الرئيسيةبحث

الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الزكاة/باب زكاة النبات


باب زكاة النبات


يجب العشر في الحنطة والشعير والذرة والتمر والزبيب وجوب الزكاة من هذه الأجناس ، لشمول الأدلة الصحيحة لها ، وللتنصيص عليها في حديث أبي موسى ومعاذ ، حين بعثهما صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى اليمن ، يعلمان الناس أمر دينهم فقال : لا تأخذا الصدقة إلا من هذه الأربعة : الشعير ، والحنطة ، والزبيب ، والتمر أخرجه الحاكم والبيهقي والطبراني . قال البيهقي : رواته ثقات وهو متصل . وأخرج الطبراني عن عمر قال : إنما سن رسول الله (ﷺ) الزكاة في هذه الأربعة فذكرها . وأخرج ابن ماجه والدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ إنما سن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الزكاة في الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب زاد ابن ماجه والذرة وفي إسناده محمد بن عبيد الله العرزمي وهو متروك . وأخرج البيهقي من طريق مجاهد قال : لم تكن الصدقة في عهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلا في خمسة فذكرها . وأخرج أيضاً من طريق الحسن فقال : لم يفرض الصدقة النبي (ﷺ) إلا في عشرة فذكر الخمسة المذكورة والإبل ، والبقر ، والغنم ، والذهب ، والفضة . وأخرج أيضاً عن الشعبي أنه قال : كتب رسول الله (ﷺ) إلى أهل اليمن إنما الصدقة في الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب قال البيهقي : هذه المراسيل طرقها مختلفة ، وهي يؤكد بعضها بعضاً ، ومعها حديث أبي موسى ، ومعها قول عمر وعلي وعائشة : ليس في الخضروات زكاة . انتهى .

وما كان يسقى بالمسني منها ففيه نصف العشر وجهه حديث جابر عن النبي (ﷺ) قال : فيما سقت الأنهار والغيم عشر ، وفيما سقي بالسانية نصف العشر رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود قال : الأنهار والعيون . وأخرج البخاري وأحمد وأهل السنن من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر ، وفيما يسقي بالنضح نصف العشر فإن الذي هو أقل تعانياً وأكثر ريعاً أحق بزيادة الضريبة ، والذي هو أكثر تعانياً وأقل ريعاً أحق بتخفيفها ، والعثري بفتح العين المهملة والمثلثة وكسر الراء المهملة هو الذي يشرب بعروقه ، وقيل الذي في سواقي العيون ونحوها . والحق وجوب الزكاة من العين . ولا يسوغ إخراج القيمة إلا لعذر مسوغ لحديث خذ الحب من الحب ، والشاة من الغنم ، والبعير من الإبل ، والبقرة من البقر أخرجه أبو داود والحاكم وصححه على شرط الشيخين . وأما قول معاذ ، فهو فعل صحابي لا حجة فيه على أنه منقطع كما صرح بذلك الحفاظ . وأما الإعتذار عن الحديث بأنه لا ظاهر له ، فهذه إحدى العصي التي يتوكا عليها المقلدة .

ونصابها خمسة أوسق لحديث أبي سعيد في الصحيحين وغيرهما عن النبي (ﷺ) ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وفي رواية لأحمد وابن ماجه أن النبي صل الله تعالى عليه وآله وسلم قال : الوسق ستون صاعاً وفي رواية لأحمد وأبي داود الوسق ستون مختوماً قال في الحجة البالغة : وإنما قدر من الحب والتمر خمسة أوسق ، لأنها تكفي أهل بيت إلى سنة ، وذلك لأن أقل البيت الزوج والزوجة ، وثالث خادم أو ولد بينهما ، وما يضاهي ذلك من أقل البيوت . وغالب قوت الإنسان رطل أو مد من الطعام ، فإذا أكل كل واحد من هؤلاء ذلك المقدار كفاهم لسنة وبقيت بقية لنوائبهم أو إمدامهم انتهى . قال ابن القيم : وقد ردت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في تقدير نصاب المعشرات بخمسة أوسق بالمتشابه من قوله : فيما سقت السماء العشر ، وما سقي بنضح أو غرب فنصف العشر قالوا : هذا يعم القليل والكثير وقد عارضه الخاص ، ودلالة العام قطعية كالخاص ، وإذا تعارضا قدم الأحوط وهو الوجوب ، فيقال : يجب العمل بكلا الحديثين ولا يجوز معارضة أحدهما بالآخر وإلغاء أحدهما بالكلية ، فإن طاعة الرسول فرض في هذا وفي هذا ، ولا تعارض بينهما بحمد الله تعالى من الوجوه . فإن قوله : فيما سقت السماء العشر إنما أريد به التمييز بين ما يجب فيه العشر وما يجب فيه نصفه ، فذكر النوعين مفرقاً بينهما في مقدار الواجب . وأما مقدار النصاب فسكت عنه في هذا الحديث ، وبينه نصاً في الحديث الآخر ، فكيف يجوز العدول عن النص الصحيح الصريح المحكم ، الذي لايحتمل غير ما أول عليه البتة إلى المجمل المتشابه الذي غايته أن يتعلق فيه بعموم ، لم يقصدوا بيانه بالخاص المحكم المبين ، كبيان سائر العمومات بما يخصها من النصوص انتهى .

أقول : الأحاديث القاضية بإيجاب العشر أو نصف العشر تقتضي التسوية بين القليل والكثير . وأحاديث لا زكاة فيما دون خمسة أوسق تقتضي إختصاص الوجوب بمقدار معلوم هو الخمسة الأوسق وعدم الوجوب فيما دونها ، فالأحاديث الأولة عامة لقليل ما أخرجت الأرض من الأنواع المخصوصة ولكثيره ، والأحاديث الثانية خاصة ببعض ذلك الخارج دون بعض ، مصرحة بنفي الوجوب عن دون الخمسة الأوسق بمنطوقها، مثبتة لوجوبها في الخمسة فصاعداً بمفهومها ، وهي أحاديث صحيحة ، فإهمالها مع كونها خاصة والرجوع إلى العامة خارج عن سنن الأنصاف ، ولم يكن بيد من أهملها شئ يدفعها ، إلا مجرد تكليف العباد بما هو أشق الشكوك ، كشكوك الموسوسين في الطهارة . وهذا رسول الله (ﷺ) يقول : ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ، ولا فيما دون خمس أواق صدقة ، ولا فيما دون خمس ذود صدقة ثبت هذا عنه في حديث واحد ، فكان على من أوجب الزكاة فيما دون خمسة أوسق ، أن يوجبها فيما دون خمس أواق وخمس ذود ، بل يوجبها فيما دون الأربعين من الغنم ، والثلاثين من البقر ، تمسكاً بالعمومات القاضية بوجوب أصل الزكاة في الأموال ، فإنه لا فرق بينها وبين حديث فيما أخرجت الأرض العشر وليست المكيلات بالشك أولى من غيرها والله المستعان . وقد حكى ابن المنذر الإجماع على أن الزكاة لا تجب فيما دون خمسة أوسق مما أخرجت الأرض ، والمقام وإن كان حقيقاً بأن يقع الإجماع عليه ، لكن الخلاف لجماعة من العلماء أشهر من نار على علم ، وكيف خفي على ابن المنذر مذهب أبي حنيفة رح ، وهو متداول عند جميع أهل المذاهب ، حتى قال ابن العربي المالكي : أن أقوى المذاهب وأحوطها للمساكين مذهب أبي حنيفة ، وهو التمسك بالعموم انتهى . وهذه غفلة من مثل هذا الحافظ ناشئة عن الوسوسة التي قدمنا لك ذكرها ، فإن الشارع أشفق بفقراء أمته من كل أحد ، وأي قوة وأحوطية في شئ مخالف لنصه الصريح ، وكيف يخفى على عالم ، أن هذه الشفقة التي هي المستندة لهذه المقالة ، مستلزمة لظلم الأغنياء وأخذ أموالهم بدون طيبة من أنفسهم وأكلها بالباطل وسيوف السلاطين تابعة لأقلام العلماء ، فإذا أجبروا أهل الأموال على تسليم زكاة دون الخمسة الأوسق إستناداً إلى قول من قال بذلك بمجرد الشك والشفقة على الفقراء لا لما يقتضيه الإجتهاد ، فهم شركاء في هذه المظلمة التي هي محض أكل أموال الناس بالباطل . وما أحسن الوقوف على الحدود الشرعية والمشي على الطريقة النبوية ، فذلك هو الورع الخالص وخير الهدي هدي محمد (ﷺ) .

ولا شئ فيما عدا ذلك قال المجد في الصراط المستقيم . ولم يكن من العادة النبوية أخذ الزكاة من الخيل والرقيق والبغال والحمر والبقول والبطيخ والخيار والعسل والفواكه التي لا تدخل المكيال ولا تصلح للإدخار ، إلا الرطب والعنب ، فإنه كان يأخذ الزكاة منهما لا يفرق بين الرطب واليابس انتهى .

كالخضروات وغيرها حديث الخضراوات أخرجه الدارقطني والحاكم والأثرم في سننه أن عطاء بن السائب قال : أراد عبد الله بن المغيرة أن يأخذ صدقة من أرض موسى بن طلحة من الخضراوات ، فقال له موسى بن طلحة : ليس لك ذلك ، إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يقول : ليس في ذلك صدقة وهو مرسل قوي ، وقد أخرجه الدارقطني والحاكم من حديث إسحق بن يحيى بن طلحة عن عمه موسى بن طلحة عن معاذ بلفظ وأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب فعفو عفا عنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال الحافظ : وفيه ضعف وإنقطاع . وروى الترمذي بعضه من حديث موسى بن طلحة عن معاذ ، وقد رواه ابن عدي من وجه آخر عن أنس ، والدارقطني من حديث علي ومن حديث محمد بن جحش ومن حديث عائشة ، ورواه أيضاً البيهقي عن علي وعمر موقوفاً ، في طرق حديث الخضراوات مقال ، لكنه روي من طرق كثيرة يشهد بعضها لبعض فينتهض للإحتجاج به ، وإذا إنضم إلى ما تقدم في وجوب الزكاة في تلك الأجناس الأربعة أو الخمسة ، إنتهض الجميع للإحتجاج بلا شك ولاشبهة . وقد رويت تلك الروايات بلفظ الحصر على تلك الأجناس كما سبق ، وكان ذلك هو البيان منه (ﷺ) لما أنزل الله تعالى ، فلا تجب في غير ذلك من النباتات . وقد ذهب إلى ذلك الحسن البصري والحسن بن صالح والثوري والشعبي . وأيضاً يمكن الجمع بطريق أخرى وهي : أن هذه الأدلة المذكورة هنا مخصصة لعمومات القرآن والسنة وذلك واضح ، ولا يصح جعل ذلك من باب التنصيص على بعض أفراد العام ، لما في ذلك من الحصر تارة والنفي لما عدا ما ذكر آخرى .

أقول : العمومات الشاملة للخضراوات كقوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده وقوله : خذ من أموالهم صدقة وقوله (ﷺ) فيما سقت السماء العشر قد خصصت بمخصصات كثيرة منها : حديث الأوساق . ومنها : الأحاديث القاضية بأن الزكاة لا تجب إلا في الأربعة الأنواع الشعير والحنطة والتمر والزبيب ، هذا في الأشياء التي تنبت على وجه الأرض ، وفيما عداها السوائم الثلاث والذهب والفضة . والواجب بناء على الخاص كما هو إجماع من يعتد به من أهل العلم ، فلا وجوب فيما عدا هذه الثلاثة الأمور ، سواء كان من الخضراوات ، أو غيرها . بل قد ورد في الخضراوات بخصوصها ، ما يدل على عدم وجوب الزكاة فيها من طرق يشهد بعضها لبعض ، كما أوضح ذلك الماتن في شرح المنتقى . فليكن هذا البحث منك على ذكر ، فإن الإحتجاج بمثل هذه العمومات قد كثر في أهل العلم مع عدم الإلتفات إلى الأدلة الخاصة ، والذهول عن وجوب بناء العام على الخاص .

والحاصل : أن رسول الله (ﷺ) قد بين للناس ما نزل إليهم ، ففرض على الأمة فرائض في بعض أملاكهم ، ولم يفرض عليهم في البعض الآخر ، ومات على ذلك . وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما تقرر في الأصول ، فمن زعم أنها تجب الزكاة في غير ما بينه رسول الله (ﷺ) متمسكاً بالعمومات القرآنية كان محجوجاً بما ذكرناه ، هذا على فرض أنه لم يثبت عنه إلا مجرد البيان من دون ما يفيد عدم الوجوب في البعض المسكوت عنه ، فكيف وقد ثبت عنه ما يفيد ذلك كحديث أبي موسى ومعاذ عند الحاكم والبيهقي والطبراني أن رسول الله (ﷺ) لما بعثهما إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم قال : لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة الشعير والحنطة والزبيب والتمر قال البيهقي : رواته ثقات وهو متصل . وأخرج الطبراني عن عمر قال : إنما سن رسول الله (ﷺ) الزكاة في هذه الأربعة فذكرها ونحوه عن جماعة من الصحابة ، وفي بعضها ذكر الذرة ، ولكن من طريق لا تقوم بمثلها الحجة .

ويجب في العسل العشر وجهه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي (ﷺ) أنه أخذ من العسل العشر أخرجه ابن ماجه . وقال الدار قطني : يروى عن عبد الرحمن بن الحارث وابن لهيعة عن عمرو بن شعيب ، ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرو بن شعيب ، ومثله حديث أبي سيارة عند أحمد وابن ماجه وأبي داود والبيهقي قال : قلت يا رسول الله إن لي نحلاً قال : فأد العشور وهو منقطع . وأخرج الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله (ﷺ) قال في العسل : في كل عشرة أزقاق زق وفي إسناده صدقة السمين وهو ضعيف الحفظ . وأخرج عبدالرزاق والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ أدوا العشر في العسل وفي إسناده منير بن عبدالله وهو ضعيف . والجميع لا يقصر عن الصلاحية للإحتجاج به . وفي العسل أحاديث أخرى لم ينتهض شيء منها للإحتجاج به . وقد جمعها الماتن في شرح المنتقى فليراجع .

ويجوز تعجيل الزكاة لحديث علي أن العباس بن عبدالمطلب سأل النبي (ﷺ) في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم والدارقطني والبيهقي وقد قيل : أنه مرسل . وقد روي عن علي بلفظ آخر من طريق أخرى أخرجها البيهقي أن النبي (ﷺ) قال : إنا كنا إحتجنا فأسلفنا العباس صدقة عامين ورجاله ثقات ، إلا أنه فيه إنقطاعاً . وفي الصحيح من حديث أبي هريرة أن النبي (ﷺ) قال في زكاة العباس : هي علي ومثلها معها لما قيل أنه منع من الصدقة ، وقد قيل أنه كان تسلف منه صدقة عامين فدل على أنه يجزىء عن المعجل أي يسقط الوجوب عند الإتصاف به ، ولا شك أن التعجل لا يكون تعجيلاً إلا إذا كان قبل الوجوب .

وعلى الإمام أن يرد صدقات أغنياء كل محل في فقرائهم وجهه حديث أبي جحيفة قال : قد علينا مصدق رسول الله (ﷺ) فأخذ الصدقة من أغنيائنا فجعلها في فقرائنا ، فكنت غلاماً يتيماً فأعطاني منها قلوصاً أخرجه الترمذي وحسنه . وحديث عمران بن حصين أنه استعمل على الصدقة ، فلما رجع قيل له أين المال ؟ فقال : وللمال أرسلتني ؟ أخذناه من حيث كنا نأخذه على عهد رسول الله (ﷺ) ووضعناه حيث كنا نضعه أخرجه أبو داود وابن ماجه . وعن طاوس قال : كان في كتاب معاذ بن خرج من مخلاف إلى مخلاف ، فإن صدقته وعشره في مخلاف عشيرته أخرجه الأثرم وسعيد بن منصور بإسناد صحيح . وفي الصحيحين عن معاذ أن النبي (ﷺ) لما بعثه إلى اليمن قال له : خذها من أغنيائهم وضعها في فقرائهم .

ويبرأ رب المال بدفعها إلى السلطان وإن كان جائراً لحديث ابن مسعود في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله (ﷺ) قال : إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها قالوا يا رسول الله : فما تأمرنا ؟ قال : تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم وأخرج مسلم والترمذي وصححه من حديث وائل بن حجر قال : سمعت رسول الله (ﷺ) ورجل يسأله فقال : أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم ؟ فقال اسمعوا وأطيعوا ، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم وأخرج أبو داود من حديث جابر بن عتيك مرفوعاً بلفظ سيأتيكم ركب مبغضون ، فإذا أتوكم فرحبوا بهم وخلوا بينهم وبين ما يبتغون ، فإن عدلوا فلأنفسهم وإن ظلموا فعليها ، وأرضوهم فإن تمام زكاتهم رضاهم وأخرج الطبراني عن سعد بن أبي وقاص مرفوعاً إدفعوا إليهم ما صلوا الخمس وفي الباب آثار الصحابة . حتى أخرج البيهقي عن عمر أنه قال : إدفعوها إليهم وإن شربوا الخمر وإسناده صحيح . وأخرج أحمد من حديث أنس أن رجلاً قال لرسول الله (ﷺ) : إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله ؟ فقال نعم . إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها إلى الله ورسوله فلك أجرها وإثمها على من بدلها وأخرج البيهقي من حديث أبي هريرة إذا أتاك المصدق فأعطه صدقتك ، فإن اعتدى عليك فوله ظهرك ولا تلعنه وقل اللهم إني أحتسب عنك ما أخذ مني وقد ذهب إلى ما دلت عليه هذه الأدلة الجمهور . وأن الدفع إلى السلطان أو بأمره يجزي المالك وإن صرفها في غير مصرفها ، سواء كان عادلاً أو جائراً .

أقول : لا ريب أن مجموع الأدلة يقتضي أن أمره الزكاة إلى النبي (ﷺ) ، فإن قوله تعالى : خذ من أموالهم خطاب له إن سلم أنه في صدقة الفرض وفد تقدم ما فيه . وأنص من الآية على المطلوب حديث أمرت أن آخذها من أغنيائكم وأحاديث بعثه (ﷺ) للسعاة وأمره لهم بأخذ الصدقات . ومن ذلك الأدلة الواردة في الإعتداء بما أخذه سلاطين الجور ، فإنها متضمنة لوجوب الدفع إليهم والإجتزاء بما دفع إليهم . ومن ذلك حديث من أعطاها مؤتجراً فله أجره ، ومن منعه فإنا نأخذها وشطر ماله ومنها الأدلة من الكتاب والسنة الدالة على وجوب طاعة أولي الأمر ، ولكن لا يخفى أن مجموع هذه الأدلة و إن أفاد أن للأئمة والسلاطين المطالبة بالزكاة وقبضها ووجوب الدفع إليهم عند طلبهم لها ، فليس فيها ما يدل على أن رب المال إذا صرفها في مصرفها قبل أن يطالبه الإمام بتسليمها لا تجزئه ولا يجوز له ذلك ، لأن الوجوب على أرباب الأموال ، والوعيد الشديد لهم ، والترغيب تارة والترهيب أخرى لمن عليه الزكاة إذا لم يخرجها ، يستفاد من مجموعه أن لهم ولاية الصرف ، أما مع عدم الإمام فظاهر ، وأما مع وجوده من غير طلب منه فكذلك أيضاً ويؤيد ذلك حديث أما خالد فقد حبس أدرعه وأعتده في سبيل الله فإنه (ﷺ) أجاب بذلك على من قال له أن خالداً منع من تسليم الزكاة ، وأما المطالبة من الإمام فالظاهر أنه لا يجوز لرب المال الصرف ، لأنه عصيان لمن أمر الله بطاعته ، ولكن هل يجزئه ذلك أم لا ؟ الظاهر الأجزاء لأنه لا ملازمة بين كونه عاصياً لأمر الإمام وبين عدم الأجزاء ، ومن رغم ذلك طولب بالدليل ، فإن قيل الدليل ما تقدم من قوله (ﷺ) ومن منعها فإنا نأخذها وشطر ماله فيقال : الحديث على ما فيه من المقال لا يصلح للإستدلال به على هذا ، لأن المراد أنه منع الزكاة ولم يسلمها إلى الإمام ولا صرفها في مصارفها كما هو مدلول المنع الواقع على ضمير الزكاة في الحديث كما في أحاديث الوعيد لمانع الزكاة ، فإن المراد به المانع لها عن الإخراج مطلقاً ومما يؤيد ثبوت الولاية لرب المال قوله تعالى : إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ففي هذه الآية أعظم متمسك وأوضح مستند . ومن زعم أنها في صدقة النفل بدليل السياق فلم يصب لأن الإعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول . نعم تطبيق الأدلة الواردة منه (ﷺ) على من بعده من الأئمة والسلاطين حتى يكون لهم مثل الذي له في أمر الزكاة يحتاج إلى فضل نظر ، ولا يقنع الناظر بمجرد الإجماع السكوتي الواقع من الناس بعد عصره (ﷺ) . وأما قتال الصحابة لمانعي الزكاة فلكونهم ارتدوا بذلك وصمموا على منع إخراجها ، وقد أمر (ﷺ) أمته بقتال الناس حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويفعلوا سائر أركان الإسلام . وأعظم ما يستأنس به ما ورد في طاعة السلاطين وإن ظلموا ، وأن دفعها إليهم من الطاعة لهم كما في حديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها قالوا يارسول الله : فما تأمرنا ؟ قال : تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم أخرجه الشيخان وغيرهما . وعن وائل بن حجر قال : سمعت رسول الله (ﷺ) ورجل يسأله فقال : أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم ؟ قال : إسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم أخره مسلم وغيره . وفي الباب أحاديث كثيرة ، وهي تفيد وجوب طاعتهم فيما طلبوا إذا كان في معروف غير معصية ، وطلبهم للزكاة من المعروف إذا كانوا يجعلونها في أمر غير معصية الله ، والأمر بالطاعة فرع ثبوت الولاية ، وثبوتها يستلزم الأجزاء . وقد ذهب إلى هذا الجمهور من الصحابة فمن بعدهم ، ويؤيد ذلك حديث جابر بن عتيك عند أبي داود مرفوعاً بلفظ سيأتيكم ركب مبغضون ، فإذا أتوكم فرحبوا بهم وخلوا بينهم وبين مايبتغون ، فإن عدلوا فلأنفسهم وإن ظلموا فعليها ، وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم وأخرج الطبراني من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعاً ادفعوا إليهم ما صلوا الخمس ويغني عن جميع هذا التكليف بطاعة سلاطين الجور ما أقاموا الصلاة . وفي بعض الأحاديث الأمر بالطاعة للظلمة ما لم يظهروا كفراً ، فمن طلب الزكاة منهم لم تتم الطاعة له التي كلفنا الله بها إلا بالدفع إليه ، والله أعدل أن يجمع على رب المال في ماله زكاتين زكاة للظالم المأمور بطاعته وزكاة أخرى تصرف إلى غيره .