→ بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية/12 | بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية المؤلف: ابن تيمية |
بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية/14 ← |
الوجه الثالث والثلاثون أن يقال لا نسلم أنه إذا قيل هذا مباين لهذا وممتاز عنه أو منفرد عنه فإنه لا يراد به إلا أن حقيقته ليست مثل حقيقته بل المراد بذلك أن هذا في ناحية عن هذا وأنه منفصل عنه بحيث يكون حيزه غير حيز هذا هو المعروف من هذا وأما الإختلاف في الحقيقة فمعناه عدم المماثلة فإن الحقائق إما مختلفة وإما متماثلة ومن المعلوم أنه إذا قيل ان الله مباين للعالم أو ممتاز عنه ومنفرد عنه لم يرد به أن الله ليس مثل العالم وهذا كما قيل لإبن المبارك بماذا نعرف ربنا بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه فهذه المباينة لا يراد بها عدم المماثلة بل يراد بها أنه منفصل عنه وتصور ذلك بديهي ظاهر
وما يعلم في المواضع التي يستعمل فيها لفظ مباينة الشيء لغيره وامتيازه عنه وانفراده عنه ألا ويكون ذلك مع إنفصال أحدهما عن الآخر حتى إذا ضمن ذلك المفاضلة وعدم المماثلة مثل أن يقال هذا متميز عن هذا بكذا وكذا وهذا منفرد عن إقرانه بكذا وكذا ففي هذه المواضع كلها يوجد معنى الإنفصال والتميز بالحيز والجهة دليل ذلك أنه لا يعرف أن يقال اللون منفرد عن الطعم ومباين له مع أن أحدهما ليس مثل الآخر فعلم أن المخالفة التي مضمونها عدم المماثلة فهي متضمنة الانفصال
الوجه الرابع والثلاثون أن يقال المختلفان في الحقيقة هما اللذان لا يتماثلان فالمماثلة ضد المخالفة والإختلاف ضد التماثل وعدم التماثل لا بد أن يستلزم صفات حقيقية ثبوتية أختلفا بها وإلا فالعدم المحض لا يوجب إمتياز أحدهما عن الآخر فإذن التباين بمعنى الأختلاف في الحقيقة يقتضي أمورا ثبوتية خالف بهما أحدهما الآخر مخالفة تنفي ثماثله وإذا كان المراد بالمباينة ذلك لم يجز العلم بها إلا بعد العلم بأن الشيئين ليسا متماثلين وذلك لا يكون إلا بعد العلم بأمور ثبوتية تنفي مماثلتهما كما يعلم الطعم واللون والريح فيعلم أنها ليست متماثلة والعلم بأن الخالق مباين للمخلوق وأنه ممتاز عنه وأنه منفرد عنه يحصل قبل العلم بأن الله لا مثيل له وأن حقيقته مخالفة لحقيقة العالم كما أنه قد يحصل العلم بأنه ليس مماثلا للخلق بل مخالف له قبل العلم بأنه مباين للعالم ممتاز عنه منفرد عنه فإن باب الكيف غير باب الكم وباب الصفة غير باب القدر
وإذا كانت المباينة بالقدر والجهة تعلم دون هذه علم أنها أيضا ثابتة وأن كانت تلك أيضا ثابتة وأنه مباين للخلق بالوجهين جميعا بل المباينة بالجهة والقدر أكمل فإنها تكون لما يقوم بنفسه كما تكون له المباينة بالصفة والكيفية وأما المباينة بمجرد الصفة والكيفية فلا تكون إلا لما يقوم بغيره لأن عدم قيامه بنفسه يمنع أن يكون له قدر وحيز وجهة على سبيل الإستقلال ومن ها هنا تبينا الوجه الخامس والثلاثون وهو أن من المعلوم أن مباينة الله لخلقه أعظم من مباينة بعض الخلق بعضا سواء في ذلك مباينة الأجسام بعضها لبعض والأعراض بعضها لبعض ومباينة الأجسام للأعراض ثم الأجسام والأعراض تتباين مع تماثلها بأحيازها وجهاتها المستلزمة لتباين أعيانها وتتباين مع اختلافها كالجسمين المختلفين والعرضين المختلفين في محلين وأدنى ما تتباين به الإختلاف في الحقيقة والصفة دون الحيز كالعرضين المختلفين في محل واحد
فلو لم يباين الباري لخلقه إلا بمجرد الإختلاف في الحقيقة والصفة دون الجهة والحيز والقدر لكانت مباينته لخلقه من جنس مباينة العرض لعرض آخر حال في محله أو مباينة الجسم للعرض الحال في محله وهذا يقتضي أن مباينته للعالم من جنس مباينة الشيئين اللذين هما في حيز واحد ومحل واحد فلا تكون هذه المباينة تنفي أن يكون هو العالم في محل واحد بل إذا كان العالم قائما بنفسه وكانت مباينته له من هذا الجنس كانت مباينته للعالم مباينة العرض للجسم الذي قام به ويكون العالم كالجسم وهو معه كالعرض وذلك يستلزم أن تكون مباينته للعالم مباينة المفتقر إلى العالم وإلى محل يحله لا سيما والقائم بنفسه مستغن عن الحال فيه وهذا من أبطل الباطل وأعظم الكفر فإن الله غني عن العالمين كما تقدم
ومن ها هنا جعله كثير من الجهمية حالا في كل مكان وربما جعلوه نفس الوجود القائم بالذوات أو جعلوه الوجود المطلق أو نفس الموجودات فهذا كله مع أنه من أبطل الباطل وهو تعطيل للصانع ففيه من إثبات فقره وحاجته إ إلى العالم ما يجب تنزيه الله عنه
وهؤلاء قد زعموا أنهم نزهوه عن الحيز والجهة فلا يكون مفتقرا إلى غيره فأحوجوه بهذا التنزيه إلى كل شيء وصرحوا بهذه الحاجة كما ذكرناه في غير هذا الموضع فسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السموات يتفرطن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا
ومع هذا فهؤلاء أقرب إلى الإثبات وإلى العلم من إثبات مباينة لا تعقل بحال وهو مباينة من قال لا داخل العالم ولا خارجه فإن هذه ليست كشيء من المباينات المعروفة التي أدناها مباينة العرض للجسم أو للعرض بحقيقته وأن ذلك يقتضي أن يكون أحدهما في الآخر أو يكونان كلاهما في محل واحد
وإذا كان هؤلاء النفاة لم يثبتوا له مباينة تعقل وتعرف بين موجودين علم أنه في موجب قولهم معدوما كما اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن ذلك حقيقة قول هؤلاء الجهمية الذين يقولون إنه ليس فوق العرش إنهم جعلوه معدوما ووصفوه بصفة المعدوم
يدل على ذلك أن هذا الرازي جعل مباينته لخلقه من جنس مباينته للحيز ولا يجب أن يكون موجودا كما تقدم فعلم أنهم أثبتوا مباينته للعالم من جنس مباينة الموجود للمعدوم أو من جنس مباينة المعدوم للمعدوم والعالم موجود لا ريب فيه فيكونون قد جعلوه بمنزلة المعدوم وهذا حقيقة قولهم وإن كانوا قد لا يعلمون ذلك فإن هذا حال الضالين
الوجه السادس والثلاثون أن يقال هب أنهم أثبتوا له مباينة تعقل لبعض الموجودات فالواجب أن يكون مباينته للخلق أعظم من مباينة كل لكل فيجب أن يثبت له من المباينة أعظم من مباينة العرض للعرض ومباينة الجوهر للجوهر وذلك يقتضي أن يثبت له المباينة بالصفة التي تسمى المباينة بالحقيقة والكيفية والمباينة بالقدر التي تسمى المباينة بالجهة أو الكمية وأن كانت مباينته لهذين أعظم مما يعلم من مباينة المخلوق للمخلوق إذ ليس كمثله شيء في شيء مما يوصف به وأما إثبات بعض المباينات دون بعضها فهذا يقتضي مماثلته للمخلوق وأن يكون شبهه ببعض المخلوقات أعظم من شبه بعضها ببعض وذلك ممتنع
يوضح ذلك الوجه السابع والثالثون وهو أن المباينة تقتضي المخالفة في الحقيقة وهي ضد المماثلة وحيث كانت المباينة فإنها تستلزم ذلك فإن المباينة بالجهة والحيز تقتضي أن تكون عين أحدهما مغايرة لعين الآخر وهذا فيه رفع الأتحاد وإثبات مخالفة وكذلك أختلاف الصفة والقدر ترفع المماثلة وتثبت المباينة والمخالفة وهو ان كان قد قال ان المباينة يعني بها المباينة بالجهة والمخالفة في الحقيقة وقد ذكرنا انها في المعنى الاول اظهر فإنها تستلزم الأختلاف في الحقيقة حيث كانت فإن الشيئين المتماثلين لا يتصور أن يتماثلا حتى يرتفع التباين في العين بل لا بد أن تكون عين أحدهما ليست عين الآخر وأن يكون له ما يخصه من أحوال كالعرضين المتماثلين بل السوادين إذا حل أحدهما في محل بعد الآخر فإن زمان هذا غير زمان الآخر ولهذا يقال المباينة تكون بالزمان وتكون بالمكان وتكون بالحقيقة
المقصود هنا أن المباينة مستلزمة لرفع المماثلة فإذا كان الله سبحانه ليس كملثه شيء في أمر من الأمور وجب أن تكون له المباينة التامة بكل وجه فيكون مباينا للخلق بصفته وقدره بحقيقته وجهته وبقدمه الذي يفارق به الكائنات في زمانها فتكون الأشياء مباينة له بمكانها وزمانها وحقيقتها وهو سبحانه مباين لها بأزله وأبده وظهوره وبطونه فهو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو مباين لها بصفته سبحانه وتعالى
يؤيد هذا أن المثبتة للصور أعظم تنزيها لله عن مماثلة الخلق من نفاتها لأن الأمور السلبية لا ترفع المماثلة بل الإعدام متماثلة وإنما يرتفع التماثل بالأمور الوجودية فكل من كان أعظم إثباتا لما توجبه اسماء الله وصفاته كان رفعه
المماثلة عن الله أعظم وظهر أن هؤلاء الجهمية الذين يزعمون أنهم يقصدون تنزيهه عن المشابهه هم الذين جعلوا له أمثالا وأندادا فيما أثبتوه وفيما نفوه كما تقدم بيان ذلك والله أعلم
فصل
قال الرزاي البرهان الثالث في أنه يمتنع أن يكون الله مختصا بالجهة والحيز هو أنه لو كان مختصا بالجهه والحيز لكان لا يخلو إما أن يقال إنه غير متناه من جميع الجوانب أو يقال إنه غير متناه من بعض الجوانب أو يقال إنه متناه من كل الجوانب والأقسام الثلاثة باطلة فالقول بكونه مختصا بحيز وجهة باطل
أما قولنا إنه يمتنع أن يكون غير متناه من جميع الجوانب فيدل عليه وجوه
الأول أن وجود بعد لا نهاية له محال والدليل عليه أن فرض بعد غير متناه بفضي إلى المحال فوجب أن يكون محالا وإنما قلنا إنه بفضي إلى المحال لأنا إذا فرضنا بعدا غير متناه وفرضنا بعدا آخر متناهيا موازيا له ثم زال خط المتناهي من الموازاة إلى المسامتة فنقول هذا يقتضي أن يحصل من الخط الأول الذي هو غير متناه نقطة هي أول نقطة المسامتة وذلك الخط المتناهي ما كان مسامتا للخط الغير متناهي ثم صار مسامتا له فكانت هذه المسامتة حادثه في أول أوان حدوثها لا بد وأن يكون مع نقطة معينة فتكون تلك النقطة هي أول نقطة المسامتة لكن كون الخط غير متناه يمنع من ذلك لأن المسامتة مع النقطة الفوقانية تحصل قبل المسامتة مع النقطة التحتانية فإذا كان الخط غير متناه فلا نقطة فيه إلا وفوقها نقطة أخرى وذلك يمنع من حصول المسامتة في المرة الأولى مع نقطة معينة فثبت أن هذا يقتضي أن يحصل في الخط الغير متناهي نقطة هي أول نقطة المسامتة وأن لا يحصل وهذا المحال إنما لزم من فرضنا أن ذلك الخط غير متناه فوجب أن يكون في ذلك محالا فثبت أن القول بوجود بعد متناه محال
الوجه الثاني وهو أنه إذا كان القول بوجود بعد غير متناه ليس محالا فعند هذا لا يمكن إقامة الدليل على كون العالم متناهيا بكلية وذلك باطل بالإجماع
الوجه الثالث أنه لو كان غير متناه من جميع الجوانب لوجب أن لا يخلو شيء من الجهات والأحياز عن ذاته فحينئذ يلزم أن يكون العالم مخالطا لأجزاء ذاته وأن تكون القاذورات والنجاسات كذلك وهذا لا يقوله عاقل
وأما القسم الثاني وهو أن نقول غير متناه من بعض الجوانب وقناه من سائر الجوانب فهو أيضا باطل لوجهين
الأول أن البرهان الذي ذكرناه على امتناع بعد غير متناه قائم سواء قيل إنه غير متناه من كل الجوانب أو من بعض الجوانب
الثاني أن الجانب الذي فرض أنه غير متناه والجانب الذي فرض أنه متناه إما أن يكونا متساويين في الحقيقة والماهية وأما أن لا يكونا كذلك أما القسم الأول فإنه يقتضي أن يصح على كل واحد من هذين الجانبين ما يصح على الجانب الآخر وذلك بقتضي جواز الفصل والوصل والزيادة والنقصان على ذات الله تعالى وهو محال وأما القسم الثاني وهو القول بأن أحد الجانبين مخالف للجانب الثاني في الحقيقة والماهية فنقول أن هذا محال من وجوه الأول أن هذا يقتضي كون ذاته مركبة وهو باطل كما بينا الثاني أنا بينا أنه لا معنى للمتحيز إلا الشيء الممتد في الجهات المختص بالأحياز وبينا أن المقدار يمتنع أن يكون صفة بل يجب أن يكون ذاتا وبينا أنه متى كان الأمر كذلك كان جميع المتحيزات متساوية وإذا كان كذلك أمتنع القول بأن أحد جانبي ذلك شيء مخالف للجانب الآخر في الحقيقة والماهية
أما القسم الثالث وهو ان يقال إنه متناه من كل الجوانب فهذا أيضا باطل من وجهين الأول أن كل ما كان متناهيا من جميع الجوانب كانت حقيقته قابلة الزيادة والنقصان وكل ما كان كذلك كان محدثا على ما بيناه الثاني أنه كان متناهيا من جميع الجوانب فحينئذ تفرض فوقه أحياز خالية وجهات فارغة فلا يكون هو تعالى فوق جميع الأشياء بل تكون تلك الأحياز أشد فوقية من الله
وايضا فهو تعالى قادر على خلق الجسم في الحيز الفارغ فلو فرض حيز خال لكان قادرا على أن يخلق فيه جسما وعلى هذا التقدير يكون ذلك الجسم فوق الله تعالى وذلك عند الخصم محال مثبت أنه لو كان في جهة لم يخل الأمر عن أحد هذه الأقسام الثلاثة وثبت أن كل واحد منها باطل محال فكان القول بأن الله تعالى في الحيز والجهة محال
فإن قيل الستم تقولون أنه غير متناه في ذاته فيلزمكم جميع ما ألزمتمونا
قلنا الشيء الذي يقال إنه غير متناه على وجهين أحدهما أنه شيء غير مختص بجهة وحيز ومتى كان كذلك امتنع أن يكون له طرف ونهاية وحد
والثاني أنه مختص بجهة وحيز إلا أنه مع ذلك ليس لذاته مقطع وحد فنحن إذا قلنا لا نهاية لذات الله تعالى عنينا به التفسير الأول فإن كان مرادكم ذلك فقد ارتفع النزاع بيننا وإن كان مرادكم هو الوجه الثاني فحينئذ يتوجه عليكم ما ذكرنا من الدليل ولا ينقلب ذلك علينا لأنا لا نقول انه غير متناه بهذا التفسير حتى يلزمنا ذلك الإلزام فظهر الفرق وبالله التوفيق
يقال هذه الحجة هي من جنس قولهم لو كان فوق العرش لكان إما أن يكون أصغر منه أو بقدره أو أكبر منه ببعد متناه أو غير متناه وهذه الحجج من حجج الجهمية قديما كما ذكر ذلك الأئمة وذكروا أن جهما وأتباعه هم أول من أحدلث في ألإسلام هذه الصفات السلبية وإبطال نقيضها مثل قولهم ليس فوق العالم ولا هو داخل العالم ولا خارجه وليس في مكان دون مكان وليس بمتحيز ولا جوهر ولا جسم ولا نهاية ولا حد ونحو هذه العبارات فإن هذه العبارات جميعها وما يشبهها لا تؤثر عن أحد من الصحابة والتابعين ولا من أئمة الدين المعروفين ولا يروي بها حديث عن النبي ﷺ ولا توجد في شيء من كتب الله المنزلة من عنده بل هذه هي من أقوال الجهمية ومن الكلام الذي إتفق السلف على ذمة لما أحدثه من أحدثه فحيث ورد في كلام السلف ذم الجهمية كأن أهل هذه العبارات داخلين في ذلك وحيث ورد عنهم الكلام والمتكلمين كان أهل هذه العبارات داخلين في ذلك فإن ذلك لما أحدثه المبتدعون كثر ذم أئمة الدين لهم وكلامهم في ذلك كثير قد صنف فيه مصنفات حتى إن أعيان هذه العبارات وأمثالها ذكرها السلف والأئمة فيما أنكروه على الجهمية وأهل الكلام المحدث
وقد قدمنا ما وصفه الإمام احمد من مذهب جهم حيث قال وتأول القرآن على غير تأويله وكذب باحاديث النبي ﷺ وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه النبي كان كافرا وكان من المشبهة فأضل بشرا كثيرا وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو إبن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية فإذا سالهم الناس عن قول الله عز وجل ليس كمثله شيء ما تفسيره يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء هو نحت الأرضين السابعة كما هو على العرش لا يخلو منه مكان ولا هو في مكان دون مكان ولا يتكلم ولا يكلم ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا ينظر إليه أحد في الآخرة ولا يوصف ولا يعرف بصفته ولا يعقل ولا له غاية ولا منتهى ولا يدرك بعقل وهو وجه كله وهو سمع كله وهو نور كله وهو قدرة كله ولا يوصف بوصفين مختلفين وليس له أعلا ولا أسفل ولا نواحي ولا جوانب ولا يمين ولا شمال ولا هو خفيف ولا ثقيل ولا له لون ولا له جسم وليس بمعقول وكلما خطر بقلبك أنه شيء تعرفه فالله بخلافه
وقال أيضا الإمام أبو سعيد عثمان بن سعيد في كتابه المعروف الذي سماه نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله في التوحيد قال:
باب الحد والعرش
وادعى المعارض أنه ليس لله حد ولا غاية ولا نهاية قال وهذا هو الأصل الذي بني عليه جهم جميع ضلالاته واشتق منها أغلوطاته وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهما إليها أحد من العالمين فقال له قائل ممن يحاوره قد علمت مرادك أيها الأعجمي تعني أن الله لا شيء لأن الخلق كلهم علموا أنه ليس شيء يقع عليه إسم الشيء إلا وله حد وغاية وصفة وأن لا شيء ليس له حد ولا غاية ولا صفة فالشيء ابدا موصوف لا محالة ولا شيء يوصف بلا حد ولا غاية وقولك لا حد له تعني أنه لا شيء
قال أبو سعيد والله تعالى له حد لا يعلمه غيره ولا يجوز لأحد أن يتوهم لحده عاية في نفسه ولكن نؤمن بالحد ونكل علم ذلك إلى الله ولمكانه أيضا حد وهو على عرشه فوق سمواته فهذان حدان اثنان
قال وسئل إبن المبارك بم نعرف ربنا قال بأنه على عرشه بائن من خلقه قيل بحد قال بحد حدثناه الحسن بن الصباح البزار عن علي بن الحسن بن شقيق عن أبن المبارك قال فمن ادعى أن ليس لله حد فقد ردالقرآن وادعى أنه لا شيء لأن الله تعالى وصف حد مكانه في مواضع كثيرة من كتابه فقال الرحمن على العرش استوى أأمنتم من في السماء يخافون ربهم من فوقهم إني متوفيك ورافعك إلي إليه يصعد الكلم الطيب فهذا كله وما أشبهه شواهد ودلائل على الحد ومن لم يعترف به فقد كفر بتنزيل الله وجحد آيات الله
وقال رسول الله ﷺ أن الله فوق عرشه فوق سمواته وقال للأمة السوداء أين الله قالت في السماء قال أعتقها فإنها مؤمنة فقول رسول الله صلىالله عليه وسلم إنها مؤمنة دليل على أنها لو لم تؤمن أن الله في السماء لم تكن مؤمنة وأنه لا يجوز في الرقبة المؤمنة إلا من شهد لله أنه في السماء كما قال الله ورسوله
ثم قال وحدثنا أحمد بن منيع البغدادي حدثنا أبو معاوية عن شبيب إبن شيبة عن الحسن عن عمران بن حصين أن النبي ﷺ قال لأبيه يا حصين كم تعبد اليوم إلها قال سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء قال فأيهم تعده لرغبتك ورهبتك قال الذي في السماء فلم ينكر النبي صلىالله عليه وسلم
على الكافر إذا عرف أن أله العالمين في السماء كما قاله النبي صلىالله عليه وسلم لحصين الخزاعي في كفره يوئذ كان أعلم بالله الجليل الأجل من المريسي وأصحابه معما ينتحلون من الإسلام إذ ميز بين الإله الخالق الذي في السماء وبين الآلهة والأصنام المخلوقة التي في الأرض فقد اتفقت الكلمة من المسلمين والكافرين أن الله في السماء وحدوه بذلك إلا المريسي الضال وأصحابه حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم قد عرفوه بذلك إذا حزب الصبي شيء رفع يديه إلى ربه يدعوه في السماء دون ما سواها فكل أحد بالله وبمكانه أعلم من الجهمية
وقدمنا أيضا قوله في ضمن رده على الجهمي المنكر لأستواء الله على العرش قال وأعجب من هذا كله قياسك الله بقياس العرش ومقداره ووزنه من صغير أو كبير وزعمت كالصبيان العميان أن كان الله أكبر من العرش أو أصغر منه أو مثله فإن كان الله أصغر فقد صيرتم العرش أعظم منه وإن كان أكبر من العرش فقد ادعيتم فيه فضلا عن العرش وإن كان مثله فإنه إذا ضم إلى العرش السموات والأرض كانت أكبر من خرافات تكلم بها وترهات يلعب بها وضلالات يضل بها لو كان من يعمل عليه لله لقطع ثمرة لسانه والخيبة لقوم هذا مقيههم والمنظور إليه مع هذا التمييز كله وهذا النظر وكل هذه الجهالات والضلالات
فيقال لهذا البقباق النفاخ إن الله أعظم من كل شيء وأكبر من كل خلق ولم يحتمله العرش عظما ولا قوة ولا حمله العرش احتملوه بقوتهم ولا استقلوا بعرشه بشدة أسرهم ولكنهم حملوه بقدرته ومشيئته وإرادته وتأييده لولا ذلك ما أطاقوا حمله وقد بلغنا أنهم حين حملوا العرش وفوقه الجبار في عزته وبهائه ضعفوا عن حمله واستكانوا وجثوا على ركبهم حتى لقنوا لا حول ولا قوة الا بالله فاستقلوا به بقدرة الله وارادته ولولا ذلك ما استقل به العرش ولا الحملة ولا السموات والارض ومن فيهن ولو قد شاء لا ستقل على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته فكيف على عرش عظيم اكبر من السموات السبع والارضين السبع ولو كان العرش في السموات والارضين ما وسعته ولكنه فوق السماء السابعة
واذا عرف اصل هذا الكلام فجيمع السلف والائمة الذين بلغهم ذلك انكروا ما فيه من هذه المعاني السلبية التي تنافي ما جاء به الكتاب والسنة
ثم من كان من السلف اخبر بحال الجهمية مثل الذين كانوا يباشرونهم من السلف والائمة الذين بالعراق وخراسان اذ ذاك فانهم كانوا اخبر بحقيقة امرهم لمجاورتهم لهم فانهم قد يتكلمون بنقيض ما نفوه وقد يتوقف بعضهم عن اطلاق اللفظ مثل لفظ الحد فان المشاهير بالامامة في السنة اثبتوه كما ذكره عثمان بن سعيد عنهم وسمى ابن المبارك
وذكر شيخ الإسلام ابو اسماعيل الانصاري الهروى في كتاب ذم الكلام باسناده ما ذكره حرب بن اسماعيل الكرماني صاحب احمد واسحاق في مسائلة عنهما وعن غيرهما قال قلت لاسحاق بن ابراهيم ما تقول في قوله ما يكون من نجوى ثلاثة الآية قال حيث ما كنت هو اقرب اليك من حبل الوريد وهو بائن من خلقه قلت لاسحاق على العرش بحد قال نعم بحد وذكره عن ابن المبارك قال هو على عرشه بائن من خلقه وذكر ايضا ما ذكره ابن ابي حاتم باسناده ان هشام بن عبيد الله الرازي القاضي صاحب محمد بن الحسن حبس رجلا في التجهم فتاب فجيء به الى هشام ليمتحنه
فقال الحمد لله على التوبة اتشهد ان الله على عرشه بائن من خلقه قال اشهد ان الله على عرشه ولا ادري ما بائن من خلقه فقال ردوه الى الحبس فانه لم يتب وقال شيخ الإسلام شرح مسألة حد البينونة في كتاب الفاروق يعني تصنيفه باب اغنى عن تكريره ها هنا
وقال شيخ الإسلام في اثناء الطبقة الثانية من كتاب ذم الكلام واهله وسألت يحيى بن عمار عن ابي حاتم بن حبان البستي قلت رأيته قال كيف لم اره ونحن اخرجناه من سجستان كان له علم كثير ولم يكن له كثير دين قدم علينا فانكر الحد فاخرجناه من سجستان هذا مع ان هؤلاء الذين يذكر شيخ الإسلام اقوالهم من ائمة الحديث والفقه والتصوف وغيرهم وقد ذكر عنهم ذم الكلابية والكرامية والاشعرية ونحوهم على ما احدثوه مما بخالف طريقة اهل السنة والحديث
وذكر الخلال في كتاب السنة ما تقدم من رواية حرب عن اسحاق ابن ابراهيم وذكر ايضا عن حرب قال املي علي اسحاق بن ابراهيم ان الله عز وجل وصف نفسه في كتابه بصفات استغنى الخلق ان يصفوه بغير ما وصف به نفسه من ذلك قوله يأتيهم الله في ظلل من الغمام وقوله وترى الملائكة حافين من حول العرش في آيات كلها تصف العرش وقد ثبتت الروايات في العرش واعلى شيء فيه واثبته قول الله الرحمن على العرش استوى قال وانا ابو بكر المروذي ثنا محمد بن الصباح النيسابوري ثنا سليمان بن داود أبو داود الخفاف قال قال إسحاق بن ابراهيم بن راهويه: قال الله تبارك وتعالى الرحمن على العرش استوى اجماع اهل العلم انه فوق العرش استوى ويعلم كل شيء في اسفل الارض السابعة وفي قعور البحر ورؤوس الآكام وبطون الاودية وفي كل موضع كما يعلم علم ما في السموات السبع وما فوق العرش احاط بكل شيء علما وما تسقط من ورقة الا يعلمها ولا حبة في ظلمات البر والبحر الا وقد عرف ذلك كله واحصاه ولا يعجزه معرفة شيء عن معرفة غيره
قال ابو بكر الخلال في كتاب السنة انا ابو بكر المروذي قال سمعت ابا عبد الله قيل له روى علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك انه قيل له كيف نعرف الله قال على العرش بحد قال قد بلغني ذلك عنه واعجبه ثم قال ابو عبد الله هل ينظرون الا ان يأتيهم الله في ظلل من الغمام ثم قال وجاء ربك والملك صفا صفا قال الخلال وانا محمد بن علي الوراق حدثنا ابو بكر الاثرم حدثني محمد بن ابراهيم القيسي قال قلت لاحمد بن حنبل يحكى عن ابن المبارك قيل له كيف نعرف ربنا قال في السماء السابعة على عرشه بحد فقال احمد هكذا هو عندنا وقال حدثنا الحسن بن صالح العطار ثنا هارون ابن يعقوب الهاشمي ان يعقوب بن العباس قال كنا عند ابي عبد الله قال فسألناه عن قول ابن المبارك على العرش استوى بحد فقلنا له ما معنى قول ابن المبارك بحد قال لا اعرفه ولكن ولهذا شواهد من القرآن في خمسة مواضع اليه يصعد الكلم الطيب أأمنتم من في السماء تعرج الملائكة والروح اليه وهو على العرش وعلمه مع كل وقولهم ما معنى قول ابن المبارك وقوله لا اعرفه قد يكون لا اعرف حقيقة مراده لكن للمعنى الظاهر من اللفظ شواهد وهو النصوص التي تدل على ان الله تنتهي اليه الامور وانه في السماء ونحو ذلك وقد يكون لا ادري من اين قال ذلك لكن له شواهد
وقال الخلال انا يوسف بن موسى ان ابا عبد الله احمد بن حنيل قيل له والله تبارك وتعالى فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه وقدرته وعلمه بكل مكان قال نعم على عرشه لا يخلو شيء من علمه وقال اخبرني عبد الملك الميموني انه سأل ابا عبد الله ما تقول فيمن قال ان الله ليس على العرش قال كلامهم كله يدور على الكفر
وهذا المحفوظ عن السلف والائمة من اثبات حد لله في نفسه قد بينوا مع ذلك ان العباد لا يحدونه ولا يدركونه ولهذا لم يتناف كلامهم في ذلك كما يظنه بعض الناس فانهم نفوا ان يحد احد الله كما ذكره حنبل عنه في كتاب السنة والمحنة وقد رواه الخلال في كتاب السنة اخبرني عبد الله بن حنبل حدثني ابي حنبل بن اسحاق قال قال عمي نحن نؤمن بالله عز وجل على عرشه كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف او يحده احد فصفات الله عز وجل منه وله وهو كما وصف نفسه لا تدركه الابصار بحد ولا غاية وهو يدرك الابصار وهو عالم الغيب والشهادة علام الغيوب ولا يدركه وصف واصف وهو كما وصف نفسه وليس من الله شيء محدود ولا يبلغ علمه وقدرته احد غلب الاشياء كلها بعلمه وقدرته وسلطانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وكان الله قبل ان يكون شيء والله الاول وهو الآخر ولا يبلغ احد حد صفاته فالتسليم لامر الله والرضا بقضائه نسأل الله التوفيق والسداد انه على كل شيء قدير
وذلك ان لفظ الحد عند كل من تكلم به يراد به شيئآن يراد به حقيقة الشيء في نفسه ويراد به الوجود العيني او الوجود الذهني فاخبر ابو عبد الله انه على العرش بلا حد يحده احد او صفة يبلغها واصف واتبع ذلك بقوله لا تدركه الابصار بحد ولا غاية وهذا التفسير الصحيح للادراك أي لا تحيط الابصار بحده ولا غايته ثم قال وهو يدرك الابصار وهو عالم الغيب والشهادة علام الغيوب ليتبين انه عالم بنفسه وبكل شيء
وقال الخلال واخبرني علي بن عيسى ان حنبلا حدثهم قال سألت ابا عبد الله عن الاحاديث التي تروى ان الله تبارك وتعالى ينزل الى السماء الدنيا وان الله يضع قدمه وما اشبه هذه الاحاديث فقال ابو عبد الله نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى ولا نرد منها شيئا ونعلم ان ما جاء به الرسول حق اذا كانت بأسانيد صحاح ولا نرد على الله قوله ولا يوصف بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية ليس كمثله شيء قال وقال حنبل في موضع آخر قال ليس كمثله شيء في ذاته كما وسف به نفسه فقد اجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء فيعبد الله بصفاته غير محدودة ولا معلومة الا بما وصف نفسه قال تعالى وهو السميع البصير
قال وقال حنبل في موضع آخر قال فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير ولا يبلغ الواصفون وصفاته منه وله ولا يتعدى القرآن والحديث فنقول كما قال ونصفه كما وصف نفسه ولا يتعدى ذلك ولا تبلغه صفة الواصفين نؤمن بالقرآن كله محكمة ومتشابهة ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوة بعبده يوم القيامة ووضعه كنفه عليه هذا كله يدل على ان الله يرى في الآخرة والتحديد في هذا بدعة والتسليم لله بأمره بغير صفة ولا حد الا ما وصف به نفسه سميع بصير لم يزل متكلما عالما غفورا عالم الغيب والشهادة علام الغيوب فهذه صفات وصف بها نفسه لا تدفع ولا ترد وهو على العرش بد حد كما قال ثم استوى على العرش كيف شاء المشيئة اليه عز وجل والاستطاعة له ليس كمثله شيء وهو خالق كل شيء وهو كما وصف نفسه سميع بصير بلا حد ولا تقدير قول ابراهيم لابيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر فثبت ان الله سميع بصير صفاته منه لا نتعدى القرآن والحديث والخبر يضحك الله ولا نعلم كيف ذلك الا بتصديق الرسول ﷺ وتثبيت القرآن ولا يصفه الواصفون ولا يحده احد تعالى الله عما يقول الجهمية والمشبهة
وقال لي ابو عبد الله قال لي اسحاق بن ابراهيم لما قرأ الكتاب بالمحنة تقول ليس كمثله شيء فقلت له ليس كمثله شيء وهو السميع البصير قال ما اردت بهذا قلت القرآن صفة من صفات الله وصف بها نفسه لا ننكر ذلك ولا نرده قلت له المشبهة ما يقولون قال من قال بصر كبصري ويد كيدي وقال حنبل في موضع آخر وقدم كقدمي فقد شبه الله بخلقه وهذا يحده وهذا كلام سوء وهذا محدود والكلام في هذا لا احبه قال عبد الله جردوا القرآن وقال النبي ﷺ يضع قدمه نؤمن به ولا نحده ولا نرده على رسول الله ﷺ بل نؤمن به قال الله تبارك وتعالى ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا فقد امرنا الله عز وجل بالاخذ بما جاء والنهي عما نهى واسماؤه وصفاته غير مخلوقة ونعوذ بالله من الزلل والارتياب والشك انه على كل شيء قدير
قال وزادني ابو القاسم الجبلي عن حنبل في هذا الكلام وقال تبارك وتعالى الله لا اله الا هو الحي القيوم الله لا اله الا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهين العزيز الجبار المتكبر هذه صفات الله عز وجل واسماؤه تبارك وتعالى وزاد علي بن عيسى عن حنبل قال وسمعت ابا عبد الله يقول ما احد اشد حدثا على اهل البدع والخلاف من حماد بن سلمة ولا اروى لاحاديث الرؤية والرد على القدرية والمعتزلة منه قال وسمعت ابا عبد الله يقول القوم يرجعون الى التعطيل في قولهم كله ينكرون الآثار وما ظننتهم هكذا حتى سمعت مقالتهم
وكذلك قال عبد العزيز بن عبد الله بن ابي سلمة الماجشون احد ائمة المدينة المشاهير على عهد مالك بن انس وهم مالك وابن ابي ذئب وابن الماجشون هذا قال في كلامه المشهور عنه الذي رواه ابن بطة وغيره بأسانيد صحيحة قال وقد سئل فيما جحدته الجهمية اما بعد فقد فهمت ما سألت فيما تتابعت فيه الجهمية ومن خالفها في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتقدير وكلت الالسن عن تفسير صفته وانحسرت العقول دون معرفة قدره وردت عظمته العقول فلم تجد مساغا فرجعت خاسئة وهي حسيرة فانما امروا بالنظر والتفكير فيما خلق بالتقدير وانما يقال كيف لمن لم يكن مرة ثم كان فأما الذي يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل فانه لا يعلم كيف هو الا هو وكيف يعرف قدر من لم يبدأ ولا يموت ولا يبلى وكيف يكون لصفة شيء منه حد او منتهى يعرفه عارف او يحد قدره واصف على انه الحق المبين لا حق احق منه ولا شيء ابين منه الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة اصغر خلقه لا تكاد تراه صغيرا يحول ويزول ولا يرى له سمع ولا بصر ولما يتقلب به ويحتال من عقله اعضل بك واخفى عليك مما ظهر من سمعه وبصره فتبارك الله احسن الخالقين وخالقهم وسيد السادة وربهم ليس كمثله شيء وهو السميع البصير اعرف رحمك الله غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها اذا لم تعرف قدر ما وصف فما تكلفك علم ما لم يصف هل تستدل بذلك على شيء من طاعته او تنزجر به عن شيء من معصيته
فأما الذي جحد ما وصف الرب تعمقا وتكلفا فقد استهوته الشياطين في الارض حيران فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأن قال لا بد ان كان له كذا من ان يكون له كذا فعمي عن البين بالخفي بجحد ما سمى الرب بنفسه بصمت الرب عما لم يسم منها فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله عز وجل وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة فقال لا يراه احد يوم القيامة فجحد والله افضل كرامة الله التي اكرم بها اولياءه يوم القيامة من النظر الى وجهه ونظر الله اياهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر قد قضى انهم لا يموتون فهم بالنظر اليه ينضرون
الى ان قال وانما جحد رؤيته يوم القيامة اقامة للحجة الضالة المضلة لانه قد عرف اذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين وكان له جاحدا وقال المسلمون يا رسول الله هل نرى ربنا فقال رسول الله ﷺ هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب قالوا لا قال فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب قالوا لا قال فانكم ترون ربكم يومئذ كذلك وقال رسول الله ﷺ لا تمتليء النار حتى يضع رب العزة فيها قدمه فتقول قط قط وينزوي بعضها الى بعض وقال لثابت بن قيس بن شماس لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة
وقال فيما بلغنا ان الله ليضحك من ازلكم وقنوطكم وسرعة اجابتكم فقال له رجل من العرب ان ربنا ليضحك قال نعم قال لا نعدم من رب يضحك خيرا في اشباه لهذا مما لم نحصيه
وقال الله تعالى وهو السميع البصير واصبر لحكم ربك فانك بأعيننا وقال ولتصنع على عيني وقال ما منعك ان تسجد لما خلقت بيدي وقال والارض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون فوالله ما دلهم على عظم ما وصف به نفسه وما تحيط به قبضته الا صغر نظيرها منهم عندهم ان ذلك الذي القى في روعهم وخلق على معرفته قلوبهم فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله سميناه كما سماه ولم نتكلف منه صفة ما سواه لا هذا ولا هذا لا نجحد ما وصف ولا نتكلف معرفة ما لم يصف
اعلم رحمك الله ان العصمة في الدين ان تنتهي حيث انتهى بك ولا تجاوز ما قد حد لك فان من قوام الدين معرفة المعروف وانكار المنكر فما بسطت عليه المعرفة وسكنت اليه الافئدة وذكر اصله في الكتاب والسنة وتوارث علمه الامة فلا تخافن في ذكره وصفته من ربك ما وصف من نفسه عيبا ولا تكلفن لما وصف لك من ذلك قدرا وما انكرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربك ولا في الحديث عن نبيك من ذكر صفة ربك فلا تتكلفن علمه بعقلك ولا تصفه بلسانك واصمت عنه كما صمت الرب عنه من نفسه فان تكلفك معرفة ما لم يصف من نفسه مثل انكارك ما وصف منها فكما اعظمت ما جحد الجاحدون مما وصف من نفسه فكذلك اعظم تكلف ما وصف الواصفون ما لم يصف منها فقد والله عز المسلمون الذين يعرفون المعروف ويمعرفتهم يعرف وينكرون المنكر ويانكارهم ينكر يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه وما يبلغهم مثله عن نبيه فما مرض من ذكر هذا وتسميته من الرب قلب مسلم ولا تكلف صفة قدره ولا تسمية غيره من الرب مؤمن وما ذكر عن رسول الله ﷺ انه سماه من صفة ربه فهو بمنزلة ما سمى ووصف الرب تعالى من نفسه والراسخون في العلم الواقفون حيث انتهى علمهم الواصفون لربهم بما وصف من نفسه التاركون لما ترك من ذكرها لا ينكرون صفة ما سمى منها جحدا ولا يتكلفون صفة ما لم يسم تعمقا لان الحق تبرك ما ترك وتسمية ما سمى ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآت مصيرا وهب لنا ولكم حكما والحقنا بالصالحين وهذا كله كلام ابن الماجشون
فصل
والكلام على هذه الحجة في مقامين احدهما منع المقدمة الاولى والثاني منع الثانية
اما الاول فهو قول من يقول هو فوق العرش وليس له حد ولا مقدار ولا هو جسم كما يقول ذلك كثير من الصفاتية من الكلابية وائمة الاشعرية وقدمائهم ومن وافقهم من الفقهاء والطوائف الاربعة وغيرهم واهل الحديث والصوفية وغير هؤلاء وهم امم لا يحصيهم الا الله ومن هؤلاء ابو حاتم ابن حبان وابو سليمان الخطابي البستيان قال ابو سليمان الحطابي في الرسالة الناصحة لما تكلم على الصفات ومما يجب ان يعلم من هذا الباب ويحكم القول فيه انه لا يجوز ان يعتمد في الصفات الا الاحاديث المشهورة التي قد ثبتت بصحة اسانيدها وعدالة ناقليها فان قوما من اهل الحديث قد تعلقوا منها بالفاظ لا تصح من طريق السند وانما هي من رواية المفاريد والشواذ فجعلوها اصلا في الصفات وادخلوها في جملتها كحديث الشفاعة وما روي فيه من قوله فاعود الى ربي فاجده بمكانه او في مكانه فزعموا على هذا المعنى ان لله مكانا تعالى الله عن ذلك وانما هذه اللفظة تفرد بها في هذه القصة شريك بن عبد الله بن ابي نمر وخالفه اصحابه فيها ولم يتابعوه عليها وسبيل مثل هذه الزيادة ان ترد ولا تقبل لاستحالتها ولان مخالفة اصحاب الراوي له في الرواية كخلاف البينة للبينة اذا تعارضت البينتان سقطتا معا وقد تحتمل هذه اللفظة لو كانت صحيحة ان يكون معناها انه يجد ربه بمكانه الاول من الاجابة في الشفاعة والاسعاف بالمسألة اذا كان مرويا في الخبر انه يعود مرارا فيسأل ربه في المذنبين من امته كل ذلك يشفعه ويسعفه بمسألته فيهم
قلت هذا في حديث المعراج بحديث الشفاعة ولكن في حديث الشفاعة فأستأذن من رواية شريك ولكن غلظ الخطابي في بذلك فاشتبه عليه حديث المعراج على ربي في داره فيؤذن لي عليه فاذا رأيته وقعت ساجدا ذكر ذلك ثلاث مرات وهذا في الصحيح من رواية قتادة عن انس واما تلك اللفظة فهي في حديث المعراج من رواية شريك وليس هذا موضع الكلام في ذلك
قال الخطابي ومن هذا الباب قوما منهم زعموا ان لله حدا وكان اعلا ما احتجوا به في ذلك حكاية عن ابن المبارك قال علي بن الحسن بن شقيق قلت لابن المبارك انعرف الله بحد او نثبته بحد فقال نعم بحد فحعلوه اصلا في
هذا الباب وزادوا الحد في صفاته تعالى الله عن ذلك وسبيل هؤلاء القوم عافانا الله واياهم ان بعلموا ان صفات الباري لا تؤخذ الا من كتاب الله تعالى وقول رسول الله ﷺ دون قول احد من الناس كائنا من كان علت درجته او نزلت تقدم زمانه او تأخر لانها لا تدرك من طريق القياس والاجتهاد فيكون فيها لقائل مقال ولنظر مجال على ان هذه الحكاية عن ابن المبارك قد رويت لنا انه قيل له انعرف الله بجد فقال نعم بجد بالجيم دون الحاء
قال وزعم بعضهم ان يقال ان له حدا لا كالحدود كما تقول يد لا كالايدي فيقال له انما احوجنا الى ان نقول يد لا كالايدي لان اليد قد جاء ذكرها في القرآن وفي السنة فلزم قبولها ولم يجز ردها فاين ذكر الحد في الكتاب او في السنة حتى نقول حدا لا كالحدود كما نقول يد لا كالايدي ارأيت ان قال قائل رأس لا كالرؤوس قياسا على قولنا يد لا كالايدي هل تكون الحجة عليه الا نظير ما ذكرنا في الحد من انه لما جاء ذكر اليد وجب القول به ولما لم يجيء ذكر الرأس لم يجز القول به
وممن انكر الحد ابو الحارث
وكان القاضي ابو يعلي ينكر الحد ثم رجع الى الاقرار به وكذلك لفظ الجهة قال في كتاب ابطال التأويلات لاخبار الصفات في كلامه على حديث العباس بن عبد المطلب والاستواء على العرش فاذا ثبت انه على العرش فالعرش في جهة وهو على عرشه وقد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع اطلاق الجهة عليه والصواب جواز القول بذلك لان احمد قد اثبت هذه الصفة التي هي الاستواء على العرش وأثبت أنه في السماء وكل من أثبت هذا أثبت الجهة وهم أصحاب ابن كرام وابن منده الأصبهاني المحدث
قال والدلالة عليه أن العرش في جهة بلا خلاف وقد ثبت بنص القرآن أنه مستو عليه فاقتضى أنه في جهة ولأن كل عاقل من مسلم وكافر إذا دعا فإنما يرفع يديه ووجهه نحو السماء وفي هذا كفاية ولأن من نفي الجهة من المعتزلة والأشعرية يقول ليس في جهة ولا خارجا منها وقال قائل هذا بمثابة من قال باثبات موجود مع وجود غيره ولا يكون وجود أحدهما قبل وجود الآخر ولا بعده ولأن العوام لا يفرقون بين قول القائل طلبته فلم أجده في موضع ما وبين قوله طلبته فإذا هو معدوم
قال وقد احتج ابن منده على اثبات الجهة بأنه لما نطق القرآن بإذن الله على العرش وأنه في السماء وجاءت السنة بمثل ذلك وبأن الجنة مسكنه وأنه في ذلك وهذه الأشياء أمكنة في نفسها فدل على أنه في مكان
قال وإذا ثبت استواؤه ثبت أنه على العرش وأنه في جهة فهل الاستواء من صفات الذات قياس قول أصحابنا أنه من صفات الذات وأنه موصوف بها في القدم وإن لم يكن هناك عرش موجود لتحقق وجود ذلك فيه في الثاني لأنهم قالوا خالق ورازق موصوف به فيما لم يزل ولا مخلوق ولا مرزوق لتحقق الفعل من جهته وقد تقول العرب سيف مقطوع وخبر مستمع وماء مرو وإن لم يوجد منه القطع لتحقق الفعل منه واستدل بعض أصحابنا بأنه موصوف في الأزل بالربوبية ولا مربوب وبالألوهية ولا مألوه وعلى قياس هذا النزول إلى السماء والمجيء في ظلل من الغمام ووضع القدم في النار
فإن قيل فقد قال أحمد في رواية حنبل هو على العرش كيف شاء وكما شاء وصفات الذات لا تدخل تحت المشيئة بل المشيئة راجعة إلى خلق العرش لا إلى الاستواء عليه قلت وفي هذا نزاع بين الأصحاب وغيرهم ليس هذا موضعه
قال القاضي وإذا ثبت استواؤه وأنه في جهة وأن ذلك من صفات الذات فهل يجوز اطلاق الحد عليه قد أطلق أحمد القول بذلك في رواية المروذي فقد ذكر له قول ابن المبارك نعرف الله على العرش بحد فقال أحمد بلغني ذلك وأعجبه وقال الأثرم قلت لأحمد يحكى عن ابن المبارك نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد هكذا هو عندنا قال القاضي ورأيت بخط أبي اسحاق أنا أبو بكر أحمد بن نصر الرفاء سمعت أبا بكر بن أبي داود سمعت أبي يقول جاء رجل إلى أحمد بن حنبل فقال له لله تبارك وتعالى حد قال نعم لا يعلمه إلا هو قال الله تبارك وتعالى وترى الملائكة حافين من حول العرش يقول محدقين
قال فقد أطلق أحمد القول بإثبات الحد لله وقد نفاه في رواية حنبل فقال نحن نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد فقد نفى الحد عن الصفة المذكورة وهو الحد الذي يعلمه خلقه والموضع الذي أطلقه محمول على معنيين أحدهما أنه تعالى في جهة مخصوصة وليس هو تعالى ذاهبا في الجهات بل خارج العالم متميز عن خلقه منفصل عنهم غير داخل في كل جهة وهذا معنى قول أحمد له حد لا يعلمه إلا هو والثاني أنه على صفة يبين بها عن غيره ويتميز ولهذا سمي البواب حدادا لأنه يمنع غيره عن الدخول فهو تعالى فرد واحد ممتنع عن الاشتراك له في أخص صفاته
قال وقد منعنا من إطلاق القول بالحد في غير موضع من كتابنا ويجب أن يجوز على الوجه الذي ذكرناه فهذا رجوع منه إلى القول بإثبات الحد لكن اختلف في ذلك كلامه فقال هنا ويجب أن يحمل على اختلاف كلام أحمد في إثبات الحد على اختلاف حالين فالموضع الذي قال إنه على العرش بحد معناه ما حاذى العرش من ذاته فهو حد له وجهة له والموضع الذي قال هو على العرش بغير حد معناه ما عدا الجهة المحاذية للعرش وهي الفوق والخلف والأمام والميمنة والميسرة وكان الفرق بين جهة التحت المحاذية للعرش وبين غيرها ما ذكرنا أن جهة التحت تحاذي العرش بما قد ثبت من الدليل والعرش محدود فجاز أن يوصف ما حاذاه من الذات أنه حد وجهة وليس كذلك فيما عداه لأنه لا يحاذي ما هو محدود بل هو مار في الميمنة والميسرة والفوق والأمام والخلف إلى غير غاية فلهذا لم يوصف واحد من ذلك بالحد والجهة وجهة العرش تحاذي ما قابله من جهة الذات ولم تحاذ جميع الذات لأنه لا نهاية لها
قلت هذا الذي ذكره في تفسير كلام أحمد ليس بصواب بل كلام أحمد كما قال أولا حيث نفاه نفي تحديد الحاد له وعلمه بحده وحيث أثبته أثبته في نفسه ولفظ الحد يقال على حقيقة المحدود صفة أو قدرا أو مجموعهما ويقال على العلم والقول الدال على المحدود
وأما ما ذكره القاضي في إثبات الحد من ناحية العرش فقط فهذا قد اختلف فيه كلامه وهو قول طائفة من أهل الإثبات والجمهور على خلافه وهو الصواب
والمقصود أن نفاه الحد والمقدار والجسم ونحو ذلك من الصفاتية الذين يقولون أنه على العرش يقولون لا نسلم أنه إذا كان هو ينفسه فوق العرش فإنه لا يلزم أن يوصف بتناهي المقدار كما لا يستلزم الانقسام وكذلك لا يستلزم أن يوصف عندهم بعدم التناهي الذي هو بعد لا يتناهى كما لا يوصف عندهم بعدم الانقسام الذي هو جزء لا ينقسم وكذلك لا يستلزم ذلك عندهم أن يوصف بأنه أكبر من العرش في المقدار والمساحة أو أصغر أو بقدره فإنهم يقولون هذه اللوازم كلها إنما تلزم إذا فرض أن فوق العرش ما هو جسم أما إذا كان الذي فوق العرش ليس بجسم فإنه يمتنع أن يستلزم لوازم الجسم لأن الانقسام أو التناهي والتحديد ونحو ذلك هي لازمة للجسم وملزومة له فلا يكون متناهيا محدودا مقسوما إلا ما يكون جسما ولا يكون جسما إلا ما جاز أن يوصف بالانقسام أو بقبول التناهي والتحديد وعدم ذلك
قالوا لمنازعيهم من النفاة فإذا اتفقنا على أنه ليس بجسم أو إذا قام الدليل على انه ليس بجسم وقد علمنا بالفطرة والضرورة العقلية والأدلة المتواترة السمعية واتفاق سلف الأمة وخير البرية أنه فوق العرش كان التقدير أن الذي فوق العرش ليس بجسم وحينئذ فقول القائل إما أن يكون متناهيا أو ذاهبا في الجهات إلى غير غاية وإما أن يكون منقسما أو جوهرا فردا كل ذلك باطل لأن هذه اللوازم إنما تكون إذا كان الذي على العرش جسما أما إذا كان غير جسم ولا متحيز فإنه لا يلزمه شيء من هذه اللوازم
وقالوا هذا اللزوم والتقسيم كله من حكم الوهم والخيال وباب الربوبية لا يجوز أن يحكم فيه بحكم الوهم والخيال كما قد قرره هذا المؤسس في مقدمة هذا الكتاب
ولا ريب أن قولهم هذا أصح من قول منازعيهم من النفاة لما قيل لهم إما أن يكونا متباينين وإما أن يكونا متحايثين وإما أن يكون أحدهما بحيث الآخر
وإما أن يكون مباينا عنه بالجهة فقالوا ليس بكذا ولا كذا ففنوا الطريقين جميعا وقالوا إنه لا يمكن أن يحس به ولا أن يشار إليه بالحس فقيل لهم هذا أحقر من الجوهر الفرد فقالوا في جواب ذلك إنما يلزم لو كان جسما أو لو كان موصوفا بالحيز والمقدار أو قالوا هذا من حكم الوهم والخيال أو حكم الحس والوهم
فقد بينا فيما تقدم غير مرة أن كلام منازعيهم هؤلاء أبعد عن الخطأ في العقل والدين من منازعيهم فانهم هم أعظم مخالفة لما يعلم بضرورة العقل وبديهته وفطرته من منازعيهم هؤلاء المثبتين لأن الله على العرش الموافقين لهم على نفي الجسم وقد تقدم التنبيه على أصل كلام هؤلاء وأنه إن كان كثيرا ممن يوافقهم على أن الله على العرش أو على نفي الجسم يقول إن هذا القول متناقض ويصفهم بالتناقض في ذلك فالنفاة أعظم تناقضا منهم وأعظم مخالفة لما يعلم بالاضطرار في العقل والدين وأن هؤلاء أعظم مخالفة للعلوم الشرعية والعقلية ولا ريب أن كلام هؤلاء فيه ما يحتج به مثبتو الحد والمقدار والتحيز والجهة وفيه ما يحتج به نفاة الجسم والتحيز والجهة أيضا فلهذا قيل إنهم متناقضون أو أن لهم قولين
وقد ذكرنا بعض كلام أبي الحسن الأشعري وغيره من أئمة أصحابه الذي احتجوا به على أن الله على العرش وما احتجوا في ذلك من الآيات التي يحتج بها على اثبات الحد فقال باب ذكر الاستواء فإن قال قائل ما تقولون في الاستواء قيل له إن الله مستو على عرشه كما قال سبحانه الرحمن على العرش استوى وقد قال عز وجل إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وقال سبحانه بل رفعه الله إليه وقال سبحانه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه وهذه الآيات التي استشهد بها الامام أحمد لقول ابن المبارك وكذلك هي التي احتج بها عثمان بن سعيد الدارمي وغيره على ذلك فهذا الرازي وموافقوه على النفي من المعتزلة ومتأخري الأشعرية يسلمون أن الاستدلال بهذه الآيات على أن الله فوق العرش يستلزم القول بدلالتها على أن الله متحيز في جهة وأن له حدا وقد تقدم تمام قول الأشعري
قال أيضا وقد قال تعالى يخافون ربهم من فوقهم وقال سبحانه تعرج الملائكة والروح إليه وقال سبحانه ثم استوى إلى السماء وقال ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا وقال ثم استوى على العرش مالكم من دونه من ولي ولا شفيع قال وكل هذا يدل على أنه في السماء مستو على عرشه قال والسماء باجماع الناس ليست في الأرض فدل على أنه عز وجل منفرد بوحدانيته مستو على عرشه كما وصف نفسه قال وقال سبحانه وجاء ربك والملك صفا صفا وقال عز وجل هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وهاتان الآيتان هما اللتان احتج بهما أحمد على قول ابن المبارك في الرواية الأخرى
قال وقال سبحانه يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي وقال سبحانه وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه قال واجتمعت الأمة على أن الله رفع عيسى إلى السماء قال ومن دعاء المسلمين جميعا إذا هم رغبوا إلى الله في الأمر النازل بهم أنهم يقولون يا ساكن العرش أو يامن احتجب بالعرش أو بسبع سموات وهذا تصريح منه باحتجابه بالأجسام المخلوقة وهذا عند منازعيه من نفاة أصحابه وغيرهم يستلزم أن يكون جسما متحيزا
قال وقال عز وجل وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي إذنه ما يشاء وقد خصت الآية البشر دون غيرهم وهذا كله منه يقتضي أن الله سبحانه قد يحتجب عن شيء دون شيء ممن ليس من جنس البشر ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم لكان أبعد عن شبهة وإدخال الشك عل من سمع الآية أن يقول لأحد أن يكلمه الله إلا وحيا ومن وراء حجاب أو يرسل رسولا فيرفع الشك والحيرة من أن يقول ما كان لجنس من الأجناس أن يكلمه الله إلا وحيا ومن وراء حجاب أو يرسل رسولا وترك أجناسا لم يعمهم بالآية قال فدل ما ذكرناه على أن خص البشر دون غيرهم وقد احتج بذلك على أن الله فوق العرش لأن النفاة يقولون الاحتجاب لا يكون إلا من صفات الأجسام ولا يكون على العرش إلا إذا كان جسما وهذا قد استدل بهذه الآيات على احتجابه عن بعض خلقه المستلزم أن يكون على العرش
قال وقال الله عز وجل ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ولو ترى إذ وقفوا على ربهم وقال ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤسهم عند ربهم وقال سبحانه وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة وقال كل ذلك يدل على أنه ليس في خلقه ولا خلقة فيه وأنه سبحانه مستو على عرشه جل وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا جل عما يقول الذين لم يثبتوا له في وصفهم حقيقة ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية إذ كان
كلامهم يؤول إلى التعطيل وجميع أوصافهم تدل على النفي في التأويل ويريدون بذلك زعموا التنزيه ونفي التشبيه فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل فاحتجاجه بقوله ثم ردوا إلى الله وقوله وقفوا على ربهم وقوله عرضوا على ربك وقوله ناكسو رؤسهم عند ربهم على أن الله فوق العرش كل ذلك لأن هذه الآيات تدل على النهايات والغايات والحدود والتباين الذي بينه وبين خلقه
فإذا نتكلم على حجته في هذا المقام فإنه يقال له قولك لو كان مختصا بالحيز والجهة لكان لا يخلو إما أن يكون متناهيا أو غير متناه فإن قلت نحن نقول هو موجود في غير جهة ولا حيز أصلا وهو غير متناه من جميع الجوانب أو بعضها أو غير متناه من جميعها يعارضونه بأن يقولوا هذه الحجة ترد عليك أيضا بأن يقال ولو كان موجودا أو قائما بنفسه كان متناهيا في ذاته بمعنى أن ذاته يمتنع أن يكون لها طرف ونهاية وحد
يقال لك اذا عقل موجود لا نهاية له فهل التفسير يعقل موجود فوق العرش لا يوصف بالتناهي وعدمه أولى وأحرى بمعنى أنه يمتنع أن يكون له نهاية أو يكون ذا مسحة لا نهاية لها فانه إذا عقل هذا في موجود مطلق لم يمتنع وصف هذا الموجود بأنه فوق العرش ويكون كذلك بل يكون هذا أقرب إلى العقل لأن الفطر تقر بأن الله فوق العالم وتنكر وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه فإذا أقررت بوجوده خارج العالم كان أقرب إلى الفطرة والعقل وإذا جاز أن يقال في هذا إنه لا يتناهى بمعنى أن ذاته لا تقبل الوصف بتناهي المقدار وعدمه كذلك يقال فيه مع وجوده فوق العرش
وإذا قال قائل هذا الفوقية أو هذا العلو فوق العرش لا يعقل أو قال لا يعقل علو ولا فوقية إلا بمعنى الذهاب في الجهات قيل له معرفة الصفة وعقلها فرع على معرفة الموصوف وعقله فطلبك العلم بكيفية علوه مع أنك لا تعقل حقيقته جمع بين الضدين وإذا كنت تقر بأنه موجود بل إقرارك بأن ذاته فوق العرش فوقية تناسب ذاته أسهل على العقل من الاقرار بأنه لا داخل العالم ولا خارجه بل الاقرار بأنه ليس ذا مساحة ومقدار لا ينافي الاقرار بأنه خارج العالم وفوقه كما يناسب ذاته ومنافاة الاقرار بوجوده مع كونه لا داخل العالم ولا خارجه أعظم تنافيا
وأما المقام الثاني فكلام من لا ينفي هذه الأمور التي يحتج بها عليه نفاة العلو على العرش ليس لها أصل في الكتاب والسنة بل قد يثبتها أو يثبت بعضها لفظا أو معنى أو لا يعترض لها بنفي ولا إثبات وهذا المقام هو الذي يتكلم فيه سلف الأمة وأئمتها وجماهير أهل الحديث وطوائف من أهل الكلام والصوفية وغيرهم وكلام هؤلاء أسد في العقل والدين حيث ائتموا بما في الكتاب والسنة وأقروا بفطرة الله التي فطر عليها عباده فلم يغيروا وجعلوا كتب الله التي بعث بها رسله هي الأصل في الكلام وأما الكلام المجمل المتشابه الذي يتكلم به النفاة ففصلوا مجمله ولم يوافقوهم على لفظ مجمل قد يتضمن نفي معنى حق ولا وافقوهم أيضا على نفي المعاني التي دل عليها القرآن والعقل وان شنع النفاة على من يثبت ذلك أو زعموا أن ذلك يقدح في أدلتهم وأصولهم
والكلام عليه من وجوه أحدها أن يقال قوله وأما القسم الثالث
وهو أن يقال كل متناه من كل الجوانب فهذا باطل من وجهين الأول أن كل ما كان متناهيا من جميع الجوانب كانت حقيقته قابلة للزيادة والنقصان وكل ما كان كذلك كان محدثا على ما بيناه فيقال له قد تقدم الكلام على هذه الحجة وبينا أن جماهير بني آدم من المسلمين واليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين يخالفونك في هذه المقدمة وبينا فساد ما ذكرته من الحجة عليها بوجوه كثيرة بيانا واضحا ونحن نحيل على ما ذكرناه هناك كما أحال هو عليه
وأما الوجه الثاني فقوله إنه لما كان متناهيا من جميع الجوانب فحينئذ نفرض فوقه أحيازا خالية وجهات فارغة فلا يكون هو تعالى فوق جميع الأشياء بل تكون تلك الأحياز أشد فوقية من الله تعالى ويكون قادرا على أن يخلق فيها جسما فوقه فيقولون لك هذا بناء على أن الأحياز والجهات لابد أن تكون أمرا وجوديا وأنه يمكن أن تكون فوقه وهم ينازعونك في هاتين المقدمتين وأنت معترف بفسادها في غير موضع من كتبك وقد تقدم البيان بأن الحيز لا يجب أن يكون أمرا وجوديا وإبطال ما يستدل به على خلاف ذلك وظهر صحة قوله سبحانه هو الأول والآخر والظاهر والباطن وما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ إنه كان يقول في دعائه أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء وهذا النص أيضا يدل على أنه ليس فوق الله شيء وهذا نفي عام لكل ما يسمى شيئا وكل موجود فإنه يسمى شيئا فقد اتفق الناس على أن كل موجود غير الله فإنه شيء لكون النبي ﷺ قد نفى أن يكون فوقه شيء موجود حيزا وغيره وهذا يبطل أن يكون فوقه أحياز موجودة
والذي يوضح ذلك أنه قد قرر في هذه الحجة امتناع وجود أبعاد لا تتناهى وذلك يبطل وجود أحياز لا تتناهى حتى إنه يقول ليس وراء العالم أحياز وأبعاد لا تتناهى فإذا كانوا يوجبون في العالم الذي هو متحيز محدود متناهي أن لا يكون وراءه أحياز موجودة فكيف يوجبون أن يكون فوق خالق العالم أحياز موجودة بل هذا الرازي وأمثاله إذا ناظره الفلاسفة في أنه يمكن أن يكون العالم أكثر مما هو ويمكن أن يخلق مثله عالم آخر لم يقرر ذلك عليهم إلا بما هو من جنس مجادلاته المعرفة التي لا يزال يضطرب فيها غاية الاضطراب من السلب والايجاب فكيف يوجب أن يكون فوق رب العالمين أحيازا خالية وجهات فارغة ويضرب لهم هنا مثلا من أنفسهم كما يناظر به من يقول إن الله شريكا من خلقه أو أن له ولدا لا يرضى مثله لنفسه فيقال له المخلوق الذي هو عندك متحيز لا يجب أن يكون فوقه عندك أحياز خالية وجهات فارغة فكيف توجب في خالق العالم إذا وصف بأنه فوق العرش وأنه متحيز أن يكون فوقه أحياز خالية وجهات فارغة
وأما قوله هو قادر على خلق الجسم في الحيز الفارغ فيكون ذلك الجسم فوقه فيقال لك هذا مبني على أنه يمكن أن يكون فوقه شيء فإن لم يبين إمكان ذلك لم يصح أن يقال هو قادر على خلق جسم فوقه كما لا يصح أن يقال هو قادر على خلق جسم قبله أو بعده فقد يقول لك المنازع إذا وجب أن يكون هو العلي الأعلى المتعالي الذي لا يعلوه شيء لم يجز أن يعلوه شيء كما أنه إذا وجب أن يكون الأول والآخر لم يجز أن يسبقه شيء أو يتأخر عنه
شيء كما قال النبي ﷺ أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء لكن الأول والآخر لا ابتداء له ولا انتهاء وإذا لم يكن له نهاية ولا حد من الوجهين جميعا ظهر فيه امتناع أن قبله أو بعده شيء بخلاف المتناهي المحدود من الأحياز
ولكن هذا الفرض جاء من خصوص المكان والزمان بدليل أن أهل الجنة لا آخر لوجودهم بل هم باقون أبدا وإن كانوا متحيزين لا حد ولا نهاية لآخرهم وإن كانت ذواتهم محدودة متناهية في أحيازها وأما كنها ولهذا لما أراد جهم أن يطرد دليلة في وجوب النهاية لكل مخلوق أوجب فناء الجنة والنار ولما أراد أبو الهذيل أن يطرد دليله في تناهي الحوادث أوجب انقطاع حركات أهل الجنة والنار
والمقصود هنا أن وجوب تناهي البقاء والأمد وإذا كانت الأحياز متناهية أو كان المتحيز متناهيا لم يجب أن يكون فوقه شيء إذ ليس وراء الموجود شيء موجود إلى غير نهاية وقد تقدم ابطاله لذلك
وأيضا فيقال له لم تذكر حجة على امتناع أحياز خالية ولا امتناع خلق أجسام وأنت تقول إن هذا برهان فإن لم تذكر حجة على امتناع ذلك لم يكن هذا الوجه دليلا
وأما قولك لا يكون هو فوق جميع الأشياء بل تكون الأحياز أشد فوقية فهذا تمسك باطلاق لفظ مع أنك لا تقول بمعناه فهو عندك أيضا ليس فوقه شيء من الأشياء فضلا عن أن تكون فوقه جميعها إلا بمعنى القدرة والتدبير وهذا المعنى يثبته المنازع مع اثباته لهذه الفوقية الأخرى فيكون قد أثبت ما تثبته من صفات الكمال ويثبت كمالا آخر لم تثبته أنت
وأيضا فتلك الأحياز ليست شيئا أصلا لأن الأشياء هي الموجودة ولا موجود إلا الله وخلقه وهو فوق خلقه وإذا لم تكن أشياء لم يصح أن يكون شيء فوقه وكان هو فوق كل شيء
وأما خلق جسم هناك فلم يذكر على امتناعه حجة إلا أن الخصم لا يقول به والخصم يقول ذلك ممتنع لامتناع أن يكون شيء موجود فوق الله فإن سلمت له هذه العلة كان ذلك جوابا لك وإن لم تسلمها لم يكن مذهبه صحيحا فلا تحتج به وقد تقدم كلامك على إبطال مثل هذه الحجة وهي الالزامات المختلفة المآخذ
وأيضا فلو قال قائل بل ذلك جائز فلم تذكر على إبطاله حجة لا سيما وعندك أن النقص على الله لم يعلم امتناعه بالعقل وإنما علمته بالاجماع لا سيما إن احتج بظاهر قوله تعالى يأتيهم الله في ظلل من الغمام وبقوله كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء لا سيما وهذا لا ينافي الفوقية والعلو بالقدرة والقهر والتدبير وعندك لا يستحق الله الفوقية إلا بهذا وهذا المعنى ثابت سواء خلق فوقه شيئا آخر أو لم يخلقه فإذا لم يكن هذا مستحيلا على أصلك لم يصح احتجاجك باستحالته عن المنازع الذي ينازعك في المسألة بل قد يقول لك إذا لم يكن ما يمنع جواز ذلك إلا هذا فعليك أن تقول به لأن هذا ليس بمانع عندك
الوجه الثاني أن يقال قد ذكرت أن الكرامية الذين قالوا انه فوق العرش منهم من قال إنه ملاق للعرش ومنهم من قال إنه مباين عنه ببعد متناه ومنهم من قال إنه مباين عنه ببعد غير متناه وهذا القول يتضمن أن بين الله وبين العرش بعدا غير متناهيا
وقد ذكر الأشعري في المقالات قول طوائف ممن يقول أنه لا نهاية لذاته مع قولهم إنه ممتد في الجهات فقال بعد ذكر مقالات المعتزلة هذا شرح اختلاف الناس في التجسيم قال قد أخبرنا عن المنكرين للتجسيم أنهم يقولون إن الباري ليس بجسم ولا محدود ولا ذي نهاية ونحن الآن نخبر عن أقاويل المجسمة واختلافهم في التجسيم قال واختلفوا فيما بينهم في التجسيم وهل للباري قدر من الأقدار وفي مقداره على ستة عشر مقالة فذكر قول هشام انه جسم وأن له مقدارا وأنه ذو لون وطعم ورائحة ومجسة لونه هو طعمه وهو رائحته وهو مجسته وهو نفسه لون قال ولم يثبت لونا غيره وأنه يتحرك ويسكن ويقوم ويقعد وهذا قد يقال إنه يناسب قول من قال من الصفاتية إن يدرك بالحواس
قال وحكي عن بعض المجسمة أنه كان يثبت البارى ملونا ويأبى أن يكون ذا طعم ولون ورائحة ومجسة وأن يكون طويلا أو عريضا أو عميقا وزعم أنه في مكان دون مكان متحرك من وقت ما خلق الخلق وهذا قد يناسب قول من يقول إنه يدرك بالرؤية فقط فإن هذا يزعم أنه لا يرى إلا اللون
قال وقال قائلون إن الباري جسم وأنكروا أن يكون موصوفا بلون وطعم ورائحة أو مجسة أو شيء مما وصف به هشام غير أنه على العرش مباين له دون ما سواه قال واختلفوا في مقدار البارى بعد أن جعلوه جسما فقال قائلون هو جسم وهو في كل مكان وفاضل عن جميع الأماكن وهو مع ذلك متناه غير أن مساحته أكبر من مساحة العالم لأنه أكبر من كل شيء وقال بعضهم مساحته على قدر العالم وقال بعضهم أن البارى جسم له مقدار من المساحة ولا يدري كم ذلك القدر وقال بعضهم هو في أحسن الأقدار وأحسن الأقدار أن يكون ليس بالعظيم الجافي ولا بالقليل القمي وحكي عن هشام أن أحسن الأقدار أن يكون سبعة أشبار بشبر نفسه وقال بعضهم ليس لمساحة البارى نهاية ولا غاية وأنه ذاهب في الجهات الست اليمين والشمال والأمام والخلف والفوق والتحت قالوا وما كان كذلك لا يقع عليه اسم جسم ولا طويل ولا عريض ولا عميق وليس بذي حدود ولا قطب وقال قوم أن معبودهم هو الفضاء وهو جسم تحل الأشياء فيه ليس بذي غاية ولا نهاية وقال بعضهم هو الفضاء ليس بجسم والأشياء قائمة به
فقد ذكر عن هاتين الفرقتين أنه لا نهاية لمساحته مع قول بعضهم إنه جسم وقول بعضهم إنه ليس بجسم كما ذكر عن آخرين من المجسمة أنه جسم وهو في كل مكان وفاضل عن جميع الأماكن وهو مع ذلك متناه وعن آخرين أنه بقدر العالم وأما القائلون بأنه على العرش فلم يذكر عنهم قولا أنه لا نهاية لمساحته وذكر أيضا عن زهير الأثري وأبي معاذ التومنى أنه فوق العرش وبكل مكان وقال فأما أصحاب زهير الأثري فإن زهيرا كان يقول إن الله بكل مكان وأنه مع ذلك على عرشه وأنه يرى بالأبصار بلا كيف وأنه موجود الذات بكل مكان وأنه ليس بجسم ولا محدود ولا يجوز عليه الحلول والمماسة ويزعم أنه يجئ يوم القيامة كما قال وجاء ربك والملك صفا صفا بلا كيف
فيقال له إذا نازعك إخوانك المتكلمون الجهمية من المجسمة وغير المجسمة الموافقون لك على أنه ليس فوق العرش الذين يقولون لا نهاية لذاته ومساحته مع قولهم انه جسم ومع قولهم انه ليس بجسم فما حجتك عليهم وهذا هو القسم الأول وهذا ليس من أقوال من يقول انه فوق العرش
وكذلك ذكر أبو الحسن الأشعري لما ذكر اختلاف الناس هل هو في مكان دون مكان أم لا في مكان أم في كل مكان فقال قد ذكرنا قول من امتنع من ذلك وقال إنه في كل مكان حال وقول من قال لا نهاية له وأن هاتين الفرقتين ذكرتا القول أنه في مكان دون مكان فأخبر أن القائلين بأنه لا نهاية له ينكرون أن يكون في مكان دون مكان فلا يقولون إنه فوق العرش لكن هذا المؤسس ان لم يبطل قول هؤلاء بالحجة والا خصموه فانه ينكر أن يكون الله فوق العرش ويوافقهم على اطلاق القول بأنه لا نهاية له ولا حد ولا غاية وإن كان يفسر ذلك بتفسير آخر لكن نفي قولهم لابد له من حجة
فأما الوجه الأول الذي ذكره فيقولون له لا نسلم أن الخط المتناهي يمكنه أن يسامت غير المتناهي فقولك زال عن الموازاة إلى المسامتة فرع إمكان ذلك والمحال المذكور إنما لزم من فرض مسامتة خط متناه لخط غير متناهي فلزم من قولك أن يحصل في المتناهي نقطة هي أول نقطة المسامتة وأن لا يحصل لكن قولك إن هذا المحال إنما لزم من فرضنا أن ذلك الخط غير متناه ممنوع بل يقال هذا المحال إنما لزم من فرض مسامتة المتناهي لغير المتناهي فالاحالة كانت بفرض مسامتة له لا بفرض وجود غير المتناهي لم قلت إن الأمر ليس كذلك
وقد يقول لك أحد الفريقين من هؤلاء نحن نقول أنه غير متناه وأنه غير جسم وحينئذ لا يمكن أن يفرض فيه خطوط ونقط فلا بد من إقامة دليل على امتناع شيء ليس بجسم غير متناهي فان أقمت دليلا على ذلك بطل ما ذكرته في القسم الثالث من وجود أحياز خالية فوق البارى لأنه إذا أوجب عندك تناهي الأبعاد وإن لم تكن أجساما وجب تناهي الأحياز فلم يجب أن يكون فوق الباري حيز ولا بعد كما الزمتهم إياه في القسم الثالث
وأما الوجه الثاني الذي احتججت به عليهم فقولك إذا كان القول بوجود بعد غير متناه ليس محالا فعند هذا لا يمكن إقامة الدليل على كون العالم متناهيا بكليته وذلك باطل بالاجماع يقولون لك أكثر ما يمكنك دعوى الاجماع على أن دليله امتناع بعد لا يتناهى ولا يلزم من الاجماع على الحكم أن يكونوا مجمعين على دليل معين
وأيضا فلا يلزم من بطلان هذا الدليل بطلان سائر الأدلة كيف وقد ذكرت أنه مجمع عليه والاجماع من أعظم الأدلة إذ حجة الاجماع ليست موقوفة على إحالة أبعاد لا تتناهى بدليل أن سلف الأمة وأئمتها يعترفون أن الاجماع حجة من غير أن يبنوا ذلك على أدلة فيها هذه المقدمة التي قد لا تخطر ببال أكثرهم
وقد يقول هؤلاء هب أنه قام دليل تناهي العالم وتناهي المخلوقات وتناهي الأبعاد التي فيها المحدثات فلم قلت إن ذلك محال في حق البارى وهذا يقوله مثبتة الجسم ونفاته كما تقدم ذكر القولين لهم
وأما الوجه الثالث قولك لو كان غير متناه من جميع الجوانب أوجب أن لا يخلو شيء من الجهات والأحياز عن ذاته فحينئذ يلزم أن يكون العالم مخالطا لأجزائه وأن يكون القاذورات والنجاسات كذلك وهذا لا يقوله عاقل فان أردت أن ليس في المكلفين من العقلاء من يقوله فقد قاله منهم طوائف كما ذكرناه عن الأشعري أنه نقل ذلك عن طائفتين ممن يقول إن له مساحة طائفة تقول إنه جسم وطائفة تنفى الجسم
وأيضا فطوائف من الجهمية يقولون إنه بذاته في كل مكان وقد ذكر الأئمة والعلماء ذلك عن الجهمية وردوا ذلك عليهم وطوائف أخر يقولون إنه موجود الذات في كل مكان وأنه على العرش كما نقله الأشعري عن زهير وأبي معاذ
وأيضا هؤلاء الاتحادية يصرحون بذلك تصريحا لا مزيد عليه حتى يجعلونه عين الكلب والخنزير والنجاسات لا يقولون إنه مخالط لها بل وجودها عين وجوده وهذا وان كان من أعظم الكفر فالغرض أن إخوانه من الذين يقولون أن الله ليس فوق العرش قد قالوا هذا كله وما هو أكثر منه فلا بد أن يرد قولهم بطرقه التي يسلكها وإلا لم يكن قوله أصح من قولهم بل قولهم أقرب إلى العقل من قوله أنه لا داخل العالم ولا خارجه ولهم في الجواب عن المخالطة من الكلام ما هو مع كونه باطلا أقرب إلى العقل من كلامه مثل قولهم أنه بمنزلة الشعاع للشمس الذي لا يتجنس بما يلاقيه وبمنزلة الفضاء والهواء الذي لا يتأثر بما يكون فيه ونحو هذا من الأمثال التي يضربونها لله فهم مع كونهم جعلوا لله ندا وعدلا ومثلا وسميا في كثير من أقوالهم إن لم يكونوا أمثل منه فليسوا دونه بكثير
وأما إن أردت أن العقل يبطل هذا القول فلم تذكر على بطلانه حجة عقلية أكثر ما ذكرت قولا تنفر عنه النفوس أو ما يتضمن نوع نقص وأنت تقول ليس في العقل ما ينفي عن الله النقص وإنما نفيته بالاجماع فهذا الوجه في جانب من يقول بالقسم الثالث
وأما القسم الثاني وهو التناهي من جهة دون جهة فما علمت به قائلا فإن قال هذا أحد فإنه يقول إنه فوق العرش ذاهبا إلى غير نهاية فهو متناه من جهة العالم غير متناه من الجهة الأخرى وهذا لم يبلغني أن أحدا قاله ونقل الأشعري يقتضي أن هذا لم يقله أحد بل كل من قال بعدم نهايته أنكر أن يكون فوق العرش
الوجه الثالث أن يقال فرض بعد غير متناه لا يخلو إما أن يكون محالا أو لا يكون محالا فإن كان محالا بطل ما ذكر مما ذكرته في القسم الثالث من تجويز أحياز خالية فوقه إذا كان متناهيا من جميع الجهات فإنه إذا وجب تناهي الأبعاد لم يجب أن يكون فوق العالم بعد فضلا عن أن يكون فوق الباري بعد وأذا فرض ما ذكرته في القسم الثالث وهو أحد الوجهين نفي الوجه الأول وهو كون كل ماله قدر مخصوص يجب أن يكون محدثا وقد تقدم الكلام عليه بما فيه كفاية وإذا بطل الوجهان بطل ما ذكرته على إفساد القسم الثالث وإن كان فرض بعد غير متناه ممكنا ثبت إمكان القسم الأول وبطل ما ذكرته من الحجة على إحالة ذلك فقد ظهر على التقديرين أن ما ذكرته ليس بدليل صحيح
الوجه الرابع أن القسم الثاني وهو أنه غير متناه من بعض الجوانب ومتناه من سائر الجوانب وان كنا لم نعلم به قائلا فلم تذكر دليلا على إبطاله ولا استدللت على إبطاله بنص أو اجماع فأما الدليل الذي ذكرته على امتناع بعد غير متناه فقد تقدم القول عليه مع إن تلك الوجوه لا تصلح هنا كما صلحت هناك
أما الوجه الأول وهو اجتماع وجود المسامتة وعدمها إذا قدر مسامتة غير المتناهي للمتناهي فإنه ما تقدم فيه إذا كان متناهيا من بعض الجهات أمكن فرض المسامتة في تلك الجهة وحينئذ فتسامت النقطة الفوقانية من تحت الجهة قبل التحتانية لكن هذا لا يحصل إلا عند فرض مسامتا من الجهة التي لا تتناهى
وأما الوجه الثالث وهو لزوم مخالطة ذاته للقاذورات فهذا لا يلزم إذا قيل إنه متناه من جانب الخلق دون الجانب الآخر فإنه حينئذ لا يكون مخالطا لهم من هذا الوجه هنا بطولا ظاهرا
وأما بطلان إقامة الدليل على تناهي العالم فقد تقدم الكلام عليه مع أن العالم في بقائه فيه متناه من أوله غير متناه من آخره ففيه تناه من وجه دون وجه لكن هذا ليس هو المتناهي في الجهة والمقدار والبعد
والغرض أن الوجوه الثلاثة هي في هذا القسم فيها نوع نقص عن ذلك القسم
وأما الوجه الثاني وهو قولك أن الجانب الذي فرض أنه غير متناه والجانب الآخر إما أن يتساويا في الحقيقة والماهية وإما أن لا يكونا كذلك أما القسم الأول فإنه يقتضي أن يصح على كل واحد من هذين الجانبين ما يصح على الآخر وذلك يقتضي جواز الفصل والوصل والزيادة والنقصان فيقال لك مشاركة الشيء لغيره في حقيقته لا يقتضي مساواته له في المقدار كالمقادير المختلفة من الفضة والذهب وسائر الأجسام المتماثلة في الحقيقة فانها تتماثل في الحقيقة مع اختلاف المقادير وحينئذ فهذه الأمور إنما يجوز على بعضها ما يجوز على بعض فيما تماثلت فيه وهو الصفة والكيفية وأما ما يتعلق بالمقدار فليس الكبير في ذلك كالصغير ولا يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر بل للصغير أحكام لا تصح في الكبير وللكبير أحكام لا تصح على الصغير مثل شغل الحيز الذي بقدره وغير ذلك
وإذا كان كذلك فالبعد الذي يتناهى من أحد جانبيه دون الآخر وإنما تماثلت حقيقة الجانبين في الصفة والكيفة فلم تتماثل في المقدار لأن أحدهما أكبر من الآخر قطبا فلا يلزم أن يجوز على غير المتناهي من النقص والفصل
وأيضا فان لزم أن يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر فقولك ذلك يقتضي جواز الفصل والوصل والزيادة والنقصان على ذات الله تعالى هذا هو بعينه الدليل على امتناع كونه متناهيا وهو أن المتناهي يقبل الزيادة والنقصان وقد قيل لك أن هذا ممنوع فيما وجوبه به بنفسه فإن صفاته تكون لازمة لذاته فلا يمكن أن يكون على خلاف ما هو عليه كما نقول إن معلوماته أكثر من مقدوراته ومقدوراته أكثر من مخلوقاته ومراداته وهذان لم يكن نظير ذلك والغرض التنبيه على تقدم الكلام في مثل هذا
وأيضا فلم تذكر دليلا على امتناع الفصل والوصل والزيادة والنقصان فإن اعتصمت في ذلك بإجماع كانت الحجة سمعية وأن قنعت بنفور النفوس عن ذلك فنفور النفوس على قولك أعظم مع أن هذا ليس حجة عندك
وقولك وأما القسم الثاني وهو القول بأن أحد الجانبين مخالف للجانب الآخر في الحقيقة والماهية فنقول إن هذا محال من وجوه الأول أن هذا يقتضي كون ذاته مركبة وهو باطل كما بيناه
يقال لك قد تقدم الكلام على إبطال حجة التركيب بما يظهر به فسادها لكل عاقل لبيب
فقولك الثاني أنا بينا أنه لا معنى للمتحيز إلا الشيء الممتد في الجهات المختص بالأحياز وبينا أن المقدار يمتنع أن يكون صفة بل يجب أن يكون ذاتا وبينا أنه متى كان الأمر كذلك كانت جميع المتحيزات متساوية وإذا كان كذلك امتنع القول بأن أحد جانبي ذلك الشيء يخالف الجانب الآخر في الحقيقة والماهية
فيقال لك هذه حجة تماثل الأجسام وقد تقدم أنها من أبطل ما في العالم من الكلام وهي منشاها من كلام المعتزلة والجهمية كما ذكره الأشعري وغيره كما أن الأولى من كلام الفلاسفة والصابئة وهي أيضا من حجج المعتزلة والجهمية وقد تبين أن المقدر صفة للشيء المقدر المحدود وليس هو عين الشيء المقدر المحدود وتبين أيضا أنه لو كان المقدار هو الذات لم يجب أن تكون المقدورات متساويات فإن بينها اختلافا في صفات ذاتيات لها وهي مختلفة في تلك الصفات الذاتيات وان كانت مشتركة في أصل المقدار الذي جعلته الذات وغايتها أن تكون بمنزلة الأنواع المشتركة في الجنس المتمايزة بالفصول
وأيضا فأنت وسائر الصفاتية بل وجميع العباد يثبتون لله معاني ليست متماثلة بل هذا واجب في كل موجود مثل إثبات أنه موجود بنفسه ومبدع بنفسه ومبدع لغيره وأنه عالم وأنه قادر وأنه حي وهذه حقائق مختلفة فالقول في اقتضائها للتركيب كالقول في اختلاف الجانبين كذلك كما تقدم ذلك
وأما حجة تساوي الأبعاد وتماثلها فهذه الحجة إن صحت فهي كافية في نفي كونه كذلك سواء قبل إنه متناه أو غير متناه والحجة المستقلة بنفسها في المطلوب لا تصلح أن تجعل دليل بعض مقدمات دليل المطلوب لأن هذا تطويل وعدول عن سواء السبيل
الوجه الخامس أنه أورد اعتراضا من جهة المنازع بقوله فان قيل ألستم تقولون أنه تعالى غير متناه في ذاته فيلزمكم جميع ما ألزمتموه علينا وقال في الجواب قلنا الشيء الذي يقال انه غير متناه على وجهين أحدهما أنه غير مختص بجهة وحيز ومتى كان كذلك امتنع أن يكون له طرف ونهاية وحد والثاني أنه مختص بجهة وحيز إلا أنه مع ذلك ليس لذاته منقطع وحد فنحن إذا قلنا إنه لا نهاية لذات الله عنينا به التفسير الأول
فيقال المعقول المعروف إذا قيل هذا لا يتناهى أو لا حد له ولا غاية ولا نهاية أن يكون موجودا أو مقدر الوجود ويكون ذلك الموجود أو المقدر ليس له حد ولا نهاية ولا منقطع بل لا يفرض له حد ومنقطع إلا وهو موجود بعده كما يقال في وجود الباري وبقائه فيما لم يزل ووجوده وبقائه فيما لا يزال بل في وجود أهل الجنة في الجنة فيما لم يزال بقاؤه لا ينتهي ذلك إلى حد الا ويكون بعده شيء كما أن وجود البارى لا يقدر له حد ووقت الا وهو موجود قبله وكذلك اذا قدر أجسام أو أبعاد لا تتناهى فانه لا يفنى قبله وكذلك إذا قدر أجسام أو أبعاد لا تتناهى فانه لا يفنى منها شيء أو يقدر منها الا وهي تكون موجودة بعده وكذلك ما يقدر في الذهن إلى حد ومقطع الا ويقدر بعده شيء آخر وكذلك ما يقدر في الذهن من عدم التناهي من العلل وغيرها كما بين فساده هو من هذا الباب
فالغرض ان الشيء الذي يوصف بعدم التناهي إما حقيقة وإما مقدار ممتنعا وإما تقديرا غير ممتنع أو غير معلوم الامتناع كلها مشتركة في ذلك فاما وصف الشيء بانه غير متناه بمعنى أن ليس له حقيقة تقبل التناهي وتقبل عدم التناهي فوصف هذا بأنه غير متناه مثل صفة المعدوم بأنه غير متناهي لأنه لا يمكن له نهاية وحد وطرف ولا يمكن أن يقال وذاته لا تقبل أن يوصف بالتناهي وعدمه كما لا يقبل أن يوصف بالحياة وعدمها ولا بالعلم وعدمه ولا بالقدرة وعدمها
ولهذا يفرق من يفرق بين العدم المحض وعدم الصفة عما من شأنه أن يقبلها فان الأعمى والأصم ونحو ذلك لا يوصف به المعدوم المحض ولا يقال أيضا للعدم المحض إنه جاهل أو عاجز أو يثبت له أنه عالم ولا قادر بل كل صفة تستلزم الثبوت يمتنع أن يوصف بها المعدوم فإذا قيل الأعمى والأصم كان ذلك نفيا للسمع والبصر عما يقبله لا عن المعدوم الذي يمتنع أن يوصف بثبوت ففرق بين نفي الصفة التي يمكن ثبوتها للموصوف في الذهن أو في الخارج ونفي الصفة التي لا تكون لا في الذهن ولا في الخارج ثبوتها للموصوف فاذا قيل المعدوم لا يتناهى والمعدوم غير متناهي كان المعنى أن المعدوم ليس له حقيقة تقبل أن تكون متناهية أو غير متناهية كما ليس له حقيقة تقبل أن تكون حية أو غير حية أو عالمة أو غير عالمة أو قادرة أو غير قادرة
فاذا قيل قول القائل في الله إنه غير متناهي بمعنى أن ذاته لا تقبل الوصف بالنهاية وعدمها كان ذلك بمنزلة قول القائل أن الله ليس باصم ولا ميت ولا جاهل بمعنى أن ذاته لا تقبل الوصف بهذه الصفات وعدمها فيكون المعنى حينئذ أنه لا يقال أصم ولا يقال غير أصم ولا يقال ميت ولا يقال غير ميت وهذا شر من أقوال الملاحدة الذين يمتنعون من إثبات الأسماء الحسنى له ونفيها فان أولئك يقولون لا نقول حي ولا غير حي بل يسلبون أضدادها فيقولون هو ليس بميت ولا جاهل وان كان هذا الذي قالوه يستلزم عدمه كما تقدم لكن ليس ظهور عدمه في ذلك كظهوره في قول القائل لا يوصف بالموت ولا بعدمه ولا بالعجز ولا بعدمه كما لا يوصف بالقدرة ولا بعدمها ولا بالحياة ولا عدمها بمعنى أن ذلك لا يجوز أن يوصف بشيء من ذلك لا نفيا ولا إثباتا فان هذا حال المعدوم المحض
وإذا كان كذلك فقول القائل أنا أقول أن الله غير متناهي في ذاته بمعنى أن ذاته لا تقبل أن يوصف بالتناهي وعدمه لأن ذلك من عوارض ذات المقدار كما لا يوصف بالطول وعدمه ولا بالقصر وعدمه ولا بالاستدارة والتثليث والتربيع وعدم ذلك لأن ذلك من عوارض المقدار وهو التجسيم والتحيز جمع بين النقيضين لأن قوله غير متناه في ذاته يفهم المقدار الذي لا يتناهى وهو البعد الذي لا يتناهى كما إذا قيل إنه لا نهاية له في أزله أفهم ذلك البقاء الذي لا يتناهى وهو عمر الله الذي لا يتناهى كما يحلف به فيقال لعمر الله كما حلف النبي ﷺ وأصحابه بذلك
وقولهم بعد ذلك لا يقبل الوصف بالتناهي وعدمه نفي لما أثبتوه من كونه غير متناهي وكذلك قوله امتنع أن يكون له طرف ونهاية وحد هذا يفهم منه أن ذاته غير متناهي فلا نهاية لها وهو إنما أراد أن ذاته لا يجوز إثبات النهاية لها ولا سلبها عنها وهذا صفة المعدوم
فالحاصل أنهم في هذا المقام إما أن يفسروا سلب النهاية بما هو صفة المعدوم أو بما يستلزم وجودا غير متناهي في نفسه فان قالوا ان وجود ذلك الموجود غير متناه في نفسه فهذا قول من يقول إن ذات الله لا نهاية لها وان قالوا إن ذاته لا يجوز أن يعتقد أو يقال فيها إنها متناهية أو أنها غير متناهي لأنها لا تقبل الاتصاف بذلك فهذا صفة المعدوم سواء فأحد الأمرين لازم إما تمثيل ربهم بالمعدوم وإما القول بأبعاد لا نهاية لها
وهكذا كان السلف يقولون عن قول الجهمية انهم لما قالوا ان الله ليس على العرش وأنه لا يكون في مكان دون مكان صاروا تارة يقولون إنه في كل مكان ويقول من يقول منهم إنه موجود ولا نهاية لذاته فيجعلونه من الموجودات المخلوقة أو نفس وجودها وتارة يقولون ليس في مكان أصلا ولا داخل العالم ولا خارجه فيجعلونه كالمعدومات فهم دائما مترددون بين الاشراك وبين التعطيل إما يجعلونه كالمخلوقات وإما أن يجعلوه كالمعدومات فالأول يكثر في عبادهم ومتصوفتهم والثاني يكثر في علمائهم ومتكلمتهم
ولهذا لما كان صاحب الفصوص ونحوه من القسم الأول جعلوه نفس الموجودات وجوزوا كل شرك في العالم وجعلوه نفس العابد والمعبود والناكح والمنكوح والشاتم والمشتوم وقالوا ما عبد أحد الله ولا يمكن أن يعبد الا الله بل لا يتصور أن يكون العابد والمعبود عندهم إلا الله ولما كان صاحب التأسيس ونحوه من القسم الثاني جعلوه كالمعدومات المحضة ولهذا يقال فيهم متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئا وهذا هو نهاية التعطيل ومتصوفتهم يعبدون كل شيء وهذا نهاية الاشراك
ولهذا ذكر الإسلام والسنة أن هذا السلب أول من ابتدعه في الإسلام هم الجهمية وليس له أصل في دين المسلمين ولا غيرهم بل الموجود في كتاب الله وسنة رسوله وكلام سلف الأمة وأئمتها هو نفي ادراك نهايته ونفي الاحاطة به كما قال تعالى لا تدركه الأبصار وقال من قال من السلف لمن سأله عن هذه الأشياء الست ترى السماء قال بلى قال أفكلها ترى قال لا قال فالله أكبر وكذلك قوله ولا يحيطون به علما سواء كان الضمير عائدا على الله أو على ما بين أيديهم فان ذلك يدل على عدم إحاطة العلم بالله من طريق الأولى وكذلك قول النبي ﷺ لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وغير ذلك وكذلك من قال من سلف الأمة إن حده لا يعلمه أحد غيره
وقد قال سبحانه وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون فأخبر سبحانه أنهم ما قدروا الله حق قدره وهو يقبض الأرض بيده ويطوى السماء بيمينه كما استفاضت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي ﷺ مثل حديث أبي هريرة وابن عمر وابن مسعود كلها في الصحيحين ومثل حديث ابن عباس وغيره من الأحاديث الحسان وقال أيضا في الآية الأخرى وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء فالآية الأولى في الأصل الأول من الإسلام وهو التوحيد والثانية في الأصل الثاني وهو الرسالة وهؤلاء الجهمية لهم قدح في كلا الأصلين فانهم لا يقدرون الله حق قدره فلا يقبض عندهم أرضا ولا يطوي السماء بيمينه بل ليس له قدر في الحقيقة الخارجية عندهم وإنما قدره عندهم ما يقوم بالأنفس والأذهان فيثبتون لقدره الوجود الذهني دون العيني وكذلك عندهم في الحقيقة ما تكلم بشيء حتى ينزله على بشر لا سيما الصابئة المتفلسفة منهم فان الكلام انما يفيض عندهم على قلب النبي من العقل الفعال لا من رب العالمين
وقد قال في الآية الأخرى وإن إلى ربك المنتهى وقال إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه وقال وردوا إلى الله مولاهم الحق وقال ألا إلى الله تصير الأمور واذا كان منتهى المخلوقات إليه وهو الغاية والنهاية التي ينتهى إليها امتنع أن يكون بحيث لا ينتهى إليه ولا يكون غاية ومالا يوصف بالنهاية لا ينتهى إليه أصلا فانه لا اختصاص له حتى يكون الشيء غير منته إليه ثم ينتهي إليه بل وصف الشيء بالانتهاء إليه وعدم الانتهاء إليه سواء كما يقوله الجهمية فانه لا يتصور عندهم أن ينتهي إلى الله شيء أو يرجع إليه أمر أو يصير إليه أمر أو يرد إليه أحد لا سيما الاتحادية منهم من يقول انه في كل مكان كما لا يتصور عنده أن ينزل من عنده شيء أو يعرج إليه شيء أو يصعد إليه شيء وليس هذا موضع تقرير ذلك
وإنما الغرض هنا أن قوله الشيء الذي يقال إنه غير متناه على وجهين أحدهما أنه غير مختص بجهة وحيز قول لا يعرف ما يعرف اطلاق القول على شيء بأنه غير متناه بهذا المعنى أصلا إلا إذا كان معدوما أو كان ذاهبا في الجهات كلها غير متناه كما يقدر من الأبعاد
الوجه السادس أن هذا الوجه معارض بما اختص الله به سبحانه من الحقيقة والصفات فان الاختصاص بالوصف كالاختصاص بالقدر فهو مختص بالحياة والعلم والقدرة وغير ذلك بحيث له صفات مخصوصة يمتنع اتصافه بأضدادها ونقائضها ويقال فيها نظير ما قالوا في المقدار بأن يقال إما أن تكون الصفات متناهية أو غير متناهية أو متناهية من وجه دون وجه فان كانت متناهية فكل متناهي يستدعى مخصصا ويقبل الزيادة والنقص كما قدره في المقدار وان لم تكن متناهية لزم وجود صفات لا نهاية لها وفرض وصف لا نهاية له كفرض قدر لا نهاية له فان الصفة لا بد لها من محل ويلزم من عدم تناهيها عدم تناهي محلها
وأيضا فان كل صفة متميزة عن الأخرى فيكون للصفات عدد فإما أن يكون عدد الصفات يتناهى أو لا يتناهى فإن تناهى لزم الأول وإن لم يتناهى لزم الثاني وإذا كان له أعداد لا تتناهى فهو كمقدار لا يتناهى فكلما يحتج به على امتناع مقدار لا يتناهى يحتج به على امتناع عدد صفات لا تتناهى إذ ما يفرض من المسامتة وعدمها في المقدار يفرض من المطابقة وعدمها في الأعداد
وهذا الوجه يمكن أن يلزم به كل أحد فانه لابد من الاعتراف بموجود له خاصة يتميز بها عما سواه إذ وجود ليست له خاصة تميزه ممتنع والكليات مع كونها موجودة في الأذهان فتميز ما في نفس زيد عما في نفس عمرو فانها من الصفات القائمة بالأذهان وإذا كان لكل موجود خاصة يتميز بها سواء كان واجبا بذاته أو كان ممكنا فالقول في اختصاصه بتلك الخاصة كالقول في اختصاصه بقدر
فصل
قال الرازي البرهان الرابع على أنه يمتنع أن يحصل في الجهة والحيز هو أنه لو حصل في شيء من الجهات والأحياز لكان إما أن يحصل مع وجوب أن يحصل فيه أو لا مع وجوب أن يحصل فيه والقسمان باطلان فكان القول بأنه تعالى حاصل في جهة محالا وإنما قلنا إنه يمتنع أن يحصل فيه مع الوجوب لوجوه
الأول أن ذاته مساوية لذوات سائر الأجسام في كونه حاصلا في الحيز ممتدا في الجهة وإذا أثبت التساوي من هذا الوجه ثبت التساوي في تمام الذات على ما بيناه في البرهان الأول في نفي كونه جسما وإذا ثبت التساوي مطلقا فكل ما صح على أحد المتساويين وجب أن يصح على الآخر ولما لم يجب في سائر الذوات حصولها في ذلك الحيز وجب أن لا يجب في تلك الذات حصولها في ذلك الحيز وهو المطلوب
الثاني أنه لو وجب حصوله في تلك الجهة وامتنع حصوله في سائر الجهات لكانت تلك الجهة مخالفة في الماهية لسائر الجهات فحينئذ تكون الجهات شيئا موجودا فإذا كان الله واجب الحصول في الجهة أزلا وأبدا التزموا قديما آخر مع الله تعالى في الأزل وذلك محال
الثالث أنه لو جاز في شيء مختص بجهة معينة أن يقال اختصاصه بتلك الجهة واجب جاز أيضا ادعاء أن بعض الأجسام حصل في حيز معين على سبيل الوجوب بحيث يمتنع خروجه عنه وعلى هذا التقدير لا يتمشى دليل حدوث الأجسام في ذلك فثبت أن القائل بهذا القول لا يمكنه الجزم بحدوث كل الأجسام بل يلزمه تجويز أن يكون بعضها قديما
الرابع وهو أنا نعلم بالضرورة أن الأحياز بأسرها متساوية لأنها فراغ محض وخلاء صرف وإذا كانت بأسرها متساوية يكون حكمها واحدا وذلك يمنع القول بأن الله تعالى واجب الاختصاص ببعض الأحياز على التعيين
فإن قالوا لم لا يجوز أن يكون اختصاصه بجهة فوق أزلي قلنا هذا باطل لوجهين
أحدهما أنه قبل خلق العالم ما كان الا الخلاء الصرف والعدم المحض فلم يكن هناك لا فوق ولا تحت فبطل قولكم
الثاني لو كان الفوق متميزا عن التحت بالتميز الذاتي لكانت أمورا موجودة قابلة للانقسام وذلك يقتضي تقدم الجسم لأنه لا معنى للجسم إلا ذلك
الثالث هو أنه لو جاز أن يختص ذات الاله تعالى ببعض الجهات على سبيل الوجوب مع كون الأحياز متساوية في العقل لجاز اختصاص بعض الحوادث المعينة ببعض الأوقات دون بعض على سبيل الوجوب مع كونها متساوية في العقل وعلى هذا التقدير يلزم استغناؤها عن الصانع ولجاز أيضا اختصاص عدم القديم ببعض الأوقات على سبيل الوجوب وعلى هذا التقدير ينسد باب إثبات الصانع وباب اثبات وجوبه وقدمه
الخامس أنه لو حصل في حيز معين مع كون لا يمكنه الخروج منه لكان كالمفلوج الذي لا يمكنه أن يتحرك أو كالمربوط الممنوع من الحركة وذلك نقص والنقص على الله محال
وأما القسم الثاني وهو أن يقال إنه تعالى حصل في الحيز مع جواز كونه حاصلا فيه فنقول ان هذا محال لأنه لو كان كذلك لما ترجح وجود ذلك الاختصاص إلا بجعل جاعل وتخصيص مخصص وكل ما كان كذلك فالفاعل متقدم عليه فيلزم أن لا يكون حصول ذات الله في الحيز أزليا لأن ما تأخر عن الغير لا يكون أزليا وإذا كان في الأزل مبرءا عن الوضع والحيز امتنع أن يصير بعد ذلك مختصا بالحيز وإلا لزم وقوع الانقلاب في ذاته تعالى وهو محال
والكلام على هذه الحجة على قول من يطلق الحيز والجهة ومن لا يطلق ذلك على مذهب مثبتة الجسم ونفاته مع قولهم إنه على العرش سواء فإنه يمكن أن يقال لو كان فوق العرش أو كان عاليا على العرش لكانت فوقيته وعلوه إما واجبا وإما جائزا وساق الحجة والجواب عنها أن يعرف أن لفظ الحيز والجهة ونحو ذلك فيه اشتراك كما تقدم فقد يراد به شيء منفصل عن الله كالعرش والغمام وقد يراد به ما ليس منفصلا عنه كما ذكرنا أن لفظ الحيز والحد في المخلوقات يراد به ما ينفصل عن المحدود ويحيط به ويراد به نهاية الشيء وجوانبه فإن كلاهما يحوزه وقد يراد بالحيز أمر عدمي وهو ما يقدر فيه الأجسام وهو المعروف من لفظ الحيز عند المتكلمين الذين يفرقون بين لفظ الحيز والمكان فيقولون الحيز تقدير المكان وكذلك الجهة قد يعنى بها أمر وجودي منفصل عنه فقد يعنى بها ما لا يقتضي موجودا غيره بل يكون إما أمرا عدميا وإما نسبيا وإضافيا وإذا كان في الألفاظ اشتراك فمن مسمى ذلك ما يكون واجبا ومنه ما يكون جائزا والاستفصال يكشف حقيقة الحال وحينئذ فالكلام عليها من وجوه
الأول أن يقال ما تعنى بقولك لو حصل في شيء من الجهات والأحياز لكان إما أن يحصل مع الوجوب أو مع عدم الوجوب أتعنى بالحيز ما هو من لوازم المتحيز وهي نهايته وحده الداخل في مسماه أم تريد بالحيز شيئا موجودا منفصلا عنه كالعرش وكذلك الجهة أتريد بالجهة أمرا موجودا منفصلا عنه أم تريد بالجهة كونه بحيث يشار إليه ويمكن الاحساس به وإن لم يكن هناك موجود غيره فإن أراد بالحيز المعنى الأول وهو ما هو من لوازم كل متحيز وان أراد بالجهة كونه يشار إليه من غير وجود شيء منفصل عنه لم نسلم أن ذلك غير واجب وبهذا التفصيل يظهر الجواب عما ذكره من الوجوه
أما قوله لا يجب في سائر الذوات حصولها في ذلك الحيز فكذلك هذا فيقال له بل يجب في سائر الذوات المتحيزة أن يكون لكل منها تحيز يخصه وهو قدره ونهايته التي تحيط به ويلزمه الحيز الذي هو تقدير المكان وهو عدمي لكن لا يجب أن يكون عين تحيز هذا وعين حيزه الذي هو نهايته أن يكون عين تحيز الآخر وحيزه الذي هو نهايته كما لا يجب أن يكون عين هذا هو عين الآخر فان حيزه بهذا التفسير داخل في مسمى ذاته ونفسه وعينه والشيئان المتماثلان لا يكون أحدهما عين الآخر فإن هذا لا يقوله عاقل وهذا معلوم بالاضطرار لا نزاع فيه هذا لو سلم أن الأجسام متماثلة فكيف وقد تقدم أن هذا قول باطل
وكذلك قوله في الثاني لو وجب حصوله في تلك لجهة لكانت مخالفة لغيرها فيكون موجودا فيكون مع الله قديم آخر يقال اثبات صفة قديمة ليس ممتنعا على الله كما اتفق عليه الصفاتية أو لا نسلم أنه ممتنع والقدر والحيز الداخل في مسمى المتحيز الذي هو من لوازمه أبلغ من صفاته الذاتية فإن كل وجود متحيز بدون الحيز الذي هو جوانبه المحيطة به يمنع أن يكون هو إياه والقديم الذي يمتنع وجوده مع الله ما يكون شيئا منفصلا عنه بل شيء يكون داخلا في مسماه ليس خارجا عنه
وقوله في الوجه الثالث لو جاز دعوى وجوب اختصاص شيء بجهة معينة جاز أن يدعى في بعض الأجسام حصوله في حيز بعينه على سبيل الوجوب وحينئذ لا يتمشى دليل حدوث الأجسام بل يلزمه تجويز قدم بعضها يقال له كل جسم فإنه مختص بتحيز وحيزه الذي هو جوانبه ونهايته وحدوده الداخلة في مسماه وأما اختصاصه بحيز وجودي منفصل عنه فذلك شيء آخر لا يلزم كما قد بيناه فعلم أن ذلك لا ينافي ما ذكروه من دليل حدوث الأجسام مع أن ذلك الدليل لا نرتضيه لا لهذا لكن لمعاني آخر ومع أن المنازعين له الذين يقولون هو جسم أوله حد وقدر ينازعونه في حدوث كل ما كان جسما أوله حد فقد يقولون دعوى حدوث جميع هذا مثل دعوى حدوث كل ذات أو كل موصوف أو كل صفة وموصوف وحدوث كل قائم بنفسه أو كل موجود ونحو ذلك
وقوله في الوجه الرابع الاحياز متساوية وذلك يمنع الاختصاص ببعضها على التعيين يقال له الأحياز المتساوية التي تدعى فيها التساوي هي ما كانت منفصلة عن المتحيز كما ذكر من الخلاء والفراغ وأما الذي هو داخل في مسمى المتحيز وهو جانبه وحده ونهايته فهذا تابع للمتحيز وهذه الأحياز مختلفة باختلاف المتحيزات فحيز كل متحيز وهو حده ونهايته وجانبه يتبع حقيقته وهذا ظاهر فحيز الذهب ذهب وحيز الفضة فضة بهذا الاعتبار
وقوله في الوجه الخامس المختص بحيز معين يكون كالمربوط والمفلوج يقال له هذا إنما يقال إذا كان في حيز وجودي منفصل عنه أما ما هو داخل في مسمى نفسه وهو حده ونهايته فلا يلزم ذلك فيه كما لا يلزم في سائر المتحيزات وهذا ظاهر بل عدم هذا يستلزم عدم في سائر المتحيزات وهذا ظاهر بل عدم هذا يستلزم عدم بعض الشيء
الوجه الثاني أن يقال إذا أراد القائل بأنه متحيز وأراد بالحيز أمرا موجودا منفصلا عنه كالغمام والعرش فإنه قد يقول حصوله فيه على سبيل الجواز وبذلك يظهر الجواب عن قوله ذلك الاختصاص لا يكون إلا بجعل جاعل وهو الفاعل المتقدم على التخصيص فيلزم أن لا يكون ذات الله في الحيز أزليا فإن هذا سلم
على هذا التقدير بأن حصول ذاته فوق العرش ليس أزليا بل كان الله قبل أن يكون مستويا على العرش سواء قيل إن الاستواء أمر نسبي إضافي أو قيل إنه من صفات الأفعال وأنه استوى على العرش بعد أن لم يكن مستويا عليه فعلى التقديرين إنما حصل الاستواء بخلقه للعرش وخلقه للعرش بمشيئته واختياره
وأما قوله وإذا كان في الأزل مبرءا عن الموضع والحيز امتنع أن يصير بعد ذلك مختصا بالحيز وإلا لزم الانقلاب في ذاته يقال له هذا ممنوع فإنه إذا كان في الأزل مبرءا عن حيز وجودي كالعرش والغمام ثم صار بعد أن خلق العرش والعالم فوقه لم يكن ذلك ممتنعا فإن تجدد النسب والاضافات عليه جائز باتفاق العقلاء وأما إن قيل إن الاستواء فعل وأنه استوى عليه بعد أن لم يكن مستويا كما هو المعروف من مذاهب السلف وأهل الحديث فهذا مبني على مسألة الحركة وحلول الحوادث وقد تقدم كلامه بان هذا لم يقم دليل عقلي على نفيه وان جميع الطوائف يلزمهم القول به وليس ذلك انقلاب في ذات الله بحال كما تقدم
وهو إنما ادعى لزوم الانقلاب لأنه أخذ لفظ الحيز بالاشتراك فقدر أنه يصير متحيزا بعد أن لم يكن متحيزا ومعلوم أن هذا يوجب انقلاب ذاته فإن ضرورة صير المتحيز متحيزا توجب الانقلابات لكن هذا التحيز هو القسم الأول وهو التحيز اللازم للمتحيز الذي يمتنع انفصاله عنه والمراد بالحيز في هذا المتحيز إما أمر عدمي أو إضافي أو المراد به جوانب المتحيز ونهايته فلو كان في الأزل مبرءا عن هذا ثم صار موصوفا به لزم الانقلاب ونظيره في المخلوقات أن يصير ما ليس بجسم جسما وهذا عند قوم متنع وعند قوم قد يقلب الله الأعراض أجساما وذلك انقلاب بلا نزاع أما إذا أريد بالحيز أمرا موجودا منفصلا عنه فلا يلزم بكونه فوقه وعليه أن تنقلب ذاته بوجه من الوجوه
فإن للناس في كونه فوق العرش والعالم قولان مشهوران لعامة الطوائف من المتكلمين وأهل الحديث والفقهاء والصوفية من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم أحدهما أنه مجرد نسبة وإضافة بين المخلوق والخالق أو بين العرش والرب تجددت بخلقه للعرش من غير أن يكون هو في نفسه تحرك أو تصرف بنفسه شيئا وهذا قول من يقول يمتنع حلول الحوادث بذاته وتمتنع الحركة عليه والقول الثاني هو المشهور عن السلف وأئمة أهل الحديث وكثير من أهل الكلام والفقهاء والصوفية من الطوائف الأربعة وغيرهم أنه استوى عليه بعد أن خلق السموات والأرض كما دل عليه القرآن فيكون قد استوى عليه بعد أن لم يكن مستويا عليه وكذلك استواؤه إلى السماء ومجيؤه وإتيانه كما وردت بذلك النصوص المتواترة الصحيحة وعلى هذا التقدير فليس في ذلك انقلاب لذاته بل قد ذكر هو أن ليس في الأدلة العقلية ما يحيل ذلك
الوجه الثالث أن يقال تحيزه واجب بذلك بناءا على أن نفس العرش ليس بحيز بل الحيز تقدير المكان ومن قال بذلك فهم في جواز الحركة عليه على قولين فمن قال بالامتناع يقول إنه لما خلق العرش تجددت بينه وبين العرش نسبة ولم يتغير عما كان موصوفا إن وصفه بأنه متحيز فإنا قد ذكرنا أن للقائلين بأنه على العرش في ذلك قولان
وقد يقول إن حصوله في الحيز المعين واجب ومن قال ذلك يجيب عن أوجهه الخمسة أما الوجه الأول فمبني على تماثل المتحيزات وقد تقدم أن هذا باطل
وأما قوله في الوجه الثاني أنه لو وجب حصوله في الجهة وامتنع حصوله في غيرها لكانت تلك الجهة مخالفة لغيرها في الحقيقة فتكون موجودة فيكون مع الله قديم غيره تعالى يقال له هؤلاء لا يقولون إن الحيز الذي يجب لله أمرا موجودا منفصلا عنه بل هو عندهم أمر عدمي بينه وبين الله نسبة وإضافة أو هو تقدير المكان وذلك لا يقتضي وجود قديم آخر مع الله ومن قال إن تقدير الزمان وتقدير المكان وجوديان قال بقدمهما جميعا كما يقول ذلك طائفة من الصابئة ومن اتبعهم ثم قد يقولون إن ذلك لازم لواجب الوجود بنفسه وقد يقولون إن القدماء خمسة الزمان والمكان والنفس والهيولى وواجب الوجود بنفسه كما يقول ذلك بعض الصابئين ومن اتبعهم كديمقراطيس
والغرض أن المسلمين الذين يقولون ليس مع الله قديم منفصل عنه موجود لا يقولون أن الحيز موجود وقد تقدم الدليل على ذلك وقد قال هو بعد هذا إنه قبل خلق العالم ما كان إلا الخلاء الصرف والعدم المحض وذلك ينافي قوله أن الأحياز وجودية
وأما قوله ما سبب الاختصاص بهذا الأمر العدم فسيأتي الكلام عليه
وهؤلاء يقولون قوله في الوجه الثالث لو جاز في شيء مختص بجهة معينة أن يقال اختصاصه بتلك الجهة واجب جاز أيضا ادعاء أن بعض الأجسام حصل في حيز معين على سبيل الوجوب وعلى هذا لا يتمشى دليل حدوث العالم فثبت أن القائل بهذا القول لا يمكنه الجزم بحدوث كل الأجسام بل يلزمه تجويز أن يكون بعضها قديما فهم يجيبون بجوابين
أحدهما أن الأجسام مختلفة بالحقيقة فلا يلزم من اختصاص بعضها بصفة معينة أن يكون غيره مختصا بمثل تلك الصفة كما أنه عندهم إذا اختص بسائر صفاته الذاتية لم يلزم أن يكون غيره مختصا لغيره
الثاني أنهم إذا قالوا بأن الأجسام الباقية مختص بحيز معين إنما يبطل الدليل الذي ذكره منازعوهم ولا ريب في بطلان هذا الدليل عندهم كما اتفق السلف والأئمة على أنه من الكلام المنهي عنه ومن قال من هؤلاء إنه جسم لم ينكر أن الأجسام كلها ليست محدثة كما لاينكر أن القائمات بأنفسها كلها ليست محدثة وأن الموصوفات كلها ليس محدثة بل يضلل من يطلق العموم بحدوث الأجسام كما يضلل من أطلق القول بحدوث الموصوفات والقائمات بأنفسها أو الموجودات
ويقولون قوله في الوجه الرابع إنا نعلم بالضرورة أن الأحياز بأسرها متساوية لأنها فراغ محض وخلاء صرف وذلك يمنع وجوب الاختصاص ببعضها فهم يقولون ليس الاختصاص لمعنى فيها بل هو لمعنى في نفسه وهو امتناع الحركة عليه والانتقال عنه كما يوافقهم هو على ذلك وأيضا فالعالم مختص بحيزه لمعنى فيه لا في حيزه