أيها المحزون | النظرات إلى الدَّيْر المؤلف: مصطفى لطفي المنفلوطي |
الرحمة |
مسكينٌ ذلك الفتى الذي رأيته صباح أمس منزويًا في ركنٍ من أركان أحد الأندية، وقد ظلَّلتْ جبينَه الوضاحَ سحابةٌ سوداء من الحزن، وانحنى على نفسه كأنما شعر بأن قلبه يتمشَّى في صدره وأنه يحاول الفرار منه، فهو يعطف عليه ليمسكه بين جوانحه، ولو أنه أراد بنفسه خيرًا لتركه يمضي في سبيله حيث شاء، فبعدًا لقلبٍ لا يسكن عن الخفقان، ولا يفيق من الهموم والأحزان! سألته: «ما بالك أيها الصديق؟» قال: «لا شيء.» قلت: «أنت تكتمني ما في نفسك، ولو عرفتني ما كتمتني.» قال: «ما جهلتك مذ عرفتك، ولكني أعطيت الله عهدًا مذ خُلقت ألا أشكو إلا إلى من أرجو عنده البرء، وما أنا براجٍ عندك ولا عند أحدٍ من الناس برءًا من دائي.» قلت: «هبني طبيبًا، والطبيب وإن كان لا يَشفي إلا نادرًا فإنه يسكِّن غالبًا ويعزِّي دائمًا، فأنا إن عجزت عن معالجتك فلا أعجز عن تعزيتك، على أنَّ الماء إذا اشتدَّ غليانه احتاج إلى التنفيس عنه، وإلَّا طار بالقدر طيران الهم بالصدر.»
فأصغى إلى كلماتي واستخذى لها، وأنشأ يحدثني حديثًا تمازجه العبرات، وتقطعه الزفرات، ويقول: «زوجني أبي منذ سنين من زوجةٍ جاهلةٍ غبية لا تفهم من معنى الزواج إلا أن فيه قضاء لبانتها، وترفيه عيشها، وإرضاء نفسها، وهو يحسب أنه قد أحسن إليَّ بسليلة المجد وربيبة النعمة، ومالكة الدور، وساكنة القصور، أجل إنها ذات مالٍ وفيرٍ، وخير كثير، ولكن ذهب عليه — غفر الله له — أني ما كنت أريد أن أكون تاجرًا أكسب مالًا، بل زوجًا أجد بجانبي نَفْسًا يؤنسني محضرُها ويُوحِشُنِي مغيبها، ومرآةً صافية نقية أتراءى فيها فتُريني نفسي كما هي لا تكذبني في خيرٍ ولا شرٍّ. إني أريد أنْ أجد في الزوجة التي أتزوجها صديقًا في المرتبة العليا من مراتب الصداقة، من لي به في امرأة تجهل حتى إرضاع طفلها ولُبس ثوبها، على أنَّ ثروتها ما كانت تقوم بحاجتها، فقد كان لها خادمةٌ لملابسها، وأخرى لشعرها، وأخرى لسريرها، وطابخةٌ وغاسلةٌ، ومرضع وقهرمانة وخياطةٌ خاصةٌ بها، وطبيبٌ لا يَغِبُّ زيارتها ومؤنساتٌ لا يفارقن مجلسها، ولم تكن ممن أنعم الله عليهن بنعمة الجمال، فكانت تنفق ما يزيد على نصف دخلها في الحسن المجلوب، والجمال المكذوب. وليتها كانت تُغْفِلُ أمري وتتركني وشأني، فأستطيع أن أتناساها وأعدَّ نفسي من العُزَّاب تخيلًا وتقديرًا، بل كانت تقيم من نفسها ومن هذا الجحفل اللجب المحيط بها حرسًا كحراس الليل، وجواسيس كجواسيس الإنكليز يراقبن مواقع نظري ومواطئ قدمي، لتعلم أين مذهب قلبي ووجهة نفسي، فتغار عليَّ من الكوكب إذا رأتني أنظر إليه، وتكاد تمزق الثوب الذي أحبه وأتعشق لُبسه، وتحسبها آهة الوجد أو دمعة الحب إذا رأتني أتأوه من آلام عِشرتها أو أبكي لعِظَم مصيبتي فيها، وما هي بغيرة الحب ولكنها الأثرة قبَّحها الله وقبَّح كل ما تأتي به!
وأكثر ما كان يغيظني منها أنها ما كانت تفتح عليَّ بابَ الحساب على اللفتات والخطوات إلا في الساعة التي أريد أن أَخْلُوَ فيها بنفسي أو بكتابي، فما أكاد أنتفع بواحدٍ منهما، فإن سكتُّ أغضبها سكوتي، وإن نطقت أغضبها حديثي، وإن قرأت في كتابي ظنَّت أنَّ المؤلفين ما ألفوا الكتب إلا نكايةً بالنساء؛ لكي يتخذها الرجال معتصمًا يعتصمون به من محادثتهن ومسامرتهن، فكان الكتاب في نظرها أعدَى أعدائها وأبغض الأشياء إليها. وجملة القول: إنها ما كانت تستطيع أن تتصور إلا أنَّ الله خلقها لتكون طفلةً لاهيةً لاعبةً في جميع أطوار حياتها، وأنه ما خلقني إلا لأكون زينة مجلسها، ودُمْيَةَ قصرها، وأداة لهوها ولعبها، فلا أقرأ ولا أكتب ولا أعطي نفسًا حَقًّا من حقوقها، ولا أبكِّر لمزاولة أعمالي، ولا أسأم أحـاديثها الطويلة المملَّة التي لا تشتمل إلا على نقد الأزياء، واغتياب النساء، فإن وافيت رغبتها فذاك، وإلا استحالت في لحظةٍ واحدةٍ من إنسانٍ ناطقٍ إلى وحش مفترس، فلا تعرفُ كلمة مؤلمةً لا تُسْمِعُنيها، ولا تترك وسيلةً من وسائل التنغيص لا تهجم بها عليَّ، فكنت بين ألم رضاها وعذاب غضبها في شقاءٍ حبب إليَّ الموت وبغض إليَّ وجه الحياة، وبعد فقد رأيت أنَّ العيش معها مستحيل، فلم أرَ بدًّا من فراقها، ففارقتها وما على وجه الأرض شيء أبغض إليَّ من المجد، ولا أسمج في نظري من المال.» قلت: «ولكني لا أزال أراك حزينًا بعد ذلك.» قال: «نعم لأنني نفضت يدي من الزوجة الجاهلة، ورحت أفتش عن الزوجة المتعلمة، وقلتُ: «ليكونن لي من الشأن في الزواج الثاني ما لم يكن لي في الزواج الأول بعدما صار إليَّ الخيار، وبعد تلك التجربة وذاك الاختبار»، فهيأ لي الحظ جارًا ملاصقًا ما زلت أسمع مذ حلَّ في جواري أنَّ في بيته فتاةً جميلة ما زال يُعْنى بأمرها حتى خرَّجها وأدَّبها، فأصبحت نابغة مدرستها وسيدة أترابها عِلمًا وفضلًا وتهذيبًا وأدبًا، فما قنعت بالخبر حتى خالطت أباها ثم خالطتها، فإذا المرأةُ الجديدة من جميع وجوهها، فوقعت من نفسي أحسن موقعٍ، وحلَّت مكانًا لم يكن حُلَّ من قبل.
خطبت الفتاة إلى أبيها فما لبث أن أخطبني فامتلأ قلبي فرحًا وسرورًا، وخُيِّل إليَّ أنني أرى في سماء الآمال نجمًا لامعًا يدنو مني قليلًا قليلًا، وسجَّلت أنَّ الدهر أنشأ يكفِّر بحسناته ما أسلف من سيئاته. فإني لكذلك — وقد أعددت للبناء بها عُدَّتَه ولم يبق بيني وبينه إلا يوم واحد — وإذا برسول البريد قد جاءني بهذا الكتاب، فهاكه فاقرَأْه، فإن فيه بقية قصتي وسر نكبتي.» ثم ألقى إليَّ بغلافٍ معنونٍ باسمه، فوجدت فيه بطاقةً تشتمل على رسم فتًى حسن الصورة والهندام يخاصر فتاةً جميلة، وقد ألقت برأسها على كتفه، ووجدت مع البطاقة كتابًا، فقرأت فيه ما يأتي:
فما نظرت الصورةَ وقرأت الكتاب حتى عرفت كل شيءٍ، فأحسست بِرعدةٍ تتمشَّى في أعضائي، وشعرت بسحابةٍ سوداء قد غشَّت على نظري لهول ما سمعت، وسوء ما رأيت، إلا أنني تماسكت قليلًا، فأعدت إليه كتابه، وقلت له، وهو كل ما استطعت أن أقول: «ماذا يعنيك من أمر فتاةٍ فاجرةٍ عـاهرة بعدما انكشف لك سرها، وظهرت لك حقيقتها؟ ولو كنت في مكانك لعدلت عن الحزن على فوتها إلى الاستغفار من حبها، وحَمْدِ الله تعالى على ما ألهم من صواب الرأي فيها. أمَّا إن سألتني عن رأيي في زواجك بعد الآن، فإني لا أرى لك إلَّا أن تترهب وتتعزَّب، وأن تقول ما قاله «هملت» وقد زهد في الزواج بعدما عرف حقيقة المرأة وأدرك خـبيئة نفسها: «إلى الدير! إلى الدير».