الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 1/تاريخ الإسلام

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 1/تاريخ الإسلام

بتاريخ: 24 - 8 - 1911


مقدمات

المقدمة الأولى

قدم التاريخ - التاريخ فطرة في الإنسان - ماهو التاريخ - الطريقة المثلى في التاريخ - أركان التاريخ - عطمة التاريخ الإسلامي - واجبات مؤرخ الدين - ما هو التاريخ الإسلامي - طريقتنا في تاريخ الإسلام - ماذا نقصد إليه من تاريخ الإسلام - المصادر التي اعتمدنا عليها في تاريخ الإسلام -

التاريخ علم قديم وجد مع الإنسان وليست أمة في أقصى غايات التوحش إلا عالجت إثبات تاريخها على حين أنها من الجهل بالحساب بحيث لا يمكنها أن تعد خمساً - وقد كتب الأقدمون التاريخ بالخيوط الملونة وبالريش المجعول في شكل صور وبالخرز والصدف وبالحجارة أهراماً وهياكل - ذلك لأن الزنجي والرومي والأصفر والأحمر كلهم يعيش بين أبدين ويخشي إذا ما مات أن يمسح الدهر ذكره ويمحو البلى أثره فلذا تراه يبذل الجهد في إثبات عهده في صحيفة الوقت وعقد طرفي سيرته بالماضي والمستقبل.

ولعل ملكة التاريخ فطرة في الإنسان فكل إنسان مؤرخ ألا ترى أن ذاكرة المرء إنما هي صفحة تاريخ مشحونة بالأخبار والروايات بعضها للأفراح وبعضها للأتراح وشطرها للفوز وشطرها للخيبة فكأن في كل نفس دولة قد سجلت في لوح الحافظة حظوظها من سعد ونحس وحالاتها من بؤس ونعيم وشؤنها السياسية خارجية وداخلية - وهل ينطق أغلب الناس إلا ليقصوا ويحكوا ويلقوا عليك لا ما جادت به قرائحهم بل ما لاقوا وما جربوا وما قاسوا وما كابدوا ثم تصور ماذا يكون لو حيل بين الناس وبين حكاية الحوادث وذكر الأخبار والنوادر إذن لجفت أنهار الحديث ونضبت عيون القول وعاد الكلام خطرات تخطر بين ذوي الألباب من حين إلى حين وتلاشي بتة بين العامة وأشباه العامة وكذلك ترى أن كل أعمالنا تاريخ وكل أقوالنا تاريخ.

وكذلك ترى أن علم التاريخ أي علم معرفة الحوادث الجسام وما أثرت في أحوال البشر من أجل العلوم قدراً وأردها نفعا وهو في عصرنا هذا أجل منه وأرد في سائر العصور لأنه لما كان الأقدمون أقل علماً وفلسفة وأكثر سذاجة وقوة خيال كان التاريخ عندهم مجرد سرد المدهشات واقتصاص الأعاجيب لا يتوخى في ذلك سوى اللذاذة وتفكهة النفس أما الآن فوظيفة التاريخ هو التعليم في قالب حلو شائق وعرفوه بأنه الفلسفة تعلم الناس بالمثال والتجربة في أسلوب جميل وكذلك ترى أن أكبر صفات المؤرخ أن يجمع بين ملكتي الخيال والحكمة أي أن يكون شاعراً وحكيماً معاً حتى يأتي كلامه فلسفة في صورة قصص خلاب يأخذ بمجامع القلب فإن استبدت فيه قوة الخيال خرج قوله خرافة وإن ذهبت به ملكة الفلسفة جاء كلامه نظرية وكلاهما انحراف عن المحجة

ولقد درج المؤرخون قديما وفي الحديث على أن يقصروا كلامهم على الأمراء والقواد وما يكون في قصور الملوك ومواطن الحروب كأن ذلك هو كل ما يوجد في أرض الله الطويلة العريضة وكأن ليس في العالم إلا القواد والملوك وإلا حفلات القصر الملوكي ودسائس البلاط وإلا صليل السيوف وصهيل الخيل وقعقعة المدافع وإراقة الدماء وغاب عنهم أن بعيداً عن هذه المواطن يتدفق نهر الفكر وبحر الإنسانية الطامي في مجراه العجيب طوراً في ظلمة وتارة في ضياء وانتصر الجيش أو انهزم ونجحت المكيدة أو خابت كل ذلك عنده سواء وأن هنالك عالما من الإنسانية يزهر وينضر ويثمر في شمس السعادة والرخاء أو يصوح ويذبل ويموت في ظلمة البؤس والشقاء فمن اللائق بالمؤرخ النافع ولا سيما في هذه الأجيال أن ينصرف عن وصف الأفراد ونعت ماكان من الحوادث ليس له الأثر العظيم في تعديل هيئة المجتمع وتحوير حاله - إلى وصف المجتمع نفسه وتحليل أجزائه وفحص مكينته حتى يصبح القارئ منه كالذي ينظر إلى دخيلة مكينة ساعته لا كالذي يظل من ذلك على جهل ويكتفي بسماع الدقات.

والحق أقول أن من دقق النظر وجد أن أجهر الحوادث التاريخية صوتاً وأعظمها جلبة ليس في الحقيقة شيأ وإنما أخطر الحوادث وأشرفها ما وقع في سكينة وصمت فإن الشجرة العظيمة تحطم فتدوي لهول مصرعها أنحاء الغابة وتبذر كف النسيم ألف حبة فلا تحس لذلك أدنى حركة وكذلك الحروب والوقائع وضجيج الفوارس وقعقعة السيوف تصم الآذان ساعة كونها وتدير كأس الفوح فريق وقدح الغم على آخر ثم لا تلبث أن تزول كأنها لم تكن فهي كالأعراس والمآتم.

  • سحائب صيف عن قليل تقشع * وبعد فعلى المؤرخ إذا أراد أن يكتب تاريخاً نافعاً أن يطرقه من جميع أبوابه ويتسرب إليه من سائر وجوهه وهي (1) الوجه السياسي وهو ذكر إدارة الحكومات وعلاقاتها من حروب ومعاهدات و (2) الوجه الديني وهو أهمها من حيث أنه يهمنا من صلاح سريرة الإنسان وطهارة نفسه أكثر مما يهمنا من صلاح جسمه وصحة علانيته لأن الأصح جسماً لا يعدو كونه الأشد قوة وأمناً والأمن والقوة وحدهما ليسا من الخير المحض والسعادة الصريحة في شيء إنما الخير المحض في التقى والإيمان وكذلك كان الأمر الأهم للإنسان هو العقيدة التي يراها ما يرجى أن يبلغ من مراتب الفضل في الدين لا مذهبه السياسي ومبدأه الحكومي وعلى المؤرخ الديني إذا أراد أن يبلغ الغاية أن يعدل بنظره عن مصطلحات الملل والنحل وظواهرها إلى أعماق سرائر الناس يستشفها من وراء أعمالهم وأقوالهم فيعلم في ارتقاءهم أم في هبوط وانحطاط و (3) الوجه الفلسفي وهو آراء الإنسان ونظرياته في ماهية خلقه وخلُقه وفي صلته بالكون الظاهر والخفي - وهذا النوع من التاريخ إذا صلح فرع من التاريخ الديني لأن الدين والعبادة جسم يجب أن تكون روحه الفلسفة وقدماً كان الفيلسوف والكاهن رجلاً واحداً: ولكن الفلسفة قد انحرفت عن هذا الطريق وما كان بين المؤرخين من عمل على تقريب المسافة بين المذهبين حتى أصبحت عبادة آيات الله (الدين) وفحص آيات الله الفحص العلماني (الفلسفة) يسيران في منهجين متباينين و (4) الوجه الأدبي والشعري وهو تأثر الإنسان ببدائع صنع الله من حيوان ونبات وجماد وكيف يتغير هذا التأثر بتغير الزمان والمكان وكيف أثر في النفوس والطباع رقة وتهذيباً وتثقيفاً وتنويراً وما حدث عنه من التطورات والانقلابات والثورات وكيف أن وجود الشعر والأدب وغيرهما من الفنون الجميلة في أمة ما كان يهذبها ويرفعها ويقربها درجات من الله ومن عيشة الملائكة وإن عدم وجوده كان يضع الأمة ويتركها تدب كالحشرات على مساحف الجهل في هواء ملم قفر من النغم والألحان: ويلي ذلك الوجه التشريعي وهو ما يبحث في وضع القوانين والشرائح وهيئات الحكومات ثم الوجه الطبي والرياضي والفلكي والتجاري والصناعي - هذه هي أركان التاريخ الصحيح التي يجب على من يتعرض لتاريخ أمة من الأمم أن يوفيها حقها من البحث والتحليل وإلا فليس هناك تاريخ وإنما هي أرقام وتقويم أيام.

نعم وإذا كانت الأمم تتفاوت في الأولوية بهذا الواجب فأولى الأمم بذلك وأجدر هي تلك الأمة الحافل تاريخها بالعبر والعظات والأعاجيب والمدهشات تلك الأمة التي أسست على أعظم دين نبغ في هذه الأرض وقام للشرائع والعلوم والآداب فيها دولة بل دولات تلك الأمة التي تحسر دون عظمتها الظنون وتفحم بنعتها قرائح الشعراء وتخرس عن العبارة عنها شقاشق الخطباء ويركع أمام هيكل تاريخها المقدس أكبر المؤرخين إعظاماً وإكباراً تلك الأمة بل الأمم الإسلامية التي. . . آه يا رب ماذا أقول لا أقول إلا أني لا أقول فالصمت أبلغ ما يكون في مثل هذا الموقف الرهيب تاريخ الإسلام كله مفارقات ضحك وبكاء ويأس ورجاء وقرب ومنعة وضعة ورفعة وعلم وجهل وحزن وسهل ونعيم ورخاء وبؤس وشقاء وتعاليم صحيحة سماوية في أعلى عليين وتعاليم فاسدة أرضية في أسفل سافلين.

تاريخ الإسلام عظيم - عظيم جداً - وعلى عظمته هذه لم يكتب فيه مؤرخ عظيم وإني يكون ذلك والقائل فيه أما مسلم أي متعصب للإسلام أو غير مسلم أي متعصب عليه وكلاهما لا يمكن أن يكون منصفاً أي عظيماً أي عظيما ويعجبني ما قاله المؤرخ الحكيم ارنست رنان في مقدمة تاريخ السيد المسيح: يجب على الذي يتصدى لتاريخ دين من الأديان أمران (الأول) أن يكون قد آمن به أولاً وإلا فإنه لا يفهم شيئاً من محاسنه ولا يدرك ما فيه من مطمنات النفوس ومرضيات الضمير البشري (الثاني) أن يكون قد صار ممن لا يؤمنون به إيماناً مطلقاً من غير شرط ولا قيد: لأن الإيمان المطلق لا ينطبق على العلم والتاريخ لكونه يوجب التسليم والعلم والتاريخ لا يعرفان تسليما: (وبعد) فلقائل أن يقول ما هو التاريخ الإسلامي وماذا تعني به وماذا عسى أن تقول فيه وماذا تقصد إليه من التعرض له وما هي المصادر الذي ستعتمد عليها فيه - فجواب ذلك ما يأتي

التاريخ الإسلامي هو تاريخ الأمم الإسلامية جميعاً على اختلاف صنوفهم أي تاريخ العرب والفرس والترك والديلم والبربر (المغاربة) والسود والقبط (المصريين) ومن إليهم وذلك يستدعي تاريخ مؤسس هذه النهضة العظيمة السيد الرسول عليه السلام والنظر في حياته الطاهرة وشمائله والربانية وما جاء به من التعاليم السماوية نظرا فلسفياً دقيقاً وذلك يستدعي النظر في حال العرب قبل الإسلام ولاسيما قريش الذين بينهم ظهر الإسلام وسطع نوره وذلك يستدعي النظر في الأديان عامة وأديان العرب خاصة وذلك يستدعي القول في التاريخ وما هو والطريقة المثلى فيه فكان لذلك ما رسمناه لنفسنا أولاً وهو أن جعلنا التاريخ الإسلام ثلاث مقدمات (الأولى) في التاريخ وماهو (الثانية) في الأديان وتاريخها ونظرة فلسفية فيها (الثالثة) في العرب وقريش وصفة مكة وجزيرة العرب ثم كسرنا التاريخ بعد ذلك على كتب وكل كتاب على فصول - أما طريقتنا في التاريخ الإسلامي فهي العمل بما أسلفنا القول فيه من شرح الشؤون السياسية والدينية والأدبية والفلسفية والتشريعية لكل عصر عصر من العصور الإسلامية مع الإشباع والتطويل والتزام خطتي العدل والإنصاف - أما ما نقصد إليه من التعرض لتاريخ الإسلام فاعلم أيها الناظر في كلامنا أن لكل قائل في التاريخ أحد غرضين إما تدوين الحوادث التاريخية كما هي لا لغرض سوى طلب الفن لذاته وأما إصلاح الجمعيات الإنسانية بما يتضمنه التاريخ من العبر والعظات وجميل المثلات حتى يكون الغابر مزدجرا للحاضر وفي الماضي لمن بقي اعتبار أما نحن فغرضنا من القول في التاريخ الإسلامي الأمران معاً أي ذكر حوادث التاريخ الإسلامي كما هي وتوخي الحقيقة فيها جهد الاستطاعة وتذكير الأمم الإسلامية الحاضرة بماضيهم وما فيه من مجد وسودد وتدهور وانحطاط وما في ديننا من آداب عالية هي أرقى ما يصل إليه العقل البشري وما طرأ عليه من التحريف ودخل من التعاليم الفاسدة التي ليست من الحقيقة في شيء - علّ في ذلك تذكرة لمن تذكر وتبصرة للمبصرين - أما المصادر التي سنعتمد عليها في التاريخ الإسلامي فهي مصادر عدة (1) القرآن الكريم (2) الأحاديث الصحيحة (3) كتب الفقه وأصول الفقه (4) كتب السير والتاريخ (5) كتب الأدب كالأغاني واضرابه (6) كتب فلسفية وأخلاقية قديمة وحديثة (7) مقالات ورسائل شتى في موضوعات مختلفة (8) كتب تقويم البلدان (9) الرحلات (10) العقل أي الميزان الذي يوزن به غث القول وسمينه والمجس الذي يجس به صحيح المعنى وعليله.

هذه هي طريقتنا في تاريخ الإسلام وموعدنا لمقدمة الأديان العدد الآتي إن شاء الله