الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 1/الروايات والقصص

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 1/الروايات والقصص

Miss Lowe بتاريخ: 24 - 8 - 1911


العاشق المخدوع

للقصصي الأشهر وليم مكبيس ثكرى

كان في مدينة بون إحدى مدن ألمانيا يهودي من أولئك الذين يأكلون الربا اسمه موسي لو وكانت له فتاة تدعى الآنسة مينالو ولقد كنت أتيت هذه المدينة لقضاء حاجة لي عام أول أعني بعد مضي خمسة عشر عاماً من حدوث الحوادث التي أنا ذاكرها في هذه القصة فقيل لي أن موسي قد سجن لدعوى إفلاس زورها فعلمت أنه أهل لما نزل به من الجزاء والعقوبة.

لقد كانت الآنسة مينا وايم الله أجمل من وقع عليه نظري وأما وربكن يافتيات النصرانية لا تسخرن من كلمتي هذه ولا تهزأن فما قلت إلا الحق رأيتها أول ما رأيتها جالسة إلى نافذة عطف عليها الكرم حواشي أوراقه العسجدية تلوح من خلالها العناقيد محمرة كأنها كسيت خدود الملاح صبغها الحياء وشوابك العيدان قد لفها التعانق أشكالاً فكأنها صغار الحيّات ملتفة أو كأنها نقوش صناع أبدع من تأليفها ما أبدع وعلى وجهها الحلو الجميل وعلى ثوبها الأبيض الشفاف ألقى الورق دنانير ظله وكانت حاسرة الذراعين على خصرها النحيل نطاق من الحرير الأزرق وكانت تغزل شأن سائر النسوة الألمانيات وفي زاوية الغرفة كانت تجلس أختها إما - امرأة شديدة البأس - لها صوت أشد وأجهر وكانت جالسة إلى البيانو تغني غناء قبيحاً وكنت وافداً إلى بيت أبيها لتحويل صك وقد وقفت أنظر أين باب الخزينة.

قالت الآنسة مينالو وأمالت رأسها في دلال وعلا وجهها احمرار ورفعت إلي نجلاوين تريانك زرقة السماء ثم خفضتهما كأنما أتعبهما رؤية أجنبي مثلي وقالت لنكس سيدي أعني شمالاً.

فوقع لفظها من كبدي موقع الزلال على أنه لفظ عادي لا شأن له ولا سر وما هو بذي لفظ حلو ولا لحن لذيذ وكل ما فيه أن الآنسة أخبرتني أن أذهب شملة إذ رأتني حائراً أتردد ولو أن فتاة غيرها قالت لي لنكس ألف مرة لما كانت محركة مني ساكناً ولكن شفتي منا لدن فاهتا بتلك اللفظة افترتا عن ثغر منضد وضاح ونغمة عذبة رخيمة مما فتنني وبهرني.

فقلت في نفسي ايه أيها الفم المليح بل أيها الجرس الحلو. شنف بهذه النغمة الرخيمة مسمعي ما غرد في الأيك عصور! فما أحبها إلى نغمة وما أثلجها لصدري وأنداها على كبدي أقول قلت ذلك في نفسي ولم أقله بلساني لجهلي بالألمانية أولاً ولشدة ارتباكي وهيبتي ثانياً. فلم أزد على أن خجلت واصطكت قدماي ورفعت قلنسوتي وانحنيت بهيئة تدل على الحمق المفرط ثم ملت إلى الباب فاستلمت الحلقة أقلبها.

ثم دخلت فوجدت المسيو موسى والمسيو سليمان في غرفة النقود وسليمان هو ابن موسي وشريكه فقضيت معهما حاجتي فأما كونهما خدعاني وغشاني فهذا من البديهيات. فإنه لا غنى لليهودي المرابي عن الغش أبداً - ولو لم يكن إلا من أجل درهم - أأقول من أجل درهم كلا من أجل دانق - من أجل سحتوت إنه ليغشك أولا في تحويل ورقتك. ثم في أبدال فضتك ذهباً. وأنه وإن أولم لك بعد ذاك وأدبك إلى خوان حافل فإنما يصنع لك ذلك كي يسرق ساعتك أو كيسك وما كان ليرغب عن هذا ولو كنت أباه أو أخاه.

إن موسي وابنه الآن في السجن كما خبروني حينما كنت في مدينة بون عام أول. ولا أكذب الله شد ما خفق قلبي إذ مررت بالبيت الذي فيه رمتني لحاظ منا.

وليقل القائلون ما شاؤا فمذهبي أن المرأة التي كنت تعشقها حيناً ما فمهما صحوت عن حبها وأفقت من غرامها فلن تزال تنزل من حشاك منزلة لا تكون لغيرها. مثل هذه المرأة إذا دخلت علي في مجلس صبغت وجنتي وهاجت صبوتي. فرنوت إليها مرتاحاً. وانجذبت نحوها ملتاحاً هذه المرأة هي التي كنت تهوى وتعشق. وتخب إليها روحك وتعنق. هي هى. وليست هي. هاتان عيناها اللتان كنت تهوى. ولكن أين ذلك النظر الفاتر واللحظ الساحر هذا هو الصوت الذي كنت تحب. ولكن أين المنطق الشهي. وحديث هو الزهر الجني. مثل هذا كمثل غرفة كان بها ليلة عرس وحفلة أنس أشرق بهاؤها. وسطع ضياؤها. وضحكت زهورها ورقت ثغورها. ثم أصبحت فإذا هي قد ذبلت نضرتها. وصوحت زهرتها ونضب ماؤها. وغاض رواؤها. ومثله كمثل دفتر أموال كان فيه من الورق مقدار خمسة آلاف فذهبت تلك الأوراق. والدفتر باق. تراه فتذكر متاعاً مضي. وخيراً تقضي. وكنزاً فنى. وذخراً تولى ثم تأخذك للدفتر المسلوب رقة ورأفة وتعطفك عليه إيما عاطفة. ولا يسعك أن تنظر إليه نظراتك إلى غيره من الدفاتر العادية وكيف وما ينفك تذكر أنه كان زمناً ما قرة عين وعلق مضنة.

وهذا شأني في الحب. إن لي بأوربا في كل واد أثر محبة. وذكرى صبابة. أعني امرأة كان لي معها وقتاً ما شأن من الشؤون. عفت عليه السنون. أو كما شبهت لي دفاتر مالية فارغة بأنحاء أوربا مبثوثة وبأرجائها منثورة وما إن أزال اذهب إليها. وأعوج عليها.

مافي وقوفك ساعة من باس ... تقضي حقوق الأربع الأدراس

فتتمثل لعيني تلك العصور الخالية. والحقب الماضية. وتمثل لعيني عوين الأحباب. قد فترت ألحاظها رقة الشكوى ولين العتاب. ويصافح سمعي صدى تلكم الأصوات العذبة. وانشق شذا تلكم العهود الطيبة. وقال لي المسيو موسي وهو يعد لي الدنانير سيدي إذا كنت ممضياً في بلدنا هذا برهة من الدهر فلا تحرمني وبناتي طلعتك البهية وصحبتك الهنية.

قلت المدينة آية الحسن ومتعة الناظر وإذا كانت الجامعة هنا تشتغل بتأليف تاريخ الدولة الرومانية الشرقية وكنت ممن أولعوا بهذا التاريخ فما أراني إلا مقيماً هنا مدة طويلة

ذلك ما قلته للرجل والله يعلم أنها علة كاذبة ودعوى باطلة. وإنما الحامل لي على الإقامة بالبلد هو جمال الآنسة منا وسحر مقلتيها ولولاهما لبت في بلدة كوبلنز تلك الليلة. وفيها أصلح الله القارئ فندق البريد وهو من أحسن فنادق العالم.

وكان يصحبني إذ ذاك صديق لي من الجند ممراح لعوب عليم بالألمانية وكنا تشاجرنا مرتين في الطريق مرة بمدينة (روتردام) وأخرى ببلدة (كولونيا) فلما حدثت بيننا المشاجرة الثالثة هنا علمت أنها فرصة فعاجلتها بالانتهاز وكلما دنا صابي من الصلح خطوة أبعدت عنه فرسخاً حتى انفرجت مسافة الخلاف وصاح قائلاً: لأذهبن إلى بلدة (مايانس) فأجبته ولأمكثن هنا. ثم عمدت إلى أقرب فندق من بيت اليهودي وصورة ابنته نصب عيني. وبين جفني فاخترت لي مثوى به وقال لي صاحبي الجندي اسكن أين شئت فما أنا بمغادر مثواي بين الجنود وقد صدقت قوله عند ما رأيته في نفر من ضباط الألمان عقد معهم صحبة جديدة يدخن على باب الثكنة.

أما أنا فما كنت قط ممن خصوا بسهولة الجانب وأنس الناحية فابذل الصداقة لكن من لقيت وامنح المودة كل من صادفت وأدع نفسي حمى مباحاً لكل مرتاد. وفؤادي منزلاً حلا لكل من أراد. ولكني كأهل بلادي وعر المرام مخوف الناحية. شامس العطف. شامخ الأنف.

سامي الطرف. طامح العنان تياه متكبر مختال في برديه. نظار في عطفيه. فكنت إذا دخلت مجلساً رميت ببصري أقصى القوم نظرة الساخط المختقر. والناقم المستنكر. ثم عزفت عنهم بناظري ترفعاً وكبرياء. وزهوا وخيلاء. وكأن لسان حالي يقول ما هؤلاء الغوغاء السفلة. وأي شأن لهم هنا. بل بأي حق وأية علة يوجدون في هذا العالم! تلك شيمتي. وهي أظهر ما تكون بين الأجانب. والحق يقال إني لا يسعني إلا احتقار الأجانب حقاً كان أم باطلاً. وبسبب هذه الخصلة المحبوبة والخلة المألوفة زهدت في طعام الفندق الذي يتنازعه عدة ويتناوله رهط واعتبرته حطة وسفالة أشبه بالسوقة وأبعد من الأمراء. وجعلت من دأبي وديني أن لا أخاطب سائلا قط بل أحدد في وجه سائلي نظر إصغار واحتقار وكذلك لم يبق إنسان إلا وتركت لي في فؤاده هيبة ومخافة. استبدلت المطعم بمنزلي مما حمل صاحبي الجندي ويلدار على مخاطبته إياي ذات يوم بقوله قبحاً لك وتعسا إذا كان قصدك الصمت فلم لا تستمر تأكل معنا فإنه لطعمتك وأسوغ لجرعتك فأما من يث خوفك كلامنا معك فلعن الله من يخاطبك ولتوقن أنه لن يفاتحك والله أحد مناولو أدى ذلك إلى انتحارك.

قلت ألا دعني آكل ما اشا كما أشاء.

قال فتفعل ما بدا لك وعليك العفاء وهكذا استبددت بمذهبي وانفردت بنفسي.

ثم أردت أن أدرس الألمانية واسترشدت المسيو لو فدلني على أستاذ من معارفه وتبرع لي من ذلك بكاتبه يجالسني كل يوم ساعتين ليصلح من لساني ويقوم لهجتي فأدرك بفضل ذلك صحبة المخارج وحسن المنطق.

وكان ذلك الكاتب - واسمه هرش - فتى بشع الخلقة أبيض الشعر أحمر العينين له شاربان بلون اللهب وحلقان في أذنيه بلون شاربيه. وكان جاحظ العينين بارز الشفتين غليظهما شديد حمرتهما. وما هي إلا برهة قصيرة حتى كثر ترداد الفتى المذكور على غرفتي فلا تكاد تراه إلا خارجاً منها أو داخلاً فيها حاملاً إلى الرسائل من كل صوب وذاهباًَ من عندي بأمثالها إلى كل حدب. وكنت إذا ناديته لم أقل إلا هرش! يا هذا الوغد النكس والكلب الدنس هات حذائي هرش أيها العبد نظف ردائي (أجر أيها الذئب فضع هذا الكتاب في صندوق البريد) إلى ما يماثل ذلك من ألفاظ المدح والتقريظ. وكان الخبيث أطوع إلى من بناني لا يبالي ما أدعوه وبماذا أسبه.

ورغبني فيه أيضاً أنه من لدن حبيبتي (منا). نعم إنه ليس بالحبيب ولكنه من عنده. إنه ليس بالوردة ولكنه يحمل طيبها وشذاها ويهديك أرجها ورياها. وهل ببطحاء ألمانيا وسهلها وقاعها وجبلها وردة أبهى من (منا)؟

أنا لو لم أقصد إلى تهذيب النفوس وأرم إلى تثقيف الطباع ما كنت قائلاً كلمة عن الفتاة (منالو) ولا ذاكر لفظاً عما أتيته من الهفوات في ذلك الصدد وما أحدثته من السقطات. وما كابدته من المنغصات بسبب جهلي وكبريائي. والحق أقول أن للإنكليزي لاسيما في ديار الغربة كبرياء وغطرسة هي أثقل على النفس وأمقت في الحس من جعجعة الفرنسيين وتيههم فالفرنسوي يمشى مرحاً. ويتمايل مرنحاً. ويفاخر في المجالس بحسبه ونسبه. ولا يدع فرصة حتى يصم أذنيك بذكر مآثره وسرد مفاخره. ولكن طنطنة الفرنسوي وجعجعته ليست وأيم الله أشد كراهة وأثقل وقعاً مما يظهر الإنكليزي من عظمة في جمود. وأبهة في جفاء وركود. وغطرسة خرساء. وصمت في كبرياء وغرور في صعر. وغفلة في صور. والإنكليزي يعتقد أن أمر فضله على غيره من الشعوب. وسبقه لسواه من الأمم أمر ظاهر لا يختلف فيه اثنان. فهو لا يحتاج إلى برهان. فيرى من حقه ومن شأنه أن يحتقر الأجنبي أياً كان. وينثر على خلق الله الاحتقار والازدراء أينما كان. مما يجر عليه بغض الناس ومقت العالم ولا غرو فلو أي شعب آخر رمقنا بالعين التي نرمق بها الغير لا بغضناه بغض الغير إيانا.

(وبعد) فلما تركت بلادي إلى القارة الأروبية جعلت أتوهم أني خيرمن مشى على ساق وقدم. وأحسن من طلع عليه شمس ونجم. فإذا دعيت إلى حفلة ادعيت رئاستها أو أتيت حلقة توسطت دائرتها ثم غمرت سائر الأصوات بصوتي وفي المجلس أئمة الفضل وأعلام العلم وجعلت أضحك من أقوالهم وهي عقائل الأقوال. واسخر من حديثهم وإنه السحر الحلال. فلله درى حينذاك من مؤنس مطراب. وفاتن خلاب.

ومن العجب أني وهذه حالتي وتلك أرائي أجلس إلى الفتاة (منا) ساعات متواليات فلا انفك أضجرها بهذياني. وأسئمها بممقوت أقوالي ومرذولها وأسخر بعادات بلادها وأحول أوطانها وما في إلا موضع سخر ومجال هزء أما الفتى (هرش) فكنت أقصده بمعظم تنديدي وأرميه بأكثر سخريتي بحصرة الحسناء (منا) تفكهة لها وترويحاً لنفسها حتى قررت لها أن الفتى لا يصلح إلا لبيع البرتقال والخبز في مركبات السفر.

وكانت الحسناء تقول لي (لله دركم شبان الإنكليز ما أخف أرواحكم وأرق ظرفكم) وكنت أجيبها جواب الأبله المعتوه (إي وربك نحن كما تصفين وأخف أرواحاً من الألمان وأظرف) ثم أقارب بين أجفاني وأصوب نحوها نظرة أحسب أنها ستذيب مهجتها.

أأذكر لك أيها القارئ ماذا كانت عاقبة محاوراتي معها؟ في المحاورة الأولى سألتني الفتاة أما تستطيب ذلك الشاي الذي اسقيك منه وتستلذه؟ ثم ذكرت أنه من واردات الصين وأنه ليس بألمانيا ذرة منه عند ذلك أيقنت أنه لكما تصف ولما كان صباح الغد دخل (هرش) علي باسما يحمل ستة أرطال من الشاي المذكور في صرة وتشرفت بأن دفعت له ثمنها ثلاثة جنيهات إنكليزية على الفور.

فلما زرت القوم بعد ذلك قال لي المسيو موسي لتشربن معي زجاجة من خمرة قبرص قائلاً نها لا توجد إلا عند أخيه المقيم في الاستانة ولم يمض على ذلك أربعة أيام حتى سألني المسيو لو كيف وجدت النبيذ الذي بعثه إلي بناء عن طلبي وهل أريد مقداراً آخر؟ قلت عجباً ماذا تعني وأي نبيذ طلبت منك فأرسلته إليّ ومتى كان ذلك؟ قال أرسلته منذ ثلاثة أيام وهو في خزانتك ثم أقترح أن يبعث إليّ بصنف آخر اسمه (نبيذميدوك) ولم تمض ساعتان بعد ذلك حتى كان في منزلي صندوق من ذاك النبيذ مشفوع بحوالة معنونة باسم جناب الكونت فون فيتسبودل (اسمي) وقد كان في الذي أبدته هذه الأسرة من الولوع بخدمتي ما رد قليلاً من ولوعي بهم وكف بعض الشيء من تهافتي عليهم حتى قالت لي (منا) لما زرتها بعد ذلك وتنهدت آه يا عزيزي هل أسأنا إليك حتى حرمتنا لقاءك.

قلت لها (سآتيك غداً) ثم لحظتني لحظة وأومضت لي إيماضة واغوثاه ويالله - إني أحمق مغرور! وقبلي ما حمق العاشقون واغتروا ومنهم أولو الألباب. وذوو الأحساب. أو لم ينخدع من قبلي قيصر انطانيوس وسامسون وهرقل؟ أقول لما قدمت على دارها من الغد وجدتها بين أوراق الكرم فتبسمت وقامت فمدت إلي يداً بضة وبنانا لدنا. عليها قفاز أصفر هو عندي إلى الآن! وقد كنت ألفت أثناء الطريق عبارة غزل وتشبيب أردت أن أحييها بها وحسبتها آية في الخلابة فلما مثلت أمامها عاقتني الهيبة أن أقول ما كنت هيأت وأصابني العيّ والحصر فما استطعت بعد الجهد إلا قولي لها اليوم حر؟

قالت هنيئاً لك يا مسيو جورج ما بلغت في الألمانية. لقد جريت في مضمارها شأواً وكأن بين فكيك لسان ألماني.

ولكني لأمر ما آثرت أن أسوق الحديث بالافرنسية ودخل علينا أبوها فوجدني أعبث بحاشية قطيفة حمراء وألحاطي عاكفة على وجه ابنته تقطف ورد خديها وهي مطرقة أعارت الأرض مقلتيها السحورين.

في ذلك اليوم لم تبع لي الأسرة من بضائعها شيئاً ثم رآني الغد بينهم والرجل يجتذب أنفاس انبوبته.

قالت الآنسة تنح عنايا أبتاه. فسادة الإنكليز يؤذيهم التبغ. والسيد لا شك يمقته.

فأجاب خادمك المطيع بقوله (بلى قد أدخن أحياناً)

فصاح الرجل قائلاً: هات لجنابه أنبوبة يا قرة عين أبيك

صاحت الآنسة نعم تلك الطويلة التي جاءتنا من تركيا ثم وثبت من مكانها وما لبثت أن عادت تحمل عصا طويلة من العناب مغشاة بنسيج أحمر مطرز بالذهب بإحدى طرفيها فوهة من الكهرمان المرصع بالصدف، وبالآخر أنبوبة مذهبة. ودخلت علينا الفتاة تميل وتترنح كأنها ملك يحمل عوداً من أعواد الجنة.

وقالت لا بد من أن أوقدها للمسيو جورج. الله أكبر. لقد كانت الفتاة تنطق اسمي جورج بنغمة أجارك الله من وقعها في الفؤاد وأثرها في الأحشاء.

وبعد أن أمرت أختها أن تقبس لها ناراً وقفت ما رأيت قط أجمل منها ولا أفتن.

قدم لطيفة ممدودة إلى الأمام ورأس ملقاة إلى الوراء ويد غضة صغيرة ممسكة عصا الأنبوبة بين إبهامها وسبابتها. وشفتان كالعقيقتين تلثمان فوهة العصا وابتسامة كأفتن ما طل دما. وقتل مغرما. وجاءت أختها تقهقه فأشعلت التبغ وإذا بدخان أبيض دقيق الحجم يتصاعد من بين هاتين المرجانتين الباسمتين عن سمطي لآلئ نحو السقف تتضوع له أرجاء الحجرة أرجا ويفغم عبقه الخيلثيم.

وإذ كيت الأنبوبة وقدمت إلي برشاقة وبنظرة كان من أثرهما أني دفعت إلى اليهودي في الحال أربعة عشرة جنيهاً ثمن الأنبوبة. فأما الفوهة التي لثمتها شفتاها فما لبثت أن أخذتها فلففتها في قفازة الفتاة وجعلتهما معاً لصق أحشائي. ولما كان صباح الغد وقد دخل عليّ صديقي الجندي بغتة وجدني مستوياً في فراشي أمامي القفازة الصفراء وفي فمي الفوهة المعهودة الوكها وأمضغها كأنها قطعة من الحلوى في شدق غلام أو حلمة ثدي في فم رضيع.

فوقف وحدق إلي ثم قهقه ضاحكاً وأسرع نحو القفازة وكنت أقرأ في ديوان الشاعر توماس مور: لست ممن ينزع إلى السعر ولكنيوجدت بذلك الديوان قصة تصف حالي: فلما رأيت صديقي يهرول إلى القفازة ثار غضبي وأرسلت (توماس مور) في وجهه فأخطأه بلطف من الله وتناول هو وسادة فرماني بها وكان من حسن حظه أنه لم يلجأ إلا إلى هذا السلاح العديم الأذى لأني كنت في أشد ثوران الغضب حتى لو قد بدا منه أدنى إساءة لأزهقت روحه لتوه وساعته.

علم القارئ إذن أني لم أزهق روح صاحبي ولكني خلفت له لأفعلن به ذلك لو فاه بكلمة في هذا الشأن وكان يعرف أني فعال لما أقول: وكان غير جاهل بحديث علاقتي فأراد أن يجعل أمر غرامي غرضاً لمزحاته الخشنة العسكرية ولكني زجرته.

فقال: لم تصدني عن هذا الباب وما أظنك ستقترن بالفتاة.

قلت: وهبني يا سيدي سأقترن بها.

قال: ماذا تقول! تتزوج ابنة ذاك السوقي الحقير ويحك! إن جنود فرقتي ما زالوا يتهمونك بالجنون فأكذب عنك. فأما وقد قلت ما قلت فقتلني الله إن لم تكن كذلك.

قلت: سيدي من مس كرامة الآنسة (منا) فهو نذل ساقط ومن تناول اسمها الكريم بغير التحميد والتمجيد فهو كذاب أشر:

وبعد محادثة قصيرة مضى ويلدر وتركني للقفاز والأنبوبة

وكان فيما ذكره صديقي (ويلدر) من أمر الاقتران بالفتاة ما أدهشني. أأقترن بابنة إسرائيلي! وأنا جورج فيتزبودل! هذا لا يكون أبداً اللهم إلا أن يكون لها مليون من الذهب وما كان مثل المسيو لو حقارة ليهب ابنته مليوناً ولكني سواء تزوجتها أم لم أتزوجها فقد أبيت إلا التلذذ بحبها والتمتع بهواها وعدم التوقع لما يأتي به الغد قانعاً بلذة اليوم.

ما مضى فات والمؤمل غيب ... ولك الساعة التي أنت فيها وما لبثت إلا هنيهة بعد ذهاب ويلدر حتى جاءني هرش كعادته. فأحببت أن أستطلع منه مقدار ثروة منا وأجعله رسولي إليها.

قلت أي هرش يا أسد اليهود. لعلك أتيتني بعصا الأنبوبة

فأجاب نعم يا سيدي وبسبعة أرطال من التبغ الذي قلت أنك استطبته. إنه من أكرم بضاعة الشام وصفقتك في رابحة.

قلت - وتصنعت الارتياح وعدم الاهتمام - خيراً فعلت أتدري يا هرش أن صغرى بنات المسيو لو المسماة الآنسة حنة فيما أظن -

قال هرش وابتسم ابتسامة دهاء ومكر لا بل منا

قلت ليكن كما تقول منا - أتدري يا هرش أن (منالو) فتاة قتالة العينين خلابة الهوى، أي وربي إنها لكذلك وفوق ذلك

قال هرش أذلك اعتقادك

قلت أجل ذلك اعتقادي. وما كانت قط أجمل منها أمس وهي تشعل لي التبغ. لقد والله تامت لي حينذاك ولاعت فؤادي

قال لشد ما تشرف وطننا بحبك إحدى بناته

قلت أغني أبوها وكم يهب ابنته إذا هي زوجت

قال قليل جداً لا يبلغ مقدار ما تنفق في أسبوع واحد يا سيدي

قلت مهلا مهلاً! إنك ما تزال تتهمني بالغني وأنا بعد رجل فقير. أجل وعريق في الفقر

قال هرش: أنت فقير! ليت لي ابراد عام من أعوامك. إذن لكنت مثريا؟ والله يعلم انه أكثر مني مالاً وثروة ولكنه يكذب

قلت وهل بلغ بك الفقر هذا الحد؟

فأجاب إنه لا يملك درهما وإن المسيو (لو) رجل شحيح وإنه (أعني هرش) ليفعل مهما آمر به ابتغاء شيء من المال

قلت له: هرش. أتحمل مني إلى منا رسالة؟

لم يكن هناك أدنى ما يدعوني إلى اتخاذ الفتى بريداً بيني وبين الغادة إذ كان من أسهل السهل أن أسلم رسائلي إليها يداً بيد. وكيف لا وقد كنت أجالسها الساعات إثر الساعات وكانت الخلوة بها من أقرب الأشياء فما كان أسهل أن أدس لها ورقتي في قفازها أو منديلها. ولكني كنت بمسائل الحب أجهل من طفل واخترت هرش رسولاً لأني رأيت فيما قرأت من الروايات أن الحيل والتدابير ليست من شأن العاشق وما تنبغي له وإنما يقوم بها خادم أو رسول. ولذلك سألت هرش السؤال المتقدم وهو من يحمل الرسالة إلى (منالو)

قال مبتسماً أنا

ولكن الرسالة لم تكتب بعد. وما كتابتها إلا خطب من الخطوب ومحنة من المحن. أأكتبها نثراً أم نظما؟ بل نظماً إنكليزياً إذ أن منا كانت تعرف قليلاً من هذه اللغة. ولكن ليس في الإنكليزية جميعها قافية على روى منا والخطب أكبر في لقبها لو فعلمت أني سأركب الصعب في تأليف الرسالة بالإفرنسية وتم لي ذلك مع العار والفضيحة لأتيانها مملوءة بالأغلاط النحوية مشحونة باللغو والسخف وأخذ هرش الكتاب ورأيت من الحزم أن أرشوه على الصمت والكتمان فاشتريت منه سلسلة ساعة بشعة المنظر أولى بها أن تكون سلسلة مجرم نقدته فيها أربعة جنيهات وكان طالما عرضها علي من قبل فأرفضها وخبرني الفتى أن رسالتي صادفت أيما قبول. ولكن الغادة لم تستطع وقد اجتمعنا مساء أن تفاوضني في شأن الرسالة لحضور أهلها. إلا أني آنست من لين لحظها عطفاً وتودداً بينما كنت أقامر سيدة سمينة (امرأة أخ الفتاة) وأخسر لها الدينار إثر الدينار حتى اقفر جيبي. وفي تلك الليلة باع لي المسيو لو عشرين ثوباً من التيل ليفصل أقمصة ولا ينس القارئ أن المسيو لو يبيع كل شيء ولو أنه شم منى رائحة ميل إلى كيلو متر طوب أو جراب ثعابين أو كفن لوجدته من الغد على باب داري

وأقمت أرسل الرسائل إلى منى أنسخها كتاب صغير نافع عنوانه الغزليات الفرنسوية فادخل علي ما أنسخ من التبديل والتعديل ما يترك العبارة المنسوخة مطابقة لحالي ملائمة لأمري. وطال تردادي إلى دارها وكثر ثمت تمكثي وتريثي. وتمادى هنا لك تلبثي وتشبثي. وما ساءني الآن أكثر من أنها أصبحت لا ترى الأصحبة بعض أقاربها وإذ كن يتكلمن بالألمانية طبعاً لم أجد سبيلاً إلى إمضاء الوقت إلا بالتنهد والنظر والصمت. ومرت الليالي كلها سواء في الشقاء والكرب وما أشبه الليلة بالبارحة. والمسيو لو يبيعني كل أسبوع عشر سلع على الأقل من أطباق وسكاكين وخواتم وشمع وأساور وصابون وحلة حرير مبطنة بفروة للشتاء ومصباح بنصاب من الذهب ومؤلفات شعراء الألمان وختم المصائب بقاموس

ولا يفوتني القول إني لم أستلذ التبغ الذي اشتريته من اليهودي رغماً من قوله أنه أجود أصنافه ورغماً من أني تلقيت دروس شربه من شفتي الحسناء (منا) فاشتريت تبغاً خلافه وضميري يلومني على ما ارتكبت من سوء الظن وقلة الثقة.

الآن انتهيت من قصتي إلى جزئها المحزن وشطرها المشؤوم

جاءني صديقي (ويلدر) ذات يوم صحبة رجل من باعة التبغ يدعى المسيو رور وأذاقني بضاعته فاستطبتها ورأيت من الدهاء والحيلة أن أحمله على استبدال مقدار مما لديه بما لدي من التبغ فأخذت أفخر ببضاعتي ثم دخلت خزنتي وعدت بكمية منها فرماها المسيو رور بنظرة ازدراء وقال عندي من هذا الصنف كميات عظيمة.

قال صاحبي ويلدر وعلى وجهه ابتسامة خبث. لا تقل ذاك في مثل هذا التبغ فقد اشتراه صاحبي من رجل صادق مخلص ومالي شهير.

قال رور بلهجة الساخر هل اشتراه من المسيو لو؟

قلت ما عدوت الحقيقة. وهو مما ورد إليه من أخيه المقيم بالأستانة.

قال رور كلا بل ورد إليه من عندي وكنت بعثت سبعة أرطال منه لابنته لو والمسيو هرش أخذاه منى ذات يوم سعر. . . . . . . . في الرطل وهذا ختمي ثم سل من إصبعه القذرة خاتماً له ذلك النقش المطبوع على صرة التبغ.

قلت وفي صوتي رنة المحزون وفي قلبي كمد الخائب: هل بعثت هذا للآنسة منا.؟

قال نعم: وخدعتني بخلابتها عن جزء من ثمنه كان لك الله يا سيدي. إن الفتاة هي التي تعقد لأبيها مساومات البيع. لأن لها فتنة وسحراً لا طاقة لنا به.

قال ويلدور وهو مسرور بمصيبتي مغتبط ببلائي. وهل تبيع الخمر أيضاً يا مسيو رورو؟

فأجاب الرجل مبتسماً عن أفظع الخبث اليهودي يصنع خمرته بيده. ولكن عندي من نبيذ ميدوك لو يمن عليّ اللورد بطلبه: أرسل إلى سيدي خابيه منه.

فصحت بالرجل اخرج من هنا والتهب في عيني الغضب وطار المسيو رور من حضرتي مذعوراً وضحك ويلدر ضحكة شيطان.

وقال أما ترى كيف خدعتك هذه الأسرة؟ فلتعلمن يا أخي أن للقوم سيرة عار وسمعة سوء وما من شاب في المدينة إلا ويحدثك نبأ الأسرة وتاريخها. فأما المسيو لو فساقط القدر لئيم الأصل والفرع وأما ابنته فمصيدة الأحمق وشرك الأبله وإنك يا صاحبي لو تدرك الحقيقة لعلمت أنك هدف مطاعن الناس وغرض أمازيحهم. وكم قبلك وقع الأغرار في تلك الحبالة وختلهم ذلك السراب. وذلك الجندي هيربوك عشق الفتاة وتمادى به الأمر حيناً ثم انجلت عمليته وحدث مثل ذلك للشاب فون تومل ثم تداركه أهله وشغف القائمقام بلتز بالكبرى حتى كاد يطلق امرأته ولم يكن الداء بين جماعة الطلبة بأقل تفشياً منه بين طائفة الجند. وما أبصر اليهودي في فتى من الطلبة مظنة ربح أو مخيلة مغنم إلا استدرجه بحيله وانحط عليه بأساليب مكره ودهائه حتى انكشف أمره عند الجميع وما عنه الشبان قاطبة فلا أحد منهم يقبل على ابنتيه مع مالها من القسامة والوسامة. وإن شئت أن تعرف صدق كلامي فاذهب بنفسك الليلة إلى مرقص جودزبرج تبصر ما أقول لك بعينك فأجبته نعم أنا ذاهب بدعوة من السيدتين ثم انطرحت على المقعد وألححت على أنبوبة التبغ أستثير ضبابها سحابة اليوم وأتململ كالملذوع وقد رسخ في عقيدتي أنه لا بد من أن يكون في كلام ويلدر شيء من الحقيقة. وأقسمت بخالق السموات والأرض لأذبحن كل من لقيت من الجند لسخرهم مني وطعنهم عليّ.

ذهبت تلك الليلة مع السيدتين إلى المرقص بحديقة جودزبرج حيث وجدت الطلبة في القلانس الصغيرة والشعور المسدولة بين جالسين إلى الموائد وراقصين الوالز وهو صنف من الرقص أمقته غاية المقت لأني لست من الرقص في شيء ورأيت كذلك طائفة السلاح في ملابسهم المزرورة وشواربهم الملوية يدورون في المرقص ويجولون كالأبالسة لا رعاهم الله ولا قدس أرواحهم!

وخيل إليّ أني مرموق من جميع العيون إذ ولجت باب الحديقة متأبطاً يمين الآنسة منالو ولعل الغيظ كان بلغ بي منتهاه في تلك اللحظة لأن ويلدر خبرني فيما بعد أن وجهي أزرق من شدة الغضب وكادت عيناي تشتعلان ومن نظر إلي أنذاك أيقن أني لا محالة قاتل من الجند من صادفت.

وكانت منا في حلة شفافة بيضاء كأنما قدت من جلدة الماء. أو قميص الهواء. تريك ذراعها في قفازتها أحسن بياض في سواد. قد أجاع خصرها النطاق وأشبع الأساور ذراعان عبلتان. وكنت جالساً إلى جانبها لا ينطق فمي. ولكن وجهي ينطق ما بين آيات الغضب ويتلو سورة الرعد وقد نسيت في حضرة جمالها الباهر جميع ما ألم بي في الصباح من الظنون والشكوك.

ولم يجئ إلى منا أحد يدعوها لترقص معه وذلك ما كنت أبغي لأني أحد المصابين بداء الغيرة وهو داء لا يكاد يخلو من عاشق - نعم لم يدعها إلى الرقص إنسان إلا هرش وكان قد عاد من السوق حيث كان يشتري لنا سمكاً فإني لأصب في أذن الفتاة شكوى الحب وأسألها الرد على رسائلي وكتبي إذ أقبل هرش على الفتاة فانحنى لها مسلماً فبهمت ونظرت إلى الفتى فنظر إليّ ووضع يداً على ذراعي ورفع إبهام الأخرى إلى شفتيه يأمرني بالصمت ثم اختطف الغادة من جانبي وشرع ينساب بها في زمرة الراقصين.

وكان النذل قد هيأ للحفلة أحسن ثيابه فخرج في أجمل شارة وجعل يدور بها في المرقص كاللولب. ويبدع في فنون الرقص ويغرب حتى استوقف سائر الراقصين فتنحوا جانباً ومثلوا ينظرون منه السرعة ومنها الرشاقة.

أما أنا فمع اعتقادي أن الكلب (هرش) أحط من أن تتسفل إليه غيرتي فقد وددت لو انصببت عليه بالعصا فأرسلته يطوف الرقص على نغمات الموسيقى من شدة الوجع لا من شدة الطرب.

ولكنهما ما لبثا أن عادا وعلى منا أثر الارتباك وحمرة الخجل

والتفت هرش إلى أختها إما وقال ألا ترقصين معي طلقا أيتها السيدة؟ فأجابته وسارا إلى المرقص. فما كان أعظم اندهاشي إذ رأيت الراقصين جميعاً قد تركوا المرقص لهرش وصاحبته! فرقصا طلقا ثم رجعا بحال من الكآبة والأسف. وصدح الموسيقى لرقص الجماعة (نوع من الرقص يأتيه عدد كثير مثنى مثني) فسألت منا أن تقوم إلى المرقص وجعلت تعتذر إلى عن القيام بألف علة فلم أصغ لها وأبيت إلا قيامها. فأذعنت والتفت إلى هرش فقلت سربا لمدام سليمان (لمرأة أخ منا) إلى المرقص. ثم سرنا نحن الأربعة.

وكان بالمرقص لدن أتيناه عشرون نفساً على الأقل يتهيأون للرقص. فتورد وجه منا وعرتها رجفة فحسبت ذاك لما نالها من الفرح لرقصها مع اللورد الإنكليزي وأقبل هرش برفيقته الجسيمة فوقفا إزاءنا وعلمت أنه عار ولا شك على اللورد جورج فيزبودل (أنا) أن يراقص حيواناً مثل هرش ولكنها الضرورة!

فصفق المسيو هرش لرجال الموسيقى أن ابتدؤا وكنت مقبلاً على وجه حبيبتي أغازلها ثم التفت وإذا المرقص قد خلا من كل مخلوق إلا نحن الأربعة.

فدهشت الفتاة وتحول جلنار خدها بهارا وكانت لا محالة ساقطة من قامتها لولا اعتمادها على وقالت دعني أذهب إلى أبي فإني مريضة قلت لها بل لترقصين ثم صوبت قبضتي نحو وجه هرش لأني أنست منه رغبة في الذهاب فاضطر إلى الوقوف واندفعنا نحن الأربعة في الرقص.

وخيل إلي من شدة الخجل والارتباك أن الشوط الأول من الرقص استمر مائة ألف عام وعجبت للفتاة منا كيف لم تخر مغشياً عليها. ولكنها استجمعت قواها دفعة واحدة وقذفت القوم من ألحاظها بجمرات الجحيم وعيدا وتهديداً فلو اطلعت عليها إذ ذاك لرأيت شيطاناً بعد ملاك ولكنه شيطان حلو لذيذ ثم مضت في رقصها مضاء الكوكب الوقاد. أما أنا فتوهمت بادئ بدء أن الهواء مملوء بوجوه مساخرة هازئة وجعلت أسير وملء صدري حنق وغيظ ثم طفئت نار الغضب وهدأ بالي حتى استطعت أن أتصفح وجوه القوم. ولم يك بينهم رجل يفرح بي ويبتهج ولكني سمعت أحدهم يوجه إلى منا لفظة برافو مشفوعة بسخرية. والتفت فعرفت القائل دلني عليه احمرار الخجل. ونظر أحدنا إلى أخيه فكان مجرد التقاء الأعين اتفاقا على المبارزة حتى لم تبق هناك حاجة إلى أدنى مفاوضة في الأمر. وفي هذه اللحظة أي بعد إصراري على مبارزة الجندي هيربوك سكن هياجي وهدأ روعي فشكراً لذلك الجندي الذي لولاه لإصابتي الفالج (النقطة) أثناء الرقص.

والتفت منا إلى نظرة أعتاب وملاطفة وأحسست قدها المعشوق يرتجف على ذراعي إذ أرجع بها نحو أبيها. وقالت أسمعت - أسمعت يا عزيزي هذا الصوت؟ (تعني بالطبع الصوت الذي قال برافو) عند ذلك برح الخفاء ووضح الحق فلم أشك في أن الفتاة تعشقني فهي ترتجف خشية أن تكون قد هممت بركوب أخطار المبارزة. فتلجلج من فرط الطرب والوجد لساني ولم يك إلا بعد جهد المنطق أن أقسمت لها بالله إليه غراء أني ما سمعت شيئاً على حين أني حلفت في ضميري يميناً ضخمة لأمزقن ذاك النحر الذي خرجت منه لفظة برافو فتركت غادتي وعمدت إلى ويلدز فأومأت له نحو الرجل.

قال هذا هيربوك ماذا تريد منه؟

قلت له بحماس وحدة صاحبي! أريد أن أنفذ جنبيه برصاصة. فاذهب إليه فقل ذلك فلما صحت بصاحبي - وقد رأيته يتردد - أما والله إن لم تنفذ للحال كلمتي لأذهبن إلى الوغد فأنزعن أنفه من وجهه أذعن منقاداً ووعدني إمضاء أمري وانقلبت إلى جماعتي.

واقترحت عليهم أن نزور قبل العودة إلى منازلنا قلعة قديمة خربة في ذاك الجوار تشرف على قيعان النهر ذات المياه والأعشاب. فاستلمت ذراع منا وسار اليهودي مع ابنته الأخرى وهرش مع السيدة سليمان. وكانت لحيمة ثقيلة الخطو وكان اليهودي شيخاً ضعيفاً فكان سيرهم لذلك بطيئاً حتى سبقتهم بغادتي سبقاً مبيناً. وعلمت أنها فرصة وأرت انتهازها فجعلت أقول لها أشياء لا تكون إلا من عاشق لحبيبه كقولي لها في أرق لهجة وأعذب لحن قلبي يذوب كلما رآك محزونة ولا جواب فقلت آخذاً في معنى آخر انظري إلى إشراق الليل في سواده إنه يكاد يمثل لي عينيك ولا جواب أيضاً ولعلها كانت في هم مبرح مما جرى تلك الليلة.

فلما تمادى بها السكوت قلت منا! إني أحبك وأراك تعلمين ذلك منذ عهد بعيد كلا يا حبيبتي لا تنزعن يدك من يدي. فإنه إن لم تفاوضني في هذا الشأن شفتاك فقد فاوضتني فيه عيناك وناجاني فؤادك. فكوني زوجة لي إذن! ثم أخذت يدها فأوسعتها تقبيلاً وكنت ولا شك منتقلاً إلى خدها لولا أنها لطمتني أشد لطمة ونفرت مني ثم سقطت من قامتها وطفقت تصيح بأرفع صوتها.

فسمعت صوت اللعين هرش ينادي من ورائنا (منا! منا! منا زوجتي! ثم أقبل يصعد نحونا وألقت الفتاة بنفسها بين ذراعيه صائحة (لورنزو! زوجي أنقذني!).

وأقبل أهلها وصاحت (منا) تسبني والغضب يلتهب في مقلتيها (ويلك يا جبان! يا لقومي لفتاة يهينها وغد لئيم! يا للرجال لوهن النساء من صولة السفلة الجهال!)

عند ذلك صاح هرش (يالك من جبان فاسق. لقد أطلعتني وما استحبيت على حبك الحرام لهذه الشريفة الطاهرة - أطلعتني وأنا عريسها وقرينها. ووقحت حتى جعلت ترسل إليها كتب الصبابة وإن لم يصلها بعد من تلك الكتب لفظة واحدة. وبغيت خداعنا نحن اليهود فبغيت وكان عليك بغيك. فقبحاً لك وويلا! إني لأمقتك وأزدريك!) ثم جعل يمناه نطاقاً للحسناء وساروا جميعاً.

وبقيت كالذي ذهب عقله ثم تراجع إليّ رشدي ولحقتني لوعة وحرقة وذهبت إلى منزلي فبت بليلة السليم: ولما كان الصباح جاءني رسول من قبل هرش له سحنة بائع الثياب البالية يحمل إليّ ظرفاً ففضضته فإذا فيه جميع الرسائل التي كنت بعثت بها إلى (منا) ورسالة من هرش يدعوني فيها إما إلى المبارزة أو إلى الاستغفار من زلتي.

فقلت للرسول أما المعذرة والاستغفار فله ذلك مني متى شاء أن يحضر قلت ذاك وأشرت إلى عصا غليظة بأقصى الغرفة ثم ليسرع إليّ إن كان آتياً فقد أزمعت الرحيل غداً فلما سمع الرسول ذلك سألني ألست أرغب في شراء تبغ جيد أقصر به مسافة زحلتي فإن لديه صنفاً جمع إلى غاية الجودة منتهى الرخص فأشرت إلى الخادم أن يشيعه إلى باب الدار وحمدت الله على ذهابه.

وما زال يجيئني من هرش كل عام رسالتان يسألني فيهما أن أقبل منه على سبيل الهدية إما قصراً فاخراً ببلاد بوهيميا أو أستريا وإما مبلغ مائة ألف جنيه إن كنت أوثر المال وقد رأيت زوجته (منا) عام أول في دار التمثيل مثلقة بالماس والياقوت والشحم واللحم.

فقلت في نفسي. أي منا! اسمني ما شئت واقبحي فعندي الأنبوبة التي ذاقت الشهد من أعذب ثغر في طوائف موسى.

(تمت)