→ بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية/17 | بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية المؤلف: ابن تيمية |
بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية/19 ← |
الوجه العاشر قوله وأيضا انه تعالى جعل العرش قبلة لدعائنا كما جعل الكعبة قبلة لصلاتنا يقال له هذا باطل معلوم بالاضطرار بطلانه عقلا ودينا وذلك يظهر بوجوه
احدها ان المسلمين مجمعون على أن القبلة التي يشرع للداعي استقبالها حين الدعاء هي القبلة التي شرع استقبالها حين الصلاة فكذلك هي التي شرع استقبالها حين ذكر الله كما تستقبل بعرفة والمزدلفة وعلى الصفا والمروة وكما يستحب لكل ذاكر لله وداع ان يستقبل القبلة كما ثبت عن النبي ﷺ انه كان قد يقصد أن يستقبل القبلة حين الدعاء وكذلك هي التي يشرع استقبالها بالبول والغائط فليس للمسلمين كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم انك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد بل ولا لغيرهم قبلتان أصلا في العبادات التي هي من جنسين كالصلاة والنسك فضلا عن العبادات التي هي من جنس واحد وبعضها متصل ببعض فان الصلاة فيها الدعاء في الفتاتحة وغيرها والدعاء نفسه هو صلاة قد سماه الله في كاباه صلاة حيث قال وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم وفي الصحيح عن عبد الله بن ابي اوفى ان النبي ﷺ كان اذ اتاه قوم بصدقتهم صلى عليهم وان ابي اتاه بصدقه فقال اللهم صلى على آل ابي او في وقد قال تعالى يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقد علم النبي ﷺ امته الصلاة عليه في غير حديث في الصحاح وغيرها وفي جميعها انما يعلمهم الدعاء له بصلاة الله وبركاته كما قال قولوا اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما باركت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم انك حميد مجيد
وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع حيث تكلمنا على مسمى الصلاة في اللغة الذي هو الدعاء وان الصلاة المشروعة هي دعاء كلها فان الدعاء هو قصد المدعو تارة لذاته وتارة لمسألته أمرا منه وهذا كالشخص يدعو غيره ويطلبه ويقصده تارة لذاته وتارة لأمر يطلبه منه والصلاة تتضمن هذين النوعين عبادة الله والثناء عليه والسؤال له
وقد ذكر النبي ﷺ النوعين في الحديث الذي في صحيح مسلم عن ابي هريرة عن النبي ﷺ قال: يقول الله سبحانه وتعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فاذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله حمدني عبدي فاذا قال الرحمن الرحيم قال الله اثنى علي عبدي فاذا قال العبد مالك يوم الدين قال الله مجدني عبدي او قال فوض الي عبدي فاذا قال العبد اياك نعبد واياك نستعين قال الله هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فاذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل
فأخبر النبي ﷺ عن ربه انه قال قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ومسمى الصلاة في اللغة قد قالوا انه مسمى الدعاء والدعاء نوعان كما تقدم والنصف الذي للرب جل وعلا هو الثناء عليه والمقصود بذلك نفسه سبحانه وتعالى فهو بذلك نفسه سبحانه وتعالى فهو بذلك معبود مقصود مدعو لنفسه والنصف الاخر الذي للعبد هو السؤال والطلب منه وهو بذلك يقصد لذلك الأمر ويسأل ويطلب منه وهو الصمد في الأمرين لا يصلح ان يصمد لغيره لا هذا الصمد ولا هذا الصمد وهو ايضا أحد في هذين لا يصلح لغيره ان يكون هو المعبود ولا ان يكون هو المتوكل عليه المستعان به المسؤول منه فهو الأحد الصمد في النصف الذي له كقوله اياك نعبد وهو الأحد الصمد في النصف الذي للعبد كقوله اياك نستعين ولهذا قال من قال من السلف ان الله سبحانه انزل مائة كتاب واربع كتب جمع معانيها في الأربعة وجمع معاني الأربعة في القرآن وجمع معاني القرآن في المفصل وجمع معاني المفصل في أم القرآن وجمع معاني ام القرآن في قوله اياك نعبد واياك نستعين
وقد بسطنا الكلام على هذا في مواضع في غير هذا الكتاب وبينا تعلق العبادة بالالهية فان الاله هو المعبود وتعلق الاستعانة بربوبيته فان رب العباد الذي يربهم وذلك يتضمن انه الخالق لكل ما فيهم ومنهم والالهية هي العلة الغائية والربوبية هي العلة الفاعلية والغائية هي المقصودة وهي علة فاعلية للعلة الفاعلية ولهذا قدم قوله اياك نعبد على قوله اياك نستعين وتوحيد الالهية يتضمن توحيد الربوبية فانه من لم يعبد الا الله يندرج في ذلك انه لم يقر بربوبية غيره بخلاف توحيد الربوبية فانه قد أقر به عامة المشركين في توحيد الالهية كما قال تعالى وما يؤمن اكثرهم بالله الا وهم مشركون ذكر البخاري في صحيحه عن عكرمة وغيره تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره
وقد اخبر عنهم بذلك في قوله ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله وفي قوله قل لمن الأرض ومن فيها ان كنتم تعلمون سيقولون لله قل افلا تذكرون قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله قل افلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ان كنتم تعلمون سيقولون الله قل فانى تسحرون بل اتيناهم بالحق وانهم لكاذبون ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من اله اذا لذهب كل اله بما خلق ولعلى بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون فأخبر عن هؤلاء الذين نزه نفسه عن اشراكهم واخبر أنهم كاذبون في عدولهم عن الحق الذي جاء به ورد عليهم انه ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من اله انه اذا سألهم لمن الأرض ومن فيها سيقولون لله واذا سألتهم من رب السموات ورب العرش العظيم سيقولون الله واذا سألتهم من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه سيقولون الله
فالاول اقرارهم بأن الأرض وما فيها لله والثاني اقرارهم بأن السموات السبع والعرش العظيم لله والثالث اقرارهم بأن ملكوت جميع الأشياء بيده وانه الذي يمنع المخلوق وينصره فيجيره من الضرر والأذى فيجير على من يشاء ولا يجير عليه احد فاذا أراد بأحد ضررا لم يمنعه مانع واذا رفع الضر عن احد لم يستطع احد ان يضره وفي كون ملكوت كل شيء بيده بيان انه هو المدبر النافع له فهو الذي يأتي بالمنفعة وهو الذي يدفع المضرة كما قال في الاية الأخرى قل أرأيتم ما تدعون من دون الله ان ارادني الله بضر هل هن كاشفات ضره او ارادني برحمة هل هن ممسكات رحمته وكما قال في الاية الأخرى وان يمسسك الله بضر فلا كاشف له الا هو وان يردك بخير فلا راد لفضله
واذا كانوا مقرين بهذا فهذا اقرار منهم بعموم ربوبيته وتدبيره لكل شيء وهو اعظم من اقرار القدرية والصابئة والمتفلسفة الطبيعية ونحوهم ممن يجعل الرب لبعض الكائنات شيئا غير الله وهو مع هذا قد اخبر انهم مشركون نزه نفسه عن شركهم لكونهم عبدوا معه غيره لا لكونهم اعتقدوا ان للعالمين ربا معه
وكذلك قوله قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير ام ما يشركون امن خلق السموات والأرض وانزل لكم من السماء الى آخر الايات يستفهم فيها كلها استفهام انكار هل يفعل هذه الأمور احد من الالهة التي يعبدون من دون الله فان قوله أ اله مع الله اسم واحد وقع صفة لا له ليس هو جملة واحدة كما ظنه طائفة من المفسرين واعتقدوا ان المعنى مع الله اله فان القوم كانوا يجعلون مع الله آلهة اخرى وقد ذكر ذلك في السورة بقوله آلله خيرا اما يشركون فلا يفيد استفهامهم عما هم معترفون به وأيضا فان جواب المستفهم عنه لا يكون الا مفردا لا يكون جملة فاذا قيل من فعل هذا فانه يقال فلان ام فلان لا يذكر جملة بل لو كان كذلك لم ينتظم الكلام ولكن المقصود ان هذه الآلهة التي تدعونها من دون الله هل هي التي فعلت هذه الامور ام الله وحده فعلها فان القوم كانوا مقرين بأن الله وحده هو الفاعل لهذه الامور وهذا شأن استفهام الانكار فانه يتضمن نفي المستفهم عنه والانكار على من اثبته والقوم كانوا معترفين بذلك لكن كانوا مع ذلك مشركين به الالهة التي يعلمون انها لم تفعل ذلك فانكر عليهم ذلك وزجروا عنه ومثل هذا في القرآن كثير
ومن عرف هذا عرف الشرك الذي ذمه الله في كتبه وارسل رسله جميعا بالنهي عنه كما قال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون وقال تعالى ولقد بعثنا في كل امة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت والعبادة تتضمن كمال المحبة وكمال الخضوع قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله اندادا يحبونهم كحب الله والذين امنوا اشد حبا لله
فهذه السورة يعني الفاتحة التي قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ انها اعظم سوره في القرآن وانه لم ينزل في التوراة ولا في الانجيل ولا في القرآن مثلها قد ذكر فيها جماع الكتب الالهية بقوله اياك نعبد واياك نستعين ومما يشبهها قوله عليه توكلت واليه أنيب وقوله فاعبده وتوكل عليه وقوله عليه توكلت واليه متاب وهذان هما نوعا الدعاء كما تقدم وهما جميعا مختصان بالله حقان له لا يصلحان لغيره بل دعاء غيره بأحد النوعين شرك كما قال تعالى وان المساجد لله فلا تدعوا مع الله احدا وانه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا قال انما ادعو ربي ولا اشرك به احدا وقال تعالى فلا تدع مع الله الها اخر فتكون من المعذبين وقال تعالى ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم وقال وما ظلمناهم ولكن ظلموا انفسهم فما اغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء امر ربك وما زادوهم غير تتبيب
فغير الله لا يجوز ان يكون مستعانا به متوكلا عليه لانه لا يستقل بفعل شيء اصلا فليس من الأسباب ما هو مستقل بوجود المسبب لكن له شريك فيه وما ثم علة تامة الا مشيئة الله فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وكذلك لا يجوز ان يكون غيره معبودا مقصودا لذاته اصلا فان ذلك لا يصلح له ولهذا كان الشرك غالبا على بني آدم كما قال تعالى وما يؤمن اكثرهم بالله الا وهم مشركون فيكون احدهم عبدا لغير الله متألها له مما يحبه ويجله ويكرمه ويخافه ويرجوه حتى قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة ان اعطي رضي وان منع سخط تعس وانتكس واذا شيك فلا انتقش وهذا باب واسع ليس هذا موضع بسطه
وقد قدمنا ان كلا النوعين يوجب اختصاص الرب سبحانه وتعالى بأنه الأحد وبأنه الصمد فن كونه احدا يوجب ان لا يشرك به في العبادة ولا الاستغاثة فلا يدعى غيره والاسم الصمد جاء معرفا ليبين انه هو الصمد الذي يستحق ان يصمد اليه نوعي الصمد وهذان الاسمان لم يذكرا في القرآن الا في هذه السورة التي قد ثبت عن النبي ﷺ من غير وجه انها تعدل ثلث القرآن مثل ما روي عن ابي سعيد الخدري قال قال رسول الله ﷺ لأصحابه ايعجز احدكم ان يقرأ ثلث القرآن في ليلة فشق ذلك عليهم وقالوا اينا يطيق ذلك يا رسول الله قال قل هو الله احد ثلث القرآن رواه البخاري وروي عنه ايضا عن قتادة بن النعمان ان رجلا كان في زمن النبي ﷺ يقرأ في الفجر قل هو الله احد يرددها لا يزيد عليها فلما اصبح اتى رجل الى النبي ﷺ فقال يا رسول الله فلانا بات الليلة يقرأ من السحر قل هو الله احد يرددها لا يزد عليها كأن الرجل يتقالها فقال النبي ﷺ: فو الذي نفسي بيده انها لتعدل ثلث القرآن وروي مسلم عن ابي هريرة قال خرج الينا رسول الله ﷺ فقال اقرأ عليكم ثلث القرآن فقرأ قل هو الله احد حت ختمها وروى مسلم ايضا عن ابي الدرداء عن النبي ﷺ: قال ايعجز احدكم ان يقرأ في ليلة ثلث القرآن قالوا وكيف يقرأ ثلث القرآن قال قل هو الله احد تعدل ثلث القرآن وعن عائشه ان رسول الله ﷺ بعث رجلا على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بقل هو الله احد فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فقال سلوه لأي شيء يصنع ذلك فسألوه فقال انها صفة الرحمن عز وجل فأنا احب ان اقرأ بها فقال رسول الله ﷺ اخبروه ان الله يحبه رواه البخاري ومسلم
وقد قال من قال من العلماء هي ثلث القرآن لأن القرآن ثلاثة اقسام قسم توحيد وقسم قصص وقسم امر ونهي وهذه فيها التوحيد وهذا الذي قاله انما يتم اذا كانت جامعة للتوحيد والأمر كذلك فان هذين الاسمين يستلزمان سائر اسماء الله الحسنى وما فيها من التوحيد كله قولا وعملا والنبي ﷺ ذكر هذين الاسمين
فقال الله الواحد الصمد تعدل ثلث القرآن وذلك ان كونه احدا وكونه الصمد يتضمن انه الذي يقصده كل شيء لذاته ولما يطلب منه وانه مستغن بنفسه عن كل شيء وانه بحيث لا يجوز عليه التفرق والفناء وانه لا نظير له في شيء من صفاته ونحو ذلك مما ينافي الصمدية وهذا يوجب ان يكون حيا عالما قديرا ملكا قدوسا سلاما مهيمنا عزيزا جبارا متكبرا
اذا تبين ذلك فالدعاء الذي ذكره الرازي هنا هو احد نوعي الدعاء وهو دعاء المسألة والطلب منه قال تعالى واذا سألك عبادي عني فاني قريب اجيب دعوة الداع اذا دعان وهذا في الكلام نظير الذكر الذي هو ثناء وتحميد لله تعالى ولهذا يقال في الفاتحة نصفها ثناء ونصفها دعاء ومن المعلوم ان استقبال القبلة في هذا كاستقبالها في الذكر او اوكد والقبلة التي تستقبل بهذا الدعاء هي قبلة الصلاة بعينها ولهذا كان النبي ﷺ اذا اجتهد في الدعاء يستقبلها كما فعله في اثناء الاستسقاء الذي رفع فيه يديه رفعا تاما فعن عباد بن تميم عن عمه ان رسول الله ﷺ خرج بالناس يستسقي فصلى بهم ركعتين جهر بالقراءة فيهما وحول رداءه ورفع يديه فدعى واستسقى واستقبل القبلة رواه الجماعة اهل الصحاح والسنن والمساند كالبخاري ومسلم وابو داود والترمذي النسائي وابن ماجه وغيرهم فاخبر انه استقبل القبلة التي هي قبلة الصلاة في اثناء دعاء الاستسقاء واذا كانت قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة بعينها كان قول الجهمي ان العرش والسماء قبلة للدعاء قول مخالف لاجماع المسلمين ولما علم بالاضطرار من دين الإسلام فيكون من ابطل الباطل
الوجه الثاني في ذلك وهو الحادي عشر ان توجه الخلائق بقلوبهم وأيديهم وابصارهم الى السماء حين الدعاء امر فطري ضروري عقلي لا يختص به اهل الملل والشرائع بل يفعله المشركون وغيرهم ممن لا يعرف العرش ولا يسمع به ولا يعلم ان فوق السماء لله عرشا فلو كان الرفع انما هو الى العرش فقط الذي هو قبلة لم يقصد ذلك الرفع الا من علم ان هناك عرشا كمالا يقصد التوجه الى القبلة الا من علم ان الكعبة التي يستقبلها المسلمون هناك لان القصد والارادة لا يكون الا بعد الشعور بالمقصود فمن لم يشعر ان هناك عرشا امتنع ان يقصد الرفع الى العرش وهذا تحقيق ما تقدم من ان العلو لله علم بالفطرة والعقل واما استواؤه على العرش فانما علم بالسمع
الوجه الثالث في ذلك وهو الثاني عشر ان يقال كون العرش او السماء قبلة للدعاء لا يثبت بغير الشرع فان اختصاص بعض الجهات والامكنة بانه يستقبل دون غيرها هو امر شرعي ولهذا افترقت اهل الملل كما قال تعالى ولكل وجهة هو موليها فلو كان الله جعل العرش او السماء قبلة للدعاء كان في الشريعة ما يبين ذلك ومعلوم انه ليس في الكتاب والسنة ولا شيء من الآثار عن سلف الأمة ولا أئمتها ولا في الاثارة عن الأنبياء المتقدمين كموسى وعيسى وغيرهما من المرسلين صلوات الله عليهم اجمعين ان العرش او السماء قبلة للدعاء فعلم ان دعوى ذلك من من اعظم الفرية على الله وان هذا من جملة افتراء الجهمية ونحوهم على الله وعلى رسله ودينه
الوجه الرابع وهو الثالث عشر ان القبلة امر تتميز به الملل ويقبل النسخ والتبديل كما قال تعالى قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وان الذين اوتوا الكتاب ليعلمون انه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون ولئن اتيت الذين اوتوا الكتاب بكل اية ما تبعوا قبلتك وما انت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت اهوائهم من بعد ما جاءك من العلم انك اذا لمن الظالمين الذين آتيناهم الكتاب الى قوله تعالى ولكل وجهة هو موليها فاسبتقوا الخيرات اينما تكونوا يأت بكم الله جميعا فاخبر سبحانه أن لكل أمة وجهة يستقبلونها وولى محمدا قبلة يرضاها فأمره بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام بعد أن كان قد أمره ان يصلي الى البيت المقدس هو وأمته فصلى الى بيت المقدس بعد مقدمه المدينة بضعة عشر شهرا وصلى اليها قبل مقدمه المدينة وقد روي أنه كان بمكة يجعل الكعبة بينه وبين المسجد الأقصى واذا كانت القبلة أمرا يقبل النسخ والتبديل وهو مختلف في أمر الملل فيجب على هذا التقدير اذا كان العرش او السماء قد جعل قبلة للدعاء أن يجوز تغيير ذلك وتبديله حتى يجوز ان يدعى الله الى نحو الأرض ويجوز أن يدعوه الانسان من الجهات الست ويمد يده وعينيه الى سائر جهاته وأن يكون ذلك قبلة لبعض الداعين دون بعض وهذا مع أنه قد ذكر غير واحد اجماع المسلمين على تخطئة قائله وفاعله فالعلم بذلك اضطراري فان بني آدم مفطورون على أن لا يتوجهوا بقلوبهم وأيديهم الى غير الجهة العالية ولا يقصدوا الله من تحت اقدامهم ويمدوا أيديهم الى تلك الجهة السافلة ولا الى غير الجهة العالية
الوجه الخامس وهو الرابع عشر أن الله تعالى قد قال ولله المشرق والمغرب فأين ما تولوا فثم وجه الله فأخبر ان العبد حيث استقبل فقد استقبل قبلة الله ليبين انه حيث أمر العبد الاستقبال والتولية فقد استقبل وولي قبلة الله ووجهته ولهذا ذكروا أن هذه الاية فيما لا يتعين فيه استقبال الكعبة كالمتطوع الراكب في السفر فانه يصلي حيث توجهت به راحلته والعاجز الذي لا يعلم جهة الكعبة أو لا يقدر على استقبال الكعبة فانه يصلي بحسب امكانه الى أي جهة امكن وذكروا ايضا أنه نسخ ما تضمنته من تسويغ الاستقبال الى بيت المقدس كما كان ذلك قبل النسخ واذا كان هذا في القبلة المعروفة للصلوات التي يجب فيها استقبال قبلة معينة في الفريضة وفي التطوع في المقام فينبغي أن يكون في قبلة الدعاء اولى وأحرى فان الدعاء لا يجب فيه استقبال قبلة معينة باجماع المسلمين ولا يجب أن يستقبل القبلة المعروفة ولا أن يرفع يديه لا عند من يقول ان السماء والعرش قبلة الدعاء ولا عند من لا يقول بذلك واذا كان هذا لازما اقتضى جواز الاشارة في الدعاء الى غير فوق فيجب ان تجوز الاشارة بالأيدي حين الدعاء الى الأرض والتيامن والتياسر وقد تقدم قول من حكى اجماع المسلمين على خلاف ذلك وعلى تخطئة من يجوز ذلك كالقاضي ابي بكر وأيضا فمن المعلوم بالفطرة الضرورية أن احدا لا يقصد ذلك ولا يريده فعلم بطلان ما زعموه من كون العرش او السماء قبلة للدعاء
الوجه السادس وهو الوجه الخامس عشر أن القبلة ما يستقبله الانسان بوجهه وكذلك يسمى وجهة ووجها وجهة لاستقبال الانسان له بوجهه وتوجهه اليه كما قال تعالى ولكل وجهة هو موليها والاستقبال ضد الاستدبار فالقبلة ما يستقبله الانسان ولا يستدبره فأما ما يرفع الانسان اليه يده أو رأسه أو بصره فهذا باتفاق الناس لا يسمى قبلة لأن الانسان لم يستقبله كما لا يستدبر الجهة التي تقابله ومن استقبل شيئا فقد استدبر ما يقابله كما أن من استقبل الكعبة فقد استدبر ما يقابلها ومعلوم ان الداعي لا يكون مستقبلا للسماء ومستدبرا للأرض بل يكون مستقبلا لبعض الجهات اما القبلة او غيرها مستدبرا لما يقابلها كالمصلى فظهر ان جعل ذلك قبلة باطل في العقل واللغة والشرع بطلانا ظاهرا لكل أحد
الوجه السابع وهو السادس عشر ان القبلة امر يحتاج الى توقيف وسماع ليس في الفطرة والعقل ما يخص مكانا دون مكان باستقباله في الصلاة والدعاء او غير ذلك فلو كان الداعون انما يقصدون برفع أيديهم وابصارهم وغير ذلك استقبال بعض المخلوقات مثل العرش والسماء وغير ذلك من غير أن يكون الرفع الى الخالق تعالى لم يفعلوا ذلك الا عن توقيف وسماع ومن المعلوم أنهم يفعلون ذلك بفطرتهم وعقولهم من غير أن يوقفهم عليه احد ولا تلقوه عن أحد
الوجه الثامن وهو السابع عشر أن القبلة لا يجد الناس في أنفسهم معنى يطلب تعيينها ولا فرقا بين قبلة وقبلة ولهذا لما أمر المسلمون باستقبال المسجد الأقصى ثم امروا باستقبال المسجد الحرام كان هذا جميعه عندهم سائغا لا يجد المؤمنون في أنفسهم حرج من ذلك ولا تفريقا بينه فلو كان الرفع والتوجه الى جهة السماء لكونه قبلة لكان ذلك عند الناس مؤمنهم وغير مؤمنهم منزلة التيامن والتياسر والسفل والقفا ومن المعلوم أنهم يجدون في أنفسهم طلبا ضروريا لما فوق فهذه المعرفة والطلب الضروري الذي يجدونه يطلب العلو دون السفل يمنع أن يكون لكونه قبلة وضعية بل ذلك يقتضي ان المطللوب المدعو هناك كما يجدونه ايضا في أنفسهم ويقرون به بألسنتهم
الوجه التاسع وهو الوجه الثامن عشر أنه قد اعترف في نهايته بأن الناس انما يرفعون الى الله واعرض عن هذه الأجوبة الثلاثة التي ذكرها هنا وهو أن الرفع للجهة التي تتعلق بها منافعهم من الأنوار والأرزاق أو لمن فيها من الملائكة او لكون العرش قبلة الدعاء وذلك أنه قد علم علما يقينيا ان الخلائق انما يقصدون بالرفع الرفع الى الله لكن تكلم في المقدمة الثانية وهو ان ذلك يدل على علمهم الضروري بأن الذي يطلب منه تحصيل المطالب وتيسير العسير في تلك الجهة بما تقدم ذكره ونحن نتكلم عليه
الوجه التاسع عشر أن الاشارة مع العبارة هي لمن ذكر في العبارة سواء كان ذلك في الجمل الخبرية او الجمل الطلبية وسواء في ذلك الاشارة بلفظ هذا او نحوه من الفاظ الاشارة والفاظ الدعاء والنداء وذلك ان المتكلم اذا قال فعل هذا الرجل او هذا الرجل ينطلق او اكرم هذا الرجل ونحو ذلك فان العبارة وهي لفظ هذا يطابق ما يشير الله المتكلم ولهذا سمي النحاة هذه أسماء الاشارة وهذه الألفاظ بنفسها لا تعين المراد الا باشارة المتكلم الى المراد بها ولهذا من سمع هذا وذاك وهؤلاء وأولئك ولم يعرف الى اي شيء أشار المتكلم لم يفهم المراد بذلك فالدلالة على العين هي بمجموع اللفظ وبالاشارة اذ هذه الألفاظ ليست موضوعة لشيء بعينه وانما هي موضوع لجنس ما يشار اليه وأما تعيين المشار اليه فيكون بالإشارة مع اللفظ كما ان أداة أل التعريف موضوعة لما هو معروف من الأسماء أما كون الشيء معروفا فذاك يجب ان يكون معروفا بغير اللام اما بعلم متقدم او ذكر متقدم
وكذلك المعرف بالنداء فان النداء والدعاء من أسباب التعريف فالمنادى المعرفة يكون مفهوما وان كان نكرة كان منصوبا فاذا نادى المنادي رجلا مطلقا قال يا رجلا كقول الأعمى يا رجلا خذ بيدي ومن نادى رجلا بعينه قال يا رجل كقول موسى عليه السلام ثوبي حجر ثوبي حجر وهذا المنادى المعين يشير اليه الداعي المنادي فيقصده بعينه بخلاف المطلق الذي يدل عليه لفظ النكرة كقوله رجلا خذ بيدي فانه هنا لم يشر الى شيء بعينه فهذا التعريف بالنداء انما هو يتعين في الباطن بقصد الداعي وفي الظاهر باشارته والمنادي الداعي ونحوه من ذوي الطلب والاستدعاء او المخبر المحدث قد يشير اشارة ظاهرة الى المنادي وغيره من المقصودين اما لتعريف المخاطبين اذا لم يعرفوا المعين الا بذلك مثل من ينادي رجلا بعينه في رجال فيقول يا رجل او يا هذا او يا زيد ويكون هناك جماعة اسمهم زيد ولا بد أن يشير اليه اما بتوجيه وجهه نحوه او بعينه او براسه أو يده أو غير ذلك وتارة يشير توكيدا وتحقيقا لخطابه وإذا كان متميزا بالاسم ولا يجوز ان يدعو احدا وتكون الاشارةخ الى غير من دعا فلا يجوز ان يقول يا زيد ويشير الى غير من قصده او يا هذا ويشير الى غير من قصده
فاذا قال الداعي اللهم وأشار برأسه او عينه او وجهه أو يده أو أصبعه لم تكن اشارته الا الى الله الذي دعاه وناداه وناجاه لا الى غيره اذ المدعو المنادى من شأن الداعي ان يشير اليه وليس هنا من يشير اليه الداعي بقوله اللهم او يا الله ونحو ذلك الا الله فهو الذي يشير اليه بباطنه وظاهره واشارته اليه بباطنه وظاهره هي قصده وصمده ذلك من معنى كونه صمدا اي يصمد العباد له واليه ببواطنهم وظواهرهم وهو من معنى كونه مقصودا مدعوا معبودا وهو من معنى الهيته فيدعونه ويقصدونه ببواطنهم وظواهرهم فكما لا يجوز ان يكون القصد بالقلب اذا قالوا يا الله لغيره بل هو المقصود بالباطن فكذلك هو ايضا المقصود بالظاهر اذا قالوا ي الله وأشاروا بظواهرهم بحركة ظاهرة بالاشارة اليه والتوجه نحوه وقصده كحركة بواطنهم بالاشارة اليه والتوجه نحوه وقصده لكن الظاهر تبع للباطن ومكمل له فمن دفع هذه الاشارة اليه فهو كدفع الاشارة اليه بالقلب وذلك دفع لقصده الدافع لدعائه المتضمن لدفع عبادته ولكونه صمدا
فهؤلاء المعطلة حقيقة قولهم منع أن يكون صمدا مدعوا معبودا مقصودا كما أن حقيقة قولهم منع أن يكون في نفسه حقا صمدا موجودا فقولهم مستلزم لعدم نفسه وتعطيله ولعدم معرفته وعبادته وقصده وان كانوا من وجه آخر يقرون بوجوده وعبادته ودعائه وقصده اذ ليسوا معطلين مطلقا بل جامعين بين الاقرار والانكار والاثبات والنفي ولهذا كان أهل المعرفة بالله متفقين على أنه لا يتم معرفة عبد بربه ويتم قصده له وتوجهه اليه ودعاه له الا باقراره بأنه فوق العالم وأنه باقراره بذلك تثبت الالهية في قلبه ويصير له رب يعبده ويقصده وبدون ذلك لا يبقى قلبه مستقرا مطمئنا الى اله يعبده ويقصده بل يبقى عنده من الريب والاضطراب ما يجده من جرب قلبه في هذه الأسباب كما قال الشيخ ابو جعفر الهمداني ما قال عارف قط يا الله الا وجد في قلبه ضرورة تطلب العلو لا تلفت يمنة ولا يسرة
وكذلك المخاطب له بمثل قوله اياك نعبد واياك نستعين هو مثل الداعي بقوله اهدنا الصراط المستقيم فان الخطاب كله سواء كان بالأسماء المضمرة منفصلها ومتصلها مرفوعها ومنصوبها ومخفوضها كقوله انت ربي وأنا عبدك وقوله اياك نعبد وقوله اسلمت نفسي اليك ووجهت وجهي اليك وفوضت امري اليك وقوله خلقتني ورزقتني وقوله نستعينك ونستهديك ونستغفرك
الوجه العشرون أن كون الرب الها معبودا يستلزم أن يكون بجهة من عابده بالضرورة وذلك ان العبادة تتضمن قصد المعبود وارادته وتوجه القلب اليه وهذا امر يحسه الانسان من نفسه في جميع مراداته ومقصوداته ومطلوباته ومحبوباته التي قصدها وأحبها وطلبها دون قصده وحبه وطلبه للآلهة كما قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله اندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله
والانسان يحس من نفسه أنه اذا قصد شيئا او احبه غير نفسه فلا بد وان يكون بجهة منه وانه اذا قيل له اقصد او اطلب او اعبد أو احب من لا يكون بجهة منك ولا هو فيك ولا فوقك ولا تحتك ولا أمامك ولا وراءك ولا عن يمينك ولا عن شمالك كان هذا امرا بالممتنع لذاته ليس هو امرا بممكن لا يطيقه والممتنع لذاته يمتنع الأمر الشرعي به باتفاق المسلمين ويكون حقيقة الأمر اعبد من يمتنع ان تعبد واقصد من يمتنع ان تقصد وادع من يمتنع ان يدعى ووجه وجهك الى من يمتنع التوجه اليه وهذا امر بالجمع بين النقيضين
وقد ذكرنا نظير هذا غير مرة وبينا ان قول الجهمية يستلزم الجمع بين النقيضين وان يكون موجودا معدوما معبودا غير معبود مأمورا بعبادته منهيا عنها فحقيقته امر بعبادة العدم المحض والنفي الصرف وترك عبادة الله سبحانه وهذا رأس الكفر وأصله وهو لازم لهم لزوما لا محيد عنه واذا كان فيه ايمان لا يقصد ذلك لكن الذي ابتدع هذا النفي ابتداءا وهو عالم بلوازمه كان من أعظم المنافقين الزنادقة المعطلين للصانع ولعبادته ودعائه
ولهذا تجد هذا السلب انما يقع كثيرا من متكلمي الجهمية الذين ليس فيهم عبادة لله ولا انابة اليه وتوجه اليه وان صلوا صلوا بقلوب غافة وان دعوه دعوه بقلوب لاهية لا تتحقق قصد المعبود المدعو فانها متى صدقت في العبادة والدعاء اضطرت الى قصد موجود يكون بجهة منها فتنتقل حينئذ الى حال عبادة الجهمية فتجعله في كل مكان او الوجود المطلق ويتوجه بقلبه الى الجهات الست فبينما كان في نفيه عن الجهات الست صار مثبتا له في الجهات الست وهذا حال الجهمية دائما يترددون بين هذا النفي العام المطلق وهذا الاثبات العام المطلق وهم في كلاهما حائرون ضالون لا يعرفون الرب الذي امروا بعبادته
وكل من جرب نفسه وامتحنها من المؤمنين علم من نفسه علما يقينيا ضروريا يجده من نفسه كما يجد حبه وبغضه ورضاه وغضبه وفرحه وحزنه انه متى صدق في عبادة الله ودعائه والتوجه اليه بقلبه لزم ان يقصده بجهة منه فان كان على فطرته التي فطر عليها او ممن هو مع ذلك مؤمن بما جاءت به الرسل قصد الجهة العالية وان كان ممن غيرت فطرته قصد الجهات كلها وقصد كل موجود فلهذا قال الشيخ ابو جعفر الهمداني لأبي المعالي ما قال عارف قط ي الله الا وجد من قلبه ضرورة تطلب الجهة العالية لا تلتفت يمنة ولا يسرة
فتبين ان قوله اياك نعبد واياك نستعين بل وقوله اهدنا الصراط المستقيم لا يصدق في قول ذلك الا من يقر ان الله فوقه ومن لم يقر بذلك يكون فيه نفاق عنده قصد بلا مقصود وعبادة بلا معبود حقيقي وان كان مثبتا له من بعض الوجوه لكن قلبه لا يكون مطمئنا الى انه يعبده
يوضح ذلك ان عبادة القلب وقصده وتوجهه حركة منه وحركة الانسان بل كل جسم لا يكون الا في جهة اذ الحركة مستلزمة للجهة وتقدير متحرك بلا جهة كتقدير حركة بلا متحرك وهذا مما لا نزاع فيه بين العقلاء لكن غلاة المتفلسفة قد يزعمون ان القلب والروح ليس جسما وانه لا داخل البدن ولا خارجه وهذا معلوم فساده بالحس والعقل والسمع كما قد بيناه في غير هذا الموضع وغلاة المتكلمين يزعمون ان الروح انما هو عرض من اعراض البدن ليست شيئا ينمارق البدن ويقوم بنفسه وهذا ايضا فاسد في الشرع والعقل كما بيناه في غير هذا الموضع واذا عرف فساد القولين علم ان الروح التي فينا جسم يتحرك ثم نقول القلب الذي هو مضغة يحس الانسان من نفسه بصمود وارتفاعه الى فوق عند اضطراره الى الله تعالى
الوجه الحادي والعشرون قوله في نهايته الاشارة الى فوق سببها الالف والعادة وجريان الناس على ذلك وقد ذكر مستند هذه العادة أنه مستند فاسد
يقال هذه المقدمة تقرر بوجوه
احدها ان ذلك يستلزم علما ضروريا بأن مدعوهم فوق كما تقدم من انهم يجدون هذا العلم الفطري الضروري وانهم يخبرون بألسنتهم انهم يجدونه وان افعالهم واقوالهم تدل على انهم يجدونه وهذا العلم يلزم نفوسهم لزوما لا يمكنهم الانفكاك عنه اعظم من لزوم العلم الضروري بالأمور الحسابية والطبيعية مثل كون الواحد ثلث الثلاثة وان الجسم لا يجتمع في مكانين وذلك ان ذلك علم مجرد ليسوا مضطرين اليه بل قد لا يخطر ذلك ببال احدهم وأما هذا العلم فهم مع كونهم مضطرين اليه هم مضطرون الى موجبه ومقتضاه وهو الدعاء والسؤال والذل والخضوع للمدعو المعبود الذي هو فوق فهم مضطرون الى العلم والى العمل الذي يتبع هذا العلم وهو السؤال والطلب وان كان فيهم من يكون عند ظنه الاستغناء ويحمله الاستكبار على الأعراض عن هذا العلم والاعتراف والطلب والارادة والدعاء او يحمله عليه اعتقاد فاسد او عادة فاسدة فهذا لا يخرجه عن ان يكون ضروريا فان هذا من اعظم السفسطة التي يدعو اليها أهل التقليد للآباء وطلب العلو والفساد في الأرض ومن المعلوم انه مع قوة الصارف المعارض للداعي لا يكون حاله كحال الداعي الذي لم يعارضه صارف
وما ذكر من مبادىء العلم الحسابي والطبيعي كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين وان الجسم لا يكون في مكانين ونحو ذلك ليس الداعي الى هذا العلم قويا في النفوس ولا الصارف عنه قويا في النفس ولهذا تجد عامة من يصير هذا العلم قائما بنفسه من عنده نوع نظر وبحث فيما يتعلق بذلك وتجد الحاجة لمثل هذا النوع فساد خاص في عقله او غرض خاص وأما العلم الالهي فهو أجل واشرف فانه ضروري لبني آدم علما وارادة فطروا على ذلك موجود هذا العلم والأرادة الضروريتين في أنفسهم اكثر وأكثر من وجود ذلك والمعارض لهذا لا بد وأن يكون قويا اما اعتقاد فاسد كاعتقاد الجهمية المتأولين الذين لم يكابروا العقل وليس لهم غرض في خلاف الدين واما ارادة فاسدة قوية كارادة فرعون وقومه الذين قال الله فيهم وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين وقال له موسى لقد علمت ما أنزل هؤلاء الا رب السموات والأرض بصائر وهذه الارادة الفاسدة هي الهوى الذي يصد عن معرفة الحق وهو مرض في القلب يمنعه ما فطر عليه من صحة الادراك والحركة كما يمنع مرض العين ما فطرت عليه من صحة الادراك والحركة وكذلك المرض في سائر الأعضاء فهؤلاء الذين لا يجدون في انفسهم علما ضروريا وقصدا ضروريا لمن هو فوق العالم قد مرضت قلوبهم وفسدت فطرتهم ففسد احساسهم الباطن كما يفسد الاحساس الظاهر مثل المرة التي تفسد الذوق والحول والعشي الذي يفسد البصر وغير ذلك ولهذا انما يكون الاعتبار في هذا بذوي الفطر السليمة من الفساد والاحالة
فان قيل قد تكرر ما ذكرتموه من كون الناس مضطرين الى الاقرار بأن صانع العالم فوق ولا ريب ان هذا قد قاله طوائف كثيرة من أهل الكلام والحديث والفقه والتصوف وهو من أشهر حججهم وادلتهم عند خاصتهم وعامتهم لكن هذا مستلزم أن يكون الاقرار بالصانع فطريا ضروريا فانه اذا كان الاقرار بعلوه فطريا ضرويا فالاقرار به نفسه اولى ان يكون فطريا ضروريا لان العلم بالموصوف لا يجوز أن يتأخر عن العلم بالصفةخ والعلم بالقضية المرادية لا يجوز ان يتأخر عن العلم بفردها فاذا كان العلم بمضمون قولنا هو فوق علما ضروريا فالعلم به وبمعنى فوق أولى أن يكون ضروريا وليس الأمر كذلك فان الأقرار بالصانع انما هو معلو بالنظر والاستدلال كا هو مشهور عند العلماء النظار ولهذا تنازعوا في اول الواجبات هل العل نفسه او النظر المفضي اليه على قولين وان كان النزاع قد يقال انه لفظي لكون العلم واجبا لنفسه والنظر واجبا وجوب الوسائل التي تجب لغيرها وهذا نزاع مشهور في عامة الطوائف وهو قولان لاصحاب الامام احمد وغيرهم
قيل له من الناس من قد يقول في مثل هذا أن العلم بالتصديق والقضية المؤلفة اذا كان بديهيا ضروريا فقد يكون ذلك لكون تصور المفردين بديهيا وهذا هو البديهي تصورا وتصديقا وقد يكون تصور المفردين كسبيا نظريا ولكن بعد حصول تصورهما يكون العلم بنسبة احدهما الى الأخر بديهيا ضروريا لا يفتقر الى وسط بينهما يكون دليلا على المطلوب واذا كان كذلك لم يجب اذا كان العلم بأنه فوق بديهي ضروري أن يكون العلم بمعناه وبمعنى فوق بديهيا ضروريا لكن هذا القول لم يجب به لأن القائلين بأن العلم بهذا بديهي ضروري قالوا انه فطري لبني آدم بدون نظر قياسي يكون سابقا على هذا العلم فهم جعلوه من الفطري الضروري البديهي المطلق
ولأن البديهي للتصديق دون التصور انما يقف على ما يحصل به تصور المفردين لا يقف على ما يحصل به وجود المفردين في الخارج فهب أن العلم بمسمى اسم الله فطري لكن العلم بوجوده هو أيضا علم بتصديق كالعلم بعلوه ولأن دعوى كون التصور مطلوبا يعلم بالحدود باطل كما بيناه في غير هذا الموضع وبينا ان الحدود لا تفيد الا لتمييز بين المحدود وغيره لا تفيد المستمع تصور ما لم يتصوره بدونها وأن التصورات لو لم تعلم الا بالحدود لأفضى الى الدور ولأن الحاد يجب أن يتصور المحدود قبل أن يحده وان الحد من باب الاقوال والعبارة والقول لا يفيد المستمع ان لم يكن متصورا لمفردات الكلام قبل ذلك بنفسها او بنظيرها اذ العلم بالمعنى الذي قصده المخاطب يفتقر الى العلم بأن اللفظ دال على المعنى موضوع له والعلم بكون اللفظ موضوعا للمعنى يقف على العلم بالمعنى وباللفظ فلا يجوز ان يكون تصور ذلك المعنى مستفادا من اللفظ الذي لا يدل الا بعد أن يعلم المعنى وأن اللفظ موضوع له ودال عليه ولان المعرف للمفرد بالقول اما أن يعرفه بلفظ مفرد مطابق له وهو الاسم او يعرفه بذكر صفة مخصوصة به ولفظ تلك الصفة بمنزلة الاسم في العموم والخصوص كالناطق والانسان واما أن يعرفه بذكر الخاص بعد العام فتصور العام وشموله لتلك الأفراد مسبوق بتصور تلك الأفراد فلو كان تصور تلك الأفراد مستفادا من العام لزم الدور اذ علم المتكلم والمستمع بأن الانسان حيوان مسبوق بتصور الانسان والحيوان اذ لا يعلم أن الانسان حيوان الا من يعلم الانسان ولا يعلم ان الحيوان جسم الا من يعلم الحيوان والجسم فلو كانت معرفة الانسان لا تستفاد الا بعد معرفة الحيوان ومعرفة الحيوان لا تعلم الا بعد معرفة مفرداته التي يوصف بها لزم الدور وذلك أن الأجناس الكلية لا وجود لها كلية الا في الأذهان والذهن انما يجردها اذا أحس بها معينة موجودة مشخصة في الخارج لكن يقال انه قد ينتزعها من بعض الأعيان مثل ان يتصور الحيوان من جهة معرفته بالفرس ولا يتصور كون الانسان هو أيضا كذلك فيقال له ذلك المعنى الذي يوصف به الفرس يكون نظيره للأمر الذي يحد لك وهو الانسان لكن هذا أيضا يلزم الدور فانه ليس علم الانسان بانطباق بعض الانواع بأنه حيوان أولي من العلم بانصاف النوع الآخر به
وأهل هذه الحدود لا يقولون المحدود هو نوع الانسان دون الفرس ولا بالعكس بل الحدود لهذه الأنواع كلها سواء بل علم الانسان عندهم بنفسه وبنوعه وبصفاته هي عنده اسبق واظهر من علمه بصفات غيره ن الأنواع وبالجملة فليس موضع هذا وانما المقصود هنا أنا لا نجيب بذلك الجواب بل نقول هب أن العلم بأنه فوق اذا كان فطريا ضروريا أولى فأي محذور في ذلك
قوله المشهور عند النظار أن العلم بالصانع انما يحصل بالنظر والاستدلال وهو ترتيب الأقيسة العقلية
يقال له ليس هذا قول أحد من سلف الأمة ولا ائمتها ولا قاله أحد من الأنبياء والمرسلين ولا هو قول كل المتكلمين ولا غالبهم بل هذا قول محدث في الإسلام ابتدعه متكلمو المعتزلة ونحوهم من المتكلمين الذين اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمهم وقد نازعهم في ذلك طوائف من المتكلمين من المرجئة والشيعة وغيرهم وقالوا بل الاقرار بالصانع فطري ضروري بديهي لا يجب ان يتوقف على النظر والاستدلال بل قد يقولون يمتنع ان يحصل بالقياس والنظر وهذا قول جماهير الفقهاء والصوفية واهل الحديث والعامة وغيرهم بل قد اتفق سلف الأمة وأئمتها على ان معرفة الله والاقرار به لا يقف على هذه الطرق التي يذكرها اهل طريقة النظر بل بعض هذه الطرق لا تفيد عندهم المعرفة فضلا عن أن يكون الله لا يقر به مقر ولا يعرفه عارف الا بالطريقة المشهورة له من اثبات حدوث العالم بحدوث صفاته مع دعواهم أن الله لا يعرف الا بهذه الطريقة وهذه مسألة عظيمة ليس هذا موضع بسطها وقد بسطناها في غير هذا الموضع
وياق ان أصل المعرفة والاقرار بالصانع لا يقف على النظر والاستدلال بل يحصل بديهة وضرورة ولهذا يقر بالصانع جميع الأمم مع عظيم شركهم وكفرهم وأنهم لا يسلكون من هذه الطرق المشهورة عند النظار مثل الاستدلال بالحدوث على المحدث وبالامكان على الواجب ولهذا يوجد له عند كل أمة اسم يسمونه والتسمية مسبوقة بالتصور فلا يسمى أحد الا ما عرفه ثم المستمع لذلك الاسم يقبل بفطرته ثبوت المسمى به من غير طلب حجة على وجوده ويكون قبولها لذلك كقبولها لأسماء سائر ما أدركه بحسه وعقله مثل الشمس والقمر والواحد والاثنين بل هذا أكمل واشرف ودلائل هذا كثيرة ليس هذا موضعها
ومع هذا فالطرق النظرية تفيد العلم والمعرفة ولا منافاة بين كون الشيء يعلم بالبديهة والضرورة ويكون عليه أدلة وهي نوعان
احدهما الآيات كما يذكر الله ذلك في القرآن والآية هي دليل عليه بعينه لا تدل على قدر مشترك بينه وبين غيره منفس الكائنات وما فيها وهو عين وجودها في الخارج مستلزم لوجود الرب وهو آية له ودليل عليه وشاهد بوجوده بعينه لا قدر مشترك بينه وبين غيره
الثاني ضرب الأمثال والقياس وهو نوعان أحدهما قياس الأولى والأخرى فهذا أيضا مما يذكره الله في القرآن لكن عامة ما يستعمل هذا في صفاته كاثبات وحدانيته في الهيته وقدرته ونحو ذلك
والثاني الأقيسة المطلقة اقيسة الشمول المنطقية واقيسة التمثيل وهذه التي يسلكها هؤلاء النظار المتكلمون من المتفسلفة ومتكلمي أهل الملل وهي اضعف الطرق وأقلها فائدة وطريقة المتكلمين أجود فانهم يثبتون بها ان للعالم محدثا وأما المتفلسفة فما يثبتون أولا الا وجودا واجبا ليس فيه انه صانع العالم ولا باريه ثم ان كلا من الصنفين لا بد أن يستعمل طريقته قضية كلية مثل قول أولئك العالم محدث او العالم فيه حوادث من جواهر وصفات وغير ذلك وكل محدث فلا بد له من محدث فان هذه قضية كلية وهي مع كونها معلومة بالبديهة والضرورة فقد يثبتها كثير من المعتزلة بقياس التمثيل وهو القياس على محدثات الآدمي من الدور والبنيان
ومن المعلوم أن علم الانسان بأن كل محدث لا بد له من محدث هو علم يندرج فيه أن هذا المحدث لا بد له من محدث وهذا المحدث لا بد له من محدث ومن المعلوم أن علمه بهذه الأفراد المعينة أسبق الى حسه وعقله من علمه بهذه القضية الكلية العامة كما في نظائر ذلك كما أن علمه هذا الانسان يحس ويلتذ ويتألم قبل علمه بأن كل انسان يحس ويلتذ ويتألم اذ الأمور الموجودة الحسية يكون العلم بها قبل أن يعقل عامة كلية واذا كان كذلك فعلم الانسان بأن هذا المحدث الذي علم حدوثه كما يشهده من الحوادث او يعلم حدوثه بدليل او قياس علمه بأن هذا المحدث لا بد له من محدث لا يحتاج الى أن يعلم قبل ذلك أن كل محدث فلا بد له من محدث فلا يحتاج في العلم بالمحدث الى هذه القضية الكلية والقياس المشتمل عليها وان كان ذلك أيضا من جملة الأقيسة والأمثال المضروبة التي يثبت بها ذلك لكن ينبغي أن يكون على وجه أالأولى بأن يقال اذا كان هذا المحدث الصغير لا بدل له محدث فهذا المحدث الكبير أولى
وأيضا فنحن لم نشهد محدثا تاما مطلقا اذ لا محدث تام على الحقيقة الا الله سبحانه فظن من ظن من المعتزلة أنه انما يعرف ان المحدث يفتقر الى محدث الا بالقياس على احداث الآدميين غلط وذلك أن حكم الاصل أضعف من حكم الفرع فان الانسان وان زعموا انه يحدث تصرفاته فلا ريب انه يفتقر فيما يبنيه وينسجه الى آلة خارجة عن قدرته فليس هو نظير حكم الفرع بل يستعمل قياس الأولى ليعلم ان حكم الفرع أقوى وأحق
وكذلك قول القائل ان الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر الا بمرجح قضية كلية مضمونها أن جميع الممكنات وهي التي لا تستحق بنفسها الوجود ولا يمتنع عليها العدم فلا تكون موجوده الا بمرجح لكن العلم بها ليس باسبق ولا بأظهر من العلم بافرادها فان الانسان متى تصور أن الشيء الفلاني لا يستحق الوجود في نفسه ولا يمتنع أن ذلك الشيء الفلاني لا يوجد بنفسه بل نفس تصور الممكن يوجب هذا العلم فانه اذا قيل الشيء يجوز وجوده من غيره والشان انما هو في تعيين الأمور التي هي ممكنة وهذا قد يعلم بالحدوث المشهود او المستدل عليه فتكون طريقتهم تابعة لطريقة الأولين واما علم ذلك بغير هذه الطريق ففيها من الخفاء والنزاع ما ليس هذا موضعه
ولهذا كثر في هؤلاء من يجحد الصانع مع اقراره بوجود واجب ثم مع ذلك فأؤلئك انما يستفيدون بطريقهم العلم بالقدر المشترك بينه وبين سائر المحدثين اذ القضية الكلية لا تدل الا على القدر المشترك فيكونوا قد علموا من احداثه ما علموه من احداث سائر الحيوانات حتى البعوضة ومعلوم أن هذا علم قليل نزر بما يستحقه الرب ولم يعلموا من احداث ربهم الا ما اشركوا به فيه جميع الحيوانات فيكونون أبعد عن معرفة الله تعالى من المشركين الذين قال فيهم وما يؤمن اكثرهم بالله الا وهم مشركون
ونحن نعلم أن المحدث تعظم قدرته وفعله الأمر المحدث كما يعلم أن باني الدار العظيمة وناسج الثوب العظيم اعظم من باني الدار الصغيرة وناسج الثوب الصغير لكن القضية الكلية التي ذكروها تفيد أنه أعظم من سائر المحدثين
بقدر عظمة العالم على جميع مصنوعات اولئك وهذا بعض ما يستحقه الرب من التعظيم وعدم المماثلة لكن نفس الاحداث ايضا فيه من التفاوت اعظم من هذا التفاوت فما احدثه الرب وان كان اعظم فنفس احداثه ايضا اعظم وهو ليس من جنس احداث المخلوقين وما ذكروه من القياس لا يفيد هذا الا بدليل آخر اذ القضية الكلية لا تدل الا على القدر المشترك ثم قياسهم يدل على ذات ما موصوفة بهذاه الاحداث
ففي الجملة ليس في هذا القياس علم بخصوص الربوبية ولهذا كان ما ورد به القرآن من كونه رب العالمين وخالق كل شيء ونحو ذلك له من الربوبية على هذا ما لم يتسع هذا الموضع لذكره اذ غيره ليس ربا مطلقا ولا خالقا مطلقا ايضا فكان ما اثبته له من فعل العالم أثبته على الوجه المختص به لم يثبته باسم لا يفيد الا القدر المشترك كما فعله هؤلاء الذين قاسوا احداثه على احداثهم وأما الآخرون فانما يستفيدون الاقرار بوجود واجب الوجود قدرمشترك بينه وبين سائر الموجودات فكان معلوم هذا أبعد عن معرفة الله وما يخصه من معلوم اولئك اذ كونه محدثا فيه تعرض لربوبيته وفعله وان كانوا قد اشركوا بينه وبين الحيوانات وأما هؤلاء فانهم اشركوا بينه وبين سائر الموجودات باثبات وجوده ثم تمييزه بكون وجوده واجبا كتميز أولئك بأنه محدث العالم ولا ريب أن تمييز هؤلاء اجود فان كونه محدث العالم مستلزم غناه ووجوده بنفسه وأما العلم بمجرد كونه موجودا بنفسه فلا يفيد العلم بأنه صانع العالم ولا بأنه رب السموات والأرض ولا يفيد أيضا العلم بمغايرته لشيء من الموجودات التي لم يعلم حدوثها اذ كون وجوده واجبا لا ينفي بنفسه أن يكون بعض الذوات التي ليست محدثة ثم اذا قرروا أن الاجسام كلها ممكنة أو أن السموات والأرض كلها ممكنة وواجب الوجود غيرها او قرروا أن واجب الوجود لا يكون اثنين لم يستفيدوا بذلك الا مجرد ان الوجود المشترك بينه وبين غيره وجد بنفسه ولم يحتج الى فاعل فيكونون قد مثلوه بسائر الموجودات ولكن فرقوا بينه وبينها بالغنى عن الغير فقط وهذا الوصف قد يزعمون انه عدمي وقد يزعمون أنه اضافي وعلى هذين التقديرين فلا يكونون اثبتوا لرب العالمين الا ما أثبتوه لسائر الموجودات وهذا يجمع كل شرك في العالمين وان زعموا أنه ثبوتي نقضوا ما أثبتوه وحده واجب الوجود بحيث اثبتوا لواجب الوجود امرين ثبوتيين وهذا باب واسع يطول الكلام فيه
فظهر أن أقيستهم قد يستغنى عنها كما قد يتفطن بها بعض الناس لما كان ذاهلا عنه لكن مع امكان ان يتفطن بدونها ومع ذلك فلا تفيد المعرفة الضرورية التي تحصل بالفطرة او بالآيات او بقياس الأولى فضلا عن أن تفيد المعرفة التي تحصل بعد ذلك بالشرعة لكن تفيد نوعا من المعرفة الفاجرة وتبطل ما يقابل ذلك من النكرة والجهل والكفر فتثبت شيئا من الاقرار بالصانع وتمنع شيئا من الانكار له وأما أن تفيد ما تفيده الآيات المشهوده والمسموعة وما في ضمن ذلك من الأمثال المضروبة التي مبناها على ألأولوية
وقد نقلوا عن أساطين الفلاسفة القدماء انهم قالوا العلم الالهي لا سبيل فيه الى اليقين وانما نتكلم بالأولى والأخلق والأحرى وحملوا ذلك على أنهم ارادوا انه ليس فيه الا الظن الغالب فان كانوا ارادوا هذا فناهيك بهذا الافلاس من معرفة الله تعالى ولكن يحتمل أنهم ارادوا أن اليقين الذي يستفاد بالمقاييس الشمولية والتمثيلية المستعملة في الموجودات لا توجد في حق الله تعالى لكن هؤلاء احق واولى واحرى بما يثبت من صفات الكمال وبما ينفي من صفات النقص
ومعلوم ان ذلك الرجحان والفضل غير معلوم قدره ووصفه بالقياس فحينئذ لا لنا سبيل الى اليقين بالحقيقة التي دل عليها القياس العقلي فهذا ان أرادوه فهو جيد لهم ومن قال ذلك فقد قال الحق واعطى النظر القياسي حقه اذ لا يمكن به في معرفة الربوبية غير هذا او هو معرفة مجملة غير مفصلة
وبكل حال فقد لا يحتاج الى هذه الطرق النظرية استغني عنها بالفطرة البديهية الضرورية عاما وخاصا وبالآيات المشهودة والمسموعة وعلم جماهير الخلق من هذا الباب وهو اثبت وأرسخ من علم أؤلئك فان أولئك عندهم من الشك والارتياب وأنواع التلون والاضطراب مالا يوجد عند عامة هؤلاء فضلا عمن كان من ذوي الالباب والآيات لا يحتاج فيها الى القياس كما أن الشعاع آية على الشمس وليس ذلك بقياس الشمس على غيرها من المؤثرات وبقياس الشعاع على غيره من الآثار بل عند الناس علم فطري بالحس والعقل أن نفس الشعاع مستلزم للشمس على وجه لا يشرك الشمس في ذلك غيرها وما من مخلوق الا وهو نفسه آية على خالقه على وجه لا يشركه فيه غيره كما قيل... وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد...
لكن الكلام في هذا يحتاج الى بسط طويل ليس هذا موضعه
وانما الغرض التنبيه على أن ما ذكره اهل الاثبات من اقرار العباد بفطرهم أن ربهم فوقهم اذا كان مستلزما لاقرارهم بربهم بفطرهم وان الاقرار به فطري فليس في لزوم ذلك شيء من الاستبعاد اذ على القول بذلك جماهير اصناف العباد وانما يستبعد ذلك من غير متبدعة المتكلمين فطرته وسلكوا به في مسالكهم الحرجة الضيقة وأوهموه أنهم العارفون بالحجة والدليل دون الأولين والآخرين من كل صنف وجيل وهذا كما تزعمه القرامطة الباطنية انهم خلاصة أهل المعرفة والتحقيق دون من لم يسلك هذه الطريق ويزعم الاتحادية انهم خلاصة الخاصة من أهل الله دون سائر عباد الله ويزعم الرافضة انهم هم أولياء الله المتقون فدعاوى هؤلاء المتكلمين ودعاوي الرافضة والاتحادية والقرامطة والباطنية هي من دعاوي شر البرية فالحمد لله الذي هدانا بالإسلام ومن علينا بالقرآن وارسل الينا رسولا من انفسنا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة ةوان كنا من قبل لفي ضلال مبين
والله سبحانه فطر عباده على شيئين اقرار قلوبهم به علما وعلى محبته والخضوع له عملا وعبادة واستعانة فهم مفطرون على العلم به والعمل له وهو الإسلام الذي قال فيه النبي ﷺ كل مولود يولد على الفطرة وفي رواية على هذه الفطرة وفي الصحيحين عن الزهري عن ابي سلمة عن ابي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: ما من مولود الا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه او ينصرانه او يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول ابو هريرة فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم واخرجاه من حديث همام عن ابي هيريرة عن رسول الله ﷺ: قال من يولد يولد على هذه الفطرة فابواه يهودانه او ينصرانه كما تنتجون الابل هل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا انتم تجدعونها قالوا يا رسول الله أرأيت من يموت صغيرا قال الله اعلم بما كانوا عاملين وروي البخاري من حديث شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال نصلي على كل مولود يتوفى وان كان لعنة من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام يدعي أبواه الإسلام أو أبوه خاصة وان كانت أمه على غير الإسلام واذا استهل صارخا ولا نصلى على من لم يستهل من أجل انه سقط فان ابا هريرة كان يحدث أن النبي ﷺ قال ما من مولود الا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه او ينصرانه او يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيتمه جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة فطرة الله التي فطر الناس عليها أخرجه البخاري من هذا الوجه وان كان منقطعا لما فيه من كلام الزهري الذي فيه تفسير الحديث بأنه على فطرة الإسلام والبخاري قد أخرجه متصلا من حديث يونس عن الزهري عن ابي هريرة كما تقدم وأخرجه مسلم من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بنحوه وفي آخره ثم يقول أبو هريرة اقرؤا ان شئتم فطرة الله التي فطر الناس عليها وأخرجه مسلم من حديث الاعمش عن أبي صالح عن ابي هريرة قال قال رسول الله ﷺ ما من مولود الا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويشركانه فقال رجل يا رسول الله أرأيت لو مات قبل ذلك قال الله أعلم بما كانوا عاملين وفي رواية ابن نمير عن الأعمش: ما من مولود يولد الا وهو على الملة وفي رواية أبي معاوية عن الأعمش: الا على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه لفظ ابن ابي شيبة عنه ولفظ ابي كريب عن ابي معاوية ليس من مولود ولد الا على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه ورواه مسلم من حديث الدراوردي عن العلاء بن عبد الرحمن عن ابيه عن ابي هريرة: قال كل انسان تلده أمه على الفطرة وأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه فان كانا مسلمين فمسلم كل انسان تلده امه يلكزه الشيطان في حضنيه الا مريم وابنها
واعلم أن المتكلمين يحكون هذا القول عمن يذكرونه من أهل الحديث وأهل الكلام لكن يزعمون أن الأكثرين على قولهم بأن الاقرار بالصانع نظري ونقلهم ذلك بحسب ما يحكونه كما نقل هذا الرازي عن أكثر أهل التوحيد انكار أن يكون الله فوق العرش ونقل عن اكثر المسلمين انكار النفس وأنه لا يعاد الا البدن بل ذكر من نقل اجماع الصحابة على أن الله يغنى جميع الأجسام ولم يجزم بنفي ذلك وأمثال هذه النقول التي ينقلونها بحسب ما عندهم
واعجب من ذلك أن كثيرا منهم يظن أن هذا مما لا خلاف فيه بل القول بأن معرفة الله التي هي الاقرار بالصانع لا تحصل الا بالنظر متفق عليه بين النظار فاذا ذكر له أن في ذلك خلافا بين أهل الكلام بعضهم مع بعض تعجب من ذلك وذلك لأن من سلك طريقة من هذه الطرائق لا يكاد يعرف غيرها فلهذا تجد في كتب أهل الكلام مما يدل على غاية الجهل بما قاله الرسول والصحابة والتابعون وأئمة الإسلام مما يوجب أن يقال كأن هؤلاء نشؤوا في غير ديار الإسلام ولا ريب أنهم نشؤا بين من لم يعرف العلوم الإسلامية حتى صار المعروف عندهم منكرا والمنكر معروفا ولبسهم فتن ربي فيها الصغير وهرم فيها الكبير وبدلت السنة بالبدعة والحق بالباطل
ولهذا أنا أنقل من مقالات كبارهم حكاية الخلاف في ذلك ليستأنس بذلك من يعتمد على نقلهم وان كان في ذلك النقل من التحريف ما فيه كما ذكره الاستاذ أبو اسحاق الاسفرائيني في بيان ما يدرك عقلا وما لا يدرك عقلا قال قال أهل الحق العلم والعقل واحد واختلاف الناس في العقول لكثرة العلوم وقلتها واذا كمل عقل الانسان وسلم من الآفة أمكنه الاستدلال بما وجد من الأفعال على حدوث العالم اذ في مجرد العقول ادلة عليه وعلى افتقاره الى محدث احدثه وفيها أدلة على قدم محدثه وأوصافه التي تدل عليها أفعاله وما يجوز منه ويستحيل عليه ونفي ما يدل على حدوثه عنه وجواز وصفه بالقدرة عليه وغير ذلك من المسائل التي لا تتعلق بحقيقة شرع يرد فيه فان لصانع العالم أن يبعث الرسل ويأمر الخلق بالشرائع تعبدا وله أن لا يبعثهم ولا يكلفهم استغناءا
وليس في العقول بمجردها أدلة على تغيير الشرائع وايجاب العادات وكيفية العقود قال وعلى ذلك أكثر أهل القبلة الا في قولهم ان له سبحانه أن لا يبعث الرسل فانه تحيله القدرية أو بعضهم على تفصيل له رمزنا اليه كما تقدم
قال فزعمت طائفة من مقلدي أصحاب الحديث وفرقة من نظارهم وجماعة من المعتزلة أن المعرفة بالمحدث وحاجته الى المحدث من طريق الضرورة وورود الرسول بايجاب الاقرار وبيان الشرائع وقال جمهور أهل الحق ان المعرفة من طريق الدلالة قالوا وفي العقل دليل على أنه لا يجب على العاقل الاستدلال عليه ولا يجب شكر الخالق قبل الشرع ولا يجب ترك الظلم من جهة الصانع على معنى أنه يستحق منه العقوبة أو اللوم قال وزعمت القدرية أن الاستدلال على حدوث العالم وقدم الصانع صانعه وأوصافه والشكر له بعد معرفته وترك الظلم من جهته واجب عليه بمجرد فعله ووردت الرسل بتأكيد ما فيه الى ما في عقله ايجابه وربما يكون ورود الشرع لطفا لبعضهم لكون الايمان عنده وذكر تمام الكلام
قلت فقد ظهر بذلك أن مراده بأهل الحق هم أصحابه وكذلك عادة أبي المعالي اذا قال قال أهل الحق فهم أصحابه وهذا مما يقوله كثير من الناس في خطابه وهو من باب اخبار الرجل عن اعتقاده اذ كل أحد يمكنه أن يقول عن طائفته ذلك يعرفهم بهذا التعريف والغرض أنما ذكره من أن المعرفة من طريق الدلالة ذكره عن جمهورهم لا عن جمهور المسلمين وأما قوله ابتداءا على هذا أكثر أهل القبلة فانه يعني به عن المتكلمين الذين هم عنده علماء أهل القبلة كاصحابه المعتزلة ونحوهم وان لم يحمل على ذلك والا كان كذبا صريحا فان هذا الكلام الذي ذكره لا يقدر هو ولا غيره أن ينقله لا بلفظه ولا بمعناه عن امام من أئمة المسلمين لا أئمة العلم ولا أئمة العبادة ولا عن أحد من سلف الأمة ولا عن أحد له في الأمة لسان صدق عام بل كلام هؤلاء كله صريح في انكار ما أوجبه هؤلاء وجعلوه طريقة المعرفة حتى الأشعري بنفسه قد ذكر اجماع السلف على ذلك كما في رسالته الى أهل الثغر بيان الأبواب كما قد حكينا لفظه عند احتجاج المنازع بالحركة ونحوها كما تقدم
نقول الوجه الثاني في تقرير المقدمة المذكورة أن يقال اجماع المسلمين حجة فكيف باجماع جميع الأمم من المسلمين واليهود والنصارى والمشركين وغيرهم فمن اعتقد ان الأمم المختلفة الملل والأجناس اذا اجتمعت على مثل هذا الأمر من غير أن يجمعها عليه جامع خاص تكون مخطئة فلا ريب أنه مع كونه قد قدح في اجماع المسلمين مصاب في عقله كما هو مصاب في دينه حيث جوز أن يكون الأولون والآخرون مخطئين وهو المصيب وصار هذا بمنزلة ان يخبر جميع الناس بأنهم رأوا الهلال ويقول بعض الناس ان حسهم غلط ولا هلال هناك او يخبر جميع الناس برؤية شيء من الكواكب أو سماع شيء من الأصوات او ذوق شيء من المطعومات ويطعن طاعن فيما يخبر به أصناف الأمم من ذلك فان هذا من اعظم السفسطة وفساد العقل الوجه الثالث أن من المجمعين على ذلك الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين فانه قد تواتر عنهم رفع الأيدي في الدعاء فان كان مستند ذلك عادة فاسدة أصلها اعتقاد فاسد كان الأنبياء قد وافقوا الناس على الدين الفاسد والاعتقاد الفاسد في الله تعالى وهذا من أعظم الكفر
الوجه الرابع أن القدح في هذا مستلزم القدح في جميع العلوم والمعارف فانه اذا جوز ان يكون الناس كلهم مخطئين فيما يجدونه في قلوبهم من هذه المعرفة والقصد الضروريين كان القدح في سائر العلوم الضرورية أولى وحينئذ فيبطل جميع ما يقوله المتكلمون من القدح في هذا والانتصار لضده اذ غايتهم أن يبنو ذلك على مقدمات ضرورية
الوجه الثالث والعشرون ان يقال لا نسلم أن سبب اشارة الناس الى فوق فوق هو ما ذكره ولم يذكر على ذلك حجة بل ادعاه دعوى مجردة فقال سبب ذلك الالف والعادة فانهم ما شاهدوا عالما قادرا حيا الا جسما فيسبق الى الوهم ان من يدعا عالما قادرا حيا على ما يشاهده عليه الأحياء القادرين ويتبع ذلك أنه في مكان ولأن العلو اشرف فيسبق الى وهم الداعي ان من يعتقد عظمته اذا كان في جهة وجب ان يكون في جهة العلو فمسبب هذه الأمور وأمثالها وقعت الاشارة الى السماء ثم ان الاخلاف أخذوا ذلك عن الأسلاف مع مشاركتهم لهم في هذا التخيل فظهر أن سبب ذلك الالف ولا يكون صوابا
فيقال له هذا الذي قلته مجرد دعوى لم تذكر عليه حجة وما ذكرته من التمثيل بالأسود والعربية انما غايته تجويز ان يكون للانسان اعتقاد غير مطابق سببه ذلك فلم قلت ان هذا من ذاك وهذا بمنزلة أن يقال هؤلاء غلطوا في وجدهم طعم هذه الفاكهة مرا لأن المرور يجد طعم الحلو مرا او غلطوا في رؤيتهم لهذين الشخصين لأن الأحول يرى الواحد اثنين فيقال له هب أن الحس يغلط لفساد يعرض له فلم قلت ان حس هؤلاء مع كثرتهم قد غلط لفساد عرض له واعجب من ذلك قوله فظهر أن سبب ذلك الالف ولم يظهر شيئا من ذلك الا أنه ظهر أنه ادعى ذلك وظهور كونه ادعاه غير ظهور صحة دعواه
الوجه الرابع والعشرون أن يقال هب أن سبب ذلك الالف والعادة التي تلقاها الأخلاف عن الاسلاف لكن العادة التي تعم بني آدم مع تباين حالهم وأديانهم واختلاف علومهم واراداتهم لا تكون الاعادة صحيحة كما اعتادوه من الأمور الطبيعية والخلقية فانهم جميعهم يعتادون الأكل والشرب والنكاح واللباس وكل هذه العادات صحيحة مبنية على علوم صحيحة ولها منافع صحيحة كذلك اعتيادهم مدح الصدق والعدل والعلم ومحبته وتحسينه وذم الكذب والظلم والجهل وبغضه وتقبيحه هذه عادة صحيحة حسنة باتفاق الخلائق لا ينازع في ذلك من يقول بتحسين العقل وتقبيحه ولا من ينفيه اذهم جميعا متفقون على أن اعتقاد محبة هذا وحمده وبغض هذا وذمه عادة صحيحة ليست فاسدة ولا مبنية على اعتقاد فاسد سواء كان ذلك لانتفاعهم بذلك في الدنيا او لغير ذلك
فظهر أن ما أضعف به الحجة فادها به قوة اذ العادات العامة لجميع الأمم من أعظم العادات وأصحها وبنو آدم لا يؤتون من جهة ما اتفقوا عليه لأنهم لا يتفقون إلا على حق وانما يؤتون من جهة تفرقهم واختلافهم كما قال تعالى ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك ولهذا كانوا مفطورين على الاقرار بالصانع والدين له فهذا الذي اجتمعوا عليه حق ولكن تفرقوا في الشرك فكل قوم لهم رأي وهوى يخالفون به الآخرين قال تعالى فاقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون منيبين اليه واتقوه واقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ولهذا وصف الله نبيه وأمته بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر والمعروف الذي تطلبه القلوب وتريده بفطرتها اذا علمته والمنكر الذي تبغضه وتكرهه اذا علمته
فاذا كان بنو آدم متفقين على هذه العادة التي مضمونها الرفع الى الله حين الدعاء وكان ذلك يتضمن قصدهم للاله الذي هناك كان هذا من أعرف المعروف عند جميع بني آدم
الوجه الخمس والعشرون ان يقال هذا العمل يتضمن ثلاثة أشياء الرفع الذي فيه الاشارة الحسية الظاهرة والقصد والارادة التي في القلب التي يقصد بها الصمد الأعلى والاعتقاد الذي هو أصل الذي هو أصل العمل فان كل عمل اختياري لا بد فيه من ارادة وشعور وأنت تزعم أن الثلاثة فاسدة وان هذا العمل التابع للارادة سبب الارادة فيه هو تخييل غير مطابق فيقال لك لو كان الأمر كذلك لكان النهي عن ذلك من اعظم الواجبات في الدين اذ ذاك من أعظم المنكرات لتضمنه اعتقادا فاسدا في حق الله تعالى ودعاءا فاسدا متعلقا به وعبادة غير صالحة له ومن المعلوم ان الله قد بعث الأولين والآخرين من النبيين مبشرين ومنذرين ولم ينه أحدا من الأنبياء والمرسلين لبني آدم عن شيء من ذلك لا عن هذا الرفع ولا عن هذا الصمد ولا عن هذا الاعتقاد بل كان الأنبياء موافقين لهم على هذا العمل وذلك يوجب العلم الضروري من دين النبيين أن ذلك عندهم ليس من المنكر بل من المعروف وذلك يبطل كونه مبنيا على اعتقاد فاسد في حق الله تعالى مستلزما له ودالا عليه فان كل ما كان متفرعا عن الاعتقاد الفاسد او كان مستلزما له مثل أن يكون دليلا عليه فانه يجب النهي عنه فان العقائد الفاسدة والمقاصد الفاسدة في حق الله تعالى تجب ازالتها وازالة فروعها وأصولها التي توجبها
واذا كان كذلك فالجهمية تنهى عن هذا الاعتقاد وهذه الارادة فهم ناهون عن معرفة الله تعالى وعبادته وليس هذا مختصا بهذا الموضع بل هم كذلك اذ أصل قولهم هو قول المشركين المنكرين لملة ابراهيم ولهذا كان أولهم الجعد ابن درهم الذي ضحى به أمير المشرق يوم النحر وقال ضحوا تقبل الله ضحاياكم فاني مضح بالجعد بن درهم فانه زعم أن الله لم يتخذ ابراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما ثم نزل فذبحه وشكره العلماء على ذلك وكان هذا في زمن التابعين وذلك أن الله بعث الرسل تدعوا الخلق الى عبادته الجامعة لمعرفته بأسمائه وصفاته وآياته ولمحبته والانابة اليه واخلاص الدين له حتى يكون الدين كله لله والجهمية تصد القلوب عن معرفته ومحبته وعبادته بحسب تجهمهم اذهم بين المستقل والمستكثر ولا تجد أحدا فيه شعبة من التجهم الا وفيه من نقص التوحيد والايمان بحسب ذلك ولهذا كانت المعتزلة من أبعد الناس عن طريقة أولياء الله المتقين العارفين بطريق الله علما السالكين فيه عملا وحالا وقصدا
الوجه الخامس والعشرون أن يقال هب أن سببه هذه العادة هل سببها علم صحيح واعتقاد مطابق او سببها تخيل فاسد اما الأول فهو حجة في المسألة وأما الثاني فممنوع وهو لم يذكر على ذلك حجة الا قولهم انهم ما شاهدوا عالما قادرا حيا الا جسما الا أنهم قاسوا العالم القادر الحي الغائب على ما شاهدوه من العلماء والأحياء القادرين فصاروا بمنزلة من لم ير من الناس الا السود ولم يسمع الا العربية فاذا مثل في نفسه انسانا أو لغة لم يسبق الى نفسه الا الأسود والعربية
ومعلوم أن هذا قياس فاسد وذلك أن من لم ير انسانا الا أسود ولم يسمع لغة الا العربية انما يسبق الى نفسه الأسود اذا مثل انسانا يخاطبه وانما يسبق الى نفسه العربية اذا مثل في نفسه التعبير لأن الذي مثله في نفسه من جنس الذي شاهده والتخيل يتبع الاحساس وكان الذي تخيله من جنس الذي أحسه لما علم أن جنسهما واحد والباري سبحانه وتعالى ليس هو عندهم ولا عند غيرهم من جنس الآدميين حتى تكون نسبته الى ما شاهدوه من الأحياء العالمين القادرين نسبة ما لم ير من الآدميين الى من رئي بل هؤلاء الذين يدعون الله برفع الأيدي الى فوق عامتهم لم يخطر بقلبه أن الله من جنس الآدميين مشارك لهم في الحقيقة حتى يكون لحما ودما ونحو ذلك بل هؤلاء كلهم ينزهون الله تعالى عن ذلك ولا يعرف في عامة المقرين بالصانع من قال بشيء من ذلك الا ما ذكره أرباب المقالات عن شرذمة من المشبهة ومع هذا فلا بد أن يجعل هؤلاء له من المقدار والصفات ما يفرقون بينه وبين الآدميين فعلم أن هذا الذي احتج به باطل
الوجه السادس والعشرون أن يقال هذا قد أخبر عن بني آدم الأولين والآخرين الذين يدعون الله برفع أيديهم اليه وتوجه قلوبهم الى جهته العالية أنهم مثلوه بما شاهدوه من الأحياء العالمين القادرين كما يمثل أحدهم ما يراه من هذا الجنس بما رآه ومن المعلوم أن هذا الضلال الذي ذكره عن بني آدم هو الضال فيه في الأصل المشبه به والفرع الذي قاسه عليه وذلك أن قوله كما أن من لم يشاهد انسانا الا أسود فحين يمثل في نفسه انسانا يخاطبه انما يسبق الى نفسه انه أسود لا غير
يقال له هذا على قسمين أحدهما أن لا يعلم وجود انسان الا أسود والثاني أن يكون وان لم يشاهد الأسود قد علم بالخبر أو غيره أن في الأناسي من هو أبيض وكذلك اذ مثل انسانا يخاطبه قد مثل انسانا مطلقا لا يقدره من أحد الصنفين وقد يمثل مخاطبه انسان من الصنف الأبيض او يخاطبه انسان من الصنف الأسود
فيقال له هذا المثل الذي ضربته انما يسلم لك فيمن لا يعلم وجود انسان غير ابيض فانه اذا مثل مخاطبه انسان انما يكون مثله بمبلغ علمه فاذا لم يكن عالما
بوجود أبيض لم يتمثل مخاطبه أبيض بل وقد يتمثل مخاطبه انسان مطلق ولا يخطر بقلبه لونه وقد يخطر بقلبه لونه فلا يكون الا ما علمه من ألوان الناس وهو السواد أما اذا علم وجود البيض من الناس ومثل في نفسه أنه يخاطبهم وان كان لم يرهم بعد كما لو قيل لملك السودان قد قدم عليك رسل البيض وهم بيض فهنا اذا زور في نفسه ما يخاطبه به لم يمثل أنه يخاطبه به لم يمثل أنه يخاطب أسود وكذلك لو علم وجود الصنفين وقدر مخاطبه انسان مطلق لم يتمثل لونه بل قد يصنف الكتب ويقف الوقوف وقد يكتب ذلك بالعربية وقد لا يكون رأى غير البيض ومع هذا فلا يتمثل حين المخاطبة المطلقة لون المخاطبين ولهذا يندرج في خطابه البيض والسود واللفظ يطابق المعنى وهو ما عناه وقصده بكلامه ولو لم يقصد الا البيض مثلا لم يتناول لفظه لغيرهم وليس الأمر كذلك باجماع الناس
وأما التمثيل باللغة فليس هو من أمثلة هذه المسألة وذلك أن من لم يسمع غير العربية لا يقدر أن يتكلم بغيرها ولا يتمثل في عبارات نفسه لغة غيرها فلا يكون التعبير بغير العربية متمثلا في نفسه لا سابقا ولا لاحقا ولو علم أن للناس لغة غير العربية او سمعها ولم يحفظها لم يقدر بذلك على التعبير بغير العربية متمثلا في نفسه لا سابقا ولا لاحقا ولو علم أن للناس لغة غير العربية أو سمعها ولم يحفظها لم يقدر بذلك على التعبير بها ولا على تمثيلها فاللغات بمنزلة تعلم الانسان الصناعات والأعمال كالخياطة والنجارة والحراثة اذا لم يكن يحسنها الانسان الا على صفة لم يتمثل في نفسه اذا رآها أن يعملها الا الصفة التي يحسنها فأين ما يقدره الانسان وليصورة في نفسه من مراده ومقصوده الذي يفعله بقدرته من الألفاظ والحركات من الأمور الخارجة عن قدرته وارادته فعلم أن هذا ليس من هذا الباب وأما الأول فانه يشبه لكن الحكم المذكور فيه ليس على اطلاقه وانما هو في حق من لا يعمل وجود انسان الا أسود ويقصد خطاب اسود واذا كان الأمر كذلك ظهر فساد ما ذكره من المثالين
الوجه السابع والعشرون أن يقال لو كان ما ذكرته في المشبه به لم يكن ما ذكرته في المشبه نظيرا له فان الخلق الذين يدعون الله ويقرون بأنه حي قادر عالم انما يدعون من يعتقدون أنه رب العالمين الذي يقدر على مالا يقدر عليه بنو آدم مثل انزال المطر وانبات النبات وتسكين الريح اذا هاجت في البحر وغير ذلك مما يطلب من الله فقد علموا أن الحي العالم القادر الذي هو رب العالمين الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى اذا اقلت سحابا ثقالا ساقه لبلد ميت وأنزل به الماء فخرج به من كل الثمرات ليس من جنس ما يعهدونه من بني آدم بل المطلوب منه ما لا يقدر عليه هؤلاء وأيضا فكثير منهم قد لا يتصور ان كلا منهما حي قادر عالم ولا يتمثل في نفسه قدرا مشتركا بينهما فكيف يجوز أن يحكى عن بني آدم من الأولين والآخرين أنهم قاسوا الله على ما شاهدوه من الآدميين
الوجه الثامن والعشرون أنك لو سألت من سألته من الادعين لربهم هل اعتقدت بقلبك أن الله من جنس ما شاهدته في الآدميين الذين هم أحياء قادرون عالمون لقال لك من سألته هذا شيء لم يخطر بقلبي ولكان نفرته عن هذا وانكاره على من يقول هذا أو يعتقده أعظم من نفرته عمن يجعل الملائكة من جنس الذباب والعصافير وبالجملة فبنو آدم يعلمون من أنفسهم أنه لم يكن دفعهم لهذا الاعتقادر المتضمن تمثيل الله بالبشر وانه من جنسهم فدعوى ذلك عليهم افتراء عليهم
الوجه التاسع والعشرون أن يقال هو دائما يسمعون ذكر الملائكة والجن وهم أحياء عالمون قادرون ومع هذا فقد علموا أنهم يتصورون بصور الآدميين كما تمثل جبريل لمريم بشرا سويا وكا تمثل ابليس في صورة سراقة ابن جعثم ومع هذا لما أخبروا بأن جبريل عليه السلام له ستمائة جناح وسمعوا قول الله في الملائكة أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع لم يكن فيهم من يعتقد أن الملائكة والجن من جنس الآدميين مطلقا لما استشعروه من نوع فرق وقد علم ما بين الله وبين البشر من عدم المماثلة أعظم مما بين البشر والملائكة فكيف يقال ان رفع ايديهم انما كان لاعتقادهم ان الله من جنس ما يشاهدونه من الأحياء القادرين وهب أن ذلك قد يخطر بقلب الواحد والاثنين منهم فكيف يجعل هذا الاعتقاد شاملا لبني آدم الذين يرفعون أيديهم الى الله عز وجل من الأولين والآخرين وأن الآخرين اخذوه عن الأولين وشاركوهم في التخيل
الوجه الثلاثون أن يقال قوله فيسبق الى الوهم أن من يدعو حيا عالما قادرا على ما يشاهد عليه الأحياء القادرين أتريد بذلك أنه يسبق الى الوهم أنه مثله مطلقا بحيث يجوز عليه ما يجوز عليه ويمتنع عليه ويجب له أو أنه يشابهه من بعض الوجوه أما الأول فأنت وسائر العلماء يعلمون أن هذا لم يقله احد قط وقد ذكرت ذلك في كتبك واعترفت بأن أحدا من العقلاء لم يقل بالمماثلة هكذا واذا كان هذا لم يقله أحد لم يجز أن يجعل هذا اعتقاد الداعين الذين يرفعون أيديهم الى الله مع العلم بأنه لم يقله أحد من المشبهة ولا من غيرهم
وأما ان كان مقصوده أنهم يثبتون المشابهة من بعض الوجوه فهذا حق وقد ذكر في هو نهايته اجماع المسلمين على ثبوت المشابهة من بعض الوجوه
فان ذلك مما لا يمكن النزاع فيه كما حكيناه عنه فيما تقدم وحينئذ فيكون ما عليه بنو آدم من الاعتقاد الذي هو مستند رفع أيديهم الى الله حين الدعاء اعتقادا صحيحا في الأصل ليس بفاسد
لكن قد علم أن الناس هنا في طرفي نقيض منهم من يغلو في الاثبات حتى يثبت مماثلة الله لخلقه في بعض الأمور ومنهم من يلغو في التعطيل حتى لا يمثله الا بالمعدوم والموات لكن الاعتقاد الذي يدعوهم الى رفع ايديهم لا يجب أن يكون من التمثيل الباطل اذ لا يختص أهله بالرفع الى الله واذا كان كذلك لم يكن مستند الناس كلهم في الرفع الى الله باطلا واذا لم يكن مستندهم كلهم باطلا بل كان مستند بعضهم حقا ثبت أن الله يرفع اليه الأيدي وأن فاعل ذلك يكون اعتقاده صحيحا وذلك يقتضي صحة الاشارة الحسية اليه الى فوق وهو المطلوب
الوجه الحادي والثلاثون أن يقال مضمون ما ذكرته أن الناس لما لم يشاهدوا حيا عالما قادرا الا جسما سبق الى اعتقادهم انهم اذا دعوا حيا قادرا عالما كان جسما ويتبع ذلك انه في مكان والعلو أشرف من غيره فيسبق الى فهم الداعي أن من اعتقد عظمته اذا كان في جهة وهي أن يكون في جهة العلو وحاصل هذا أن الأمم المختلفة من الأولين والآخرين المجمعون على رفع ايديهم الى الله في الدعاء انما فعلوا ذلك لاعتقادهم ان الله جسم ووجه هذا الاعتقاد أنهم لم يشهدوا حيا عالما قادرا الا جسما فاعتقدوا فيمن يدعونه ذلك واثبتوا له المكان اذ الجسم لا بد له من حيز وخصوه بالعلو لأنه اشرف فمضمون هذا ذكر مستند العباد في رفع الأيدي
فيقال له لا يخلو اما أن يكون هذا مستندهم اولا يكون فان لم يكن هذا مستندهم بطل هذا الجواب وصحت الحجة وثبت أنهم انما رفعوا أيديهم الى الله لعلمهم الضروري بأن الذي يطلب منه تحصيل المطالب وتيسير العسير في تلك الجهة وان كان هذا مستندا لهم كان قد حكى اتفاق الأمم الذين يرفعون أيديهم في الدعاء على أن الله جسم اذ لم يشهدوا موجودا الا جسما وحينئذ فهذا أبلغ في الحجة عليه فان الأمم المتفقين على رفع الأيدي اذا كانوا يعتقدون ان الله جسم كان هذا من ابلغ حجج القائلين بالجسم لأن هؤلاء الذين يرفعون ايديهم فيهم الأنبياء وفيهم هذه الأمة التي لا تجتمع على ضلالة فصار ما جعله جوابا حجة عليه
الوجه الثاني والثلاثون أن يقال هب انما ذكرته مستندهم فلم تذكر حجة على بطلان هذا أكثر ما قلت فظهر أن سبب هذا الالف فلا يكون صوابا ومعلوم ان مجرد إعتياد الأمم كلهم للشيء إن لم يدل على انه حق يدل على أنه باطل فليس في كون الفوا ذلك واعتادوه ما يدل على أنه ليس بصواب حتى تقول فظهر ان سبب ذلك الالف فلا يكون صوابا
الوجه الثالث والثلاثون انك قد ذكرت ان مستند هذا الالف هو اعتقاد الدعاة ان الحي العليم القادر لا يكون الا جسما ومعلوم أن هذا بلفظه قول طوائف كثيرة من أهل الكلام من الشيعة والكرامية وغيرهم وأما بمعناه فالمؤسس وغيره يقول أن هذا قول من رقال إن الله فوق العرش أو إنه يشار إليه في الدعاء ومعلوم أن القول بكون الله فوق العرش أو أنه يشار اليه بالأيدي والدعاء هو قو سلف الأمة وأئمتها وعامتها واذا كان هؤلاء كلهم يقولون بالمعنى الذي سميته تجسيما لم يضر القول بذلك ولم يجزرده الا بحجة وانت لم تذكر في جواب هذه الحجة ما يصلح أن يكون جوابا
وقد قدمنا في الوجه الذي قبل هذا ان الاشارة الى الله في الدعاء ان استلزم اعتقاد الداعي أن الله جسم فقد ثبت أن هذا قول من قوله حجة والا بطلت حكايته وأما هنا فان كون الحي القادر لا يكون الا بائنا عن غيره بالجهة له حد يتميز به عن غيره وهو معنى كونه جسما عنده وهذا المعنى ما اتفق عليه سلف الامة وأئمتها وان تنوعت الفاظهم فيه فكلها متوافقة متطابقة وبالجملة فلا يمكنه أن ينازع أن هذا قول خلق كثير من أهل الحديث والفقه والتصوف والكلام فلا بد من دليل ابطاله فان قال دليل ابطاله ما ذكره من نفي كون الله جسما قيل قدمنا ما يتبين معه فساد تلك الأدلة
ثم يقال هذا لا يصلح أن يكون جوابا لما تذكره وهو الوجه الرابع والثلاثون يقال له هذا الذي ذكرته مضمونه الدعاة الرافعي أيديهم لاعتقادهم أن الله جسم حيث لم يشهدوا مدعوا حيا عالما قادرا الا جسما ومعلوم أن الدعاة الرافعي أيديهم لو لم يكن فيهم من قوله حجة وخلاف قوله كفر فلا نزاع في أنهم جماهير بني آدم من الأولين والآخرين وفيهم من العلماء والعباد من لا يحصيه الا رب العباد فلو لم يكن هذا دليلا من أعظم الأدلة على أن الله جسم بمقتضى ما قررته لكان هذا مما يجب الجواب عن حجة قائله فان مخالفة جماهير بني آدم ليست هينة ولا يصلح ما ذكرته من الحجة على نفي الجسم جوابا لان هذا الدليل الذي ذكرته عنهم يقتضي أنهم احتجوا على كونه جسما بما ذكرته عنهم وهذه معارضة لما ذكرته فان لم تبين فساد هذه المعارضة لم يكن بطلان حجته لحجتهم بأولى من العكس وأنت لم تذكر حجة على فساد حجتهم بحال
فان قيل هذه الحجة مبناها على قياس الغائب على الشاهد وهو باطل قيل قياس الغائب على الشاهد باتفاق الأمم ينقسم الى حق وباطل فان لم تبين أن هذا من الباطل لم يصلح رده بمجرد ذلك
الوجه الخامس والثلاثون أن تقرير ما ذكرته من مستندهم مثل تقرير المسلك القياسي في العلو وهو أن يقال لم نشهد موجودا قائما بنفسه الا جسما او لم نشهد حيا عالما قادرا الا جسما فاختصاص القائم بنفسه او الحي القادر بكونه جسما دون أن يكون عرضا أو يكون لا جسما ولا عرضا اما أن يكون لكونه موجودا قائما بنفسه او لما يندرج فيه واجب الوجود او لما يختص الممكن او المحدث فان كان الأول والثاني وجب في كل موجود قائم بنفسه أن يكون جسما وحينئذ فتصح حجتهم والثاني باطل لأنه يوجب تعليل الأمر الوجودي وهو القائم بالنفس او كون القائم بنفسه حيا عالما قادرا بما فيه أمر عدمي والعدم لا يصلح أن يكون علة للوجود وقد تقدم الكلام على هذه الحجة وأنه لم يقدح فيها بقادح واذا كان كذلك كان قد ذكر لهم حجة توجب أنه فوق وأنه جسم غير ما ذكروه من العلم الضروري وان لم يقدح في ذلك بشيء وذكر أن الأخلاف اخذوا ذلك عن الاسلاف واتفقوا عليه وتسمية ذلك تخيلا لا يوجب فساده ان لم يبين أنه خيال فاسد
فظهر انما ذكره تقرير لقولهم بالقياس العقلي والأثر النبوي والاجماع الشرعي مع ما ذكروه من الضرورة العقلية وأنه زاد في التقرير على كونه فوق أنه مع ذلك جسم ولا ريب أن هذا قوله وقول أكثر الناس من النفاة والمثبتة فانهم يقولون ان كونه فوق العرش يستلزم المعنى الذي يسميه المتكلمون جسما ويسميه أهل الحديث حدا
الوجه السادس والثلاثون أن العلوم الكلية والعقلية لبني آدم جميعها من هذا الباب فان الانسان يشهد بحسه الباطن والظاهر أمورا معينة جزئية على صفات ثم يعقل بما يجعله الله في عقله من العبرة والقياس ان الأعيان التي لم يشهدها هي كالأعيان المشهودة في تلك الصفات وعلم عقله بالتماثل والاختلاف كاحساسه بالأعيان قد يكون علما قطعيا وقد يكون ظنا غالبا وقد يكون صوابا وقد يكون خطئا وكل من الحس والعقل يعرض له الغلط لأسباب والناس متنازعون أي الادراكين اكمل ادراك الحس او العقل وأيهما الذي يرجح على الآخر وبكل حال فلا يقوم بنفسه قضية كلية عقلية ضرورية أو غير ضرورية الا بتوسط قياس واعتبار حتى مثل علمه بأن الواحد نصف الاثنين وان الجسم لا يكون في مكانين وأن الضدين لا يجتمعان هو في ذلك كله قد أدرك بحسه ذلك في بعض الأجسام والأجساد والألوان المتضادة وعقل أن ما لم يحسه مثل ما أحسه في ذلك وأن الحكم لا يفترق واحد وواحد وجسم وجسم ولون ولون وضد وضد يحكم بذلك حكما عاما كليا
واذا كان كذلك لم يكن له حجة عقلية في العلم الالهي أصلا الا ولا بد فيها من قضية كلية والقضية الكلية لا بد فيها من قياس الغائب على الشاهد فان كان هذا باطلا بطل جميع كلامهم بالأدلة العقلية في العلم الالهي وحينئذ فيبطل ما ذكروه في نفي الجسم وغيره فلا يكون لهم جواب عما احتج به المنازع وان لم يكن باطلا لم يكن له ابطال هذه الحجة بما ذكره من أن مضمونها قياس الغائب على الشاهد فحاصله أنه ان كان ما يسلكونه من الطرق الكلامية العقلية في الالهيات طرقا صحيحة فهذه الطريق منها فتكون حجة عليهم وان لم تكن صحيحة لم تكن حجة لهم كما لا تكون عليهم فلا يكون كلامهم حقا دون كلام خصومهم ولا يكون ما دفع به الضرورة التي ذكرها منازعوهم حقا
الوجه السابع والثلاثون أن المنازعين لهم يحتجون بالدلائل السمعية الكثيرة وبما يذكرونه من الضرورة العقلية وبما ذكروه من الأقيسة العقلية فان كانت الأقيسة العقلية صحيحة كما تقدم ذكرها مقبولة في هذا الباب لم يجز رد ما يذكرونه من الأقيسة العقلية الا بما يبين فساد القياس الخاص الذي أوردوه لا بمجرد كونه قياسا للغائب على الشاهد وان كانت مردودة كان ما يذكره النفاة كله مردودا وحينئذ فتبقى الأدلة السمعية سليمة عن معارض عقلي فيبطل ما يذكرونه من كونها عارضت القواطع العقلية وحينئذ يمتنع تأويلها ويجب اعتقاد مضمونها ويكون ما ذكروه من الضرورة العقلية لا دليل على فسادها وهذا بين لمن تدبره ومبناه على العدل والانصاف وقد قدمنا فيما مضى التنبيه على هذا وأن مبنى كلامهم في الالهيات انما هو القياس على ما وجدوه في المشهودات لا طريق لهم غير ذلك اصلا
الوجه الثامن والثلاثون ان القول بان الله ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ولا داخل العالم ولا خارجه ونحو ذلك ليس هو قول أحد من سلف الأمة ولا أئمتها ولا له أصل في شيء من كتب الله المنزلة ولا آثار انبيائه بل متواتر عن السلف والأئمة انكار هذا الكلام وتبديع أهله كما قال ابو العباس بن سريج توحيد اهل العلم وجماعة المسلمين أشهد أن لا اله الا الله وان محمدا رسول الله وتوحيد اهل الباطل الخوض في الأعراض والأجسام وانما بعث النبي ﷺ بانكار ذلك وذلك ان التوحيد الذي بعث الله به رسله هو عبادة الله وحده لا شريك له وهو معنى شهادة أن لا اله الا الله وذلك يتضمن التوحيد بالقول والاعتقاد وبالارادة والقصد وأما الخوض في الأعراض والأجسام كما خاض فيه المتكلمون كقولهم ليس بجسم ولا عرض ونحو ذلك فأول من ابتدعه في الإسلام الجهمية واتباعهم من المعتزلة لا يعرف في هذه الأمة حدوث القول في الله بأنه ليس بجسم ولا جوهر ونحو ذلك الا من جهة هؤلاء وكذلك الاستدلال على حدوث العالم بطريق الجسم والعرض انما ابتدعها في الإسلام هؤلاء وهذا أصل علم الكلام الذي اطبق على ذمة أئمة الإسلام من الأولين والآخرين ولما ابتدع هؤلاء القول بأنه ليس بجسم ولا جوهر عارضهم الطائفة الأخرى من الشيعة وغيرهم فقالوا بل هو جسم
والسلف والأئمة لم يثبتوا هذه الاسماء لله ولا نفوها عنه لما في كل من الاثبات والنفي من الابتداع في الدين من اجمال واشتراك ويثبت به باطل وينفي به حق مع أن السلف والأئمة لم يختلفوا أن نفاة الجسم اعظم ضلالا وابتداعا من مثبتيه بل الأئمة والسلف تواتر عنهم من ذم الجهمية مالا يحصيه الا الله ولهم أيضا كلام في ذم المشبهة لكن أقل من ذم الجهمية بكثير وأما لفظ الجسم فلا يحفظ عن أحد منهم ذمه ولا انكاره كما لا يحفظ عنهم مدحه واقراره ولكن المحفوظ عنهم من الألفاظ الاثبات فقول نفاة الجسم انها هي التجسيم ويعدون أعلام الدين وأئمة الدين من المجسمين والمشبهين كما هو موجود في كتب مقالاتهم كما يعدون منهم مالكا وأصحابه وحماد بن سلمة وأصحابه والشافعي وأحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه وأمثال هؤلاء الأئمة
ولما تكلم بنفي الجسم ابو الهذيل امام المعتزلة واتباعه وتكلم في اثباته هشام بن الحكم واشياعه قال هؤلاء الجسم هو الموجود هو القائم بنفسه ولا يعني بالجسم الا القائم بنفسه ولا يعقل قائم بنفسه الا الجسم وقالوا دعوى وجود قائم بنفسه ليس بجسم كدعوى قائم بنفسه لا تقوم به صفة فان المعتزلة يقولون ان الباري تعالى قائم بنفسه وأنه يمتنع أن يكون محلا للصفات والحوادث قالوا وهذان مثل دعوى قائم بنفسه لا يباين غيره ولا يتميز عنه قالوا واثبات موجود قائم بنفسه ليس هو جسما ولا يقوم به صفة مثل اثبات قائم بنفسه ليس حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز كا يقوله من يقوله من الملاحدة والفلاسفة هذا كله جحد لما يعلم بضرورة العقل ومخالفة للبديهة والحس وما زال الأئمة يصفون مقالة الجهمية بأنها مخالفة للعقول وأن العقل يعلم أنهم يصفون العدم لا الوجود ولهذا عندهم نفاة التجسيم من المجسمة لموافقتهم لهم في أصل الاثبات وان خالفوهم في بعض التفاصيل
واذا كان كذلك فهذا الذي مستندا للداعين من الأولين والآخرين أنه هو الرجوع الى القياس العقلي وهو قياس ما غاب عنهم من الموجود على ما شاهدوه لا ينافي ما ذكروه من أن ذلك يقتضي علمهم الضروري بأن الذي يدعي ويسأل هو في جهة فوق لأن العلوم الضرورية الكلية لا بد فيها من قياس كما تقدم وهم كما قد يقولون يعلم بالضرورة ان الله فوق ويقولون أيضا يعلم بالضرورة أن مالا يكون داخل العالم ولا خارجه فانه معدوم ويقول من يفهم معنى الجسم على اصطلاح المتكلمين يعلم بالضرورة انه لا يكون موجود قائم بنفسه الا ما سميتموه الجسم ويقولون كل من رجع الى فطرته وفهم معنى ذلك ولم يصده عن موجب الفطرة ظن التقليد او اقيسة فاسدة وهوى من تعصب للمذهب المألوف فانه يعلم ذلك ويثبتون ذلك بالمقاييس العقلية التي هي أقوى من مقاييس النفاة
واذا كان كذلك فنفي التجسيم لا يمكن ان يكون بنص ولا اجماع بل ولا بأثر عن أحد من سلف الأمة وأئمتها وليس مع نفاته الا مجرد ما يذكرونه من الأقيسة العقلية فاذا كان رفع الأيدي الى السماء في الدعاء مستلزما لاعتقاد الدعاة التجسيم وهم يثبتون ذلك بالأقيسة العقلية أيضا كان جانبهم أرجح لو لم يجيبوا عن حجج النفاة فكيف اذا اجابوا عنها واذا بينوا ان نقيض قولهم مستلزم للتعطيل لتعطيل وجود الباري ذاته وصفاته وتعطيل معرفته وعبادته ودعائه
الوجه التاسع والثلاثون أن يقال ليس قول القائل بأن رفع الأيدي الى السماء مستلزم التجسيم بأعظم مما يقال لكل من أثبت شيئا من الأسماء والصفات فان الملاحدة من المتفلسفة واتباعهم الذين يجمعون بين النقيضين فيقولون لا موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت أو يقولون لا يقال موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت يزعمون أن هذه الأسماء لا تقال الا لما هو جسم ونفاة الصفات من العلم والقدرة وغيرها يقولون ان هذه الصفات لا تقوم الا بجسم ومنكروا الرؤية والقائلون بخلق القرآن يقولون لا يمكن أن يرى الا جسم ولا يقوم الكلام الا بجسم وهو يبينون ذلك اعظم من بيان هذا المؤسس ان الرافعين لأيديهم في الدعاء مستندهم اعتقاد أن المدعو جسم
وحينئذ فلا يخلو اما أن يكون ما ذكره النفاة من لزوم التجسيم لهؤلاء المثبتة حقا او باطلا فان كان ذلك حقا كان التجسيم حقا اذ الاثبات للأسماء والصفات حق معلوم بالضرورة العقلية وبالنصوص السمعية وقول النفاة مستلزم للجمع بين النقيضين ولغير ذلك من السفسطة وان كان ما يذكره هؤلاء النفاة من لزوم التجسيم باطلا فانتفاء هذا اللازم في حق الداعين اولى وأوكد
الوجه الاربعون أن يقال ومن المعلوم ان هذاب الباب كثيرا ما يقال فيه ان الناس يتناقضون فيه فيثبت أحدهما شيئا من وجود واجب او اسم او صفة وينفي لوازمه او ينفي الجسم ونحوه ويثبت ملازمه ولا ريب أن باب الاثبات حجته العقلية الضرورية والنظرية اعظم من حجج النفي فان النفاة ليس معهم حجج ضرورية وليس معهم قياس عقلي الا ومع أولئك ما هو أقوى واكثر هذا اذا لم يعرف الانسان القدح في مقاييسهم والا فمن عرف القدح فيها تبين له أن حاصلها تهويل لا تحصيل وأما الحجج السمعية فهي مع المثبتة أضعافا مضاعفة وليس مع النفاة ما يفيد ظنا
واذا كان كذلك فالذي تسميه النفاة تجسيما اذا كان لازما أمكن المثبتة أن تلزمه ويكون مقرره الأدلة العقلية والسمعية وأما النفاة فلا يمكنهم النفي الا تركوا العقل والسمع وهذه حال أهل النار الذين قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا من اصحاب السعير واذا لم يكن لازما لم يحتج الى اثباته وان دفع الشك في لزومه وكان في تناقض المثبت مع نفي الجسم قولان فلا ريب ان تناقض المثبت اقل بكثير من تناقض النافي ومتابعته الأدلة السمعية والعقلية اكثر وتقريره للفطرة والشرعة أظهر واذا كان ما في جانبه من الخطأ أقل لم يحزأن يرجع الى من خطأه اكثر بل على ذلك ان يوافقه على ما معه من الصواب ثم ان رجعا جميعا الى تمام الصواب والا كان استكثارهما من الصواب اولى وأحب من استكثار الخطأ