مجلة البيان للبرقوقي/العدد 1/الفكاهات والملح
→ تاريخ الإسلام | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 1 الفكاهات والملح [[مؤلف:|]] |
حضارة العرب في الأندلس ← |
بتاريخ: 24 - 8 - 1911 |
التطفيل
سئل رجل أي الشراب ألذ فقال ما لم تبذل فيه درهما. وكم في الناس مثل هذا الرجل ممن تتنازعه الرغبة من جهة والبخل من جهة وكلم فيهم الفقير الذي تدفعه الشهوة إلى ما في أيدي الغير ثم لا يزعه حياء ولا تردعه عفة.
قال رجل لآخر أراد سفراً إن لكل رفقة كلباً يشركهم في فضلة الزاد فإن استطعت أن لا تكون كلب الرفاق فافعل.
على أني طالما عجبت ورأيت الناس يعجبون للبخيل الشحيح أو المسكين العديم الكسب كيف تراه حسن الجال يروح ويغدو بظاهر كالمرآة مجلو وباطن كالمخلاة مشو وكيف يحتال إلى معاشرة الأغنياء ويتلطف حتى يخلص إلى موائدهم ويفضي إلى عقد أكياسهم فلعلها صناعة دقيقة ومطلب عويص وسر لم يهتد إليه إلا القليلون من ذوي الحذق والذكاء. فكم من أناس حاولوا هذه الغاية فأخفقوا وأناس نجحوا في بادئ أمرهم فاستولوا على عدد عظيم من موائد الأغنياء ثم أدبر أمرهم وذهبت ريحهم فجعلت تلك الموائد تنفلت من أيديهم واحدة واحدة حتى أشفقوا على موائدهم العارية أن تزول وأصبحوا في الفقر وقلة الخير ينوحون على ما كانوا فيه من الكثرة والنعيم.
ولا أعلم في الطفيليين من هو أشد جرأة وأكبر أمنية من الأديب الذي يحسب أن منزلته من الأدب شفيع له عند صاحب المال وأنه يدفع من مجونه وأدبه ثمن ما يتناول من طعام الغني وذهبه بل لقد تبلغ من قحة ذلك الأديب أنه يشفع التسول بالكبرياء والتكفف بالتيه والخيلاء حتى كان له على الأغنياء حقاً يبغيه وديناً يقتضيه يفعل الأديب المتطفل ذلك مع من يستطيع خدعه من المنتسبين إلى الأدب فينزل نفسه منهم منزلة الأستاذ من الطالب ولكن هؤلاء قليلون فأما معظم أهل الترف من أعداء العلم والأدب الذين لا يميزون بين الشعر والشعير ولا يفرقون بين المعارف والمغارف فلا يجرأ المتطفل الأديب أن يبدي لهم حركة تنم إلا عن تأدب وخشوع وتواضع وخضوع.
وصناعة التطفيل فن دقيق كما قدمنا قد ينال جزء منه بالمزاولة ولكن لا ينبغ فيه إلا من خلقه الله طفيلياً بالفطرة وللفن قواعد كثيرة أهمها.
أولاً: أن تكون وقاحاً صفيق الوجه. تفاتح الناس الكلام بلا مناسبة ولا تستحي ويعرضون عنك احتقاراً واستنماجا لك فلا تخجل ولا ترعوي
ثانياً: الذلة وذلك أن تكون جباناً مهيناً لا نخوة لك ولا إباء ولا عزة فترضى معاشرة الغنى مع علمك أنه شفيه وله ساعات جهل وبطر ينحط فيها عليك بصنوف الإساآت وضروب الشتائم من غير علة ولا سبب وساعات يريد أن يضحك الحاضرين فلا يجد غيرك هدفاً للضحك وغرضاً للسخرية والطفيلي لا يرى في ذلك باساً ولا عاراً بل يحسب أن ذاك يزيده اتصالاً برب نعمته واستمكانا لمنزلته عنده ويقول لا جرم فإنه يدفع ثمن الضحك والشتم وأراني ساعة يملأ شدقيه ضحكاً أملأ جوفي طعاماً ثالثاً: أن تكون منافقاً متلمقاً. تظل ولا شأن لك إلا حمد كل ما يأتي به رب نعمتك وأبو مثواك حسناً كان أو قبيحاً ثم تجاريه في جميع أمره فتحمد ما يحمد وإن كان مذموماً وتذم ما يذم وإن كان محموداً تنظر بعينيه وتسمع بأذنيه وتذوق بلسانه وتحب بجنانه وتكره بقلبه وتغضب لغضبه وتكون إجابتك ابتسامة بالابتسام وعبوسة بالعبوس وضحكة بالضحك وبكاءة بالبكاء أسرع من رجع صداه وعكس مرآته. وكان أحد المتملقين يقول: إن الرجل الغني ليقول الكلمة الغثة الباردة فاغرب في الضحك وإنما ضحكي بمقدار ما انتظر من العطاء لا بمقدار فكاهة الكلمة. وكان آخر يقول كنت أجلس بين الغنيين فيشتبك بينهما الجدال ويتناضلان بالحجة فلا أزال أميل بالاستحسان إلى هذا تارة وإلى ذاك أخرى فيعجب كل منهما بنفسه ويفتن بحسن قوله ويشغله ما يداخله من الفرح بأصالة رأيه من التمادي في المناظرة ويحمله التيه بذلاقة لسانه. وقوة برهانه. على رحمة مناظره حتى يترك كل منهما المناظرة فيؤول إلى الأمن الوئام والسكينة ما كان يؤذن بالشر والخلاف والخوف. وقال آخر ما خشيت قط شيئاً مثل أن يسألني صاحب الدار عن أمر لا أعرف رأيه فيه فإني أخاف أن أذهب مذهباً لا يراه وفي ذلك من مخالفة أصول التملق ما فيه. ومن أهم صفات المتملق أن لا يكون له مبدأ ولا رأي بل يستعير مبادئ الغنيّ الذي يجالسه مادام في داره فيلبس لكل بيت زياً. ويتلون كل ساعة لوناً كأنه الماء الذي لا شكل له في ذاته وإنما يأخذ شكل ما يحيط به من الوعاء فإذا أبى المتملق إلا أن يكون ذا مبدأ فعليه أن يخلع مبدأه مع حذائه على عتبة كل دار يدخلها فلا يلبسهما إلا ساعة الانصراف.
رابعاً: الاشتغال بعلم صناعة الأطعمة فإذا آكل الطفيلي جماعة على خوان أحد الأغنياء جعل همه أن يفرد صنفاً من بين الأصناف فيغري به القوم إغراء خبير واثق مما يقول حتى لا يجرأ أحد على مخالفته وكذلك ينال الطفيلي على الخوان منزلة أشبه بمنزلة رؤساء الأقلام بين عمالهم والمدرسين وسط أطفالهم ويقال عنه هو حاذق بالمشويات كما يقال الشيخ فلان حاذق بالأدبيات وهو أخصائي في التربية والكباب كما يقال فلان أفندي أخصائي في التربية والحساب ويصبح ذوقه ميزاناً للسلطات والمربات ويشهد له عشاق فن المأكل بأنه الفذ المفرد الذي عرف دقائق الفن ووقف على أسرار الصناعة.
وعلم الأطعمة علم صعب المراس بعيد المنال لا تنال دبلومته إلا بعد اثني عشر عاماً من السعي والجد والطلب المشفوع بالإخلاص والاحترام والتفاني - الإخلاص لجانب المعدة. والاحترام لعظمة الخوان وأبهته والتفاني في حب ما يزف عليك من عرائس الألوان وابكار الزجاج التي لم تفض أختامها.
فمن فعل ذلك صار أستاذاً في الفن وآيته أنك لا تسمع له كلاماً إلا في شأن الأكل ولو اطلعت على ذهنه لم تجد له خاطراً يجزي إلا على صدور الأخونة ولا هاجساً يهجس إلا بين الكوانين والحلل ولا فكراً يرسب إلا في قوارير الزيت والخل ولا أملا يعلق إلا بذيل دجاجة أو جناح أوزة وتجده لا كتب له إلا قوائم الأكل ولا يذكر الأمور والحوادث إلا بمواعيد الأكلات وتواريخ الولائم فإذا سئل متى وقع ذاك الأمر جعل يفكر أكان عقب أكلة سمك أم طعمة بقول وهل جرى قبل وليمة ديك أو مأدبة شاة. هذه علائم أستاذ الطفيليين فاعرفها والسلام.
من طريف مايروى في باب التطفيل ما حكي أن طفيلياً بالبصرة مر على قوم وعندهم وليمة فاقتحم عليهم وأخذ مجلسه مع من دعي فأنكره صاحب المجلس فقالوا له لو تأنيت أو وقفت حتى يؤذن لك أو يبعث إليك فقال إنما اتخذت البيوت ليدخل فيها ووضعت الموائد ليؤكل عليها وما وجهت بهدية فأتوقع الدعوة والحشمة قطيعة وطرحها صلة وقد جاء في الأثر صل من قطعك وأعط من حرمك وأنشد:
كل يوم أدور في عرصة الدا - ر أشم القتار شم الذباب
فإذا ما رأيت آثار عرس ... أو دخان أو دعوة الأصحاب لم أعرج دون التقحم لا أر - هب طعن أو لكزة البواب
مستهيناً بمن دخلت عليهم ... غير مستأذن ولا هياب
فتراني ألف بالرغم منهم ... كل ما قدموه لف العقاب
(وكان) أشعب الطماع المدني المولود سنة تسع من الهجرة ظريفاً وله نوادر في هذا الباب من أملح ما يكون فمن ذلك أنه وقف مرة إلى رجل يعمل طبقاً فقال له أسألك بالله الا ما زدت في سعته طوقاً أو طوقين فقال له وما معناك في ذلك فقال لعل تهدي إلي فيه شيء (وبينا) قوم جلوس عند رجل من أهل المدينة يأكلون حيتاناً إذ استأذن عليهم أشعب فقال أجدهم إن من شأن أشعب البسط إلى أجل الطعام فاجعلوا كبار هذه الحيتان في قصعة بناحية ويأكل معنا الصغار ففعلوا وأذن له فقالوا له كيف رأيك في الحيتان فقال والله أن لي عليها لحردا شديداً وحنقاً لأن أبي مات في البحر وأكلته الحيتان قالوا له فدونك خذ بثأر أبيك فجلس ومد يده إلى حوت منها صغير ثم وضعه عند أذنه وقد نظر إلى القصعة التي فيها الحيتان في زاوية المجلس فقال أتدرون ما يقول لي هذا الحوت قالوا لا قال إنه يقول أنه لم يحضر موت أبي ولا أدركه لأن سنه يصغر عن ذلك ولكن قال لي عليك بتلك الكبار التي في زاوية البيت فهي أدركت أباك وأكلته.