الرئيسيةبحث

الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الزكاة/باب مصارف الزكاة


باب مصارف الزكاة


وهي ثمانية كما في الآية الكريمة إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم فإنها تضمنت الثمانية الأنواع الذي هم مصارف الزكاة . وقد أخرج أبو داود عن زياد بن الحرث الصدائي قال : أتيت رسول الله (ﷺ) فبايعته فأتى رجل فقال : أعطني من الصدقة فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الله لم يرض بحكم ني ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو ، فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي وفيه مقال . قال في المسوى : الفقير هو عند الشافعي من لا مال له ولا حرفة يقع منه موقعاً . وعند أبي حنيفة من له أدنى شئ وهو ما دون النصاب أو قدر نصاب غير تام وهو مستغرق في الحاجة . والمسكين هو عند الشافي من له مال أو حرفة يقع منه موقعاً ولا يغنيه ، وعند أبي حنيفة من لاشئ له فيحتاج إلى المسألة لقوته أو يواري بدنه ، والعامل له مثل عمله سواء كان فقيراً أو غنياً وعليه أهل العلم . والمؤلفة قلوبهم قسمان : من أسلم ونيته ضعيفة ، أوله شرف يتوقع بإعطائه إسلام غيره ، فيعطون من الزكاة على الأصح من مذهب الشافعي . وقال أبو حنيفة : سقط سهمهم لغلبة الإسلام . والرقاب هم المكاتبون عند الشافعية والحنفية . والغارم هو عند أبي حنيفة من لزمه دين ولا يملك نصاباً فاصلاً عن دينه ، أو كان له مال على الناس لا يمكنه أخذه وعند الشافعي قسمان : من استدان لنفسه في غير معصية ، والأظهر إشتراط الخاجة ، أو استدان لإصلاح البين ويعطى مع الغني . وسبيل الله غزاة لا فيء لهم ، ويشترط فقرهم عند أبي حنيفة . وعند الشافعي يعطون مع الغني . وابن السبيل هو الغريب المنقطع عن ماله عند الحنفية ، أو منشيء سفر ، أو مجتاز له حاجة عند الشافعية ، وشرط هؤلاء الأصناف الإسلام عند أهل العلم ، وعند الشافعي يجب إستيعاب الأصناف الثمانية إن كان هناك عامل وإلا فاستيعاب السبعة ، وتجب التسوية بين الأصناف لا بين آحاد الصنف . وعند أبي حنيفة لو صرف الكل إلى صنف واحد أو شخص واحد يجوز . قال مالك : الأمر عندنا في قسم الصدقات أن ذلك لا يكون إلا على وجه الإجتهاد من الوالي ، فأي الأصناف كانت الحاجة فيه والعدد أوثر ذلك الصنف بقدر مايرى الوالي ، وعسى أن ينتقل ذلك إلى الصنف الآخر بعد عام أو عامين أو أعوام ، فيؤثر أهل الحاجة والعدد حيثما كان ذلك ، وعلى هذا أدركت من أرضي من أهل العلم انتهى . قال الماتن : وقد أطال أئمة التفسير والحديث والفقه الكلام على الأصناف الثمانية ، وما يعتبر في كل صنف ، والحق أن المعتبر صدق الوصف شرعاً أو لغة ، فمن صدق عليه أنه فقير كان مصرفاً وكذلك سائر الأوصاف ، وإذا لم يكن للوصف حقيقة شرعية وجب الرجوع إلى مدلوله اللغوي وتفسيره به ، فما وقع من الشروط والإعتبارات المذكورة لأهل العلم إن كانت داخلة في مدلول الوصف لغة أو شرعاً أو لدليل يدل على ذلك كانت معتبرة ، وإلا فلا إعتبار لشئ منها انتهى .

أقول : الواجب الجزم بأن الفقير من ليس بغني ، والغني قد ثبت في الشريعة المطهرة تعريفه ، كما أخرجه أهل السنن من حديث ابن مسعود مرفوعاً أنه قيل يارسول الله وما الغني ؟ قال : خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب فمن لم يملك هذا المقدار فهو فقير ، لأنه إذا ارتفع عنه إسم الغني ثبت له الفقر ، إذا النقيضان لا يرتفعان كما لا يجتمعان ، ولا بد من كونه يملك معها ما لا بد منه من ملبوس وفراش ومسكن . حاصله ما تدعو الضرورة إليه ، لأن من المعلوم أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم يرد بذلك المقدار قيمة ما يلبسه ويسكنه ، ويلحق بذلك ما لا يتم له القيام بالأمور الدينية أو الدنيوية بدونه ، كآلة الجهاد للمجاهد ، وكتب العلم للعالم ، وآلة الصناعة للصانع ، فمن ملك مما هو خارج عن هذه الأمور ما يساوي خمسين درهماً ، كان كمن ملك الخمسين أو قيمتها من الذهب فيكون غنياً ، ومن لم يملك ذلك المقدار فهو فقير تحل هل الزكاة والمصير إلى ما قررناه متحتم . والحق أن الفقير والمسكين متحدان يصح إطلاق كل واحد من الإسمين على من لم يجد فوق ما تدعو الضرورة إليه خمسين درهماً ، وليس في قوله تعالى كانت لمساكين ما ينافي هذا ، لأن ملكهم لما لا يخرجهم عن صدق إسم الفقر والمسكنة عليهم ، لما عرفت من أن آلات ما تقوم به المعيشة مستثناة ، والسفينة للملاح كدابة السفر لمن يعيش بالمكاراة والضرب في الأرض ، وليس في الآية الكريمة ما يدل على أن صدقة كل إنسان تصرف في كل صنف من الأصناف الثمانية بحيث يحصل لكل صنف مقدار معين وهذا أوضح . ثم أقول : كتاب الله وسنة رسوله مصرحان بأن الفقير يعطى من الزكاة ، وليس فيهما التقييد بمقدار معين ، وليس المعتبر إلا إتصاف المصرف وهو الفقير والمسكين ، ومن كان الفقر شرطاً للصرف فيه بصفة الفقر أو المسكنة ، فمن صرف إليه في تلك الحال فقد صرف إلى مصرف شرعي ، وإن أعطاه مالاً جماً وأنضباء متعددة فهو إنما اتصف بصفة الغني بعد الصرف إليه ، وذلك غير ضائر للصارف ولا مانع من الأجزاء ، ومن زعم أنه لا يجوز إلا دون النصاب فعليه الدليل الصالح لتقييد ما كان مطلقاً من الأدلة وتخصيص ما كان عاماً ، وليس هناك إلا مجرد تخيلات فاسدة لم تبن على أساس صحيح ، وأما الغارم فظاهر إطلاق الآية يشمل من عليه دين سواء كان غنياً أو فقيراً ، مؤمناً أو فاسقاً في طاعة أو معصية ، أما عدم الفرق بين الغني والفقير فليس فيه إشكال لدخولهما تحت الآية ، ولاستثناء الغارم من حديث لا تحل الصدقة لغني وما سلكه صاحب المنار من التخصيص والتعميم فوهم منشؤه تجريد النظر إلى لفظ غني من غير نظر إلى تمام الحديث المشتمل على إستثناء خمسة أحدهم الغارم ، وأما عدم الفرق بين المؤمن والفاسق فلإطلاق الآية ، لا سيما إذا كان ما استدانه الفاسق في غير سرف ولا معصية فلا معنى لاشتراط الإيمان ، وأما عدم الفرق بين الدين في طاعة أو معصية فلتناول الإطلاق له ، وإذا ورد ما يقتضي التقييد بما لزم في طاعة فله حكمه ، نعم إذا كانت الإعانة له تستلزم إغراءه على المعاصي ووقوعه فيما يحرم عليه فلا ريب أنه ممنوع لأدلة أخرى ، وأما إذا لزمه الدين في السرف والمعصية ثم تاب وأقلع وطلب أن يعان من الزكاة على القضاء فالظاهر عدم المنع . وأما سبيل الله فالمراد هنا الطريق إليه عز وجل ، والجهاد وإن كان أعظم الطرق إلى الله عز وجل ، لكن لا دليل على إختصاص هذا السهم به ، بل يصح صرف ذلك في كل ما كان طريقاً إلى الله عز وجل هذا معنى الآية لغة . والواجب الوقوف على المعاني اللغوية ، حيث لم يصح النقل هنا شرعاً . وأما إشتراط الفقر في المجاهد ، ففي غاية البعد ، بل الظاهر اعطاؤه نصيباً وإن كان غنياً ، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يأخذون من أموال الله عز وجل التي من جملتها الزكاة في كل عام ويسمون ذلك عطاء وفيهم الأغنياء والفقراء ، وكان عطاء الواحد منهم يبلغ إلى ألوف متعددة، ولم يسمع من أحد منهم أنه لا نصيب للأغنياء في العطاء ، ومن زعم ذلك فعليه الدليل ، فإن قال الدليل حديث إن الصدقة لا تحل لغني قلنا أصناف مصارف الزكاة ثمانية ، أحدها الفقير ، فمن لم يكن فيه إلا كونه فقيراً بدون إتصافه بوصف آخر من أوصاف أصناف مصارف الزكاة ، فلا ريب أنه إذا صار غنياً لم تحل له ، وأما من أخذها بمسوغ آخر غير الفقر ، وهو كونه مجاهداً أو غارماً أو نحوهما ،فهو لم يأخذها لكونه فقيراً حتى يكون الغني مانعاً ،بل أخذها لكونه مجاهداً أو غارماً أو نحوهما فتدبر هذا فهو مفيد . ومن جملة سبيل الله الصرف في العلماء الذين يقومون بمصالح المسلمين الدينية ، فإن لهم في مال الله نصيباً سواء كانوا أغنياء أو فقراء ، بل الصرف في هذه الجهة من أهم الأمور ، لأن العلماء ورثة الأنبياء وحملة الدين ، وبهم تحفظ بيضة الإسلام وشريعة سيد الأنام . وقد كان علماء الصحابة يأخذون من العطاء ما يقوم بما يحتاجون إليه مع زيادات كثيرة يتفوضون بها في قضاء حوائج من يرد عليهم من الفقراء وغيرهم والأمر في ذلك مشهور ، ومنهم من كان يأخذ زيادة على مائة ألف درهم . ومن جملة هذه الأموال التي كانت تفرق بين المسلمين على هذه الصفة الزكاة ، وقد قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لعمر لما قال له يعطي من هو أحوج منه : ما أتاك من هذا المال وأنت غير مستشرف ولا سائل فخذه ، وما لا فلا تتبعه نفسك كما في الصحيح والأمر ظاهر . وأما ابن السبيل ، فإذا كان فقيراً لا يملك شيئاً في وطنه ولا في غيره فلا نزاع في أنه يعان على سفره بنصيب غير النصيف الذي يأخذه لأجل فقره ، وان كان غنياً في وطنه وفي المحل الذي يريد السفر منه فلا نزاع أنه لا يأخذ شيئاً لكونه ابن سبيل ، وإن كان غنياً في وطنه وفي المحل الذي يريد السفر منه فإن كان لا يمكنه القرض فلا ريب أنه يعان على سفره لأنه كالفقير لعدم إمكان إنتفاعه بماله بوجه من الوجوه ، وإن كان يمكنه القرض فهذا محل النزاع . وأما صرف الزكاة كلها في صنف واحد فهذا المقام خليق بتحقيق الكلام .

والحاصل : أن الله سبحانه جعل الصدقة مختصة بالأصناف الثمانية غير سائغة لغيرهم ، واختصاصها بهم لا يستلزم أن تكون موزعة بينهم على السوية ، ولا أن يقسط كل ما حصل من قليل أو كثير عليهم . بل المعنى أن جنس الصدقات لجنس هذه الأصناف ، فمن وجب عليه وشيء من جنس الصدقة ووضعه في جنس الأصناف فقد فعل ما أمره الله به وسقط عنه ما أوجبه الله عليه . ولو قيل أنه يجب على المالك إذا حصل له شيء تجب فيه الزكاة تقسيطه على جميع الأصناف الثمانية على فرض وجودهم جميعاً لكان ذلك مع ما فيه من الحرج والمشقة مخالفاً لما فعله المسلمون سلفهم وخلفهم . وقد يكون الحاصل شيئاً حقيراً لو قسط على جميع الأصناف لما انتفع كل صنف بما حصل له ولو كان نوعاً واحداً فضلاً أن يكون عدداً . إذا تقرر لك هذا ، لاح لك عدم صلاحية ما وقع منه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من الدفع إلى سلمة بن صخر من الصدقات للإستدلال ، ولم يرد ما يقتضي إيجاب توزيع كل صدقة صدقة على جميع الأصناف ، وكذلك لا يصلح للإحتجاج حديث أمره (ﷺ) لمعاذ أن يأخذ الصدقة من أغنياء أهل اليمن ويردها في فقرائهم ، لأن تلك أيضاً صدقة جماعة من المسلمين وقد صرفت في جنس الأصناف وكذلك حديث زياد بن الحارث الصدائي قال : أتيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فبايعته ، فأتى رجل فقال أعطني من هذه الصدقة ، فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء ، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك لأن في إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وقد تكلم فيه غير واحد ، وعلى فرض صلاحيته للإحتجاج ، فالمراد بتجزئة الصدقة تجزئة مصارفها كما هو ظاهرة الآية التي قصدها صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، ولو كان المراد تجزئة الصدقة نفسها ، وأن كل جزء لا يجوز صرفه في غير الصنف المقابل له لما جاز صرف نصيب ما هو معدوم من الأصناف إلى غيره ، وهو خلاف الإجماع من المسلمين . وأيضاً لو سلم ذلك لكان باعتبار مجموع الصدقات التي تجتمع عند الإمام لا باعتبار صدقة كل فرد فلم يبق ما يدل على وجوب التقسيط بل يجوز إعطاء بعض المستحقين بعض الصدقات وإعطاء بعضهم بعضاً آخر . نعم إذا جمع الإمام جميع صدقات أهل قطر من الأقطار ، وحضر عنده جميع الأصناف الثمانية ، كان لكل صنف حق في مطالبته بما فرضه الله ، وليس عليه تقسيط ذلك بينهم بالسوية ولا تعميمهم بالعطاء بل له أن يعطي بعض الأصناف أكثر من البعض الآخر ، وله أن يعطي بعضهم دون بعض إذا رأى في ذلك صلاحاً عائداً على الإسلام وأهله . مثلاً : إذا جمعت لديه الصدقات وحضر الجهاد وحقت المدافعة عن حوزة الإسلام من الكفار أو البغاة ، فإن له إيثار صنف المجاهدين بالصرف إليهم وإن استغرق جميع الحاصل من الصدقات ، وهكذا إذا اقتضت المصلحة إيثار غير المجاهدين .

وتحرم على بني هاشم وبنو عبد المطلب مثلهم .

أقول : الأحاديث القاضية بتحريم ذلك عليهم قد تواترت تواتراً معنوياً ، ولم يأت من خادع نفسه بتسويغها بشئ ينبغي الإلتفات إليه ، بل مجرد هذيان هو عن الحق معزل ، واحتج لعدم التحريم بحديث إن لكم في خمس الخمس ما يغنيكم قال : فإذا منعوا ذلك حلت لهم الزكاة ، وفي إسناده حسين بن قيس الرحبي الملقب بحنش . قال الهيثمي : وفيه كلام كثير وقد وثقه أبو محصن . وقال في خلاصة البدر المنير : ضعفوه . وليس في هذا مع كونه أشف ما جاء به هو وغيره ممن نرخص في هذا الأمر ما يدل على الحل ، لأنهم إذا منعوا ما يحل لهم لم يحل لهم ما حرم عليهم ، فما وزان هذا إلا وزان قول القائل: لا يحل الزنا لأن في النكاح . ما يغني عنه . فهل يقول من له أدنى تمسك بالعلم ، أنه إذا لم يقدر على النكاح حل له الزنا ؟ وأما التعليل للتحريم بالتهمة له صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، وقد زالت بموته فحلت لقرابته ، كما رواه عن أبي حنيفة رح ، فمجرد تخمين لا مستند له ، وتخيل لا مرشد إليه ، ولو كان الأمر كذلك ، لكانت التهمة في الخمس وصفي الغنيمة أدخل وأشد والله المستعان .

ومواليهم لحديث أبي هريرة مرفوعاً وفيه إنا لا نأكل الصدقة وفي لفظ إنا لا تحل لنا الصدقة وهو في الصحيحين وغيرهما . وفي حديث أبي رافع أن الصدقة لا تحل لنا وإن موالي القوم من أنفسهم أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه ، وابن حبان وابن خريمة وصححاه أيضاً . وفي رواية لأحمد والطحاوي من حديث الحسن بن علي لا تحل لآل محمد الصدقة وفي حديث المطلب بن ربيعة أنه (ﷺ) قال : إن الصدقة لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد ، إنما هي أوساخ الناس وهو في صحيح مسلم ، وفي الباب أحاديث . قال في الحجة البالغة : إنما كانت أوساخاً لأنها تكفر الخطايا ، وتدفع البلايا ، وتقع فداء عن العبد في ذلك ، فيتمثل في مدارك الملأ الأعلى أنها هي ، فتدرك بعض النفوس العالية أن فيها ظلمة ، وقد يشاهد أهل المكاشفة تلك الظلمة ، وكان سيدي الوالد قدس سره يحكي ذلك من نفسه ، وأيضاً المال الذي يأخذه الإنسان من غير مبادلة عين أو نفع ولا يراد به احترام وجهه ، فيه ذلة ومهانة ، ويكون لصاحب المال عليه فضل ومنة . وهو قوله (ﷺ) اليد العليا خير من اليد السفلى فلا جرم ان التكسب بهذا النوع شر وجوه المكاسب لا يليق بالطهرين المنوه بهم في الملة أهـ . قال ابن قدامة : لا نعلم خلافاً في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة . وكذا حكى الإجماع ابن رسلان في شرح السنن . وقد وقع الخلاف في آل الذين تحرم عليهم الصدقة على أقوال ، أظهرها أنه بنو هاشم وحكم مواليهم حكمهم في ذلك .

أقول : الحق تحريم الزكاة أجمع على بني هاشم ، سواء كانت الزكاة منهم أو من غيرهم . وما استروح إليه من قال بجواز صدقة بعضهم لبعض من حديث العباس بن عبد المطلب أنه قال : قلت يا رسول الله إنك حرمت علينا صدقات الناس هل تحل لنا صدقات بعضنا لبعض ؟ قال : نعم أخرجه الحاكم ، فليس بصالح للإحتجاج به لما فيه من المقال ، حتى قيل أنه اتهم بعض رواته ، كما حققه صاحب الميزان ، وقد عرفت عموم أحاديث التحريم فلا يجوز تخصيصها بمخصص غير ناهض .

و تحرم على الإغنياء والأقوياء المكتسبين وجهه ما في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن جماعة أنها لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى وفي لفظ لأحمد وأهل السنن من حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار مرفوعاً ولاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب وفي بعض الأخبار ولا لذي مرة قوي والمرة بكسر الميم وتشديد الراء القوة وشدة العقل كذا قال الجوهري . قال في الحجة البالغة : وجاء في تقدير الغنية المانعة من السؤال ، أنها أوقية أو خمسون درهماً . وجاء أيضاً أنها ما يغديه أو يعشيه . وهذه الأحاديث ليست متخالفة عندنا ، لأن الناس على منازل شتى ، ولكل واحد كسب لا يمكن أن يتحول عنه ، فمن كان كاسباً بالحرفة فهو معذور حتى يجد آلات الحرفة ، ومن كان زارعاً حتى يجد آلات الزرع ، ومن كان تاجراً حتى يجد البضاعة ، ومن كان على الجهاد مسترزقاً بما يروح ويغدو من الغنائم ، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، فالضابط فيه أوقية أو خمسون درهماً . ومن كان كاسباً بحمل الأثقال في الأسواق أو احتطاب الحطب وبيعه وأمثال ذلك ، فالضابط فيه ما يغديه ويعشيه أهـ . في الموطأ من حديث عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لغاز في سبيل الله ، أو لعامل عليها ، أو لغارم ، أو لرجل اشتراها بماله ، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني قال في المسوى : لا خلاف في صورة تبدل الأيدي وكذا في العامل وابن السبيل ، وأما الغارم والغازي فتحل الصدقة لهما وإن كانا غنيين عند الشافعي . وقال أبو حنيفة : لا تحل إلا إذا كانا فقيرين . وظاهر الآية مع الشافعي ، لأن الله تعالى جعلهما قسيمي الفقير والمسكين . وعند الحنفية تحل الصدقة لمن ليس عنده نصاب غير مستغرق في حاجته ، فلو ملك نصاباً غير نام لكنه غير مستغرق لم تحل له ، ولو ملك نصباً كثيرة إلا أنها مستغرقة حلت له ، ولا يحل السؤال إلا لمن يملك قوت يومه بعد ستر بدنه كذا في العالمكيرية . قال في شرح السنة : إذا رأي الإمام السائل جلداً قوياً وشك في أمره أنذره وأخبره بالأمر ، فإن زعم أنه لا كسب له ، أو له عيال لا يقوم كسبه بكفايتهم قبل منه وأعطاه .

أقول : يمكن أن يطبق بين الأحاديث باختلاف الأحوال ، والأصل اعتبار معنى الحاجة والإستغناء بالكسب المتيسر ، فالأوقية تمنع السؤال لمن كان حاله مثل حال المهاجر في زمان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم . كانوا مرتزقين من الفئ دفعة بعد دفعة وفي الفئ قلة . والإحتطاب مانع من السؤال لمن كان قوياً حاذقاً في الإحتطاب ، أو أراد أن يسأل غير الإمام وعلى هذا القياس غيرهما أهـ .

أقول : قد قدمنا ما هو الحق في تفسير الغني المانع من أخذ الزكاة . وقدمنا أيضاً ما هو الحق في بعض الأصناف الثمانية من عدم اشتراط الفقر كالمجاهد ونحوه . ثم اعلم أن الأدلة طافحة بأن الصرف في ذوي الأرحام أفضل من غير فرق بين الصدقة الواجبة والمندوبة ، كما يدل على ذلك ترك الإستفصال في مقام الإحتمال ، فإنه ينزل منزلة العموم على أنه قد ورد التصريح في حديث أبي سعيد عند البخاري ، أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لامرأة : زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم وثبت عند البخاري وأحمد عن معن بن يزيد قال : أخرج أبي دنانير يتصدق بها عند رجل في المسجد ، فجئت فأخذتها فقال : والله ما إياك أردت ، فخاصمته إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال : لك ما نويت يا يزيد ، ولك ما أخذت ما معن وهذه الأدلة ، إنما هي تبرع من القائل بالجواز والإجزاء ، وإلا فهو قائم مقام المنع من كون القرابة أو وجوب النفقة مانعين ، ولم يأت القائل بذلك بدليل ينفق في محل النزاع على فرض أنه لم يكن بيد القائل بالجواز إلا التمسك بالأصل ، فكيف والأدلة عموماً وخصوصاً ناطقة بما ذهبوا إليه . وأما أهل الذمة ، فالذي ثبت عن رسول الله (ﷺ) وشرعه ، هو أخذ الجزية من أهل الذمة بدلاً عن دمائهم ، وصالح بعض أهل الذمة على شئ معلوم يسلمونه في كل سنة وهو الجزية أيضاً ، فقد تكون الجزية مضروبة على كل فرد من أفراد أهل الذمة كذا ، وقد تكون مضروبة على الجميع بمقدار معين . وأما الإستئناس لقول عمر رضي الله عنه بكونه بمشاورة الصحابة ، فليس ذلك مستلزماً لكونه إجماعاً ، وليس الحجة إلا إجماعهم ، وليس فيه حجة على ثبوت مثل هذا التكليف الشاق على أهل الملة ، ولم يثبت هذا عن رسول الله (ﷺ) ، وأما حديث ليس على المسلمين عشور ، إنما العشور على اليهود والنصارى فهذا الحديث هو أشف ما يستدل به على المطلوب ، وقد أخرجه أبو داود من طرق في بعضها مقال . وأخرجه أحمد والبخاري في التاريخ وساق الإضطراب في سنده . وقال : لا يتابع عليه ، والراوي له عن النبي (ﷺ) رجل بكري وهو مجهول ، ولكن جهالة الصحابي غير قادحة كما قرره شيخنا العلامة الشوكاني في الرسالة التي سماها القول المقبول في رد رواية المجهول من غير صحابة الرسول . وفي بعض ألفاظ هذا الحديث عند أبي داود الخراج مكان العشور ولكن إنا يتم الإستدلال بهذا الحديث على المطلوب ، لو كان المراد به هو نصف عشر ما يتجرون به كما زعموه ، وليس كذلك بل فيه خلاف ، فقال في القاموس ، عشرهم يعشرهم عشراً ، وعشوراً أخذ عشر أموالهم أهـ . وقال في النهاية العشور جمع عشر يعني : ما كان من أموالهم للتجارات دون الصدقات والذي يلزمهم من ذلك عند الشافعي ما صولحوا عليه وقت العهد ، فإن لم يصالحوا على شئ فلا تلزمهم إلا الجزية . وقال أبو حنيفة رح إن أخذوا من المسلمين إذا دخلوا بلادهم للتجارة أخذنا منهم إذا دخلوا بلادنا للتجارة . ومنه احمدوا الله إذ رفع عنكم العشور ، يعني : ما كانت الملوك تأخذه منهم . ومنه أن وفد ثقيف اشترطوا أن لا يحشروا ولا يعشروا ولا يجبوا أي لا يؤخذ عشر أموالهم أهـ كلام النهاية . وقال الخطابي مثل ما نقله صاحب النهاية في أول كلامه . فحصل من جميع هذا أن العشور إما العشر ، أو المال المصالح به ، أو ما يؤخذ من تجار أهل الذمة إن أخذوا من تجارنا ، أو ما يأخذه الملوك من الجبايات والضرائب ، أو الخراج كما في بعض روايات الحديث ، ومع هذا الإحتمال لا ينتهض للإستدلال به .

والحاصل : أن الأصل في أموال الناس مسلمهم وكافرهم التحريم ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل فلا بد من دليل يدل على تحليل المطلوب ، لأنه خارج عن الأقسام المسوغة ، إذ ليس بجزية ، ولا مال صلح ، ولا خراج ، ولا معاملة ، ولا زكاة لعدم صحتها منهم لأن الكفر مانع . وأظهر ما يقال في معنى العشور أحد أمرين : إنما الخراج ، لأن بعض ألفاظ الحديث يفسر بعضاً أو الضرائب التي تضرب عليها كالجزية ومال الصلح ، فيكون المراد أن المسلمين ليس عليهم الخراج أي لا يوضع في أموالهم ابتداء ، وليس عليهم ضريبة في رقابهم أو أموالهم كاليهود ، وحينئذ لم يبق ما يصلح للتمسك به على جواز أخذ نصف عشر أموال تجار أهل الذمة . ومما يؤيد ما ذكرناه في معنى العشور ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله (ﷺ)  : لا تصلح قبلتان في أرض ، وليس على مسلم جزية فيمكن أن يكون مفسراً لحديث ليس على المسلمين عشور ولم يثبت عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم تقدير ما يؤخذ من أهل الذمة ، إلا ما في حديث معاذ أن النبي (ﷺ) أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً أخرجه أحمد وأهل السنن والدارقطني والبيهقي وابن حبان والحاكم . وهذا الحديث وأن كان فيه مقال ، فهو لا يخرج به عن صلاحيته للإستدلال ، فالوقوف على هذا المقدار متعين لا تجوز مجاوزته وأما النقص منه إذا رآه الإمام أو المسلمون فلا بأس به ، لأن الجزية حق لهم يجوز لهم الإقتصار على بعض ما وجب . والظاهر أنه لا فرق بين الغني والفقير والمتوسط في أنهم يستوون في جواز أخذ هذا المقدار منهم ، لأن الجزية لما كانت عوضاً عن الدم كان ذو المال كمن لا مال له . وأما من ذهب إلى أنه يجب على الفقير نصف ما على المتوسط ، وعلى المتوسط نصف ما على الغني ، وجعلوا الغني من يملك ألف دينار أو ما يساويها ، ويركب الخيل ، ويتختم الذهب ، والمتوسط دونه تمسكاً بما روي عن علي أنه كان يجعل على المياسير من أهل الذمة ثمانية وأربعين درهماً ، وعلى الأوساط أربعة وعشرين ، وعلى الفقراء اثني عشر ، فهذا مع كونه غير مرفوع إلى النبي (ﷺ) لا تقوم به الحجة ، لأن في إسناده أبا خالد الواسطي ولا يحتج بحديثه إذا كان مرفوعاً ، فكيف إذا كان موقوفاً . وكذلك لا تقوم الحجة بما أخرجه في الموطأ عن عمر ، أنه كان يأخذ على أهل الذهب من أهل الذمة الجزية أربعة دنانير ، وعلى أهل الورق أربعين درهماً ، لأنه فعل صحابي لا يصلح للإحتجاج به ، فالإقتصار على ما في حديث معاذ متحتم ، ويؤيده ما أخرجه البيهقي عن أبي الحويرث مرسلاً : أن النبي (ﷺ) صالح أهل أيلة وكانوا ثلثمائة رجل على ثلثمائة دينار . وأما ما روي عن الشافعي قال : سمعت بعض أهل العلم من أهل نجران يذكر أن قيمة ما أخذ من كل واحد أكثر من دينار ، فهذا مع كونه ليس بمرفوع ولا موقوف ولا معلوم قائله لا ينافي ما ذكرنا ، لأن المأخوذ من أهل نجران إنما كان صلحاً بمقدار من المال على جميعهم ، ومحل النزاع ما يضرب على كل فرد ابتدءاً . ثم نقول : أموال أهل الحرب على أصل الإباحة ، يجوز لكل أحد أخذ ما شاء منها كيف شاء قبل التأمين لهم ، فيجوز للسلطان أن يأذن بدخول بلاد المسلمين والتجارة فيها على ما شاء من قليل أو كثير يأخذه من أموالهم ، إنما الشأن في أخذ مثل ذلك من المسلمين الذين يسافرون للتجارة من أرض إلى أرض ، فيأخذ منهم أهل الأرض التي يصلون إليها شطراً من أموالهم من غير نظر إلى كون ذلك زكاة تجارة ولا غيرها ، بل لا يعتبرون في استحلال أخذه إلى مجرد خروجهم من سفائن البحر ، أو وصولهم من البر إلى حدود الأرض التي يخرجون إليها ، فهذا عند التحقيق ليس هو إلا المكس من غير شك ولا شبهة ، وقد حققت المقام في إكليل الكرامة فليراجع