصانعه فكنت ترى السماء صافية الأديم زاهرة النجوم وكوكب الزهرة مقبلاً من ناحية المشرق يحفه الجمال والجلال فلولا التقى لقلت جلت قدرته وترى البحر كأنه مرآة مصقولة تنظر السماء فيها وجهها فكأنما الماء سماء وكأن السماء ماء وترى النوتية مجدين في التجذيف على حال لو هممت بتشبيهها بشيء حسن لاضطرك حسنها إلى رده إليها
مجاذف كالحيّات مدت رؤسها ... على وجل في الماء كي يروى الظما
كما أسرعت عدا أنامل حاسب ... بقبض وبسط يسبق العين والفما
وفيما بين ذلك تسمع فضل المدينة تغني مواليا بغدادية مؤثرة وبين يديها مزهر تقلدته أطرافها.
تميت به البابنا وقلوبنا ... مراراً وتحييهن بعد همود
إذا نطقت صحنا وصاح لنا الصدى ... صياح جنود وجهت لجنود
ظللنا بذاك الديدن اليوم كله ... كأنا من الفردوس تحت خلود
ومضى على ذلك ثلاثة أيام بلياليها كنا من أوقاتها في بلهنية من العيش وغفلة عن أعين الدهر ووصال أخضر ونعمى لا يشوبها بؤس ولا كدر فلما كان اليوم الرابع ولا كان هبت علينا ريح عاصف رمتنا بها الأقدار من حيث لا ندري فأرغى البحر وأزبد وأبرق وأرعد وتلاطمت الأمواج واهتاجت أيما اهتياج وصار بها لعمري مثل الجنون وتراءت في صورها المنون.
وقد فغر الحمام هناك فاه ... وأتلع جيده الأجل المتاح
فانقلب يسرنا عسراً وأدال الله من الحلو مراً وعظم الخطب وعم الكرب ونحن في ذلك قعود كدود على عود وقد نبت بنا من القلق أمكنتنا وخرست من الفرق ألسنتنا وتوهمنا أنه ليس في الوجود أغوار ولا نجود إلا السماء والماء وذلك السفين ومن في قبر جوفه دفين.
البحر صعب المرام جداً ... لا جعلت حاجتي إليه
أليس ماء ونحن طين ... فما عسى صبرنا عليه
ولبثنا على هذه الحال من ظهر اليوم الرابع إلى سحره وبعد ذلك فترت الحال بعض فتور ثم جاءت ريح رخاء زجت السفينة إلى بر جزيرة أقريطش (كريد) أهنأ تزجية وأخذنا نسير في محاذاتها فما كان إلا كلا ولا حتى وصلنا على مدينة الخندق (كندية) إحدى مدنها ومرافئها العظيمة فارسينا بها ريثما نشتري منها ما يعوزنا من الخبز واللحم والماء والفاكهة.
اقريطش
وهذه الجزيرة من جزر المغرب الكبيرة فيها مدن وقرى كثير يقابلها من بر أفريقية لوبيا وجميع سكانها الآن مسلمون وأميرها يسمي عبد العزيز بن شعيب من ولد أبي حفص البلوطي الأندلسي وذلك فيما علمت أن الحكم بن هشام أمير الأندلس كان قد أمعن صدر ولايته في اللذات فاجتمع أهل العلم والورع بقرطبة مثل يحيى بن يحيى الليثي صاحب مالك واحد رواة الموطأ عنه وطالوت الفقيه وغيرهما فنقموا عليه وثاروا به وبايعوا بعض قرابته وكانوا بالربض الغربي من قرطبة - محلة متصلة بقصره - فقاتلهم الحكم واستلحمهم وهدم ديارهم ومساجدهم فلحقوا بفاس من أرض العدوة وبالاسكندرية - وبعد أن أقاموا في الإسكندرية حيناً من الدهر تلاحى رجل منهم مع جزار من سوقها فنادوا بالثار واستلحموا كثيرا من أهل البلد وأخرجوا بقيتهم وامتنعوا بها وولوا عليهم أبا حفص عمر بن شعيب البلوطي ويعرف بأبي الفيض من أهل قرية مطروح من عمل فحص البلوط المجاور لقرطبة فقام برياستهم وكان على مصر يومئذ عبد الله بن طاهر من جهة المأمون فزحف إليهم وحصرهم بالإسكندرية فاستأمنوا له فأمنهم وبعثهم إلى هذه الجزيرة (أقريطش) فعمروها وأضاؤها بنور الإسلام وشيدوا بها المعاقل والحصون والمدن العظيمة مثل الخندق التي اشترينا منها خبزنا ولحمنا وبهرنا ما رأينا فيها من حضارة العرب وعز الإسلام ولم يزل أميرها إلى اليوم وهو سنة خمس وأربعين وثلاثمائة من ولد أبي حفص البلوطي وهو الأمير عبد العزيز بن شعيب أدام الله ملكه وأبعد عنه كيد الأعداء.
ولما أقلعنا عن بر جزيرة أقريطش أسعدت الريح وأصحت السماء ونام عنا البحر وأخذت السفينة تشق اليم شق الجلم وأخذنا في سمت جزيرة صقلية وما زلنا حتى قطعنا سبعمائة ميل في مدى أربعة أيام بلياليها وقار بنا صقلية وسرنا منها أدنى ظلم (قريبين جدا) فأخذت أعيننا أشباحاً كالأعلام تسير على وجه الماء تنضم إلى بعضها تارة وتنصاع أخري فتساءلنا فقيل لنا أن هذا أسطول المعز لدين الله أبي تميم معد العبيدي يغدو ويروح بين صقلية وبين قلورية (كلابره) من بر الأرض الكبيرة (أوروبا) فانتشى من هذا المنظر تاجر مغربي أديب من أهل المهدية نزل معنا من أقريطش بنية الوفود إلى صقلية وأخذت منه هزة الطرب حين رأى أسطول بلده ورفع عقيرته قائلاً لله أبو القاسم محمد الأندلسي شاعر المعز لكأنه يرى ما يرى الآن حين يقول في هذا الأسطول:
أما والجوار المنشآت التي سرت ... لقد ظاهرتها عدة وعديد
قبابٌ كما ترحني القباب على المها ... ولكن من ضمت عليه أسود
ولله مما لا يرون كتائب ... مسومة يجدى بها وجنود
أطال لها أن الملائك خلفها ... كما وقفت خلف الصفوف ردود
وإن الرياح الذاريات كتائب ... وإن النجوم الطالعات سعود
عليها غمامٌ مكفهر صبيره ... له بارقات جمة ورعود
مواخر في طامي العباب كأنه ... لعزمك بأس أو لكفك جود
أناخت به آطامها وسما بها ... بناء على غير العراء مشيد
ولي بأعلى كبكب وهو شاهق ... وليس من الصفاح وهو صلود
من الراسيات الشم لولا انتقالها ... فمنها متان شمخ وريود
من القادحات النار تضرم بالصلى ... فليس لها يوم اللقاء خمود
إذا زفرت غيظاً ترامت بمارج ... كما شب من نار الجحيم وقود
تعانق موج البحر حتى كأنه ... سليط له فيه الذبال عتيد
ترى الماء منه وهو قان خضابه ... كما باشرت ردع الخلوق جلود
فأنفاسهن الحاميات صواعق ... وأفواههن الزافرات حديد
يشب لآل الجاثليق سعيرها ... وما هي عن آل الطرير بعيد
لها شعل فوق الغمام كأنها ... دماء تلاقتها ملاحف سود
وعين المذاكي نحرها غير أنها ... مسومة تحت الفوارس قود
فليس لها إلا الرياح أعنة ... وليس لها الحبال كديد
ترى كل قوداء التليل كما انثنت ... سوالف غيد أعرضت وخدود رحيبة قد الباع وهي نتيجة ... بغير شوى عذراء وهي ولود
تكبر عن نقع يثار كأنها ... موالٍ وحر الصافنات عبيد
لها من شفوف العبقري ملابس ... مفوفة فيها النضار جسيد
كما اشتملت فوق الأرائك خرد ... أو التفعت فوق المنابر صيد
لبوس تكف الموج وهو غطامط ... وتدرأ بأس أليم وهو شديد
فمنها دروع فوقها وجواشن ... ومنها جفانين لها وسرود
وأنا لفي ذلك إذ رأينا قلورية من بر الأرض الكبيرة عن يميننا وبر
جزيرة صقلية عن يسارنا ثم دخلنا المجاز الذي بينهما فرأينا بحراً صعباً ينصب انصباب السيل العرم ويغلي غليان المرجل لشدة انحصاره وانضغاطه فاستمر مركبنا في سيره والريح الجنوبية تسوقه سوقاً عنيفاً فلما شارفنا مدينة مسينى وقد كان الليل مظلماً ربوض النواحي ضربت في وجوهنا ريح انكصتنا على الأعقاب وحالت بين الأبصار والارتقاب وتتابعت علينا عوارض ديم صرنا منها ومن الليل والبحر في ثلاث ظلم وعباب الموج تتوالى صدماته وتظفر الألباب رجفاته فقطعنا هذه الليلة البهماء في مقاساة أهوال تجعل الولدان شيباً ثم تداركنا صنع الله مع السحر ففترت الريح ولأن متن البحر وجاءت ريح رخاء زجت المركب تزجية حسنة إلى مدينة مسينى فأرسينا فيها على مرسى عجيب يأخذ بالألباب وذلك إن أكبر ما يكون من السفن العظام يرسي من الشاطئ بحيث يتناول ما فيها من البر بالأيدي.
وهنا إذ وصلنا إلى مسينى إحدى مدائن جزيرة صقلية يجمل بنا أن نذكر لك عن هذه الجزيرة شيأ تكون به على بينه من أمرها ومن حضارة العرب وعز المسلمين فيها.
صقلية
هي جزيرة في البحر كبيرة على شكل مثلث متساوي الساقين زاويته الحادة من غربي الجزيرة بينها وبين ريو وبلاد قلورية من بر الأرض الكبيرة مجاز مسينى حيث يتراوح البحر بين ستة أميال وعشرة أميال وبين ذنبها الغربي وبين تونس نيف وستون ميلاً وزاويتها الجنوبية تقابل بر طرابلس من أقريقية وبالقرب من زاويتها الشمالية جزيرة صغيرة فيها بركان النار الذي لا يعلم في العالم أشنع منظراً منه وهذا بركان اسم لجبلين أحدهما هذا والثاني في صقلية نفسها في أرض خفيفة التربة كثيرة الكهوف ولا يزال يصعد من ذلك الجبل لهب النار تارة والدخان أخرى ومن هنا كانت كثيرة الزلازل بحيث يكثر تهدم أبنيتها منها.
وقد كانت هذه الجزيرة قبل الفتح خاملة قليلة العمارة وكانت من عمالات الروم وأمرها راجع إلى صاحب قسطنطينية فلما كانت سنة ثنتي عشرة ومائتين جهز لها زيادة الله بن الأغلب وهو يومئذ الوالي على أفريقية من جهة أمير المؤمنين المأمون بن هرون الرشيد أسطولاً عظيماً في تسعمائة فارس وعشرة آلاف راجل واستعمل عليهم أسد بن الفرات قاضي القيروان ومن أصحاب مالك رضي الله عنه وهو مصنف الأسدية في الفقه على مذهب مالك فذهب إلى الجزيرة وسار إليها من سوسة وافتتحها بالتنقل بعد أن شبت بينه وبين أهلها من الروم معارك كثير لا يتسع لها صدر هذه الرسالة وبقيت الجزيرة بيد بني الأغلب يتناوبها عمالهم إلى أن أدال الله منهم للعبيديين ودانت لعبيد الله المهدي أفريقية وما إليها فأخذوا يبعثون عمالهم عليها إلى أن كانت فتنة أبي يزيد وشغل أبي القاسم القائم والمنصور العبيدي من بعده بأمره.