الفصل الثامن: في بيان أن الذي يزعمون بشاعته من قولنا في الصفات ليس على ما زعموه، ومع ذلك فلازم لهم في إثبات الذات مثل ما يلزمون أصحابنا في الصفات
وقد زعموا أن أصحاب الحديث يعتقدون ما في الأحاديث من ذكر الصفات على ظاهرها ويثبتون لله سبحانه الكف والأصابع والضحك والنزول وأنه في السماء فوق العرش وهذه من صفات الأجسام حتى قال بعض سقاطهم " ( ما بين شيوخ الحنابلة، وبين اليهود إلا خصلة واحدة ).
ولعمري إن بين الطائفتين خصلة واحدة لكنها بخلاف ما تصوره الساقط وتلك الخصلة أن الحنابلة على الإسلام والسنة واليهود على الكفر والضلالة.
أول ما نقول: إن القول بما في الأحاديث ( الثابتة ) مما أمر الله سبحانه بقبوله فقال: { وما أتاكم الرسول فخذوه } ولا خلاف بين عقلاء أهل الملة في أن الرسل أعرف بالله سبحانه وبصفاته من غيرهم لأنهم أوفر الناس عقلا والوحي ينزل عليهم والعصمة من الضلال تصحبهم وقد جعل الله سبحانه طاعة رسوله محمد ﷺ مقرونة بطاعته ووعد من أطاعه وأطاع رسوله ﷺ بالفوز العظيم.
فأمر هذه الأخبار التي وقع الخلاف ( فيها ) لا يخلو من أن يكون ( صدقا ) أو كذبا فإن كانت صدقا وجب المصير إليها وإن كانت كذبا لزم تركها
ووجدنا رواة هذه الأحاديث أئمة المسلمين وصدورهم وعلماءهم وثقاتهم خلفا عن سلف، وهم من أهل العدالة الظاهرة والمرجوع إليهم وإلى فتاويهم في الدماء والفروج كسفيان بن سعيد الثوري ومالك بن أنس الأصبحي وحماد بن زيد الأزدي وسفيان بن عيينة الهلالي وعبد الله بن المبارك المروزي وأمثالهم.
وفي طبقة كل من قبلهم وبعدهم من حاله في العلم والعدالة كحالهم فغير جائز أن يكذب خبرهم.
وما من حديث منها إلا وقد ورد من عدة طرق متساوية الحال في تعلق الأسباب الموجبة للقبول ومع ذلك فهم الذين رووا الأحكام والسنن وعليهم مدار الشريعة فمن صدقهم في نقل الشريعة لزمه أن يصدقهم في نقل الصفات ومن كذبهم في أحد النوعين وجب عليه تكذيبهم في النوع الآخر.
فلم يبق بعد هذا إلا قولهم: إن أخبار الآحاد لا توجب عند أكثر العلماء علما وإنما يجب العمل بها.
وقد بينا في كتاب " الإبانة " هذا الفصل وجملته أن المطلوب من التواتر سكون النفس إليه وتبلج الصدر بكونه وينتفي ظن الكذب والوهم والتواطؤ عنه وأكثر ما ورد في الصفات بهذا الوصف.
وقد اتفق أكثر الأصوليين على أن المتواتر ليس له عدد محصور وليس المراد بذلك أنهم يخرجون الكثرة عن الحصر وإنما المراد أنه لا يحصر بأن الذي يوجب العلم ما نقله اثنان أو ثلاثة أو عشرة بل ننظر إلى وقوع العلم به وانتفاء الظن عنه فربما حصل ذلك بمائة أو أكثر وربما حصل بأربعة أو أقل.
ونحن والحمد لله نجد أنفسنا ساكنة إلى هذه الأحاديث المشار إليها ورواتها ممن لا يظن بهم الكذب ولا الوهم ولا التواطؤ في هذه الروايات.
ولا شك في اختلاف أحوال الناس فمائة منهم يجوز عليهم أن يهموا في الشيء وأن يتواطؤ عليه وعشرة منهم تخالف أحوالهم أحوال المائة فيعلم أن الوهم والكذب والتواطؤ منتفية عن خبرهم وهذا لا يعلمه إلا من عرف الحديث وأهله وأتقن [ معرفة ] ذلك.
وعند الأشعري وأصحابه أن العلم يقع بنقل المجوس واليهود والنصارى إذا تواتر نقلهم وليس من شرط التواتر أن يكون ناقلوه مسلمين عدولا ومن [ التخريف ] العلم بنقل الكفار إذا كثروا وعدم العلم بنقل عدول المسلمين إذا كانوا دونهم.
وقد أجمعنا في الأحكام على أن شهادة عدلين من المسلمين تقتضي الحكم في الأموال وبعض الحدود وشهادة أربعة منهم في الزنا وما في حككم ذلك ولو شهد ألف من الكفار لم تقبل شهادتهم على مسلم في مال ولا حد.
ولا ينبغي أن ينقلب الأمر في باب المتواتر ويرجع إلى التسوية بين الكفار والمسلمين فإن كل طائفة حُكم بسقوط عدالة كل واحد منهم على الانفراد لم يردهم الاجتماع إلى العدالة وكل فرقة حكم للكل امرئ منهم بالعدالة على حدته فإذا اجتمعوا زادوا خيرا وقوي القلب بما شهدوا به.
فلما كان الكفار ساقطي العدالة مجتمعين وفرادى لم يجز أن يكون خبرهم موجبا للعلم الضروري إلا باقتران دلالة به مقتضية لوجوبه.
وأخبار الآحاد عند أحمد بن حنبل [ و] غيره من علماء النقل ضربان فضرب لا يصح أصلا ولا يعتمد فلا العلم يحصل بمخبره ولا العمل يجب به وضرب: صحيح موثوق بروايته وهو على ضربين:
أ- نوع منه قد صح لكون رواته عدولا ولم يأت إلا من ذلك الطريق فالوهم وظن الكذب غير منتف عنه لكن العمل يجب.
ب- ونوع قد أتى من طرق متساوية في عدالة الرواة وكونهم متقنين أئمة متحفظين من الزلل فذلك الذي يصير عند أحمد في حكم المتواتر.
وينبغي أن يعلم أن الأخبار في الجملة إنما ترد في أحد معنيين إما ما يراد به العمل وإما ما سبيله الاعتقاد.
فما كان واردا في العمل جائز ورود مثله في الصحة وثقة الرواة مخالفا لحكمه وذلك لجواز ورود النسخ في الأحكام فيطالب عند ذلك ب[العلم ] بالناسخ ليعمل به وبالمنسوخ ليترك.
وما كان ورادا في المعتقدات برواية الثقات لا يجوز أن يرد برواية أمثالهم ما يخالف ذلك.
لأن الخبر عن كون الشيء وصفته إذا كان صدقا لا يجوز ورود النسخ عليه ولا كون مخبره على صفتين متضادتين. ولم نجد والحمد لله في الأخبار الواردة في الصفات التي حكم العلماء بصحتها وتلقوها بالقبول اختلافا في صفة ولا معنى ولو وجدنا ذلك لكان دالا على كونها كذبا أو وهما وإنما وجد هذا الوصف فيما سبيله العمل به دون وقوع العلم الضروري بمخبره.
وإذا ثبت ما ذكرناه وعلم أن طاعة الرسول ﷺ واجبة وأن قبول خبره لا زم وجب اعتقاد ما في هذه الأحاديث المذكورة في الصفات ولو لم يلزم اعتقاد ذلك لم تكن هذه الأخبار لا محالة دون سائر الأخبار الواردة فيما سبيله العمل به فينبغي أن يعمل ( بها ) أيضا والعمل بها هو القول بمخبرها.
وقبل وبعد فالأئمة الذين رووها غير منكرين لشيء منها بل قد أوردوها في السنن وبينوا أن اعتقادها سنة وحق بل واجب وفرض.
ولا يخلو أمرهم من أن يكونوا مخطئين في فعلهم أو مصيبين في رأيهم فإن أصابوا فاتباعهم على الصواب هدى.
وإن أخطئوا بزعم المخالف وهم الأئمة المقبولون المرضيون بالاتفاق فالمخالفون الذين قد حكم بأنهم من أهل الزيغ والضلال أقرب إلى الخطأ وأبعد من الصواب منهم فيجب أن لا يصغي إليهم ولا يعول على تمويههم ثم نهاية شغبهم أن إثبات الصفات يقتضي التشبيه والتجسيم لما نراه في الشاهد وهذا الشغاب ينعكس عليهم ويعلم بطلانه بذلك
ألا ترى في الشاهد أن الفاعل للأشياء المتقنة العالم الخبير الحي السميع البصير جسم والله سبحانه حي سميع بصير عليم فاعل وليس بجسم وإثبات الصفات له على ما جاء به النص عنه وعن رسول الله ﷺ لا يوجب التجسيم والتشبيه بل كل شيء يتعلق بالمحدثات مكيف وصفات الباري لا كيفية لها فالتجسيم والتشبيه منتفيان عنه وعن صفاته وبالله التوفيق.
رسالة السجزي إلى أهل زبيد لأبي نصر السجزي | |
---|---|
المقدمة | الفصل الأول في إقامة البرهان على أن الحجة القاطعة في التي يرد بها السمع لا غير وأن العقل آلة للتمييز فحسب | الفصل الثاني في (بيان ما هي السنة وبم يصير المرء من أهلها) | الفصل الثالث في التدليل على أن مقالة الكلابية وأضرابهم مؤدية إلى نفي القرآن أصلا وإلى التكذيب بالنصوص الواردة فيه والرد لصحيح الأخبار ورفع أحكام الشريعة | الفصل الرابع في بيان أن شيوخهم أئمة ضلال ودعاة إلى الباطل وأنهم مرتكبون إلى ما قد نهوا عنه | الفصل الخامس بيان أن فرق اللفظية والأشعرية موافقون للمعتزلة في كثير من مسائل الأصول وزائدون عليهم في القبح وفساد القول في بعضها | الفصل السادس في إيراد الحجة على أن الكلام لن يعرى عن حرف وصوت البتة وأن ما عري عنهما لم يكن كلاما في الحقيقة وإن سمي في وقت بذلك تجوزا واتساعا وتحقيق جواز وجود الحرف والصوت من غير آلة وأداة وهواء منخرق وبيان قول السلف وإفصاحهم بذكر الحرف والصوت أو ما دل عليهما | الفصل السابع بيان أن فرق اللفظية والأشعرية موافقون للمعتزلة في كثير من مسائل الأصول وزائدون عليهم في القبح وفساد القول في بعضها | الفصل الثامن في بيان أن الذي يزعمون بشاعته من قولنا في الصفات ليس على ما زعموه، ومع ذلك فلازم لهم في إثبات الذات مثل ما يلزمون أصحابنا في الصفات | الفصل التاسع في ذكر شيء من أقوالهم ليقف العامة عليها فينفروا عنهم ولا يقعوا في شباكهم | الفصل العاشر في بيان أن شيوخهم أئمة ضلال ودعاة إلى الباطل وأنهم مرتكبون إلى ما قد نهوا عنه | الفصل الحادي عشر في بيان أن شيوخهم أئمة ضلال ودعاة إلى الباطل وأنهم مرتكبون إلى ما قد نهوا عنه |