إلى الدَّيْر | النظرات الرحمة المؤلف: مصطفى لطفي المنفلوطي |
رسالة الغفران |
سأكون في هذه المرة شاعرًا بلا قافيةٍ ولا بحرٍ؛ لأني أريد أن أخاطب القلب وجهًا لوجهٍ، ولا سبيل إلى ذلك إلا سبيل الشعر.
إنَّ البذور تُلْقَى في الأرض فلا تنبت إلا إذا حرث الحارث تربتها وجعل عاليها سافلها، وكذلك القلب لا تبلغ منه العظة إلا إذا داخلته وتخللت أجزاءه وبلغت سويداءه، ولا محراث للقلب غير الشعر.
أيها الرجل السعيد كن رحيمًا، أشعِرْ قلبك الرحمة، ليكن قلبُك الرحمةَ بعينها.
ستقول: إني غير سعيد؛ لأن بين جنبي قلبًا يلم به من الهم ما يُلمُّ بغيره من القلوب، أجل فليكن ذلك كذلك، ولكن أطعم الجائع واكس العاري وعزِّ المحزونَ وفرِّج كربة المكروب يكن لك من هذا المجتمع البائس خير عزاءٍ يعزيك عن همومك وأحزانك، ولا تعجب أن يأتيك النور من سواد الحَلَكِ، فالبدر لا يطلع إلا إذا شق رداء الليل، والفجر لا يدرُج إلا من مهد الظلام، لقد بَليتِ اللذاتُ كلها ورثت حبالها وأصبحت أثقل على النفس من الحديث المعاد، ولم يبق ما يعزي الإنسان عنها إلا لذة واحدة، هي لذة الإحسان.
إنَّ منظر الشاكر منظرٌ جميلٌ جذاب، ونغمة ثنائه وحمده أوقع في السمع من رنات العود في هزجه ورمله، وأعزب من نغمات «معبد» في الثقيل الأول.
أحسن إلى الفقراء والبائسين، وأعدك وعدًا صادقًا أنك ستمر في بعض لياليك على بعض الأحياء الخاملة فتسمع من يحدث جاره من حيث لا يعلم بمكانك منه أنك أكرم مخلوقٍ وأشرف إنسان، ثم يعقب الثناء عليك بالدعاء لك أن يجزيك الله خيرًا بما فعلت، فيدعو صاحبه بدعائه، ويرجو برجائه، وهنالك تجد من سرور النفس وحبورها بهذا الذكر الجميل في هذه البيئة الخاملة ما يجده الصالحون إذا ذُكروا في الملأ الأعلى.
ليتك تبكي كلما وقع نظرك على محزونٍ أو مفئودٍ فتبتسم سرورًا ببكائك، واغتباطًا بدموعك؛ لأن الدموع التي تنحدر على خديك في مثل هذا الموقف إنما هي سطورٌ من نورٍ تُسجِّل لك في تلك الصحيفة البيضاء أنك إنسان.
إنَّ السماء تبكي بدموع الغمام، ويخفق قلبها بلمعان البرق، وتصرخ بهدير الرعد، وإنَّ الأرض تئن بحفيف الريح، وتضج بأمواج البحر، وما بكاء السماء ولا أنين الأرض إلا رحمة بالإنسان، ونحن أبناء الطبيعة فَلنُجارِها في بكائها وحنينها.
إنَّ اليد التي تصون الدموع أفضل من اليد التي تريق الدماء، والتي تشرح الصدور أشرف من التي تبقر البطون، فالمحسن أفضل من القائد، وأشرف من المجاهد، وكم بين من يحيي الميت ومن يميت الحي!
إنَّ الرحمة كلمة صغيرة، ولكن بين لفظها ومعناها من الفرق مثل ما بين الشمس في منظرها والشمس في حقيقتها.
إذا وجد الحكيم بين جوانح الإنسان ضالته من القلب الرحيم وجد المجتمع ضالته من السعادة والهناء.
لو تراحم الناس لما كان بينهم جائعٌ ولا عارٍ، ولا مغبونٌ ولا مهضومٌ، ولأقفرت الجفون من المدامع، واطمأنت الجنوب في المضاجع، ولَمَحَتِ الرحمة الشقاء من المجتمع كما يمحو لسان الصبح مداد الظلام.
لم يخلق الله الإنسان ليقتر عليه رزقه، ولم يقذف به في هذا المجتمع ليموت فيه جوعًا، بل أرادت حكمته أن يخلقه ويخلق له فوق بساط الأرض وتحت ظلال السماء ما يكفيه مئونته، ويسد حاجته، ولكن سلبه الرحمة، فبغى بعضه على بعض، وغدر القويُّ بالضعيف، واحتجن دونه رزقه، فتغير نظام القسمة العادلة وتشوَّه وجهها الجميل، ولو كان للرحمة سبيلٌ إلى القلوب لما كان للشقاء إليها سبيل.
الفرد هو المجتمع، وإنما يتعدد بتعدد الصور، أتدري متى يكون الإنسان إنسانًا؟ متى عرف هذه الحقيقة حق المعرفة وأشعرها نفسه؟ فخفق قلبه لخفقان القلوب وسكن لسكونها، فإذا انقطع ذلك السلك الكهربائي بينه وبينها انفرد عنها واستوحش من نفسه، وإذا كان الأنس مأخذ الإنسان المجتمع، فالوحشة مأخذ الوحش المنقطع.
وجماع القول أنه لا يمكن أن تجتمع رحمة الرحماء وشقوة الأشقياء في مكانٍ واحدٍ، إلا إذا أمكن أن يجتمع في بقعةٍ واحدة الملك الرحيم، والشيطان الرجيم!
إنَّ من الناس من تكون عنده المعونة الصالحة للبر والإحسان فلا يفعل، فإذا مَشَى مَشَى متدفعًا مُنْدَلِثًا لا يلوي على شيءٍ مما حوله من المناظر المؤثرة المحزنة، وإذا وقع نظره على بائس لا يكون نصيبه منه إلا الإغراب في الضحك سخريةً به وببذاذة ثوبه ودمامة خلقه. وإنَّ من الناس من إذا عاشر الناس عاشرهم ليعرف كيف يحتلب دِرَّتهم ويمتص دماءهم، ولا يعاملهم إلا كما يعامل شويهاته وبقراته، لا يقربها ولا يُطعمها ولا يسقيها إلَّا لما يترقَّبُ من الربحِ في الاتِّجار بألبانها وأصوافها، ولو استطاع أن يهدم بيتًا ليربح حجرًا لفعل! وإنَّ من الناس من لا حديث له إلا الدينار، وأين مستقره، وكيف الطريق إليه، وما السبيل إلى حبسه والوقوف في وجهه والحَيطة لفراره، يبيت ليله حزينًا كئيبًا؛ لأن خزانته ينقصها درهمٌ كان يتخيله في يقظته، أو يرى في منامه أنه سيأتيه فلم يقيَّض له، وإنَّ من الناس من يؤذي الناس لا يجلب بذلك لنفسه منفعة أو يدفع عنها مضرة؛ بل لأنه شريرٌ يدفعه طبعه إلى ما لا يعرف وجهه، أو ليضرِّي نفسه بالأذى؛ مخافة أن ينساه عند الحاجة إليه، حتى لو لم يبق في العالم شخص غيره لكانت نفسه مَذَبَّ عقاربه وغرض سهامه! وإنَّ من الناس من إذا كشف لك عن أنيابه رأيت الدم الأحمر يترقرق فيها، أو عن أظافره رأيت تحتها مخالب حادةً لا تسترها إلا الصورة البشرية، أو عن قلبه رأيت حجرًا صلدًا من أحجار الغرانيت لا يَبضُّ بقطرةٍ من الرحمة، ولا تخلص إليه نسمةٌ من العظة.
فيا أيها الإنسان احذر الحذر كله من أن تكون واحدًا من هؤلاء، فإنهم سباعٌ مفترسةٌ وذئابٌ ضارية، بل أعظك ألَّا تدنو من أحدهم، أو تعترض طريقه، فربما بدا له أن يأكلك فأكلك غير حافل بك ولا آسف عليك.
أيها الإنسان، ارحم الأرملة التي مات عنها زوجها ولم يترك لها غير صبيةٍ صغار، ودموعٍ غزار، ارحمها قبل أن ينال اليأس منها ويعبث الهم بقلبها فتفضل الموت على الحياة.
ارحم المرأة الساقطة، لا تزين لها خلالها ولا تشتر منها عِرضها، علَّها تعجز عن أن تجد مساومًا يساومها فيه فتعود به إلى كِسر بيتها.
ارحم الزوجة أمَّ ولدك، وقعيدة بيتك، ومرآة نفسك، وخادمة فراشك؛ لأنها ضعيفةٌ، ولأن الله قد وكل أمرها إليك، وما كان لك أن تكذِّب ثقته بك واعتماده عليك.
ارحم ولدك وأحسن القيام على جسمه ونفسه، فإنك إلَّا تفعل قتلته أو أشقيته فكنت أظلم الظالمين.
ارحم الجاهل، لا تتحين فرصة عجزه عن الانتصاف لنفسه فتجمع عليه بين الجهل والظلم، ولا تتخذ عقله متجرًا تربح فيه ليكون من الخاسرين.
وارحم الحيوان؛ لأنه يحس كما تحس، ويتألم كما تتألم، ويبكي بغير دموع، ويتوجع ولا يكاد يبين، ارحمه، وكذب من يقول: إنَّ الإنسان طُبِعَ على ضرائب لؤمٍ، أقلها أنه يقبِّل يد ضاربه، ويضرب من لا يمدُّ إليه يدًا.
ارحم الطيور، لا تحبسها في الأقفاص، ودعها في فضائها تهيمُ حيث تشاء، وتقع حيث يطيب لها التغريد والتنقير، إنَّ الله وهب لها فضاءً لا نهاية له، فلا تغتصبها حقها فتضعها في محبسٍ لا يسع مد جناحيها، أطلق سبيلها، وأطلق سمعك وبصرك وراءها لتسمع تغريدها فوق الأشجار وفي الغابات وعلى شواطئ الأنهار، وترى منظرها وهي طائرةٌ في جو السماء فَيُخَيَّلُ إليكَ أنها أجمل من منظر الفَلك الدائر والكوكب السَّيَّار.
أيها السعداء، أحسنوا إلى البائسين والفقراء، وامسحوا دموع الأشقياء، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.