الرئيسيةبحث

رحلة ابن جبير/الموحدون


الموحدون

ومن عجيب ما شاهدناه في أمر الدعوة المؤمنية الموحدية وانتشار كلمتها بهذه البلاد واستشعار أهلها لملكتها أن أكثر أهلها بل الكل منهم يرمزون بذلك رمزاً خفياً حتى يؤدي ذلك بهم التصريح، وينسبون ذلك لآثار حدثانية وقعت بأيدي بعضهم أنذرت بأشياء من الكوائن فعاينوها صحيحة.

فمن بعض الآثار المؤذنة بذلك عندهم أن بين جامع ابن طولون والقاهرة برجين مقتربين عتيقي البناء، على أحدهما تمثال ناظر جهة المغرب وكان على الآخر تمثال ناظر المشرق، فكانوا يرون أن أحدهم إذا سقط أنذر بغلبة أهل الجهة التي كان ناظراً إليها على ديار مصر وسواها. وكان من الاتفاق العجيب أن وقع التمثال الناظر المشرق فتلا وقوعه استيلاء الغز(1) على الدولة العبيدية وتملكهم ديار مصر وسائر البلاد. وهم الآن متوقعون سقوط التمثال الغربي وحدثان مايؤملونه من ملكة أهله لهم إن شاء الله.

ولم يبق إلا الكائنة السعيدة من تملك الموحدين لهذه البلاد، فهم يستطلعون بها صبحاً جلياً ويقطعون بصحتها، ويرتقبونها ارتقاب الساعة التي لا يمترون في إنجاز وعدها. شاهدنا من ذلك بالإسكندرية مصر وسواهما مشافهة وسماعاً أمراً غريباً يدل على أن ذلك الأمر العزيز أمر الله الحق ودعوته الصدق. ونمي إلينا أن بعض فقهاء هذه البلاد المذكورة وزعمائها قد حبر خطباً أعدها للقيام بها بين يدي سيدنا أمير المؤمنين، أعلى الله أمره، وهو يرتقب ذلك اليوم ارتقاب يوم السعادة وينتظره انتظار الفرج بالصبر الذي هو عبادة، والله عز وجل يبسطها من كلمة، ويعليها من دعوة انه على ما يشاء قدير.

وفي عشي يوم الثلاثاء الحادي عشر من الشهر المذكور، وهو الثاني من شهر أغشت، كان انفصالنا من جدة بعد أن ضمن الحجاج بعضهم بعضاً، وثبتت أسماؤهم في زمام عند قائد جدة علي بن موفق، حسبما نفذ إليه ذلك من سلطانه صاحب مكة مكثر بن عيسى المذكور وهذا الرحل مكثر من ذرية الحسن بن علي، رضوان الله عليهما، لكنه ممن يعمل غير صالح، فليس من أهل سلفه الكريم، رضي الله عنهم.

وأسرينا تلك الليلة أن وصلنا القرين مع طلوع الشمس. وهذا الموضع هو منزل الحاج ومحط رحالهم، ومنه يحرمون وبه يريحون اليوم الذي يصبحونه.

فإذا كان في عشية رفعوا وأسروا ليلتهم وصبحوا الحرم الشريف، زاده الله تشريفاً وتعظيماً. والصادرون من الحج ينزلون به ايضاً ويسرون منه جدة وبهذا الموضع المذكور بئر معينة عذبة، والحاج بسببها لايحتاجون تزود الماء غير ليلة إسرائهم إليه. فأقمنا بياض يوم الأربعاء المذكور مريحين بالقرين. فلما حان العشي رحنا منه محرمين بعمرة، فأسرينا ليلتنا تلك، فكان وصولنا مع الفجر قريب الحرم. فنزلنا مرتقبين لانتشار الضوء.