الرئيسيةبحث

النظرات/رسالة الغفران



رسالة الغفران


غفوتُ إغفاءةً طويلة لا علم لي بمداها ولا بما وقع لي فيها، ثم صحوت، فرأيت نفسي في صحراء مد البصر، مكتظةٍ بأنواعٍ من الخلق لا أحصيهم عددًا، فعلمت أني بعثتُ، وأنه يوم القيامة، فساورَني من الهمِّ ما ساورني حين ذكرت أنَّ مقداره ألف سنةٍ من سِنِي الدنيا، وقلت: «من لي بالصبر على موقف يهلك فيه صاحبه ظمأً وجوعًا، ويحترق تحت أشعة شمس ليس بينه وبينها إلا قيد ظفر؟» فتماسكت بضعة أشهرٍ ثم لم أجد بعد ذلك إلى الصبر سبيلًا، فزيَّنت لي نفسي الكاذبة أن أذهب إلى رضوانَ خازن الجنة، وكنت أحمل شهادة التوبة في يدي لأسترحمه وألتمس منه الإذن بالدخول قبل انفضاض المحشر، فما زلت أرقيه بقصائد المدح المسوَّمة باسمه كما كنت أرقي بأمثالها أمثاله من عظماء العاجلة وسادتها، فما أبه لي ولا فهم كلمة مما أقول. فانصرفت عنه إلى خازنٍ آخر اسمه: زُفَرُ، فكان شأني معه شأني مع صاحبه، إلا أنه كان أرق منه قلبًا وألين جانبًا، فأشار عليَّ بالذهاب إلى النبيِّ الذي أتبعه، وأفهمني أنَّ الأمر موكولٌ إليه، فعدت وبين جنبيَّ من الحسرة والوجد ما الله عالم به، فبينا أنا أتخلل الصفوف وأزاحم الوقوف.

إذ وقع بصري على حلْقة من الناس تحيط بشيخٍ هَرَمٍ، أنعمت النظر فيه فإذا هو الشيخ أبو عليٍّ الفارسيُّ النحويُّ، وإذا بالمحتفلين به جماعةٌ من شعراء العرب، كلهم يخاصمه، وكلهم ينقِم عليه، هذا يقول له: «رويت بيتي على غير وجهه.» وذاك يقول: «أعربته على غير ما أردتُ وذهبتُ.» فدفعني الفضول كما دفعهم إلى النزول في مَيدانهم، فما فرغنا من الرفع والنصب والزيادة والحذف حتى أدركتُ شؤم ما فعلتُ، وعلمت أنَّ شهادة التوبة قد سقطت مني في ذلك المعترك، فقلت: «قبَّحَ الله الشِّعْرَ والإعراب، واللغة والأدب، إنهما شؤم الآخرة والأولى!»

وقفت أَحْيَرَ من ضبٍّ في حَمارَّةِ قَيْظٍ لا أدري ما آخذ وما أدع، حتى رميت بطرفي فإذا بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب في لفيفٍ من العترة الطاهرة النبوية، فدلفت إليه وأبثثته أمري وأمر الشهادة المفقودة، فقال: «لا عليك، ألك شاهدٌ بالتوبة؟» فقلت: «نعم.» فنودي بشهودي فشهدوا بتوبتي، فقال: «تريث قليلًا حتى تمُرَّ فاطمة بنت محمد فنسألها في أمرك، فهي تمتُّ إلى أبيها بما لا نمتُّ به.» وكانت ممن قسم لهم دخول الجنة قبل فصل القضاء، إلا أنها كانت تخرج كلَّ حين للتسليم على أبيها ثم تعود إلى مستقرها. فإنا لكذلك وإذا بمنادٍ ينادي أنْ غضوا أبصاركم يا أهل الموقف حتى تعبر فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم فهُرِعتُ إليها، فرأيتها راكبةً مع إخوتها وجواريها على أفراسٍ من نور، وتقدم من وعدني بسؤالها في أمري فأنجز وعده، فقالت لأخيها إبراهيم: «دونك الرجلَ!» فقال: «تعلق بركابي.» فتعلقت، فطارت الأفراس في الهواء تقطع الأجيال، وتتخطى رءوس القرون حتى وافينا النبي صلى الله عليه وسلم واقفًا لشهادة القضاء، فقصَّت عليه فاطمة ما علمتْ من أمري، فراجع الديوان الأعظم فوجد اسمي في التائبين، فشفع لي، فعدتُ في ركب فاطمةَ فرِحًا مستبشرًا، وما كنت أُقدِّر أنَّ بين يديَّ عقبةَ الصراط، فلما وافيته وجدتني لا أستمسك عليه لرقته، فأمرت فاطمة جاريةً من جواريها أن تعبر معي، فأمسكت بيدي، فمشيت أترنح ذات اليمين وذات الشمال، وخفت السقوط، فقلت لها: «احمليني زقفونة.» فقالت: «وما زقفونة؟» فقلت: «أما سمعت قول الجحجلول من أهل كفر طاب:

صلَحتْ حالتي إلى الخلف حتَّى صرتُ أمشي إلى الورَى زقْفُونة؟

فقالت: «ما سمعت بزقفونة، ولا الجحجلول، ولا كفر طاب.» فقلت: «أُلقي يديَّ فوق كتفيك وأجعلُ بطني إلى ظهرك.» فحملتني وجازت بي الصراط كالبرق الخاطف حتى صرتُ إلى باب الجنة، فَرُمتُ الدخولَ، فوقف رضوانُ في وجهي، وقال: «أين جوازك؟» فَبعلْتُ بالأمر، ثم رأيت في دهليز الجنة شجرة صفصافٍ، فعالجته على أن يعطيني منها ورقةً أعود بها إلى الموقف لأستكتب عليها الجواز فأبى، فقلت وقد ملك الهم عليَّ رشدي وصوابي: «أما والله لو أنك حارسٌ على أبواب الكرماء، أو خازنٌ لخزائن الملوك والأمراء، لما وصل شاعرٌ إلى درهم، ولا سائلٌ إلى سُحْتُوت ولهلك الفقراء هَمًّا وحزنًا!» فسمع إبراهيم عليه السلام حواري، فجذبني جذبة حصَّلني بها في الجنة وصاحبي ينظر إليَّ شزرًا، فدخلت فرأيت ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

رأيت أنهارًا من الماء العذب أصفى من أديم السماء، وأصقل من مرآة الحسناء، تنصبُّ فيها جداول من الكوثر، إذا جرع الشارب منها جرعةً جَرَع ماء الحياة، وأَمِنَ أن يذوق كأس المنون مرة أخرى. ورأيت جداول تفيض بالراح فيضًا، قد زُينت حوافيها بأباريق من العسجد، وكئوسٍ من الزبرجد، فما نهلت منها نهلةً حتى قلت: «لو كُشِفَ لأهل العاجلة عمَّا في هذه الخمرة من اللذة التي لا يشوبها كدرٌ، والنشوة التي لا يعقبها خمار ما باعوا قطرةً منها بكل ما تشتمل عليه بابل وقُطربُّلُ من البواطي والدنان، ولو نظر الأُقَيشرُ الأسديُّ بعين الغيب إلى عسجد هذه الأباريق وزبرجد تلك الكئوس لخجل من نفسه أن يقول:

أفنى تِلادي وما جمَّعتُ من نَشَبٍ قرعُ القوازيز أفواهَ الأباريق

وفي تلك الأنهار آنيةٌ ترفرف فوق سطحها على صور الطيور، كالكراكي، والطواويس، والبط، والعندليب، ينحدر من مناقيرها شرابٌ أرقُّ من السَّراب، وتسبح فيها أسماك من الذهب والياقوت.

يَعمن فيها بأوساطٍ مجنَّحةٍ كالطير تنشر في جوٍّ خوافيها

ورأيت أنهارًا من لبنٍ وأنهارًا من عسلٍ لا يدرك الوهم كُنْهَه إلَّا إذا أدرك ما يمتص نحل الجنة من زهورها وأنوارها.

رأيت جميع تلك الأنهار مكبَّرةً، ثم تمثَّلت في نظري مصغَّرةً، فإذا هي سطورٌ من النور، وأحرف بيضاء في صحيفة خضراء، قرأتها فرأيتها: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ.

ظللت أمشي فما أكاد أخطو خطوة حتى أرى منظرًا عجيبًا يُنسي السابق، ويشوق إلى اللاحق، فوددت لو طُويت لي الأرضُ طيًّا، فأتعجَّل النظر إلى ما غاب عني من الجنة وبدائعها، فما أخذ هذا الخاطر مكانه من نفسي حتى رأيت بين يدي فرسًا من الجوهر المتخيَّر مسرَّجًا ملجَّمًا، فعلمت أني قد سعِدت وأنها الأمنية التي كنت أتمناها، فعلَوت ظهرَه وغمزته غمزةً خرج بها خروج الوَدْق من السحاب، والسيف من القِراب، وعلى ما جَهَدتُه لم يشْكُ إليَّ ما شكاه جواد عنترة إليه في قوله:

فازورَّ من وقع القنا بِلَبانه وشكا إليَّ بعبرةٍ وتَحَمْحُمِ

أو ما شكاه جواد عمر بن أبي ربيعة إليه في قوله:

تشكَّى الكُمَيتُ الجريَ لما جهدته وبيَّن لو يَسطيعُ أن يتكلَّما

ذكرت أني وأنا في الدار الفانية كنت أسمع بذكر الذاهبين الأولين من الأدباء والشعراء والرواة، فآسف على أن لم أكن في زمنهم أراهم وأحضر مجالسهم، فقلت: «ليت شعري ما فعل الله بهم في هذه الدار؟! وهل سعدوا أو شقوا؟ وهل يُقَيَّضُ لي من رؤيتهم في دار البقاء ما لم يُقَيَّضْ في دار الفناء؟»

ثم رميت بطرفي فإذا فارسٌ يُحضِر فرسه في الهواء إِحضارًا حتى تقاربنا، فتماسَّت الرُّكبُ واختلفت الأعناق، فقال: «انتسب.» فقلت: «فلان، ومن أنت يرحمك الله وقد فعل؟» فقال: «عديُّ بن زيدٍ العبادي.» فدهشت وقلت: «عدي بن زيد في الجنة بعد الزيغ والضلال؟!» فقال: «أنا عيسويٌّ، وأنت محمديٌّ، وليس لصاحبك على أحد حجةٌ إلا بعد ظهوره وبلوغ دعوته.» فقلت: «لا نكران، ولكن كيف لم يقعد بك فسقُك وشرابك؟ وأين استهتارك في قولك:

بَكَّر العاذلون في وضح الصبـ ـح يقولون لي: أما تستفيقْ؟
ودعَوا بالصَّبوح فجرًا فجاءت قينةٌ في يمينها إبريق؟»

قال: «غفر الله لنا ما غفر لكم.» قلت: «هل لك علمٌ بجماعة الشعراء والرواة، فقد تمنيت على الله أن أراهم فكنتَ عنوان الكتاب وفاتحة الإجابة؟»

فقال: «اصحبني.» فطارت بنا الخيل، فقلت له: «هل آمن ألا يقذف بي هذا السابح على صخرةٍ من الزمرد أو هضبةٍ من الياقوت فيكسر لي عَضُدًا أو ساقًا أو جمجمةً؟» فتبسم وقال: «أين يذهب بك؟ نحن في دار الخلود والبقاء!»

مررنا بروضةٍ من رياض الجنة يخترقها غديرٌ خمريٌّ على شاطئه جمعٌ كثير، على سررٍ متقابلين، أو على الأرائك متكئين، فهوَى صاحبي بفرسه، فهويت هُويَّهُ، وقلنا: سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ فرحبوا بنا وهشوا للقائنا وانتسبنا فتعارفنا، ثم أخذوا فيما كانوا فيه، فإذا الأصمعيُّ ينشد مرويَّاتِه، وأبو عبيدة يسرُد وقائع الحروب ومَقاتِلَ الفرسان، وإذا سيبويهِ والكسائيُّ متصافيان بعد أن وقع بينهما في مجلس البرامكة ما وقع، وأحمد بن يحيى لا يضمر لمحمد بن زيد من الموجدة ما كان يضمر، وأخذت تهبُّ من ناحية النهر نفحةٌ عطرية ذكَّرتني بقول الأعشى ميمون:

«مثل ريح المسك ذاكٍ ريحها» وعلى ذكر الأعشى ذكرت مصرعه وشقاءه، وقلت في نفسي: لولا أنَّ قريشًا صدَّته عن الإسلام لكان اليوم بيننا في مجلسنا هذا، فسمعت هاتفًا من ورائي يقول: «أنا بينكم وفي مجلسكم.» فالتفت فإذا الأعشى ميمون، فلم أَدْرِ من أي مدخليه أعجب؟ أمن مَدخله إلى الجنة، أم من مَدخله إلى نفسي وعلمه بما هجس في صدري؟! فعلمت أنَّ أهل الجنة ملهمون. ثم سألته: «كيف غُفِرَ لك؟» فقال: «سحبتني الزبانية إلى سقر، فرأيت في عرصات القيامة رجلًا يتلألأ وجهه تلألؤَ القمر، والناس يهتفون به من كل جانب: «الشفاعةَ يا محمد!» فأخذت إخذَهم وهتفت هُتافهم، فأمر أن أدنو منه، فدنوت، فسألني: «ما حُرمتُكَ؟» فقلت: أنا القائل:

ألا أيُّهذا السائلي أين يمَّمت فإنَّ لها في أهل يثرب موعدا
فآليت لا أرثي لها من كلالةٍ ولا من وجًى حتى تُلاقي محمدا
متى ما تُناخي عند باب ابن هاشمٍ تُراحى وتلقى من فواضله ندا
نبيٌّ يرى ما لا ترون وذكره أغار لعمري في البلاد وأنجدا

فقال: «ما سمعتها منك قبل اليوم.» قلت: خدعني عنك الناس بعدما شددت راحلتي إليك، وكنت رجلًا أحب الشراب وَخِفتُكَ عليه أن تفرق بيني وبينه.» فشفع لي، فدخلت الجنة على ألا أذوق فيها الخمر، فقنعت بالرُّضاب عن الشراب، وبماء الثغر المنضود عن ماء العنقود.» ورأيت بجانبه شابًّا رَيِّقَ الشباب، فسألت عنه، فقيل لي: زهير بن أبي سلمى، فما كدتُ أصدق أنه القائل:

سئمتُ تكاليف الحياة ومَن يعشْ ثمانين حولًا لا أبا لك يسأمِ

فقلت له: «بم غفر الله لك؟» فقال: «كنت في جاهليتي أترقَّب مبعث محمد وأتمنى البقاء حتى أراه، فحال بيني وبينه الموت، فأوصيت به ابنيَّ كَعبًا وبُجَيرًا، وكنت أومن بالحساب فما نفعني شيءٌ ما نفعني قولي:

فلا تكتُمنَّ اللهَ ما في نفوسكم ليخفى ومهما يُكتَم اللهُ يعلمِ
يُؤخَّر فيوضع في كتابٍ ويُدَّخر ليوم الحساب أو يقدَّم فَيُنْقَمِ

وإلى جانب زهيرٍ عبيدُ بن الأبرص، فسألته عن مصير أمره، فقال: «كتب لي النار، فما زال الناس يهتفون بقولي:

من يسأل الناس يحرموه وسائل الله لا يخيب

والعذاب يُخفَّف عني شيئًا فشيئًا، حتى خرجت ببركة هذا البيت من الجحيم إلى النعيم.

ذهبنا في الحديث كلَّ مذهب، وذهب بعضنا إلى ارتشاف الخمر من النهر، في آنية الدُّرِّ، فانتشينا جميعًا، فما أفقنا إلَّا على حفيف رفٍ من إوزِّ الجنة نزل بنا، ثم انتفضَ عن كواعب أتراب يغنين بالمزاهر والآلات الثقيلَ والخفيفَ والهزَجَ، فما أتين على الألحان الثمانية حتى دارت بنا الأرض الفضاء، وحتى مَلَكنا من الطرب ما يستخفُّ الحُلُوم، ويطير بالهموم، وقلنا: «لو علم جَبلَة بنُ الأَيْهَم بما نحن فيه لقرَعَ السنَّ على أن باع دينه بسرورٍ محدود، وأنسٍ معدود، ودفٍّ وَعُود.

ذكرت جبلة، فذكرت لذكره النار وقوله تعالى: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ فتمنيت أن أطَّلع فأرى المعذَّبين، كما رأيت المنعَّمِين، فألهمت الإذن، فأشرت لصاحبي فقام وقمت، وركبنا فرسينا فطارا بنا حتى انتهينا إلى سور الجنة، فرأينا عنده من الداخل كوخًا يسكنه شيخٌ زريُّ الهيئة، فأشرفنا عليه فقال: «لا تعجبوا لشأني، أنا الحُطَيْئَةُ، ووالله لولا أني صدقت مرةً واحدة في حياتي في قولي:

أرى لي وجهًا شوَّه اللهُ خلقَه فقُبِّحَ من وجهٍ وقبِّح حاملُه

لما دخلت الجنة ولما أدركت كوخًا ولا جحرًا. فتركناه واطَّلعنا فما رآنا أهل النار حتى ضجُّوا بصوتٍ واحدٍ أن أفيضوا علينا من الماء أو ممَّا رزقكم الله، فرأينا ملوكًا وأكاسرة يتضاغَون في السلاسل والأغلال ويقولون: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، فيهتف بهم هاتف: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ۖ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ.

ورأيت بجانبي امرأةً تبينتُها فإذا هي الخنساء تطَّلع مثلنا فترى رجلًا كالجبل الأشم على رأسه شعلة من النار، فتمتعض وتقول: «يا صخر هذا تأويل قولي فيك من قبل:

وإنَّ صخرًا لتأتمُّ الهداةُ به كأنه عَلمٌ في رأسه نارُ» ورأيت هناك كثيرًا من أمثال: امرئ القيس، وعنترة، وعمرو بن كلثوم، وطرفة بن العبد، ورأيت بشَّار بن بُرْدٍ تُفتَح عيناه بكلاليب من نار، وكلما اشتدَّ به الألم رَفَسَ إبليسَ برِجلِه، وقال له: «ما كنت لأدخل النار لولا قولي فيك:

إبليسُ أفضل من أبيكم آدم فتبيَّنوا يا معشر الأشرار
النار عُنصُره وآدمُ طينةٌ والطين لا يسمو سمُوَّ النار

وجزعنا من المنظر فهممنا بالرجوع، وإذا إبليس يهتف بنا: «يا أهل الجنة بلِّغوا عني أباكم آدم أني لم أدخل النار بسببه حتى أخذت معي أكثر ولده وأفلاذ كبده، فلا يهنأ كثيرًا بمصيري.» فقلنا: «قبحه الله! لا يزال ينفَس على آدم نعمته حتى اليوم.» فما كان لنا همٌّ بعد رجوعنا إلَّا لقاء أبينا عليه السلام، فلقيناه فبلغناه الرسالة، فقال: «وا رحمتاه له! ما كان بينه وبين الإيمان إلَّا القليل فأرداه الحسد فكان من المهلكين.» فقبَّلنا يده وانصرفنا إلى ما أعدَّ الله لنا من مُلكٍ كبير، وجنةٍ وحرير، وحُورٍ وولدان، كأنهن الياقوت والمرجان، فحمدنا الله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أنْ هدانا الله.