الرئيسيةبحث

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية/12



الوجه الخامس عشر قوله واعلم ان الحنابلة القائلين بالتركيب والتأليف اسعد حالا من هؤلاء الكرامية وذلك لانهم اعترفوا بكونه مركبا من الاجزاء والابعاض واما هؤلاء الكرامية فانهم زعموا انه يشار اليه بحسب الحس وزعموا انه غير متناه ثم زعموا انه مع ذلك واحد لا يقبل القسمة فلا جرم صار قولهم على خلاف بديهة العقل

يقال قولك عن الحنبلية انهم يقولون بالتأليف والتركيب ويعبرون بكونه مركبا من الاجزاء والابعاض اتعنى به انهم يطلقون هذا اللفظ ام تعنى به انهم يثبتون الصفات المستلزمة لهذا المعنى فان عنيت الاول فلم نعلم احدا من الحنابلة يطلق هذا اللفظ كله وان كنت انت اطلعت على احد منهم يقول هذا اللفظ فهذا ممكن لكن يكون هؤلاء طائفة قليلة منهم والذي بلغنا من ذلك ان لفظ البعض جاء في كلام طائقة من السلف من الصحابة والتابعين وهو مذكور في كتب السنة جاء عن عبيد بن عمير من رواية ابن ابي نجيح عن مجاهد عنه ورواه عنه حماد بن سلمة وصرح به ورواه سفيان الثوري واظنه احتصر بعضه ورواه سفيان بن عيينة فكنى عنه وكذلك في خبر مسألة رؤية محمد ربه شيء يشبة ذلك من كلام عكرمة عن ابن عباس

ثم ذلك ليس مختصا بالحنابلة ولا هو فيهم اكثر منه في غيرهم بل يوجد في الشافعية والمالكية والحنفية والصوفية واهل الحديث واهل الكلام من الامامية وغيرهم من يطلق من هذه الالفاظ امورا لا يصل اليها احد من الحنابلة فما من نوع غلو يوجد في بعض الحنابلة الا ويوجد في غيرهم من الطوائف ما هو اكثر منه وهذا موجود في كتب المقالات وكتب السنة وكتب الكلام وفي طوائف بني آدم المعروفين وقد تكلمنا على هذا في غير هذا الموضع

وبينا سبب ذلك ان الامام احمد رضي الله عنه له من الكلام في اصول الدين وتقرير ما جائت به السنة والشريعة في ذلك ما عليه جماعة المؤمنين واظهار دلالة الكتاب والسنة والاجماع على ذلك والرد على اهل الاهواء والبدع المخالفين للكتاب والسنة في ذلك اعظم مما لغيره لانه ابتلي بذلك اكثر مما ابتلي به غيره ولانه اتصل اليه من سنن رسول الله ﷺ واصحابه وتابعيهم والائمة بعدهم اعظم مما اتصل الى غيره فصار له من الصبر واليقين الذين جعلهما الله سببا للامامة في الدين بقوله وجعلناهم ائمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بأياتنا يوقنون ما جعله الله له من الامامة في اصول الدين السنية الشرعية ما انعم به عليه وفضله به

فاتباعه لا يمكنهم مع اظهار موافقتهم له من الانحراف ما يمكن غيرهم ممن لم يجد لمتبوعه من النصوص في هذا الباب ما يصده عن مخالفته

ولهذا يوجد في غيرهم من الانحراف في طرفي النفي والاثبات في مسائل الصفات والقدر والوعيد والامامة وغير ذلك اكثر مما يوجد فيهم وهذا معلوم بالاستقراء

ولهذا ما زال كثير من ائمة الطوائف الفقهاء واهل الحديث والصوفية وان كانوا في فروع الشريعة متبعين بعض ائمة المسلمين رضي الله عنهم اجمعين

فانهم يقولون نحن في الاصول او في السنة على مذهب احمد بن حنبل لا يقولون ذلك لاختصاص احمد بقول لم يقله الائمة ولا طعنا في غيره من الائمة بمخالفة السنة بل لانه اظهر من السنة التي اتفقت عليها الائمة قبله اكثر مما اظهروه فظهر تأثير ذلك لوقوعه وقت الحاجة اليه وظهور المخالفين للسنة وقلة انصار الحق واعوانه حتى كانوا يشبهون قيامه بأمر الدين ومنعه من تحريف المبتدعين المشابهين للمرتدين بأبي بكر يوم الردة وعمر يوم السقيفة وعثمان يوم الدار وعلي يوم حروراء ونحو ذلك مما فيه تشبيه له بالخلفاء الراشدين فيما خلفت فيه الرسل وقام فيه مقامهم وكذلك سائر أئمة الدين كل منهم يخلف الأنبياء بقدر ما قام به من ميراثهم وما خلفهم فيه من دعوتهم والله يرضى عن جميع السابقين الاولين والتابعين لهم باحسان الى يوم الدين

وان كان يعنى بالتركيب والتأليف واعترافهم بالاجزاء والابعاض هو اثباتهم للصفات التي ورد بها الكتاب والسنة مثل الوجه واليدين ونحو ذلك فهذا قول جميع سلف الامة وائمتها وجميع المشهورين بلسان الصدق فيها من الفقهاء والصوفية واهل الحديث وهو قول الصفاتية قاطبة من الكلابية والكرامية والاشعرية وقد ذكر محمد بن الهيصم في كتاب جمل الكلام له هذه المسألة واثبت صفة الوجه واليد

فقوله عن الكرامية انهم لا يثبتون ذلك ان اراد به بعضهم فلعله بكون ولا ريب ان فيهم من يثبت هذه الصفات الخبرية كالوجه واليد التي يسميها هو الجوارح والابعاض ويطلقون ايضا لفظ الجسم اما لفظا واما لفظا ومعنى واما الحنبلية فلا يعرف فيهم من يطلق هذا اللفظ لكن فيهم من ينفيه وفيهم من لا ينفيه ولايثبته وهو الذي كان عليه الامام احمد وسائر ائمة السنة وان كانوا مع ذلك يثبتون ما جاءت به النصوص مما يسميه المنازعون تجسيما وتشبيها بل يقولون اثبات هذه المعاني احق بمعنى التجسيم ممن يثبت لفظه دون معناه

وكذلك قوله عن الكرامية انهم زعموا انه غير متناهي فهذا انما هو قول بعضهم كما تقدم ذكره لذلك وان منهم من يقول هو متناهي ثم ان كلا من القولين ليس من خصائص الكرامية بل النزاع في ذلك مشهور عن غيرهم وقد ذكرنا بعض ما في ذلك من النزاع فيما ذكره الاشعري في المقالات

وكذلك قولهم لا يقبل القسمة هذا اللفظ قد يطلقه طوائف منهم ومن غيرهم وقد لا يطلقه طوائف لما فيه من الاجمال والتناقض

فالذي يقال على الكرامية باثباتهم واحدا فوق العرش لا ينقسم يقال على غيرهم ففي الطوائف الاربعة من الفقهاء كثير ممن يقول نحو ذلك وكذلك ابن كلاب والاشعري وائمة اصحابه يقولون نحو ذلك فان كل من قال انه فوق العرش وقال انه ليس بجسم او اثبت له هذه الصفات التي وردت بها النصوص كالوجه واليدين وقال مع ذلك انه جسم يرد عليه ذلك فانه يلزمه انه يشار اليه بحسب الحس وائه واحد لا ينقسم هذه القسمة التي زعمها

ولهذا نجد في هذه الطوائف منازعة بعضهم لبعض في ذلك كما يوجد في اصحاب ابي حنيفة ومالك والشافعي واحمد وكذلك يوجد في اصحاب الاشعري من يتنازعون في ذلك فنفاة الجهة منهم يقولون ان ادلتهم وائمتهم الذين يقولون: ان الله تعالى فوق العرش وانه ليس بجسم متناقضون وكذلك نفاة الصفات الخبرية منهم يقولون ان مثبتيها مع نفي الجسم متناقضون ومثبتة العلو والصفات الخبرية يقولون ان نفاة ذلك منهم متناقضون حيث اثبتوا ما هو عرض في المخلوقات كالعلم والقدرة والحياة قالوا وليس هو بعرض في حق الخالق ولم يثبتوا ما هو جسم في حق المخلوق كاليد والوجه ويقولوا ليس لجسم في حق الخالق وكذلك اصحاب الامام احمد فطائفة منهم كابن عقيل وصدقة بن الحسين وابي الفرج بن الجوزي قد يقولون ان ابن حامد والقاضي ابا يعلي وابا الحسن ابن الزاغوني ونحوهم متناقضون حيث ينفون الجسم ويثبتون هذه الصفات وجمهورهم يقول بل هؤلاء هم المتناقضون الذين يثبتون الشيء تارة وينفونه اخرى كما هو معروف من حالهم واجتماع النفي والاثبات في الشيء الواحد اعظم من اجتماعهما في لوازمه وملزوماته فان كان كل منهما في وقتين فالاول اعظم وكذلك ان كانا في وقت واحد واما ان كان الاول في وقتين والثاني في وقت واحد فهذا ابلغ من وجه وهذا ابلغ من وجه ويقولون ان اولئك متناقضون حيث يسلمون بثبوت الصفات التي هي فينا اعراض ويمنعون ثبوت الصفات التي هي فينا اجسام

الوجه السادس عشر قوله فلا جرم صار قول الكرامية على خلاف العقل يقال هذا العقل الذي هذا على خلاف بديهته اما ان يكون حكمه وشهادته في الربوبية مقبولا او مردودا فان لم يكن مقبولا لم يضر هؤلاء ولا غيرهم مخالفته فانه يكون بمنزلة الشاهد الفاسق الذي قال الله فيه ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا

وان كان حكمه وشهادته مقبولا كان هذا المنازع وموافقوه اعظم مخالفة له من هؤلاء كما قد تقدم بيان ذلك واذا كان مخالفة قولهم لبديهة العقل اعظم من قول هؤلاء لم يجب على هؤلاء ان يرجعوا عن القول الذي هو اقل مخالفة لبديهة العقل الى القول الذي هو اكثر مخالفة لبديهة العقل بل يكون الواجب على هذا التقدير علىالطائفتين الاعتراف بما في بديهة العقل فيعترفون جميعا بانه فوق العالم ويمتنع ان يكون لا داخله ولا خارجه وحينئذ يكون مشارا اليه بحسب الحس وحينئذ يكون فيه ما سماه تأليفا وانقساما وان لم يكن هو المعروف من التأليف والانقسام فان المعروف من ذلك يجب تنزيه الله عنه كما نزه عنه نفسه في سورة الاخلاص كما تقدم التنبيه عليه بقوله الله الصمد فان الصمد فيه من معنى الاجتماع والقوة والسؤدد ما ينافي الانقسام والافتراق

الوجه السابع عشر انه ورد من جهة المنازع تشبيه بالمعدوم وذلك ان النفاة كثيرا ما يصفون اهل الاثبات بالتشبيه والتجسيم الذي هو التأليف ومن المعلوم انهم احق بالتشبيه الباطل حيث يشبهونه بالمعدومات والناقصات وهم يجمعون بين التمثيل والتعطيل بين ما هو قول المشركين الذين هم بربهم يعدلون وقول الكافرين الذين هم لربهم جاحدون

وذلك انهم يقولون ان كل ما هو عالم بعلم وقادر بقدرة وحي بحياة ونحو ذلك فهو من جنس واحد وهو متماثل لانه متحيز والمتحيزات كلها متماثلة ويقولون كلما هو فوق شيء فانه من جنس واحد متماثل لانه متحيز والمتحيزات متماثلة ويقولون كلما له سمع وبصر فهو من جنس واحد وهو متماثل لانه من المتحيزات التي هي متماثلة وهذا قول الجهمية والمعتزلة وغيرهم

وقد سلك الرازي ذلك في قوله ان الاجسام متماثلة لكن قصده به نفي العلو على العرش ونفي الصفات الخبرية

واما المعتزلة ونحوهم من الجهمية الذين ابتدعوا هذا القول اولا مقصودهم به النفي المطلق وكل ذلك بناء على ان جعلوا لله عدلا وسميا وكفوا في كل ما هو موصوف به حتى ان غاليتهم من الملاحدة والجهمية يقولون كلما يقال له حي وعالم وقادر فهو جنس واحد متماثل هؤلاء جعلوا لله عدلا وسميا وكفوا وندا في كل ماله من الاسماء والصفات حتى لزم من ذلك ان يكون كل جسم عدلا لله ومثلا وكفوا حتى البقة والبعوضة وان يكون كل حي عدلا لله وكفوا وسميا وكل ذلك بناء على ان كلما هو مسمى بهذه الاسم موصوف بهذه الصفات فانه جنس واحد متماثل وهذا من اعظم العدل بالله وجعل الانداد لله

ثم انهم نفوا ذلك عن الله فجحدوه بالكلية فصاروا مشركين معطلين لهذا جوز الاتحادية منهم عبادة كل شيء وجعلوا كل شيء عابدا ومعبودا وجوزا كل شرك في العالم فجمعوا جميع ما عليه المشركون من الاقوال والافعال فهذا تمثيلهم وعدلهم بالله واشراكهم به وتشبيههم اياه بخلقه فيما لله من صفات الاثبات

واما عدلهم وتمثيلهم فيما يصفونه به من السلوب فهم يعدلونه بالمعدوم تارة وبالمنقوصات اخرى فانهم تارة يصفونه بالصفات السلبية التي لا تنطبق الا على المعدوم فيكونون عادلين به المعدومات

وقد قدمنا فيما مضى ان الله سبحانه لا يوصف بصفة سلب ان لم تتضمن معنى ثبوتيا واما الصفة السلبية التي لا تتضمن ثبوتا فلا يوصف بها الا المعدوم وبيناايضا ان كل صفة تصلح للمعدوم المحض فانها لا تصلح لله تعالى لان تلك الصفة لا مدح فيها بحال اذ المعدوم المحض لا يمدح بحال وما ليس فيه مدح فان الله لا يوصف به سبحانه وتعالى بل له الاسماء الحسنى والمثل الاعلى ولما ذكرناه ايضا فيما تقدم

واما تمثيلهم له وعدلهم اياه بالمنقوصات القبيحات من المخلوقات فقولهم انه لا يتكلم وان وصفوه بالكلام ظاهرا موافقة للمؤمنين فمعناه عندهم انه خلف كلاما في غيره وكذلك قولهم انه ليس له سمع ولا بصر ولا قوة ولا حياة ونحو ذلك

واذا كان كذلك ظهر ما ذكره من جهة المنازع فان المنازع قلب عليهم القضية وقال اذا الزمتمونا انا نجعله كالجوهر الفرد فأنتم جعلتموه كالمعدوم وذلك انه لما قال انه لا يمكن ان يكون غير منقسم ويكون في غاية الصغر لان ذلك حقير وذلك على الله محال فقال المنازع انتم قلتم لا يمكن الاحساس به ولا الاشارة اليه بحال والذي لا يمكن الاحساس به ولا الاشارة اليه يكون كالمعدوم فيكون اشد حقارة واذا جاز وصفكم بهذا فلم لا يجوز الاول وهو كلام قوي جدا

والمنازع واصحابه يعلمون صحة هذا الكلام لانهم يقرون في مسألة الرؤية ان كل موجود يجوز ان يحس بالحواس الخمس وملتزمون على ذلك ان الله يجوز ان يحس به بالحواس الخمس السمع والبصر والشم والذوق واللمس وان ما لا يحس به بالحواس الخمس لا يكون الا معدوما فعامة السلف والصفاتية على ان الله يمكن ان يشهد ويرى ويحس به واول من نفى امكان احساسه الجهم ابن صفوان لما ناظره السمنية المشركون

الوجه الثامن عشر انه قال في الجواب اما قولهم الذي لا يحس ولا يشار اليه اشد حقارة من الجزء الذي لا يتجزى قلنا كونه موصوفا بالحقارة انما يلزم لو كان ذا حيز ومقدار حتى يقال انه اصغر من غيره اما اذا كان منزها عن الحيز والمقدار فلم يلزم وصفه بالحقارة

يقال له هذه مصادرة على المطلوب فانك انت اثبتت تنزيهه عن الحيز بهذه الحجة التي جعلت من مقدماتها انه ليس بحقير بقدر الجوهر الفرد فقيل لك مالا يمكن الاشارة اليه واحساسه احقر من الجوهر الفرد وقد وصفته بذلك فلا يكون وصفه بقدر الجوهر الفرد محالا على اصلك فقلت اما كونه موصوفا بالحقارة انما يلزم اذا كان له حيز مقدار واما اذا كان منزها عن الحيز والمقدار فلم يحصل بينه وبين غيره مناسبة فيقال لك الكلام انما هو في تنزيهه عن الحيز والمقدار فانت تنفي ذلك ومنازعك يثبته وهو محل النزاع فاذا كان جوابك مبنيا على محل النزاع كنت قد صادرت منازعك على المطلوب حتى حعلت المطلوب مقدمة في اثبات نفسه والمقدمة لا بد ان تكون معلومة او مسلمة فتكون قد طلبت من تسليم الحكم قبل الدلالة عليه وادعيت علمه قبل حصول علمه وقد صادرته عليه وطلبت منه ان يسلمه لك بلا حجة

وايضاح هذا ان العلم بكونه اذا وصقته بأنه لا يحس ولا يشار اليه ليس بأحقر من الجوهر الفرد اما ان يقف على العلم بكونه ليس بذي حيز ومقدار او لا يتوقف

فان توقف عليه لم يصح هذا الجواب حتى يثبت انه ليس بذي حيز ومقدار حتى يتم الجواب عما اورد على الحجة فاذا كان جواب الحجة لا يتم حتى يثبت انه ليس بذي حيز ولا مقدار ولا يثبت ذلك حتى يتم جواب الحجة لم يكن واحدا منهما حتى يكون الاخر قبله وذلك دور ممتنع

وان كان العلم بكونه ليس احقر من الجوهر الفرد اذا وصف بأنه لا يحس ولا يشار اليه لا يقف على العلم بانه ليس بذي حيز ومقدار لم يصح هذا الجواب وهو قولك كونه موصوفا بالحقارة انما يلزم لو كان له حيز ومقدار حتى يقال انه اصغر من غيره بل كان الجواب ان يقال لا يلزم ان يكون احقر من الجوهر الفرد سواء قيل انه ذو حيز ومقدار او لم يقل ذلك لكنه لو قال ذلك لظهر ان كلامه باطل فانه يعلم بالحس والضرورة ان كل ما كان ذا حيز ومقدار قيل انه لا يحس ولا يشار اليه فانه اصغر من الجوهر الفرد

ومما يوضح الامر في ذلك ان هذا السؤال الذي ذكره من جهة المنازع هو من باب المعارضة فانه لما ذكر حجته على انه ليس بذي جهة بأن ذلك يستلزم التركيب والحقارة قال له المعارض ما ذكرته من انه لا يمكن احساسه والاشارة اليه يستلزم ان يكون معدوما وذلك ابلغ في الحقارة من الجوهر الفرد فقال له قولك يستلزم من الحقارة اعظم مما الزمت به اهل الاثبات فاجاب عن المعارضة بمنع الحكم وان صحته ملازمة لصحة قول المنازع وهذا من افسد الاجوبة فان المعارض يقول لك بل هو عندي ذو حيز ومقدار فلم قلت انه ليس كذلك وهل النزاع الا فيه وقولك اما اذا لم يكن ذا حيز ومقدار لم يلزم وصفه بالحقارة يقال لك من الذي سلم لك ذلك وهل النزاع الا فيه وهذه الحجة التي ذكرتها انما اقمتها على نفي ذلك وهي لا تتم الا بالجواب على المعارضة فيكف تجيب عن المعارضة المستلزمة لنقيض مذهبك بنفسك مذهبك وهل هذا الا بمنزلة ان يقدح المعترض في دليلك بأنه يستلزم نقيض مذهبه

فان قيل هو لم يجب عن المعارضة بنفس مذهبه لكن قال صحة المعارضة مبنية على نقيض مذهبه وهو لا يقول بذلك فهو يقول للمعترض ما لم تثبت نقيض قولي لا تصح معارضتك وهو في هذا الباب في مقام المنع والمعترض يستدل وللمستدل الاول ان يمنعه بعض المقدمات ويجعل سند منعه ان لا يقول بذلك فهو ذكر ذلك لابداء سند المنع لا حجة للمنع فان المانع المطالب بالدليل ليس عليه حجة

فيقال المعترض لم يبن دليله على هذا بل ذكر ان ما لا يحس ولا يشار اليه معدوم احقر من الجزء الذي لا يتجزى فادعيت ان هذا انما يلزم اذا كان منزها عن الحيز والمقدار فلم يلزم وصفه بالحقارة فهذا الملزوم انما تقول انه لازم لدليله ان دليله مستلزم لهذا فمتى صح دليله صح هذا فهذا القدر ينفعه ولا يضره لانه يكون دليله حينئذ قد دل على شيئين على انك جعلته اصغر من الجوهر الفرد وجعلته معدوما وانه ذو حيز ومقدار فيدل على صحة مذهبه وعلى ان مذهبك يستلزم ان الله معدوم هذا باقراره ان دليله يستلزم صحة ذلك

وان قلت ان دليله يتوقف على صحة هذا بمعنى انه لم يثبت ان الله ذو حيز ومقدار لم يثبت انه اذا كان لا يحس ولا يشار اليه انه اصغر من الجوهر الفرد فهذا لم تثبته بل ادعيته دعوى ساذجة فلا تكون قد اجبت عن المعارضة وهو المطلوب وذلك انه لا يسلم انا اذا علمنا ان الشيء لا يحس ولا يشار اليه لم يعلم انه معدوم حتى يعلم قبل ذلك انه ذو حيز ومقدار بل قد يكون العلم بانه ذو حيز ومقدار بعد ذلك او قبله او معه اذا كانا متلازمين

وهذا لازم على اصلك واصل اصحابك لزوما قويا فانكم انتم وسائر الصفاتية تسلمون ان كل موجود فانه يمكن ان يحس وان الذي لا يمكن احساسه هو المعدوم وكثير من اهل السنة والحديث يقولون بانه يلمس ايضا وانتم تريدون انه يدرك بالحواس الخمس وانتم تثبتون هذا مثل اثبات انه ذو حيز ومقدار ولم يكن العلم بذلك موقوفا على العلم بأنه ذو حيز ومقدار

واذا كنت قلت ان كونه موصوفا انه احقر من الجوهر الفرد فاذا كان لا يحس ولا يشار اليه مستلزم ان يكون ذو حيز ومقدار وانت قلت هنا انه لا يحس ولا يشار اليه فقد لزمك اما ان يكون معدوما او يكون ذا حيز ومقدار واذا قلت انه يحس بطل ما ذكرته هنا من انه لا يحس ولا يشار اليه

وهذا الذي يورده المنازع حق في النظر الصحيح في المناظرة العادلة فانه يظهر به من تناقض منازعه وضعف حجته ما يدفعه به عنه ويظهر به من صحة حجته ما ينفع الناظر والمناظر

وهذا يتقرر بالوجه الثامن عشر وهو ان هؤلاء المنازعين له الذين ينتصر لهم المؤسس يقولون انه تجوز رؤيته بل يجوزون كونه مدركا بادراك اللمس بل يجوزون كونه مدركا بغير ذلك من الحواس مع قولهم انه ليس فوق العرش ولا يمكن ان يكون مشارا اليه بالحس ولا يمكن ان يحس به لا ريب انهم متناقضون في ذلك غاية التناقض فإنه من المعلوم ان ادراك اللمس به ابعد من كونه مشارا اليه بالحس او كونه في جهة فان لمس الانسان قائما بذاته التي هي في جهة معينة فادراكه الشيء بلمسه يقتضي من الاتصال به والملاصقة وكونه جهة من الملامس وغير ذلك مالا يقتضيه مجرد كونه ترفع اليه الايدي او الاعين فان من المعلوم انا نشير الى كل شيء من الموجودات التي نراها ومع هذا فلا يمكننا ان نلمس منها الا بعضها فاذا جاز كونه باللمس فلأن يجوز كونه مشارا اليه باليد والعين اولى واحرى

وكذلك كلما يلمسه فلا يكون الا في جهة وكثيرا ما يكون الشيء في جهة ولا يمكننا لمسه فكيف يجوز اثبات لمسه مع منع كونه في جهة اللامس هذا تناقض محض بل هذا نفي الشيء مع اثبات ما هو ابلغ منه وتحريم الشيء مع استحلال ما اعظم منه كما قال ابن عمر يستفتوني في دم البعوضة وقد قتلوا ابن بنت رسول الله ﷺ بل كما قال تعالى قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام واخراج اهله منه اكبر عند الله وهو بمنزلة من يقول ان الله لا يرى ولكن يصافح ويعانق

وكذلك قولهم انه يرى وقولهم انه يتعلق به ادراك اللمس مع قولهم لا يمكن ان يحس تناقض ظاهر واذا كان ذلك تناقضا منهم ومن المعلوم ان مسألة الرؤية ثابتة بالنصوص المتواترة عن رسول الله ﷺ وباجماع سلف الامة وائمتها فتكون صحتها مستلزمة لكونه يحس وذلك مستلزم لبطلان ما قالوه في هذه المسألة

فان قيل دليلهم العقلي في الرؤية ضعيف قيل لا نسلم انه ضعيف ثم ان كان ضعيفا فليس هو بأضعف مما ذكروه في هذه المسألة فان كان اضعف ظهر تناقضهم في النفي والاثبات في هاتين المسألتين

الوجه التاسع عشر انهم قد قرروا في هاتين المسألتين هنا وهناك ان ما يمكن ان يشار اليه ويحس به يكون معدوما وقرر هناك ان كل موجود فانه يصح ان يرى وان يلمس فيحس به ويلمس الذي هو ابلغ من الاشارات الحسية وان الله يصح ان يرى وان يتعلق به ادراك اللمس وان كل واحد من الرؤية واللمس مشترك بين الجواهر والاعراض فيتعلق بالله تعالى وهذا يوجب ان يكون الله يمكن ان يشار اليه ويمكن ان يحس به خلاف ما ذكره هنا كما تقدم وقرر هنا ان ما كان كذلك فانه يكون ذا حيز ومقدار وانه يلزمه ان يكون منقسما مركبا الانقسام والتركيب العقلي الذي الزم به مخالفة هنا وهذا يقتضي ان من لوازم اصولهم التي هم معترفون بالاصل وبلازم الأصل لم يلزمهم اياه غيرهم بالدليل بل هم اعترفوا به ان يكون الله له حيز ومقدار وانه مركب مؤلف له اجزاء وابعاض وهذا هو الذي انكره في هذا الموضع وليس هذا من جنس ما يلزم الرجل غيره شيئا بالحجة لكن هذا اقر بان الله سبحانه وتعالى موصوف بوصف واقر في موضع آخر انه اذا كان موصوفا بذلك الوصف لزم ان يكون كذا وكذا فمجموع الاقرارين اقر فيهما بما ذكرناه

الوجه العشرون انه اعترف هنا انه يكون اشد حقاره من الجوهر الفرد وان يكون معدوما اذا كان ذا حيز ومقدار وقلنا انه لا يمكن ان يشار اليه ولا يمكن ان يحس وقد ذكر هنا انه لا يمكن ان يشار ولا يمكن ان يحس به فلزم ان يكون معدوما احقر من الجوهر الفرد ولا ريب ان هذا حقيقة قولهم وقد اعترف هو بمقدمات ذلك لكن مفرقة لم يجمعها في موضع واحد اذ لو جمعها لم يخف عليه وهذا شأن المبطل

الوجه الحادي والعشرون ان منازعه يقول قد ثبت بالفطرة الضرورية وبالضرورة الشرعية واتفاق كل عاقل سليم الفطرة من البرية ان رب العالمين فوق خلقه وان من قال انه ليس فوق السموات رب يعبد ولا هناك اله يصلي له ويسجد وانما هناك العدم المحض فانه جاحد لرب العالمين مالك يوم الدين فان اعتقد انه مقر به وهذا يقتضي كما قلت انه ذو حيز ومقدار وكلما كان ذا حيز ومقدار وهو لا يمكن الاشارة الحسية اليه ولا يمكن الاحساس به فانه معدوم كما اعترف به وكما هو معروف في الفطر وهو احقر من الجوهر الفرد بلا ريب فثبت ان قولك يستلزم ان الباري معدوم وانه احقر من الجوهر الفرد وهذا مما اتفق علماء السلف وائمة الدين ان قول الجهمية انه ليس فوق العرش ولا داخل العالم ولا خارجه يتضمن انه معدوم لا حقيقة له ولا وجود قد صرحوا بذلك في غير موضع وكذلك هو في جميع الفطر السليمة

وان اردت ان تلزمه عدمه من غير بناء على المقدار فيقال

الوجه الثاني والعشرون انه اذا عرض علىالفطر السليمة التي لم تتقلد مذهبا تتعصب له شيء لا يكون داخل العالم ولا خارجه ولا يمكن ان يشار اليه ولا يمكن ان يحس به ولا هو في شيء من الجهات الست فان الفطرة تقضي بأن هذا لا يكون موجودا لان يكون معدوما وهذا قبل ان يخطر بفكر الانسان الحيز والمقدار نفيا واثباتا ثم بعد ذلك اذا علم ان الموجود او ان هذا لايكون الا ذا حيز ومقدار كان ذلك لانها آخر يقرر مذهب المنازع لهذا المؤسس

الوجه الثالث والعشرون ان المنازعين له في مسألة الرؤية قالوا لهم ما ذكرتموه من الحجة يقتضي كون الباري مدركا بادراك اللمس وذلك لانا من حيث اللمس نميز بين الطويل والاطول كما اننا نميز من حيث البصر الطويل والاطول فان اقتضى ذلك كون الاجسام مرئية اقتضى ان تكون ملموسة

ولا شك انا ندرك من حيث اللمس الفرق بين الحرارة والبرودة فان ادراك اللمس معلق بالاجسام والاعراض فيعود ما ذكرتموه في الرؤية بتمامه في اللمس فيلزمكم تعلق اللمس للباري تعالى وانه باطل بالضرورة

وقال في الجواب ان اصحابنا التزموا ذلك ولا طريق الا ذلك

وقال ايضا قولهم لو كان الوجود علة لصحة رؤية الحقائق لصح منا رؤية الطعوم والعلوم وذلك معلوم الفساد بالضرورة قلنا دعوى الضرورة في محل الخلاف غير مقبولة

وذكر ايضا ان المخالفين له في مسألة الرؤية يدعون العلم الضروري بوجوب الرؤية عند الشروط النهائية وامتناعها عند عدمها وهو ما اذا كانت الحاسة سليمة والمرئي حاضرا ولا يكون على القرب القريب ولا على البعد البعيد ولا يكون متغيرا جدا ولا لطيفا ولا يكون بين المرئي والرائي حجب كثيفة وكان المرئي مقابلا للرائي او في حكم المقابلة فتارة يدعون ان ذلك العلم الضروري حاصل للعقلاء بعد الاختبار ولا حاجة فيه الى ضرب الامثال وتارة يثبتون بالاستدلال ان ذلك معلوم بالضرورة

وقال في الجواب اما دعوى العلم الضروري بحصول الادراك عند حضور هذه الامور فلا نزاع فيه واما العلم الضروري بعدمه عند عدمها ففيه كل النزاع

قال فإن زعمت انا مكابرون في هذا الانكار حلفنا بالايمان المغلظة انا لما رجعنا الى انفسنا لم نجد العلم بذلك اكثر من العلم باستمرار الامور العادية التي توافقنا على جواز تغيرها عن مجاريها فان الانسان كما يستبعد ان يأخذ الحديدة المحماة بيده ولا يجد حرارتها فكذلك يستبعد ان يذهب الى جيحون فيجد ماءه بالكلية دما او عسلا ويرى شخصا شابا قويا مع ان ذلك الشخص حدث في تلك اللحظة من غير اب وام على ذلك الوجه ويرى طفلا رضيعا مع ان ذلك الطفل كان مولودا قبل ذلك بمأة الف سنة على ذلك الحال وليس استبعاد ما ذكروه بأقوى من هذه الامور استبعادا مع ان شيئا من ذلك ليس بممتنع وكذا فيما ذكروه

قال واعلم ان تجويز اخراق العادات لازم على الفلاسفة او المسلمين والمتكلمين وبين ذلك الى ان قال فليس لابي الحسن الا دعوى الضرورة في اول المسألة وليس لنا في مقابلتها الا المنع

فاذا كان هذه ثلاث قضايا ادعى منازعوه فيها العلم الضروري وهو يثبتها لاثبات رؤية موجود لا داخل العالم ولا خارجه كيف ينكر على منازعه فيما ادعاه من العلم البديهي بأن الموجود اذا كان خارج العالم لم يكن الا منقسما او حقيرا مع ان هذا اظهر بوجوه

فصل

قال الرازي البرهان الثاني في بيان انه يمتنع ان يكون مختصا بالحيز والجهة وذلك انه لو كان مختصا بالحيز والجهة لكان محتاجا في وجوده الى ذلك الحيز وتلك الجهة وذلك محال فكونه في الحيز والجهة محال بيان الملازمة ان الحيز والجهة امر موجود والدليل عليه وجوه

احدها ان الاحياز الفوقانية مخالفة في الحقيقة والماهية للاحياز التحتانية بدليل انهم قالوا يجب ان يكون الله مختصا بجهة فوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات والاحياز يعني التحت واليمين واليسار ولولا كونها مختلفة في الحقائق والماهيات لا متنع القول بأنه يجب حصوله تعالى في جهة الفوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات واذا ثبت ان هذه الاحياز مختلفة في الماهيات وجب كونها امورا موجودة لان العدم المحض يمتنع كونه كذلك

الثاني هو ان الجهات مختلفة بحسب الاشارات فان جهة الفوق متميزة عن جهة التحت في الاشارة والعدم المحض والنفي الصرف يمتنع تميز بعضه عن بعض في الاشارة الحسية

الثالث ان الجوهر اذا انتقل من حيز الى حيز فالمتروك مغاير لا محالة للمطلوب والمتنقل عنه مغيرا للمنتقل اليه فثبت بهذه الوجوه الثلاثة ان الحيز والجهة امر موجود ثم ان المسمى بالحيز والجهة امر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه واما الذي كون مختصا بالحيز والجهة فانه يكون مفتقرا الى الحيز والجهة فان الشيء المرئي الذي يمكن حصوله لا مختصا بالجهة فثبت انه تعالى لو كان مختصا بالجهة والحيز لكان مفتقرا في وجوده الى الغير وانما قلنا ان ذلك محال لوجوه

الاول ان المفتقر في وجوده الى الغير يكون في وجوده يحيث يلزم من عدم ذلك الغير عدمه وكل ما كان كذلك كان ممكنا لذاته وكل ذلك في حق واجب الوجود محال

الثاني ان المسمى بالحيز والجهة امر متركب من الاجزاء والابعاض لما بينا انه يمكن تقديره بالذراع والشبر ويمكن وصفه بالزائد والناقص وكلما كان كذلك كان مفتقرا الى غيره والمفتقر الى غيره ممكن لذاته فالشيء المسمى بالحيز والجهة ممكن لذاته فلو كان الله مفتقرا اليه لكان مفتقرا الى الممكن والمفتقر الى الممكن اولى ان يكون ممكنا لذاته فالواجب لذاته ممكن لذاته وهو محال

الثالث لو كان الباري ازلا وابدا مختصا بالحيز والجهة لكان الحيز والجهة موجودا في الازل فيلزم اثبات قديم غير الله وذلك محال باجماع المسلمين فثبت بهذه الوجوه انه لو كان في الحيز والجهة يلزم هذه المحذورات فيلزم امتناع كونه في الحيز والجهة

فان قيل لا معنى لكونه مختصا بالحيز والجهة الا كونه مباينا عن العالم منفردا عنه ممتازا عنه وكونه تعالى كذلك لا يقتضي وجود امر آخر سوى ذات الله تعالى فبطل قولكم لو كان تعالى في الجهة لكان مفتقرا الى الغير والذي يدل على صحة ما ذكرناه ان العالم لا نزاع في انه مختص بالحيز والجهة وكونه مختصا بالحيز والجهة لا معنى له إلا كون البعض منفردا عن البعض ممتازا عنه وإذا عقلنا هذا المعنى هاهنا فلم لا يجوز مثله في كون الله تعالى مختصا بالحيز والجهة

الجواب اما قوله الحيز والجهة ليس امرا موجودا فجوابه انا قد بينا بالبراهين القاطعة انها اشياء موجودة وبعد قيام البراهين على صحته لا يبقى في صحته شك

واما قوله المراد من كونه مختصا بالحيز كونه منفردا عن العالم او ممتازا عنه او مباينا عنه قلنا هذه الالفاظ كلها مجملة فان الانفراد والامتياز والمباينة قد تذكر ويراد بها المخالفة في الحقيقة والماهية وذلك مما لا نزاع فيه ولكنه لا يقتضي الجهة والدليل على ذلك هو ان حقيقة ذات الله تعالى مخالفة لحقيقة الحيز والجهة وهذه المخالفة والمباينة ليست بالجهة فان امتياز ذات الله تعالى عن الجهة لا تكون بجهة اخرى والا لزم التسلسل وقد تذكر هذه الالفاظ ويراد بها الامتياز في الجهة وهو كون الشيء بحث يصح ان يشار اليه بأنه ها هنا او هناك وهذا هو مراد الخصم من قولهم انه تعالى مباين عن العالم او منفرد عنه وممتاز عنه الا انا بينا بالبراهين القاطعة ان هذا يقتضي كون ذلك الحيز امرا موجودا ويقتضي ان المتحيز محتاج الى الحيز

قوله الاجسام حاصلة في الاحياز فنقول غاية ما في الباب ان يقال الاجسام تحتاج الى شيء آخر وهذا غير ممتنع اما كونه تعالى محتاجا في وجوده الى شيء آخر فممتنع فظهر الفرق

يقال هذه الحجة وغيرها من الحجج كلها مبنية على ان القول بكونه فوق العرش يستلزم ان يكون متحيزا كما قدمه في الحجة الاولى فقد تقدم ان هذا فيه نزاع مشهور بين الناس من مثبتة الصفات ونفاتها فان كثيرا من الصفاتية من الكلابية والاشعرية وغيرهم من الفقهاء والصوفية واهل الحديث يقولون ليس بجسم وهو فوق العرش وقد يقولون ليس بمتحيز وهو فوق العرش اذا كان المراد بالمتحيز الجسم او الجوهر الفرد وكثيرا منهم من الكرامية والشيعة والفقهاء والصوفية واهل الحديث يقولون هو فوق العرش وهو جسم وهو متحيز ولكن منهم من يقول ليس بمركب ولا منقسم ولا ذي اجزاء وابعاض ومنهم من يقول لا ينفي ذلك

واما سلف الامة وائمتها ومن اتبعهم فالفاظهم فيها انه فوق العرش وفيها اثبات الصفات الخبرية التي يعبر هؤلاء المتكلمون عنها بأنها ابعاض وانها تقتضي التركيب والانقسام وقد ثبت عن ائمة السلف انهم قالوا لله حد وان ذلك لا يعلمه غيره وانه مباين لخلقه وفي ذلك لاهل الحديث والسنة مصنفات وهذا هو معنى التحيز عند من تكلم به من الاولين فإن هؤلاء كثيرا ما يكون النزاع بينهم لفظيا لكن اهل السنة والحديث فيهم رعاية لالفاظ النصوص والفاظ السلف وكثير من مبتغي ذلك يؤمن بألفاظ لا يفهم معناها وقد يؤمن بلفظ ويكذب بمعنى آخر غايته ان يكون فيه بعض معنى اللفظ الذي آمن به ولهذا يطعن كثر من اهل الكلام في نحو هؤلاء الذين يتكلمون بألفاظ متناقضة لا يفهمون التناقض فيها لكن وجود هذا وامثاله في اهل الكلام اكثر منه في اهل الحديث باضعاف مضاعفة كما قد بيناه في غير هذا الكتاب

واذا كان كذلك فالجواب عن هذه الحجة وامثالها مبين على مقامين

المقام الاول مقام من يقول انه نفسه تعالى فوق العرش ويقول انه بيس بجسم ولا متحيز كما يقول ذلك ابن كلاب والاشعري وكثير من الصفاتية فقهائهم ومحدثيهم وصوفيتهم وهو كثير فيهم فاش ظاهر منتشر والمنازعون لهم في وكونه فوق العرش كالرازي ومتأخري الاشعرية وكالمعتزلة يدعون ان هذا تناقض مخالف للضرورة العقلية وقد تكلمنا بين الطائفتين فيما تقدم بما ينبه على حقيقة الامر وتبين ان الاولين اعظم مخالفة للضرورة العقلية واعظم تناقضا من هؤلاء وان هؤلاء لا يسع احدهم في نظره ولا مناظرته ان يوافق اولئك على ما سلكوه من النفي فرارا مما الرموه اياه من التناقض لانه يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار فيكون الذي وقع فيه من التناقض ومخالفة الفطرة الضرورية العقلية اعظم مما فر منه مع ما في ذلك من مخالفة القرآن والسنة وما اتفق عليه سلف الامة وان كان قد يضطر الى نوع باطل في الأول فإنه بمنزلة قول الواقف في الرمضاء أنا أجد حرارتها وألمها فيقال له النار التي فررت إليها أعظم حرارة وألما وأن كنت لا تجدها حين وقوفك على الرمضاء بل تجدها حين تباشرها فيكون قد فر من نوع تناقض وخلاف بعض الضرورة فوقع في انواع من التناقضات ومخالفة الضرورات وبقي ما امتاز به الاول في كلامه من الزندقه والالحاد ومشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتباع غير سبيل المؤمنين زيادة علىذلك ولهذا كان في هؤلاء المثبته ممن له في الامه من الثناء ولسان الصدق ما ليس لمن هو من اولئك وان كان قد يذمه من يذمه من وجه اخر فليس الغرض بيان صوابهم مطلقا ولكن بيان ان طريقهم اقل خطا وطريق الاولين اعظم ضلاله فهذا احد المقامين وقد تقدم بيانه فلا نعيده

واما المقام الثاني فهو مقام من يسلم له انه فوق العرش وهو متحيز وله حد ونهايه ويطلق عليه ايضا لفظ الجهه فان اهل الإثبات متنازعون في اثبات لفظ الجهه وفي ذلك نزاع بين اصحاب الإمام أحمد وغيرهم كما أنهم متنازعون في إسم الحد أيضا وفي نزاع بين أصحاب الإمام أحمد وغيرهم فنقول وعلى هذا التقدير فالكلام على هذا من وجوه

الأول أن كلام هذا وغيره في الحيز هل هو أمر وجودي أو عدمي أو أضافي مضطرب متناقض فإنه وإن كان قد قرر هنا أنه وجودي فقد قرر في غير هذا الموضع أنه عدمي ويكفي نقض كلامه بكلامه فإنا قد إعتمدنا هذا مرات فإن هذا موجود في عامة هؤلاء تحقيقا لقوله تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا بخلاف الحق الذي يصدق بعضه بعضا

فقد ذكر في البرهان الرابع بعد هذا نقيض هذا فقال:

الوجه الربع أنا نعلم بالضرورة أن الأحياز بأسرها متساوية لأنها فراغ محض وخلاء صرف وإذا كانت بأسرها متساويا فيكون حكمها واحدا وذلك يمنع من القول واجب الإختصاص ببعض الأحياز على التعيين وقال فإن قيل لم لا يجوز أن يكون أختصاصه بجهة فوق أولى قلنا هذا باطل لوجهين أحدهما أنه قبل خلق العالم ما كان إلا الخلاء الصرف والعدم المحض فلم يكن هناك فوق ولا تحت الثاني أنه لو كان الفوق متميزا عن التحت بالتميز الذاتي لكانت أمورا موجودة قابلة للأنقسام وذلك يقتضي قدم الجسم لأنه لا معنى للجسم إلا ذلك

فهذا تصريح بأنها مختلفة في الحقائق وأنها خلاء صرف وفراغ محض وهذا يناقض ما ذكره هنا ومن لم يكن لسانه وراء قلبه كان كلامه كثير التقلب والتناقض

وذكر في نهايته في مسألة حدوث العالم لما ذكر نزاع المازع في أن الكون والحصول في الحيز أمر زائدا على ذات الجسم وذكر اسولتهم على دليله ثم قال وإن سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على أن الحصول في الحيز زائد على ذات الجسم لكن معنا ما يدل على نفي ذلك وهو أمور ثلاثة

الأول وهو أن الحصول أمر نسبي والأمور النسبية تستدعي وجود أمرين لتتحقق بينهما تلك النسبة فلو كان الحصول في الحيز أمرا ثبوتيا للزم ان يكون الحيز أمرا ثبوتيا وهو باطل لأنه لو كان موجودا لكان أما أن يكون حالا

في الجسم أولا يكون حالا فيه فإن كان حالا في الجسم لم يكن الجسم حالا فيه فلا حيزا للجسم وإن لم يكن حالا فيه فأما أن يكون ذا حيز أولا يكون والأول يقتضي التسلسل ثم ذكر

الثاني والثالث وليس هذا ذكر موضوعها ثم أنه في الجواب سلم أن الحيز ليس أمرا وجوديا وأجاب عما ذكروه فقال قوله الحصول في الحيز أمر نسبي فوجوده في الخارج يستدعي وجود الحيز في الخارج قلنا هذا باطل بالعلم فإنه نسبة أو ذو نسبة بين العالم والمعلوم ثم أنا نعلم به المحالات ولا وجود لها في أنفسها مع أن النسبة المسماة بالعلم حاصلة موجودة فعلمنا أن وجود النسبة لا يقتضي وجود كل واحد في المنتسبين

وقال في نهايته في آخر هذه الطريقة وأعلم أن هذه الطريقة مبنية على جواز خروج كل جسم عن حيزه وقد دللنا على ذلك بما مر ويمكن أن يستدل عليه بوجوه أخر منها أن نقول لووجب حصول جسمين في حيز لكان الحيز الذي حصل فيه الجسم الآخر إما أن يكون مخالفا للحيز الأول أولا يكون فأن كان مخالفا له كان أمرا ثبوتيا لأن العدم الصرف والنفي المحض لا يتصور فيه الإختلاف لأن المعقول في الإختلاف ان تكون حقيقة غير قائمة مقام الحقيقة الأخرى وذلك يستدعي حقائق متعينة في أنفسها وذلك في العدم محال ولما بطل ذلك ثبت ان الأحياز لو كانت متخالفة لكانت أمورا وجودية وهي ان يكون مشارا إليها أو لا يكون والقسم الأول على قسمين إما أن تكون حالة في الأجسام فحينئذ يستحيل حصول الجسم فيها وإلا لزم الدور أو لا تكون حالة في الأجسام مع أنه يمكن الإشارة إليها وذلك وهو المتحيز فيكون الحيز متحيزا وكل متحيز فله حيز وللحيز حيز آخر ولزم التسلسل

وإن لم يكن الحيز مشارا إليه إستحال حصول الجسم المشار إليه فيه قال فثبت أن الحيز نفي محض وأنه إذا كان كذلك إستحال أن يخالف حيزا

وقال أيضا في نهايته في الحجة الثانية على حدوث العالم وهو أنه ممكن وكل ممكن محدث وقرر إمكانه بوجوه منها الكلام الذي حكيناه عنه قبل هذا في تقرير أن واجب الوجود لا يقال ينفى في ضمن الكلام على حجته على نفي الجسم وكون كل حيز هل يكون واجب الوجود أم لا فهي طريقة الفلاسفة التي قررها واستضعفها وفي ضمنها سؤال أورده وهو أنا لا نسلم أن الوجود أمر ثبوتي فيقال في الجواب قوله لا نسلم أن الوجود أمر ثبوتي قلنا يدل عليه أمران وذكر أحدهما قم قال الثاني أن المعقول في الوجوب إستحقاق الوجود والعلم الضروري حاصل فإن إستحقاق الوجود وصف ثبوتي كما أن العلم الضروري حاصل فإن حصول الجسم في الجهة أمر ثبوتي بل ها هنا أولى لأن حصول الجسم بالجهة عبارة عن إنتساب مخصوص للجسم إلى الجهة والجهة امر تقديري لا وجود له فإذا كان العلم الضروري حاصلا هناك مع هذا الإشكال فها هنا مع عدم ذلك الاشكال أولى

وقال أيضا في نهايته في مسألة الجهة بعينها ما سنذكره في آخر هذه الحجج وهو قوله لو كان الله حاصلا في الحيز لكان إما أن يكون واجبا أو غير واجب والأول باطل إذ لو صح حصوله في ذلك الحيز وامتنع حصوله في سائر الأحياز كان حقيقة ذلك الحيز مخالفة لحقيقة سائر هذه الأحياز ولو كان كذلك لكانت الأحياز امورا وجودية لأن العدم الصرف يستحيل أن يخالف بعضه بعضا ولو كانت الأحياز أمورا وجودية لكان إما أن تمكن الإشارة الحسية إليها أولا يمكن فإن أمكن فذلك الشيء إما أن يكون منقسما فيكون الباري الحال فيه منقسما أو لا يكون منقسما فيكون ذلك الشيء مختصا بجهة دون جهة فيكون للحيز حيزا آخر ويلزم التسلسل وإن لم يمكن الإشارة الحسية اليه أي الحيز الذي حصل الباري فيه وجب إستحاله الأشارة الحسية أم لا فهي طريقة الفلاسفة الإشارة الحسية إلى جهته إستحالت الإشارة الحسية إليه وكذلك قال في التأسيس في هذه الحجة

الوجه الثاني أن يقال لا نسلم أن كلما يسمي حيزا وجهة فهو أمر وجودي بل قد يقال إن المسمى بالجهة والحيز منه ما يكون وجديا وهو الأمكنة الوجودية مثل داخل العالم فإن الشمس والقمر والأفلاك والأرض والحجر والشجر ونحو هذه الأشياء كلها في أحياز وجودية ولها جهات وجودية وهو ما فوقها وما تحتها ونحو ذلك ومنه ما يكون عدميا مثل ما وراء العالم فإن العالم إذا قيل إنه في حيز أو وجهة فليس هو في جهة وجودية وحيز وجودي لأن ذلك الوجودي هو العالم أيضا والكلام في جهة جميع المخلوقات وحيزها ولأن ذلك يفضي إلى التسلسل وهو لم يقم دليلا على أن كل ما يسمي حيزا وجهة فهو أمر وجودي وإذا لم يثبت ذلك لم يجب أن يقال أن الباري إذا كان في حيز وجهة كان في أمر وجودي وذلك لأن الأدلة التي ذكرها إنما تدل لو دلت على وجود تلك الأمور المعينة المسماة بالحيز والجهة فلم قلت إن كل ما سمي بالحيز أو الجهة يكون موجودا

الوجه الثالث أن يقال لا نسلم أن الحيز لا يطلق إلا على المعدوم لا يطلق على الموجود بحال وهذا قول كثير من المتكلمين الذين يفرقون بين الحيز والمكان ويقولون العالم في حيز وليس في مكان وما في العالم في مكان والحيز عندهم هو تقدير المكان بمنزلة ما قبل خلق العالم ليس بزمان ولكنه تقدير الزمان وإذا كان أمرا مقدرا ومفروضا لا وجود له في نفسه بطل ما ذكره

لكن يحتاج إلى الجواب عن وجوهه الثلاث

فأما الوجه الأول فإنه إحتجاج بقول المنازع له إنه يجب أن يكون الله في جهة الفوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات فإن كان قول المخالف حقا فقد صح مذهبه الذي تستدل على إبطاله ولم تسمع منه الدلالة على ذلك وأن كان باطلا لم يدل على أن الحيز أمر وجودي فعلى التقديرين لا تكون هذه الحجة مقبولة لأنها إما أن تكون باطلة أو تكون مستلزمة لصحة قول المنازع

فإن قال أنا ألزم المنازع بها قيل له فغاية ما في الباب أن تكون حجة جدلية أحتججت فيها بكذب خصمك وهذا لا يكون برهانا قاطعا على أن الحيز أمر وجودي

ثم يقال لك أنت من أين تعلم أو تفيد الناس الذين يسترشدون منك ولا يتقلدون مذهبا أن الحيز أمر وجودي فإن كنت تعلم ذلك وتعلمه لقول خصمك لزم صحته وبطل مذهبك وإن لم تحتج بقول خصمك الذي تدفعه عنه بطلت هذه الحجة أن تكون طريقا لك إلى العلم أو إلى التعليم والإرشاد وكان غايتها ذكر تناقض الخصم وللخصم عنها اجوبة لا نحتاج إلى ذكرها هنا

وأما قوله في الوجه الثاني أن حهة الفوق متميزة عن جهة التحت في الإشارة فيقال له إن كانت الإشارة إلى ما فوقنا من العالم وما تحتنا منه فلا ريب أن هذا موجود لكن ليس ذلك هو مسمى الحيز والجهة الذي ينازعونك في أن الله فيه فإنهم لم يقولوا إن الله في جوف العالم وإنما قالوا هو خارج العالم فإن كانت الإشارة إلى ما فوق العالم وما تحته فلا نسلم أن أحدا يشير إلى ما تحت العالم أصلا وأما ما فوق العالم فالله هو الذي فوق العالم فالإشارة إلى ما هناك إشارة إليه سبحانه وتعالى ولا يسلم أنه يشار إلى شيء موجود فوق العالم غير الله تعالى فلم تحصل الإشارة إلى شيء معدوم بحال ولم يشر احد الى جهة عدمية بحال بل المشار اليه ليس هو الجهة التي ينازع فيها المناعون

واما قوله في الوجه الثالث ان الجوهر اذا انتقل من حيز الى حيز فالمتروك مغاير لا محالة للمطلوب فيقال ان كان الانتقال في اجسام العالم الموجودة فهذه امور وجودية وان كان فيما ليس كذلك فلا نسلم ان هناك شيء يكون متروكا ومطلوبا اصلا بل الاحياز الموجودة قد لا يكون المنتقل فيها طالبا لحيز دون حيز بل قصده شيء آخر فكيف يجب ان يكون كل منتقل ومتحرك طالبا لحيز وجودي يكون فيه وتاركا لحيز وجودي انتقل عنه

الوجه الرابع ان يقال لا ريب ان الجهة والحيز من الامور التي فيها اضافة ونسبة فانه يقال هذا جهة هذا وحيزه والجهة اصلها الوجه الذي يتوجه اليها الشيء كما يقال عدة ووعد وزنة ووزن وجهة ووجهة والوجهة من ذلك قال تعالى ولكن وجهة هو موليها

واما الحيز فانه فيعل من حازه يحوزه اذا جمعه وضمه وتحيز تفعيل كما ان يحوز يفعل كما قال تعالى ومن يولهم يومئذ دبره الا متحرفا لقتال او متحيزا الى فئة فالمقاتل الذي يترك مكانا وينتقل الى آخر لطائفة تفيء الى العدو فاجتمع اليها وانضم اليها فقد تحيز اليها

واذا كان كذلك في فالجهة تضاف تارة الى المتوجه اليها كما يقال في الانسان له ست جهات لانه يمكنه التوجه الى النواحي الست المختصة به التي يقال انها جهاته والمصلى يصلي الى جهة من الجهات لانه يتوجه اليها وهنا تكون الجهة ما يتوجه اليها المضاف وتارة تكون الجهة ما يتوجه منها المضاف كما يقول القائل اذا استقبل الكعبة هذه جهة الكعبة وكما يقول وهو بمكة هذه جهة الشام وهذه جهة اليمن وهذه جهة المشرق وهذه جهة المغرب كما يقال هذه ناحية الشام وهذه ناحية اليمن والمراد هذه الجهة والناحية التي يتوجه منها اهل الشام واليمن

فأما الحيز فلفظه في اللغة يقتضي انه ما يحوز الشيء ويجمعة ويحيط به وذلك قد يقال على الشيء المنفصل عنه كداره وقوبه ونحو ذلك وقد يقال لنفس جوانبه واقطاره انها حيزه فيكون حيزه بعضا منه

وهذا كما ان لفظ الحدود التي تكون للاجسام فانهم تارة يقولون في حدود العقار حده من جهة القبلة ملك فلان ومن جهة الشرق ملك فلان ونحو ذلك فهنا حد الدار هو حيزها المنفصل عنها وقد يقال حدها من جهة القبلة ينتهي الى ملك فلان ومن جهة الشرق ينتهي الى ملك فلان فحدها هنا آخر المحدود ونهايته وهو متصل ليس منفصلا عنه وهو ايضا حيزه وقد جاء في كتاب الله تعالى في موضع تلك حدود الله فلا تقربوها والحدود هنا هي نهايات المحرم واولها فلا يجوز قربان شيء من المحرم وفي موضع تلك حدود الله فلا تعتدوها والحدود هنا نهايات الحلال فلا يجوز تعدي الحلال

واذا كان هذا هو المعروف من لفظ الجهة والحيز في الموجودات المخلوقة فنقول اذا قيل الخالق سبحانه في جهة فاما ان يراد في جهة له او في جهة لخلقه فان قيل في جهة له فاما ان تكون جهة يتوجه منها او جهة بتوجه اليها وعلى التقديرين فليس فوق العالم شيء غير نفسه فهو جهة نفسه سبحانه لا يتوجه منها الى شيء موجود خارج العالم ولا يتوجه اليها من شيء موجود خارج العالم وليس هناك شيء موجود غير نفسه يتوجه منه ولا يتوجه اليه ومن قال ان العالم هناك ليس في جهة بهذا الاعتبار فقد صدق ومن قال انه جهة نفسه بهذا الاعتبار فقد قال معنى صحيحا ومن قال انه فوق المخلوقات كلها في جهة موجودة يتوجه اليها او يتوجه منها خارجة عن نفسه فقد كذب

وان اريد بما يتوجه منه او يتوجه اليه ما يراد بالحيز الذي هو تقدير المكان فلا ريب ان هذا عدم محض

واما الحيز فقد يحوز المخلوق جوانبه وحدود ذاته وقد يحوزه غيره فمن قال ان الباري فوق العالم كله يحوزه شيء موجود ليس هو داخلا في مسمى ذاته فقد كذب فان كل ما هو خارج عن نفس الله التي تدخل فيها صفاته فانه من العالم ومن قال ان حيزه هو نفس حدود ذاته ونهايتها فهنا الحيز ليس شيئا خارجا عنه

وعلى كل تقدير فمن قال انه فوق العالم لم يقل انه في حيز موجود خارج عن نفسه ولا في جهة موجودة خارجة عن نفسه واذا كان صاحب المذهب يصرح بنفي ذلك فالاحتجاج على انه ليس في حيز موجود احتجاج في غير محل النزاع فلا يضر المنازع

الوجه الخامس قوله الاحياز الفوقانية مخالفة بالحقيقة للاحياز التحتانية بدليل انهم قالوا يجب ان يكون الله مختصا بجهة فوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات والاحياز اعنى التحت واليمين واليسار ولولا كونها مختلفة في الحقائق والماهيات لامتنع القول بأنه يجب حصوله في جهة الفوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات

يقال له الذي اتفق عليه اهل الاثبات ان الله فوق العالم ويمتنع ان لا يكون فوق العالم سواء قدر انه في التحت او غير ذلك بل كون الله تعالى هو العلي الاعلى المتعالي فوق العالم امر واجب ونقيضه وهو كونه ليس فوق العالم ممتنع فثبوت علوه بنفسه على العالم واجب ونقيض هذا العلم ممتنع هذا هو الذي انفق عليه اهل الاثبات من سلف الامة وائمتها وسائر اهل الفطر السليمة المقرة بالصانع

واما ما ذكره من قول القائل يجب ان يكون مختصا بجهة فوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات والاحياز فهؤلاء يريدون بذلك انه يجب ان يكون فوقنا ويمتنع ان يكون تحتنا او عن يميننا او عن شمائلنا وهم لا يعنون بذلك انه يكون متصلا برؤوسنا بل يعنون انه فوق الخلق فالعبد يتوجه اليه هناك لا يتوجه اليه من تحت رجليه او عن يمينه او عن شماله وقد قلنا ان الجهة فيها معنى الاضافة فالعبد يتوجه الى ربه بقلبه الى جهة العلو لا الى جهة السفل واليمين واليسار كما قال ابن عباس وعكرمة في قوله تعالى عن ابليس ثم لآتينهم من بين ايديهم ومن خلفهم وعن ايمانهم وعن شمائلهم ولا تجد اكثرهم شاكرين قال ولم يقل من فوقهم لانه علم ان الله من فوقهم

وهم لا يريدون بذلك انه من جهة العلو الموجودة في العالم دون جهة اليمين واليسار والتحت بل ليس هو فيما على رأس العبد من الاجسام ولا فيما عن يمينه ولا فيما عن شماله فهذه الاجسام المختلطة بالعبد من جهاته الست ليس شيء منها مما يجب ان يكون الله فيه وما اعلم احد قط يقول انه يجب ان يكون في شيء موجود منفصل عنه سواء كان ذلك فوق العبد او تحته فالرب يجب عندهم ان يكون فوق العالم وهي الجهة التي فوق ولا يجوز ان يكون فوق العالم وغيره بالنسبة اليه سواء

واما ان القوم يثبتون وراء العالم امورا وجودية يقولون يجب ان يكون الله في واحد منها دون سائرها فهذا ما علمنا احدا قاله وان قاله احد تكلم معه بخصوصه ولا يجعل هذا قول اهل العلم والايمان الذين يقولون ان الله فوق العرش

ولكن منشأ غلط كثير من الناس هنا ان الجهة نوعان اضافية متغيره وثابتة لازمة حقيقة فالاولى هي بحسب الحيوان فان كل حيوان له ست جهات جهة يؤمها هي امامه وجهة يخلفها هي خلفه وجهة تحاذي يمينه وجهة تحاذي يساره وجهة فوقه وجهة تحته وهذه الجهات تتبدل وتتغير بحسب حركته وليس لها صفة لازمة ثابتة وانما الجهة اللازمة الثابتة الحقيقية هي جهتا العلو والسفل فقط فالعلو ما فوق العالم والسفل سجين واسفل السافلين وهو اسفل العالم وقعره وجوفه

واذا كان الامر كذلك لزم من مباينة الله للعالم ان يكون فوقه وليس هناك شيء آخر يجوز ان يكون جهة لله تعالى ولا يمين العالم ولا يساره ولا تحته وكلام هؤلاء خارج باعتبار جهاتهم الاضافية المتنقلة لا باعتبار الجهة اللازمة الحقيقية

الوجه السادس ان يقال هب ان وراء العالم ست جهات وقالوا يجب اختصاصه بالعلو دون غيره كما انه يجب ان يكون فوقنا فالاختصاص من الامور النسبية والاضافية قد يكون لمعنى فيه وفي العالم او لمعنى فيه لا في العالم او في العالم لا فيه لا لمعنى في امر وجودي غيرهما

وقوله يمتنع ان يكون في سائر الجهات والاحياز لمعنى فيه سبحانه وهو انه العلي الاعلى وهو الظاهر الذي لا يكون فوقه شيء فالحاصل ان وجوب علوه هو لمعنى فيه سبحانه يستحق به ان يكون هو الاعلى الظاهر الذي لا يكون فوقه شيء فلا يجوز ان يكون في جهة تنافي علوه وظهوره وذلك لا يوجب ان تكون الجهة وجودية لان العلو والظهور نسبة بينه وبين الخلق فاذا قيل يجب ان يكون فوقهم وان يكون عاليا عليهم ولا يجوز غير ذلك لم يكن في هذا ما يقتضي ان يسبق ذلك ثبوت محل وجودي له بحيث لو فرض ان وراء العالم ست جهات وان العالم كالانسان الذي له ست جهات لكان انما هو ايجاب لنسبة خاصة واضافة خاصة له الى العالم لا يقتضي ذلك ان يكون هناك امور وجودية فضلا عن ان تكون مختلفة الحقائق

الوجه السابع ان وجود كونه فوق العالم امر مشروط بوجود العالم فانه قبل خلق العالم لا يقال انه فوقه ولا انه ليس فوقه اذ العلو والفوقية هي من الامور التي فيها نسبة واضافة وان كان الناس قد تنازعوا هل علوه وفوقيته واستواءه على العرش من الصفات الذاتية التي وجبت له بنفس ذاته وان كان فيه اضافة ظهر حكمها بخلق العالم والعرش كما يقولون في المشيئة والعلم او هو من الصفات الفعلية وانه استوى على العرش بعد ان لم يكن مستويا عليه او هو اضافة محضة بينه وبين العرش ام متضمن لامرين من ذلك او للامور الثلاثة فلا ريب ان وجود العلو على العرش والاستواء عليه انما هو بعد خلقه ولو قدر ان العالم او العرش خلق في حيز آخر لكان الله سبحانه وتعالى عاليا عاليبه ومستويا عليه حيث خلق كما أنه سبحانه إذا كان مع عبده بعلمه وقدرته او نصره وتأييده وغير ذلك فحيث كان العبد كان الله معه

واذا كان كذلك لم يكن لبعض الاحياز حقيقة يتميز بها عن حيز آخر لاجلها يستحق ان يكون الله فيه وانما وجوب اختصاصه هو تابع لوجوب علوه ولاستوائه وعلوه واستواءه على عرشه ينافي ان لا يكون عاليا عليه فما يفرض من سفول وتياسر ونحو ذلك مما ينافي العلو كان منتفيا لان احد النقيضين ينفي الآخر لا لصفة ثابتة لاحد الحيزين دون الاخر

الوجه الثامن قوله ولولا كونها مختلفة في الحقائق والماهيات لامتنع القول بأنه يجب حصوله تعالى في جهة الفوق يقال لا نسلم ذلك ولم يذكر على ذلك حجة فالمنع المجرد يكفي هذه الدعوى

ثم يقال اختصاص الشيء بوجوب كونه فوق الآخر دون كونه عن يمينه ويساره قد يكون لمعنى في الاعلى او لمعنى في الاسفل او لمعنى فيهما وهكذا كل امر فيه اضافة بين امرين كالحب والقدرة ونحو ذلك قد يكون لمعنى في المضاف وقد يكون لمعنى في المضاف اليه وقد يكون لمعنى فيهما كالحب والقدرة ونحو ذلك يقتضي معنى في المحب والمحبوب وكذلك القدرة ولذلك يختصان بشيء دون شيء

واما العلم فيقتضي معنى في العالم لا يقتضي معنى في المعلوم فان العلم يتعلق بكل شيء لا يختص بموجود دون معدوم ولا بممكن دون ممتنع فالاختصاص فيه انما هو في العالم لا في المعلوم وكذلك القول ونحوه

واما العلو فقد يكون لمعنى في العالي كصعود الانسان على السطح فانه هو الذي تحرك حركة اوجبت علوه والسطح لم يتغير فالرجل يكون تارة فوقه وتارة تحته لتحوله هو دون السطح والطير اذا حاذى الانسان وكان فوق رأسه ثم نزل حتى صار تحت مكان هو فيه كان الطير فوقه تارة وتحته اخرى لتحول الطير دون تحوله هو واذا كانت الامور الاضافية لا تستلزم وجود معنى في غير المضاف والمضاف اليه وان جاز وجود ذلك لكن نفس معنى في احدهما قد يكفي في الصفات الذاتية التي فيها اضافة عارضة لها فيكف يكون في الاضافات المحضة فالعلو سواء كان صفة ثبوتية مستلزما للاضافة او كان فعلا مستلزما للاضافة او كان فيه الامران او كان اضافة محضة يكفي في تحققه وجود معنى في العالي تارة وفي السافل اخرى من غير اختلاف في حقيقة الاحياز

يوضح هذا الوجه التاسع ان الاحياز التي لا ريب في وجودها كالهواء والسطوحات ونحوها قد يعلو عليها الحيوان وتعلو عليه اخرى وتكون تارة عن يمينه وتارة عن شماله مع ان حقائقها في جميع هذه الاحوال سواء لم يتجدد لها باختلاف الحال في كونه عالية وسافلة ومتيامنة ومتياسرة صفة اصلا فاذا كانت الاحياز التي علم وجودها ولا يزال حكم الجهات يختلف فيها بكونها عالية وسافلة ومتيامنة ومتياسرة وهي مع ذلك لا يحدث فيها شيء من التغير فكيف يقال انه لولا كون الاحياز التي هي الفوق والتحت واليمين واليسار مختلفة في الحقائق والماهيات والا لامتنع القول بانه يجب حصوله في جهة فوق

ومما يصح ذلك الوجه العاشر وهو ان رأس الانسان ينبغي ان يكون مختصا بجهة فوق بالنسبة الى سائر بدنه ويده اليمنى يجب ان تكون مختصة بجهته اليمنى ويده اليسرى يجب ان تكون مختصة بجهته اليسرى وصدره وبطنه يجب ان يختص بجهة امامه وظهره يجب ان يختص بجهة خلفه واسفل قدميه يجب ان يختص بجهة تحته ومع هذا الوجوب المعلوم بالاحساس ليس ذلك لاختلاف حقائق الجهات التي اختصت بها هذه الاعضاء ولاختلاف صفاتها بل هذا الاختصاص لا يؤثر في الجهات شيئا اصلا وانما الاختصاص لمعنى في الانسان نفسه لا لمعنى في الجهات

الوجه الحادي عشر انه اذا قدر ان الحيز والجهة امر موجود لم نسلم المقدمة الثانية وهو قوله ان المسمى بالحيز والجهة امر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه والذي يكون مختصا بالحيز والجهة يكون مفتقرا الى الحيز والجهة فإن الشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يتسحيل عقلا حصوله لا مختصا بالجهة وذلك ان وجود موجود مستغن عن الله ممتنع فان كل ما سواه مفتقر اليه وهو خالق كل شيء وربه ومليكه

وقوله ان المسمى بالحيز والجهة امر مستغن في وجوده مما يتمكن ويستقر فيه قياس شمول عام عدل الله فيه بأحقر المخلوقات فان الاجسام الضعيفة من المواد والحيوان كالحجر والمدر والبعوضة ونحوها اذا كانت في مكان او حيز فلا ريب انها قد تكون محتاجة اليه وهو مستغن عنها لكن قياس الله الخالق لكل شيء الغني عن كل شيء الصمد الذي يفتقر اليه كل شيء بالمخلوقات الضعيفة المحتاجة عدل لها برب العالمين ومن عدلها برب العالمين فانه في ضلال مبين وذلك ان اعظم الامكنة العرش ولا خلاف بين المسلمين الذين يقولون انه مستو عليه او مستقر او متمكن عليه والذين لا يقولون ذلك ان العرش مفتقر الى الله والله غني عن العرش بل هم متفقون على ان الله بقدرته الذي يمسك العرش وحملة العرش وسائر المخلوقات هذا معما جاء في الآثار من اثبات مكانه تعالى كالحديث الذي رواه عن النبي ﷺ قال ان الشيطان قال وعزتك يارب لا ابرح اغوي عبادك ما دامت ارواحهم في اجسادهم فقال الرب تعالى وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا ازال اغفر لهم ما استغفروني

وفي شعر حسان

تعالى علوا فوق عرش الهنا... وكان مكان الله اعلا وارفعا

فقوله ان الحيز والجهة امر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه قضية عامة ضرب بها مثلا في قياس شمولي ليس معه فيه الا مجرد تمثيل الخالق بالمخلوق الضعيف الفقير وان كان من الجنس الحقير وهؤلاء الجهمية دائما يشركون بالله ويعدلون به ويضربون له الامثال بأحقر المخلوقات بل بالمعدومات كما قدمنا التنبيه عليه غير مرة فلمارأوا ان المستوى على الفلك او الدابة او السرير يتغنى عنه مكانه قالوا يجب ان يكون الله ايضا يستغنى عنه مكانه تشبيها له بهذا المخلوق العاجز الضعيف ولما رأوا ان الحجر والمدر والشجر والانثى والذكر يستغنى عن حيزه ومكانه قالوا فرب الكائنات مشبه بهذه المتحيزات في افتقاره الى ما هو مستغن عنه تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا

ثم يقال له في الوجه الثاني عشر ان كثيرا مما سمي مكانا وحيزا وجهة للانسان يكون مفتقرا اليه بل لغير الانسان ايضا فمن قال ان المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاقي للسطح الظاهر من الجسم المحوي كبطانة قميص اللابس كان كثير من الامكنة محتاجا الى الممكن كاحتياج القميص الى لابسه واستغناء صاحبه عنه

وكذلك الحيز قد ذكرنا انه يراد به حدود الشيء المتصلة به التي تحوزه وهو جوانبه وتلك تكون داخلة فيه فلا تكون مستغنية عنه مع حاجته اليها وقد يراد به الشيء المنفصل عنه الذي يحيط به كالقميص المخيط وهذا قد يكون مفتقرا الى الانسان كقميصه وقد يكون مستغنيا عنه وان كان مستغنيا عن الانسان لكن الانسان لا يحتاج الى حيز بعينه فليس الانسان مفتقرا الى حيز معين خارج غير ذاته بحال بل وكذلك جيمع الموجودات حيزها اما حدودها المحيطة بها ونهاياتها وهي منها فتلك لا توصف بالاستغناء عنها واما ما يحيط بها منفصلا عنها فليس في المخلوقات ما يحتاج الى حيز بعينه

واما الجهة فهي لا تكون جهة الا بالتوجه فهي مفتقرة في كونها جهة الى المتوجه والمتوجه لا يفتقر الى جهة بعينها بحال

واذا كانت المخلوقات لا تفتقر الى حيز موجود وجهة موجودة او مكان موجود بعينه وان كان فيها ما يفتقر الى نوع ذلك على البدل وما يسمى لها مكانا قد يفتقر اليها وكذلك ما يسمى حيزا لها متصلا او منفصلا قد يكون مفتقرا اليها وكذلك الجهة مفتقرة اليها في معنى كونها جهة كان دعوى افتقار المتحيزات للحيز مع استغناء الحيز عنه في حق المخلوقات ليس على اطلاقه بل اطلاق ذلك دعوى باطلة فكيف في حق الخالق الغني عن كل ما سواه المفتقر اليه كل ما سواه

الوجه الثالث عشر قوله والشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يتسحيل عقلا حصوله لا في جهة يقال له الاجسام كلها حاصلة في الحيز كما ذكرته افتقول انه يستحيل عقلا حصول كل جسم في غير جهة وجودية فهذا لا يقوله عاقل بل يعلم ببديهة العقل ان كل جسم يمكن حصوله في غير جهة وجودية منفصلة كما ان العالم حصال في غير جهة وجودية وما علمنا عاقلا قال ان كل جسم يجب ان يكون حاصلا في حيز وجودي منفصل عنه

واذا كان كذلك كان قوله والشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يستحيل عقلا حصوله لا في جهة التى قد قدم انها وجودية قول معلوم الفساد ببديهة العقل متفق على فساده بين العقلاء وهذا ليس مما يخفى على من تأمله

وانما الرجل غلط او خالط في المقدمين فانه قد سمع وعلم ان الجسم لا يكون الا متحيزا فلا بد لكل جسم من حيز ثم سمى حيزه جهة وقد قرر قبل هذا

ان الجهة امر وجودي فركب ان كل جسم يفتقر الى حيز وجودي منفصل عنه وهذا الغلط نشأ من جهة ما في لفظ الحيز والجهة من الاجمال والاشتراك فيأخذ احدهما بمعنى ويسميه بالآخر ثم يأخذ من ذلك الآخر المعنى الآخر فيكون بمنزلة من قال المشتري قد قارن زحل وهذا هو المشتري الذي اشترى العبد وقد قارن البائع فيكون البائع هو زحل او يقول هذه الثريا والثريا قد نكحها سهيل وقارنها فتكون هذه الثريا قد قارنها سهيل ونحو ذلك ومن المعلوم ان الجهة التي نصر انها وجودية وهي مستغنية عن الحاصل فيها ليست هي الحيز الذي يجب لكل جسم

يوضح ذلك الوجه الرابع عشر وهو انه قال ان المسمى بالحيز والجهة امر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه واما الذي يكون مختصا بالحيز والجهة فانه يكون مفتقرا الىالحيز والجهة فان الشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يستحيل عقلا حصوله لا مختصا بالجهة وذلك يقتضي ان الشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يستحيل عقلا حصوله في غير حيز وجهة فيكون محتاجا الى الحيز والجهة وقد قرر ان المسمى بالحيز والجهة امر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه فيكون الحيز والجهة مستغنيا عن المتحيز المتوجه وذلك يقتضي ان المتحيزات بأسرها مفتقرة الى احيازها وان احيازها التي يستحيل عقلا حصولها في غيرها مستغنية عنها ومن المعلوم لكل عاقل ان تحيز الجسم امر قائم به محتاج اليه ليس هو مستغنيا عن الجسم وهذا هوالذي يستحيل عقلا حصول المتحيز بدونه فانه يستحيل حصول متحيز بدون تحيز وكل جسم متحيز وحصول المتحيز بدون التحيز محال وهو مثل حصول الجسم او حصول المقدور بدون تقدر او حصول المميز بدون التميز واما كون المتحيز يستحيل عقلا حصوله في غير حيز وراء هذا التحيز فالعقل يعلم خلاف ذلك فيعلم ان المتحيز لا يفتقر الى حيز وجهة غير هذا التحيز الذي قام به

فظهر انه ناقض ما يعلم بالعقل خلافه بأن العقل يعلم افتقار المتحيز الى حيز منفصل عنه بل يفتقر الى حيز هو نهايته التي تحيط به فقلب القضية وجعل الحيز المنفصل الذي هو للجهة مستغنيا عن المتحيز والمتحيز يستحيل عقلا حصوله بدونه وظهر ببطلان المقدمين بطلان المقدمة الاولى من الحجة وهو قوله لو كان مختصا بالحيز والجهة لكان مفتقرا الى غيره

ونتكلم على المباينة فنقول

الوجه الخامس عشر قولك لو كان مختصا بالحيز والجهة لكان مفتقرا الى غيره لفظ مجمل قد تقدم الكلام على نظيره غير مرة وهو ان لفظ الغير عند كثير من الصفاتية او اكثرهم منهم اصحابك هو ما جاز مفارقة احدهما الاخر بزمان او مكان او وجود او ما جاز وجود احدهما دون الآخر وعند كثير من نفاة الصفات ومثبتيها ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر فما الذي تريد بلفظ الغير في قولك لو كان مختصا بالحيز والجهة لكان مفتقرا الى غيره

ان اردت به لكان مفتقرا الى ما يجوز وجوده دونه فهذا باطل فليس في الموجوات ما يجوز وجوده دون الله وعلى هذا التقدير فيمتنع افتقار الله الى غيره لامتناع الغير الذي يجوز وجوده دونه كما يمتنع افتقاره الى مثله لامتناع مثله ويمتنع خوفه من نده لامتناع نده فالفقر والحاجة وعناه الى ما يستغنى عنه محال هذا ان اراد وجود ذلك الغير دونه

وان اراد وجود الله دون ذلك الغير فيكون المعنى انه مفتقر الى الغير الذي يجوز وجود الله دونه وهذا جمع بين القيضين فإنه أذا كان هو سبحانه موجودا دونه لم يكن مفتقرا اليه واذا كان مفتقرا اليه لم يكن سبحانه موجودا دونه فقول القائل انه مفتقر الى الغير الذي يوجد دونه مثل قوله مفتقرا الى ما هو سبحانه وتعالى مستغن عنه وذلك مثل قول القائل مفتقر لا مفتقر ويستغنى لا يستغنى

وكذلك ان اراد بالغير ما يجوز مفارقته لله بزمان او مكان او وجود فالحيز الذي هو من لوازم وجوده كالصفة الذاتية اللازمة له لا يفارقه بزمان ولا مكان

وقد ذكرنا ان الحيز الوجودي يراد به حد الشيء المتحيز الذي يجوزه ويراد به شيء منفصل عنه يحوزه والله سبحانه ليس هو بل ولا غيره من الملخلوقات مفتقرا الى حيز وجودي بالمعنى الثاني واما الحيز الوجودي بالمعنى الاول فهذا لا يجوز ان يفارق المتحيز لا في زمان ولا في مكان ولا وجود الا اذا فرق ذلك المتحيز وحينئذ فلا يكون هو اياه مع ان الله سبحانه صمد لا يجوز عليه التفرق والانقسام

فان اراد بالغير هذا المعنى كان التقدير لو كان مختصا بالحيز والجهة لكان مفتقرا في وجوده الى ما هو لازم لذاته لا يجوز مفارقته له ولا انفصاله عنه وهكذا حكم جميع الصفات الذاتية فيكون المعنى كما لو قيل لو كان له صفة ذاتية لكان مفتقرا اليها افتقار الموصوف الى الصفة وهذا من شبه نفاة الصفات التي يبطلها هذا المؤسس نفسه كما تقدم الكلام عليه وهذا احد الوجوه التي ذكرها في حجة نفاة الصفات في نهايته فقال الثالث عالمية الله وقادريته لو كانت لاجل صفات قائمة به لكان الباري محتاجا الى تلك الصفات لكن الحاجة على الله محال فبطل باتصاف ذاته بالصفات فقوله لو كان مختصا بالحيز والجهة لكان مفتقرا في وجوده الى ذلك مثل هذه سواء اذا فهم ان الحيز الذي يلزم المتحيز هو امر لازم له ليس شيئا منفصلا عنه وان المتحيز لا يفتقر الى حيز موجود منفصل عنه بضرورة العقل والحس واتفاق العقلاء وقد تقدم الكلام على مثل هذه الحجة غير مرة

وهي مثل قولهم يستلزم التركيب والكثرة الموجبة لافتقاره الى اجزائه وقد قال هو قولهم يلزم من اثبات الصفات وقوع الكثرة في الحقيقة الالهية فتكون تلك الحقيقة ممكنة قلنا ان عنيتم به احتياج تلك الحقيقة الى سبب خارجي فلا يلزم لاحتمال استناد تلك الصفات الى الذات الواجبة لذاتها وان عنيتم به توقف الصفات المخصوصة في ثبوتها على تلك الذات المخصوصة فذلك مما نلتزمه فأين المحال قال وايضا فعندهم الاضافات صفات وجودية في الخارج فيلزمكم ما الزمتمونا ويلزمكم ايضا في الصورة المرتسمة في ذاته من المفعولات ما الزمتمونا ونحن قد بينا ان هذه الامور ليست غيرا له بهذا الاصطلاح فلا يصح ان يقال هو مفتقر الى غيره

واما ان اراد بالغيرين ما يجوز العلم بأحدهما دون الاخر فنقول ثبوت هذه المعاني في حق الله تعالى متفق عليه بين العقلاء معلوم بضرورة العقل فلابد منه في كل موجود فانه يعلم شيء ثم يعلم شيءآخر فان كان ثبوت هذه الامور مستلزم حاجة الله الى الغير فهذا اللازم على كل تقدير ولكل العقلاء وحينئذ فلا يكون محذورا بهذا التفسير

فظهر ان قوله لكان مفتقرا في وجوده الى الغير اما منع الملازمة او منع انتفاء اللازم وذلك بسبب اشتراك لفظ الغير بضرورة العقل واتفاق العقلاء فان الغير ان عنى به ما يجوز مفارقته في وجود او زمان او مكان منعت المقدمة الاولى وهو قوله لكان مفتقرا الى غيره فان الحيز الوجودي الذي يلزمه ليس مما تجوز مفارقته وان عنى بالغير ما يجوز العلم بأحدهما دون الآخر فثبوت هذا في حق الله معلوم بضرورة العقل واتفاق العقلاء وان كان فيهم من لا يسميه غير

فالمقصود هنا المعنى دون الالفاظ فتكون المقدمة الثانية باطلة بضرورة العقل واتفاق العقلاء

الوجه السادس عشر يقال له ما تعني بقولك لكان مفتقرا في وجوده الى الغير فان الافتقار المعروف عند الاطلاق ان يكون الشيء محتاجا الى ما هو مستغن عنه كافتقار العبد الى الله

واما الشيئان اللذان لا يوجد احدهما الا مع الآخر كالموصوف وصفته اللازمة او المقدرة وقدره اللازم له وكالامور المتضايفة مثل الابوة والبنوة والعلو والسفل ونحو ذلك فهذه الامور لا توصف بافتقار احدهما الى الآخر دون العكس لكن اذا قيل كل منهما مفتقر الى للآخر كان بمنزلة قول القائل الشيء مفتقر الى نفسه والمعنى ان احدهما لا يوجد الا مع الآخر كما ان الشيء لا يكون موجودا الا بنفسه فاذا كان مخلوقا كان الفاعل له لنفسه والفاعل لاحدهما هو الفاعل الآخر واذا كان ذلك هو الخالق لم يكن سبحانه مفتقرا الى غير ذاته وانما المعنى انه واجب الوجود بنفسه ووجوده لازم لزوما لا يمكن عدمه واحد هذه الامور لازم للآخر لزوما يمكن معه عدمه

واذا كان هذا المعنى هو الذي يمكن ان يراد بلفظ الافتقار هنا فيكون المعنى لو كان له صفة ذاتية لازمة له او لو كان له تحيز لازم لكان ملازما له لا ينفك عنه وحينئذ فيتحد اللازم والملزوم ويكون هذا من باب تحصيل الحاصل كما لو قيل لو كان واجبا بنفسه لكان مفتقرا الى نفسه والمعنى ان نفسه لازمة لنفسه لزوما لا يمكن عدمه فانما تغلط الاذهان هنا وتحصل الشبهة عند كثير من الناس والوهم في قلوبهم لما في لفظ الافتقار الى الغير من المحذور

وهؤلاء عمدوا الى هذا اللفظ فاستعملوه في غير المعنى المعروف في اللغة وسموا لزوم صفاته له افتقارا الى الغير فلما عبروا عن المعاني الصحيحة بل المعاني التي يعلم بضرورة العقل ثبوتها في نفس الامر بل لا يستريب في ثبوتها احد من العقلاء ما دام عاقلا عبروا عنها بالعبارات المشتركة المجملة التي قد تستعمل في معاني فاسدة يجب تنزيه الباري سبحانه وتعالى عنها كان هذا الاشراك مما اشركوا فيه بين الله وبين خلقه وهو من نوع شركهم وعدلهم بالله حيث اشركوا بين المعاني والواجبة لله الممتنعة عليه في لفظ واحد ثم نفوا به ما يجب لله وكانوا مشركين معطلين في المعاني كما تقدم التنبيه على ذلك غير مرة بمنزلة من سمى رحمان اليمامة الرحمن وجعل يقول للناس انا كافر بالرحمن يوهمهم انه رحمان اليمامة وهو كافر بالرحمن الذي على العرش او بمنزلة من سمى الاوثان الآلهة والاله وجعل يقول للمؤمنين قد عبدت الاله ودعوت الاله وانما يعنى به الوثن او بمنزلة الله اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى وهو يعني الكفر بالله فهذا المثل نظير ما فعلوه من تسميته لما اثبته الله لنفسه بأسمائه وآياته بأسماء باطلة من المفتقر والغير ونحو ذلك ثم جعل يقول ينزه الله تعالى عن ان يكون مفتقرا الى الغير وهو مثل من يسمى نبيه محمدا مذمما ثم يقول العنوا مذمما وهو ﷺ محمد ولي بمذمم

والله سبحانه الغني بماله من الاسماء والصفات وليس بمفتقر الى غيره بوجه من الوجوه وان سموه هم مفتقرا الى غيره اذا ثبتت له هذه الصفات كما سمى المشركون محمدا مذمما لما دعاهم الى توحيد الله وعبادته

وهذا حال فريق ممن خالف سلطان الله الذي بعث به رسله وسمى سبحانه الاشياء بما تستحقه من الاسماء من اهل الكفر والبدع التي تشتمل على ما هو من الايماز وما هو من الكفر فانهم يسمون الاشياء بأسماء تتضمن حمدا وذما ونفيا واثباتا وتلك الاسماء سموها هم وآباؤهم ما انزل الله بها من سلطان وذلك مثل تسمية الكفار النبي ﷺ شاعرا وساحرا وكاهنا ومجنونا وذلك لنوع شبهة قد ازاحها بما اظهره من البينات فلما رأوا القرآن كلاما موزونا شبهوه بالشعر الموزون ورأوا الرسول يخبر بالغيوب عن روح ينزل اليه بها فشبهوه بالكاهن الذي يخبر بكلمة فيكذب معها مأة كذبة عن روح شيطاني ينزل علييه بها ورأوه يزيل مافي النفوس من الأعتقادات الفاسدة والإرادات الفاسدة الى الصحيح التي فطر الله عليه فشبهوه بالساحر الذي يغير الامر في ادراكاتهم وحركاتهم حتى يعتقدوا الشيء بخلاف ما هو عليه ويحبوا ما ابغضوه ويبغضوا ما احبوه ورأوه قد اتى بما يخالف عاداتهم الفاسدة وما يذمونه عليه فشبهوه بالمجنون الذي يخرج عما يعرف في العقل وما يذم عليه

كذلك يسمى اهل البدع لمن اتبع سبيله الذين قال فيهم قل هذه سبيلي ادعو الى الله على بصيرة انا ومن اتبعني وسبحان الله وما انا من المشركين باسماء باطلة كتسمية الرافضة لهم ناصبة مع محبتهم اهل البيت وموالاتهم تشبيها لهم بمن يبغضهم ويعاديهم لاعتقادهم ان لا ولاية لهم الا بالبراءة من الصحابة وزعموا انهم كانوا يعادونهم

وكتسمية القدرية لهم مجبرة مع كونهم يعتقدون ان العبد فاعل حقيقة وله ارادة وقدرة تشبيها بمن يسلب العبد الفعل ويجعله كالجمادات التي لا ارادة لها لما اعتقدوا ان الله خالق كل شيء وهو خالق العبد وصفاته وافعاله

وكذلك تسمية الجهمية لهم مشبهة مع كونهم يعتقدون ان الله ليس كمثله شيء في صفة من صفاته اصلا تشبيها لهم بالممثلة الذين يجعلون الله من جنس المخلوقات لما اعتقدوا ان الله موصوف بصفات الاثبات التي جاءت بها النبوات

واما في الذم فتسمية الكفار اصنامهم الاله وتسميتها اللات والعزى ومنات الثالثة الاخرى وما في ذلك لها من معنى الهيبة والعزة والتقدير

وكذلك تسمية اهل البدع لانفسهم بأسماء لا يستحقونها كما تسمى الخوارج انفسهم المؤمنين دون بقية اهل القبلة ويسمون دارهم دار الهجرة

وكذلك الرافضة تسمى اهلها المؤمنين واولياء الله دون بقية اهل القبلة

وكذلك الجهمية ونحوها يسمونه انفسهم الموحدين ويسمون نفي الصفات توحيد الله

وتسمي المعتزلة ذلك توحيدا وتسمي التكذيب بالقدر عدلا وتسمى القتال في الفتنة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر

وكذلك تسمية الصابئة لعلومهم او اعمالهم الحكمة او الحكمة الحقيقية او المعارف اليقينية مع ان فيها من الجهل والشبه والضلال مالا يحصيه الا ذو الجلال

وكذلك تسمية الاتحادية انفسهم اهل الله وخاصة الله والمحققين وهم من اعظم الناس عداوة لله وابعد الناس عن التحقيق

وما من اسم من هذه الاسماء الباطلة في الحمد والذم الا ولابد لاصحابه من شبهة يشتبه فيها الشيء بغيره بل قد يفعل المبطلون اعظم من ذلك كتسمية بعض الزنادقة المتفقرة المسجد اسطبل البطالين وهذا كثير في من يسمي الحق باسم الباطل والباطل باسم الحق وتلك كلها اسماء سموها هم وآباءهم ما انزل الله بها من سلطان وانما فعلوها لنوع من الشبه التي هي قياس فاسد كشبه الجهمية وقياسهم انه لو كان لله صفات لازمة لكان مفتقرا الى غيره فسموا لاجل ما هو به مستحق الحمد والثناء والمجد وهو الغني الصمد سموه لاجل ذلك مفتقرا الى الغير وهذا منهم باطل ما أنزل به من سلطان

الوجه السابع عشر قوله المفتقر في وجوده الى الغير يكون بحيث يلزم من عدم ذلك الغير عدمه وكل ما كان كذلك كان ممكنا لذاته وذلك في حق واجب الوجود لذاته محال

يقال اذا كان الشيء مفتقرا الى شيء آخر مستغن عنه وانه يكون بحيث يلزم من عدم ذلك الثاني عدم الاول او لا وجود للاول الا بالثاني وما كان كذلك فانه ممكن لذاته

لكن اذا كان الثاني غير مستغن عن الاول بل كان الثاني مفتقرا الى الاول بحيث يلزم من عدم الاول عدمه لم يمكن ان يجعل الاول ممكنا لافتقاره الى الثاني باولى من ان يجعل الثاني ممكنا لافتقاره الى الاول وحينئذ يجب دخولهما جميعا في وجوب الوجود اذا ثبت ان كلا منهما حاجته الى الآخر كحاجة الآخر اليه فكيف والموصوف هنا المستلزم للصفة

وذلك يظهر بالوجه الثامن عشر وهو انه قد عرف ان الغير هنا لا يعني الغير المنفصل عنه بل ما تغاير في العلم وان الافتقار المراد به اللازم فيكون المعنى ان الموصوف مستلزم الصفة ومعنى افتقاره اليها انه لا يكون له حقيقة اولا يكون على ما هو عليه الا بها وانه يلزم من عدمها عدمه لكن تلك الصفة ايضا يلزم من عدم الموصوف عدمها ولا حقيقة لها ولا وجود الا بالموصوف وكونها تستلزم الموصوف وهو افتقارها الى الموصوف ابلغ من كون الموصوف مستلزما لها واذا كان كذلك كان الموصوف واجبا للوجود ولم يكن يفتقر الى شيء منفصل عنه ولكن معنى حاجته استلزامه للصفة التي هي مستلزمة له وهذا حق وهو غير مناف لوجوب الوجود بل لا يكون وجود واجب ولا غير واجب الا كذلك

والوجه التاسع عشر انه لو فرض ان ذاته مستلزمهة لشيء منفصل عنه من حيز او غيره لكان بحيث يلزم من عدم ذلك اللازم لذاته المنفصل عنه عدم الملزوم الذي هو ذاته ثم لم يقل احد من الخلائق بأن رب العالمين مفتقر لاجل ذلك الى ما يكون عنه ولا على قول القائل بالتعليل والتوليد الذين منهم خرج التكلم بواجب الوجود فانهم يقولون انه علة تامة مستلزم لوجود معلوله الذي هو العالم الذي تولد عنه ومع هذا فهو واجب الوجود ليس بممكن الوجود ولا يفتقر الى غيره

الوجه العشرون قوله ان المسمى بالحيز والجهة امر مركب من الاجزاء والابعاض لانه يمكن تقديره بالذراع والشبر وما كان كذلك كان مفتقرا الى غيره ممكنا لذاته فالمفتقر اليه اولى ان يكون ممكنا

يقال له قد تقدم ان الحيز الوجودي الذي يقال ان ذات الله مستلزمة له ليس هو شيئا منفصلا عنه حتى يقال انه مركب من الاجزاء والابعاض ام ليس بمركب وهذا الوجه انما هو اقامة دليل على حيز وجودي منفصل عن الله تعالى مثل العرش والمنازعون له يقولون ان ذات الله ليست مستلزمة لوجود حيز وجودي منفصل عنه وانما قد يقول من يقول منهم انه يكون على العرش او يأتي في ظلل من الغمام او كان قبل ان يخلق العرش في عماء وهر السحاب الرقيق لكن لم يقولوا ان ذلك لازم له بل هو من الامور الجائزة عليه فلا يكون مفتقرا اليه

والوجه الحادي والعشرون انه اذا قال قائل انه لابد من حيز وجودي غير ذاته الغمام او غيره او الخلاء عند من يتخيل انه موجود فانه قد يقول لا نسلم انما ذكره من تقديره ومساحته يدل على امكانه فان هذا هو الادلة الدالة على امكان ذوات المقدار وقد تقدم بيان بطلانه وانه لم يقم على ذلك حجة لما ذكر ادلته على ان كل متحيز وكل جسم فهو ممكن

الوجه الثاني والعشرون انه اذا قدر ان ذلك ممكن لذاته فانه لا يكون الا مفتقرا الى الله لان كل ما سواه مفتقرا اليه وغيته ان تكون حقيقة الرب مستلزمة له ويكون افتقاره اليه كما يقال من افتقار الموصوف الى صفته واكثر ما يقال انه مفتقر اليه كافتقار العلة الى معلولها الذي هو مفتقر اليها يعني ان العلة لا تكون موجودة الا بوجود معلولها ومعلولها هو مفتقر اليها فجعل العلة الموجبة بنفسها مفتقرة الى معلولها حاصله ان وجوده لا يكون الا مع وجوده وهذا لا يوجب ان يكون واجب الوجود ممكنا

والوجه الثالث والعشرون قوله والمفتقر الى الممكن بذاته اولى ان يكون ممكنا لذاته فيقال اذا كان معنى الفقر ما يعود اليه حاصل كلامك وان معناه ان الواجب بنفسه مستلزم لوجود ما هو ممكن بذاته وهو الواجب لذلك الممكن وهو مع حاجته اليه هو الموجب فيكون حقيقة الامر ان الواجب بنفسه اوجب او اوجد ما يحتاج اليه وهذا لا يوجب ان يكون محتاجا الى ما هو مستغن عنه ولا أن يكون ممكنا بل لا يوجب الى ما هو غيره لان ذاته هي الموجبة لكل ما يحتاج اليه فلا حاجة به الى غيره بحال هذا مع تسميتنا هذه المعاني حاجة وافتقارا على ما زعمته ولكن لو كان محتاجا الى ممكن مستغن عنه بوجه من الوجوه كان فيه امكان اما اذا كان ذلك الامر محتاجا اليه من كل وجه غير مستغن عنه فالحاجة الى ما لا يقوم الا بنفسه كالحاجة الى نفسه وذلك لا ينافي وجوبه بنفسه بل حقيقة الواجب بنفسه ان لا يستغني عن نفسه ولا يكون الا بنفسه سمبت ذلك فقرا الى نفسه اولم تسمه وهذه الحجة لامور قد تقدم الكلام عليها فلهذا نختصر الكلام عليها ها هنا

الوجه الرابع والعشرون قوله في الثالث لو كان الباري ازلا وابدا مختصا بالحيز والجهة لكان الحيز والجهة موجودين في الازل فلزم اثبات قديم غير الله وذلك محال باجماع المسلمين

يقال له هؤلاء اذا قالوا بأنه مختص بحيز وجودي ازلا وابدا فليس ذلك عندهم شيئا خارجا عن مسمى الله كما ان الحيز الذي هو نهايات المتحيز وحدوده الداخلة فيه ليس خارجا عنه بل هو منه وعلى هذا التقدير فيكون اثباتهم لقدم هذا الحيز كاثبات سائر الصفاتية للصفات القديمة من علمه وقدرته وحياته لا فرق بين تحيزه وبين قيامه بنفسه وحياته وسائر صفاته اللازمة والحيز مثل الحياة والعلم بل ابلغ منه في لزومه للذات كما انه كذلك في سائر المتحيزات فالحيز الذي هو داخل في المتحيز الذي هو حدوده وجوانبه ونواحيه ونهاياته ابلغ في لزومه لذاته من بعض الصفات كالسمع والبصر والقدرة وغير ذلك

ثم ان هذه الحجة التي ذكرها من لوازم اثبات قديم غير الله تعالى مشهورة من حجج النفاة للصفات وقد ذكرها هو في نهايته فقال في حجتهم الرابع الصفات القديمة لابد وان تكون مساوية للذات القديمة في القدم وذلك بمقتضى الاشتراك في الحقيقة ولا يستحيل ان يكون للذات صفات قديمة لكن هذا الموضع لا يحتاج الى ذلك فانه احتج على نفي قديم غير الله باجماع المسلمين فيكون الجواب في

الوجه الخامس والعشرون وهو ان المسلمين لم يجمعوا على انه ليس لله صفة قديمة بل عامة اهل القبلة على اثبات ذلك ولكن اجمعوا على انه ليس فيما هو خارج من مسمى الله وهو الامور المخلوقة شيء قديم فاين هذا من هذا فهذا الاجماع انما يلزم لو قيل ان هناك حيزا وجوديا خارجا عن مسمى الله تعالى يختص به ازلا وابداء

الوجه السادس والعشرون ان احتجاجك في هذا الاجماع لا يصح فانك قد حكيت نزاع المسلمين في ان الباري هل هو متحيز ومختص بحيز وجهة وقررت ان الحيز امر وجودي فتكون قد حكيت نزاع المسلمين في ثبوت حيز قديم مع الله بل قد يقال حكيت اختلافهم في ثبوت حيز قديم وجودي غير الله واذاحكيت اختلافهم في ذلك لم يجز ان تحكي اجماعهم على نفي قديم غير الله تعالى

وتقرير هذا في الوجه السابع والعشرين ان يقال هذه الحجة في اولها مبنية على ان الحيز امر وجودي وبذلك ابطلت المنازع لك في ان الباري متحيز فلا يخلو اما ان يكون الحيز وجوديا ام لا فان كان الحيز وجوديا فقد ثبت تنازع الامة في ثبوت قديم غير الله معه لان النزاع في تحيزه معلوم مشهور وانت انما قصدت الرد علىالمخالف في ذلك وان لم يكن الحيز وجوديا بطلت الحجة من اصلها وعلى التقديرين لا يصح ان تحتج بالاجماع على نفي قديم غير الله تعالى مع حكايتك الخلاف في ان الله متحيز وبنائك الحجة على ان الحيز امر وجودي بل ان كان ما ذكرته من النزاع نقلا صحيحا وما ذكرته من الحجة صحيحة فقد ثبت ان في الامة من يقول بثبوت قديم غير الله وان لم يكن صحيحا بكل الاستدلال من اوله

الوجه الثامن والعشرون ان هذا اللفظ بعينه لا ينقل عن سلف الامة حتى يحتج بمضمون اللفظ ولكن لما علم من مذهب الامة ان الله خالق كل شيء وان العالم محدث ذكر هذا اللفظ نقلا لمذهبهم بالمعنى واذا كان كذلك لم يكن هذا متناولا لموارد النزاع بين الامة

الوجه التاسع والعشرون انه اورد من جهة المنازع انه لا يعنى بكونه مختصا بالحيز والجهة الا انه مباينا عن العالم منفردا عنه ممتازا عنه وكونه كذلك لا يقتضي وجودا آخر سوى ذات الله تعالى فبطل قولكم لو كان في الجهة لكان مفتقرا الى الغير وهذا كلام جيد قوي كما قد بيناه في ما مضى ان الحيز لا خلاف بين الناس انه قد يراد به ما ليس بخارج عن مسمى الذات وان هؤلاء المنازعين لا يقولون ان مع الباري موجودا هو داخل في مسمى نفسه او موجودا مستغنيا عنه فضلا عن ان يكون الرب مفتقرا اليه بل كلما سواه فانه محتاج اليه وقد قرر لهم ذلك بالعالم فقال:

والذي يدل على صحة ما ذكرنا ان العالم لا نزاع في انه مختص بالحيز والجهة وكونه مختصا بالحيز والجهة لا معنى له الا كون البعض منفردا عن البعض ممتازا عنه واذا عقلنا هذا المعنى ههنا فلم لا يجوز مثله في كون الباري مختصا بالحيز والجهة وهذا كلام سديد وهو قياس من باب الاولى

ومثل هذا القياس يتعمل في حق الله تعالى وكذل ورد به الكتاب والسنة واستعمله سلف الامة وائمتها كقوله تعالى ضرب لكم مثلا من انفسكم هل لكم مما ملكت ايمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونه كخيفتكم انفسكم الآية وقوله ام له البنات ولكن البنون وقوله اصطفى البنات على البنين وقوله واذا بشر احدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم بتوارى من القوم من سوء ما بشر به ايمسكه على هون ام يدسه في التراب الا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الاعلى

وهو العزيز الحكيم وقوله ويجعلون لله ما يكرهون وتصف السنتهم الكذب ان لهم الحسنى لا جرم ان لهم النار وانهم مفرطون

فان الله اخبر انهم اذا لم يرضوا لانفسهم ان يكون مملوك احدهم شريكه ولم يرضوا لانفسهم ان يكون لهم البنات فربهم احق واولى بأن ينزهوه عما لا يرضوه لانفسهم للعلم بأنه احق منهم بالتنزيه عما هو عيب ونقص عندهم وهذا كما يقوله المسلم للنصراني كيف تنزه البتريك عن ان يكون له ولد وانت تقول ان لله ولدا وكذلك هنا هو ينزه العالم المتحيز ان يكون مفتقرا الى شيء موجود ولا ينزه الرب المعبود اذا كان فوق العرش ان يكون مفتقرا الى شيء موجود والخالق احق بالغنى من المخلوق فتنزيهه عن الشريك والولد والحاجة كل ذلك واجب له فاذا نزه بعض الموجودات عن شيء من ذلك كان تنزيهه الباري عنه اولى واحرى

ولم يجب عن هذا القياس والمثل الذي ضربوه له بالعالم بجواب صحيح بل قال قوله الاجسام حاصلة في الاحياز فنقول غاية ما في هذا الباب ان يقال الاجسام تحتاج الى شيء آخر وهذاغير ممتنع واما كون الله تعالى محتاج في وجوده الى شيء آخر فممتنع فظهر الفرق

فيقال له انت وجميع الخلق تسلمون ان كون العالم في حيز وجهة لا يستلزم الافتقار الى حيز موجود مستغن عن العالم فهذا لم يقله عاقل فانه يستلزم التسلسل واذا كان قد علم بالعقل والاتفاق ان العالم يستغنى في تحيزه عن حيز موجود خارج عنه فخالق العالم اولى ان يكون مستغنيا عن ذلك ومن قال انه في تحيزه يكون مفتقرا الى شيء موجود خارج عنه فلم يكفه انه عدله بالمخلوقات بل فضل المخلوق بالاستغناء عليه تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا

واما قوله ايضا في الجواب فد بينا بالبراهين القاطعة ان الاحياز اشياء موجودة فلا يبقى في صحتها شك فيقال له قد تبين ان هذه من اضعف الشبه مع انك مبطل لها كما تقدم ثم ما ذكرته في نهايتك في ذلك منقوص عليك في العالم فما كان جوابك فيه كان جواب منازعك هنا لانك ضربت لله امثالا اوجبت فيها انه محتاج مع وصفك لمن هو دونه بالغنى عما جعلته محتاجا اليه

ويكفيك ضلالا انك لو اشركت بالله وجعلته مثل المخلوقات لنجوت من هذا الضلال الذي اوجبت فيه حاجة رب العالمين الى غيره اذا كان فوق العالم بل هذه الحال الذي سلكتها اسوأ من حال المشركين في هذا المقام حيث اغنيت المخلوق عما احوجت اليه الخالق الذي خلق السموات والارض في ستة ايام ثم استوى على العرش

ومثله في هذه المناظرة كما وقع بين اثنين واحد من المثبتة الذين يثبتهم الله بالقول الثابت وآخر من النفاة قال النافي للمثبت اذا قلتم ان الله فوق العالم وفوق العرش لزم ان يكون محتاجا الى العرش او يكون محمولا له محتاجا اليه كما اذا كان احدنا على السطح فقال له المثبت السماء فوق الارض وليست محتاجة اليها وكذلك العرش فوق السموات وليس محتاجا اليها فاذا كان كثير من الامور العالية فوق غيرها ليس محتاجا اليها فكيف يجب ان يكون خالق الخلق الغني الصمد محتاجا الى ما هو عال عليه وهو فوقه مع انه هو خالقه وربه ومليكه وذكل المخلوق بعض مخلوقاته مفتقر في كل اموره اليه فاذا كان المخلوق اذا علا على كل شيء غني عنه لم يجب ان يكون محتاجا اليه فكيف يجب على الرب اذا علا على كل شيء من مخلوقاته وذلك الشيء مفتقر اليه ان يكون الله محتاجا اليه

الوجه الثلاثون انه قال في الاعتراض لا معنى لكونه مختصا بالحيز والجهة الا كونه مباينا عن العالم منفردا عنه ممتازا عنه وكونه كذلك لا يقتضى وجود امر آخر سوى ذات الله تعالى فقال في الجواب اما قوله المراد من كونه مختصا بالحيز والجهة كونه تعالى منفردا عن العالم او ممتازا عنه او بائنا عنه قلنا هذه الالفاظ كلها مجملة فان الانفراد والامتياز والمباينة قد تذكر ويراد بها المخالفة في الحقيقة والماهية وذلك مما لا نزاع فيه ولكنه لا يقتضي الجهة والدليل على ذلك هو ان حقيقة ذات الله تعالى مخالفة لحقيقة الحيز واجهة وهذه المخالفة والمباينة ليست بالجهة فان امتياز ذات الله عن الجهة لا يكون بجهة اخرى والا لزم التسلسل

فيقال له هذا الذي ذكرته ليس دليلا على ان المخالفة في الحقيقة والماهية لا تقتضي الجهة فان قولك ان حقيقة ذات الله تعالى مخالفة لحقيقة الحيز والجهة وليس ذلك بالجهة انما يكون حجة لو ثبت ان الحيز والجهة امر وجودي فان الكلام هنا انما هو في الامتياز والمباينة التي من الامور الموجودة لا بين الموجود والمعدوم فان المعدوم ليس شيء في الخارج حتى يحتاج الى التمييز بينه وبين غيره وليس له حقيقة وماهية حتى يميز بينه وبين غيره ولو فرض انه محتاج الى التمييز بينه وبين غيره فالكلام هنا هو المباينة التي بين موجودين وهي المباينة بين الله وبين العالم

واذا كان كذلك كان احتجاجه بالمباينة التي بين الله وبين الجهة على المباينة بين الموجودين يكون بالحقيقة لا بالجهة انما يقع اذا كانت الجهة امرا وجوديا وهذا هو محل النزاع الذي نازعه فيه المنازع على ان الجهة المضافة الى الله تعالى ليست امرا موجودا فانه لا معنى لكون الباري في الجهة الا كونه مباينا للعالم ممتازا عنه منفردا وهو لا يقتضي وجود امر سوى ذات الله فاذا احتج على ان المباينة التي بين الله تعالى وبين العالم انما هي بالحقيقة ومباينة الشيء بالحقيقة لا يقتضي الجهة كمباينة الرب للجهة كان قد سلم ان الجهة امر وجودي في هذا الجواب وهذه مصادرة على المطلوب حيث جعل الشيء مقدمة في اثبات نفسه والمنازع يقول لا اسلم ان الجهة امر موجود حتى يقال ان الله تعالى مباين لشيء موجود بغير جهة فان النزاع ما وقع الا في وجودها وهذا اول المسألة فكيف يحتج في وجوده بدليل محتج فيه بوجوده وهذا ظاهر لا يخفى على من تدبره وظهر انه لم يذكر حجة على ان المخالفة بالحقيقة لا تقتضي الجهة

الوجه الحادي والثلاثون ان يقال المعلوم من المباينة والامتياز بالحقيقة والماهية لا يخلوا عن الجهة وذلك انه اما ان يكون بين جوهرين وجسمين وما يقوم بهما وكل منهما مباين للآخر بالجهة واما ان يكون عرضين بجوهر واحد وعين واحدة كطعمه ولونه وريحه وعلمه وقدرته او بين العينين وبين صفاتها واعراضها كالتميز بين الجسم وبين طعمه ولونه وريحه وهذان الموضعان لا تخلوا الامرين عن الجهة ايضا فان الجوهر هو في الحيز بنفسه بخلاف العرض الذي فيه فانه قائم في الحيز تبعا لغيره واما الصفتان والعرضان فهما ايضا قائمان بمتحيز وان كان احدهما لا يتميز عن الآخر بمحله فليس في الاشياء الموجودة التي يعلم تباينها وتمايزها ما يخلوا عن الجهة والحيز

فان قيل فاحد العرضين مباين الاخر بحقيقته مع اتفاق محلهما

فيقال الوجه الثاني والثلاثون وهو ان كل شيئين قائمين بأنفسهما لا يباين احدهما الآخر الا بالجهة وذلك ان الموجودات كلها الواجب والممكن اما قائم بنفسه واما القائم بغيره فالقائمان بأنفسهما لا يتميز بعضهما عن بعض الا بالجهة واما القائم بغيره فانه تبع في الوجود للقائم بنفسه

يوضح ذلك ان القائم بغيره هو محتاج الى محل ومكان

وايضا فقد يقال الاعراض نوعان احدهما مالا تشرتط له الحياة وهي قسمان

احدهما الاكوان وهي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق فهذه لا تتميز وتتباين الا بالجهة والحيز وان كان تبعا للمحل فلا يفرق بين الحركة والسكون ولا بين الاجتماع والافتراق الا بالحيز والجهة فان الحركة انتقال في حيز بعد حيز والسكون دوام في حيز واحد والاجتماع يكون بتلاقي الحيزين والافتراق يكون بتباينهما

والثاني الطعوم والالوان والروايح وهذه هي الصفات فهذه الامور لا تدرك بشيء واحد بل تتميز بحواس مختلفة فالذي يتميز به هذا غير الذي يتميز به هذا فحقائقها لا تظهر الا بادراكها وادراكها من اجناس في احياز متباينة فامتياز الاحياز التي لا دراكاها تقوم مقام امتياز احيازها

والقسم الثاني ما تشترط له الحياة كالعلم والقدرة والسمع والبصر فهذه ايضا متابينة قد يحصل بين محالها التباين فقد يحصل بين آثارها من تباين المحال ما يقوم مقام تباين محالها وقد يقال هذه الاعراض كلها مفروضة الاضافة الىالغير وذلك الغير الذي هي مضافة اليه متباين بجهته فهي متباينة بالاضافة الى ما تتباين جهته وظهر انه ليس في الموجودات ما يباين غيره بمجرد حقيقته المجردة عن الجهة من كل وجه بل لابد من شيء يظهر تحصل به