→ الجزء الرابع | الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح الجزء الخامس ابن تيمية |
الجزء السادس ← |
توجد نسخة |
☰ جدول المحتويات
- فصل: مناقشة النصارى في إطلاق لفظ الجوهر على الله تعالى
- فصل: نقض دعواهم الاستغناء باليهودية والنصرانية
- فصل: بطلان استدلالهم بما يدعون أنه من كلام الأنبياء السابقين
- فصل: إثبات الفضل والكمال لرسول الله وشريعته وأمته
- فصل: اشتراطهم لصحة النبوة تبشير الأنبياء بها والرد عليهم
- فصل: طرق العلم ببشارة الأنبياء بمحمد عليهم الصلاة والسلام
- فصل: شهادة الكتب المتقدمة لمحمد عليه الصلاة والسلام
- فصل: بشارة من الزبور
- فصل: بشارة ثانية من الزبور
- فصل: بشارة ثالثة من الزبور
- فصل: بشارة رابعة من الزبور
- فصل: بشارة خامسة من الزبور
- فصل: بشارة أشعياء براكب الحمار وراكب الجمل
- فصل: بشارة الكتب المتقدمة بالمسيح وبمحمد وتحذيرها من الدجال
- فصل: بشارة أشعياء بشأن مكة
- فصل: بشارة ثالثة من أشعياء
- فصل: بشارة رابعة من أشعياء
- فصل: بشارة خامسة من أشعياء
- فصل: بشارة سادسة من أشعياء
- فصل: بشارة سابعة من أشعياء
- فصل: بشارة ثامنة من أشعياء
- فصل: بشارة تاسعة من أشعياء
- فصل: بشارة حبقوق بمحمد صلى الله عليه وسلم
- فصل: بشارة في سفر حزقيال
- فصل: بشارة ثانية في سفر دانيال
- فصل: بشارة ثالثة في سفر دانيال
- فصل: بشارة الفارقليط والتعليق المفصل على بشارات المسيح بمحمد
- فصل: براهين مستقلة من القرآن على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
- فصل: الدلائل القاطعة عند أهل مكة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ونبوته
- فصل: جلاء آيات الأنبياء وتنوعها وكثرتها
- فصل: التحقيق في اسم المعجزة والآية والكرامة
- فصل: بحث في إعجاز القرآن
- فصل: شخصية الرسول وشريعته وأمته وكرامات صالحيها من آياته
- فصل: نقل الناس لصفاته عليه السلام الدالة على كماله
فصل: مناقشة النصارى في إطلاق لفظ الجوهر على الله تعالى
قال الحاكي عنهم: فقلت فإنهم ينكرون علينا قولنا: إن الله تعالى جوهر قالوا إننا نسمع عن هؤلاء القوم أنهم ذوو فضل وأدب ومعرفة، ومن هذا صورته، وقد قرأ شيئا من كتب الفلاسفة والمنطق فما حقهم ينكرون هذا علينا وذلك أنه ليس في الوجود شيء إلا وهو إما جوهر وإما عرض؛ لأن أي أمر نظرناه وجدناه إما قائما بنفسه غير مفتقر في وجوده إلى غيره، وهو الجوهر، وإما مفتقر في وجوده إلى غيره لا قوام له بنفسه، وهو العرض ولا يمكن أن يكون لهذين القسمين قسم ثالث. فأشرف هذين القسمين القائم بذاته الغير مفتقر في وجوده إلى غيره. وهو الجوهر. ولما كان الباري - تقدست أسماؤه - أشرف الموجودات؛ إذ هو سبب سائرها، أوجب أن يكون أشرف الأمور وأعلاها الجوهر؛ ولهذا قلنا إنه جوهر لا كالجواهر المخلوقة، كما نقول إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة، وإلا لزم أن يكون قوامه بغيره ومفتقر في وجوده إلى غيره، وهذا من القبيح أن يقال على الله تعالى فقلت لهم إنهم يقولون إنا إنما نمتنع من تسميه جوهرا؛ لأن الجوهر ما قبل عرضا وما شغل الحيز ولهذا ما يطلق عليه القول بأنه تعالى جوهر. قالوا: إن الذي يقبل عرضا ويشغل حيزا هو الجوهر الكثيف، فأما الجوهر اللطيف فما يقبل عرضا ولا يشغل حيزا؛ مثل جوهر النفس، وجوهر العقل، وجوهر الضوء، وما يجري هذا المجرى من الجواهر اللطيفة المخلوقة. فإذا كانت الجواهر اللطيفة المخلوقة لا تقبل عرضا، ولا تشغل حيزا فيكون خالق الجواهر اللطائف والكثائف، ومركب اللطائف بالكثائف يقبل عرضا ويشغل حيزا؟ كلا.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن يقال: أما تسمية الباري جوهرا. فهو من أهون ما ينكر على النصارى؛ ولهذا كان من الناس من ينكره من جهة الشرع - فقط - أو اللغة، ومنهم من ينكره من جهة العقل أيضا، ومنهم من يراه نزاعا لفظيا. وطائفة من المسلمين يسمونه جوهرا وجسما أيضا. وذلك أن المسلمين في أسماء الله تعالى على طريقتين، فكثير منهم يقول: إن أسماءه سمعية شرعية، فلا يسمى إلا بالأسماء التي جاءت بها الشريعة، فإن هذه عبادة، والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع.
ومنهم من يقول: ما صح معناه في اللغة، وكان معناه ثابتا له، لم يحرم تسميته به، فإن الشارع لم يحرم علينا ذلك، فيكون عفوا. والصواب القول الثالث؛ وهو أن يفرق بين أن يدعى بالأسماء أو يخبر بها عنه. فإذا دعي لم يدع إلا بالأسماء الحسنى كما قال تعالى: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه
وأما الإخبار عنه فهو بحسب الحاجة؛ فإذا احتيج في تفهيم الغير المراد إلى أن يترجم أسماؤه بغير العربية، أو يعبر عنه باسم له معنى صحيح، لم يكن ذلك محرما.
وأما الذين منعوه من جهة العقل فكثير: منهم من يقولون: إن الجوهر ما شغل الحيز، وحمل الأعراض والله - سبحانه وتعالى - ليس كذلك، وهذا قول من نفى ذلك من أهل الكلام. ومنهم من يقول: الجوهر ما إذا وجد كان وجوده لا في موضوع، وهذا إنما يكون فيما وجوده زائد على ذاته، وواجب الوجود وجوده عين ذاته، فلا يكون جوهرا. وهذا قول ابن سينا وأمثاله من متأخري المتفلسفة.
وأما قدماء الفلاسفة؛ كأرسطو وأمثاله؛ فكانوا يسمونه جوهرا؛ وعنهم أخذت النصارى هذه التسمية؛ فإن أرسطو كان قبل المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة ولهذا قال هؤلاء في كتابهم نعجب ممن ينكر ذلك وهو قد قرأ شيئا من كتب الفلاسفة والمنطق.
وأما اللغة: فإن لفظ الجوهر ليس من العربية العرباء؛ ولهذا لا يعرف في كلام العرب المحض، وإنما هو معرب كما ذكر ذلك الجوهري وغيره، قال الجوهري: الجوهر معرب، الواحدة جوهرة، فهو من العربية المعربة، لا من العربية العرباء، كلفظ سجيل وإستبرق وأمثال ذلك من الألفاظ المعربة، وهذا اللفظ ليس موجودا في القرآن. ومع هذا فلما عرب كان معناه في اللغة هو الجوهر المعروف. وتسمية القائم بنفسه أو الشاغل للحيز جوهرا، فهو أمر اصطلاحي، ليس هو من الأسماء اللغوية ولا العرفية العامة، ولا الأسماء الشرعية.
وقد قيل: إنه مأخوذ من كلام الأوائل، كاليونان وغيرهم، فإنه يوجد في كلامهم تسمية القائم بنفسه جوهرا. وقد قيل: سموه بذلك؛ لأن جوهر الشيء أصله والقائم بنفسه هو الأصل. وقد يسمون العرض القائم بغيره جوهرا. وقيل: لأن لفظ الجوهر، فوعل، من الجهر؛ وهو الظهور والوضوح، والقائم بنفسه يظهر ويعرف قبل أن يعرف ما قام به من الأعراض.
والناس متفقون على إثبات الأعيان القائمة بنفسها التي تسمى جواهر أو أجساما، وتنازعوا في ثبوت الأعراض القائمة بها، والنزاع عند محققيهم لفظي، فإن عاقلا لا ينازع أن الجسم يتحرك بعد سكونه. لكن منهم من يقول: حركته ليست زائدة على ذاته. ومنهم من يقول: هي زائدة على ذاته. وهو نظير نزاعهم في الصفات: هل هي زائدة على الذات أو ليست زائدة؟.
والتحقيق أن مسمى الإنسان إذا أطلق دخل فيه صفاته، وإذا ميز بين هذا وهذا قيل: الذات والصفات. ومن الناس من يخص بلفظ العرض ما لم يكن من الصفات لازما للموصوف، والصفات اللازمة يسميها صفات ذاتية جوهرية. ومنهم من يخص بالعرض ما لا يبقى عنده زمانين، ويقول: صفات المخلوق تسمى أعراضا؛ لأنها لا تقبل زمانين بخلاف صفات الله، فإنها عنده باقية فلا تسمى أعراضا.
ومن نظار المسلمين من يسمي صفات كل موصوف أعراضا، وإذا كان كذلك فلا يدخل في أسماء الله التي تذكر في أصول الإيمان التي يجب اعتقادها من الأسماء ما هو اصطلاح طائفة من الناس، مع أنه يوهم معنى باطلا. وهذا الوضع مما اضطرب فيه - مع النصارى - كثير من الناس.
منهم من يجعل الصفات أعيانا قائمة بنفسها وجواهر قائمة بنفسها.
ومنهم من يجعل الأعيان القائمة بنفسها صفات، والصفات لا تقوم بأنفسها بل لا بد لها من موصوف تقوم به.
والأولون نوعان:
منهم من نفى الصفات، وقال: لو أثبتنا له حياة وعلما وقدرة لزم أن تكون هذه آلهة فإن القدم أخص وصفه، فلو أثبتنا قديما ليست هي الذات، لزم أن يشارك الذات في أخص وصفها، فتكون ذاتا أخرى قائمة بنفسها. وهذه طريقة كثير من نفاة الصفات من مبتدعة المسلمين، واليهود والنصارى احتجوا على نفي الصفات بأنا لو أثبتناها لزم أن تكون آلهة.
وقال من قال من المنتسبين إلى الإسلام: أنا لو أثبتنا الصفات لقلنا بقول النصارى، حيث أثبتوا لله الأقانيم، وحجة هؤلاء قائمة على النصارى، وهم النوع الثالث، فإنهم أثبتوا لله صفات جعلوها جوهرا قائما بنفسه، وقالوا: إن الله موجود حي ناطق، ثم قالوا حياته جوهر قائم بنفسه، ونطقه - وهو الكلمة - جوهر قائم بنفسه وقالوا في هذا: إنه إله من إله، وهذا إله من إله، فأثبتوا صفات لله وجعلوها جواهر قائمة بنفسها، ثم قالوا: الجميع جوهر، فكان في كلامهم أمور كثيرة من الباطل المتناقض. منهم من جعل الصفات جوهرا. ومنهم من جعل الجواهر المتعددة جوهرا واحدا.
والذين قالوا من نفاة الصفات المعتزلة والجهمية: إن من أثبت الصفات فقد قال بقول النصارى، هو متوجه على من جعل الصفات جواهر. وهؤلاء هم النصارى يزعمون أن الصفات جواهر آلهة، ثم قال هؤلاء: ولا إله إلا الله، فلا صفة له. وقالت النصارى: بل الأب جوهر إله، والابن جوهر إله، وروح القدس جوهر إله، ثم قالوا: والجميع إله واحد. ونفس تصور هذه الأقوال - التصور التام - يوجب العلم بفسادها. وأما الرسل وأتباعهم فنطقوا أن لله علما وقدرة وغير ذلك من الصفات، وثبتوا أن الإله إله واحد. فإذا قال القائل: عبدت الله ودعوت الله؛ فإنما دعا وعبد إلها واحدا؛ وهو ذات متصفة بصفات الكمال، لم يعبد ذاتا لا حياة لها ولا علم ولا قدرة، ولا عبد ثلاثة آلهة ولا ثلاثة جواهر، بل نفس اسم الله يتضمن ذاته المقدسة المتصفة بصفاته - سبحانه - وليست صفاته خارجة عن مسمى اسمه، ولا زائدة على مسمى اسمه، بل إذا قدر ذات مجردة عن الصفات، فالصفات زائدة على هذه الذات المقدرة في الذهن المجردة عن الصفات ليست الصفات زائدة عن الذات المتصفة بالصفات، فإن تلك لا تحقق إلا بصفاتها فتقديرها - مجردة عن صفاتها - تقدير ممتنع.
وقد تنازع المثبتة: هل يقال الصفات عين الذات، أم يقال ليست عين الذات؟ أم يقال: لا يقال هن غير الذات، ولا يقال ليست غير الذات؟ وتنازعوا في مسمى الغيرين: هل هما ما جاز مفارقة أحدهما الآخر مطلقا، أو ما جاز مفارقته بوجود أو زمان أو مكان، أو هما ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر؟ وغاية ذلك منازعات لفظية.
وكثير منهم فرق في الصفات اللازمة بين بعضها وبعض؛ فجعل بعضها زائدا على الذات وبعضها ليس بزائد على الذات، وكان الفرق بحسب ما يتصوره، لا بحسب ما الأمر عليه في نفسه. فإذا أمكنهم تصور الذات بدون صفة قالوا: هذه زائدة، وإلا قالوا ليست زائدة. وهذا يقتضي أنها زائدة على ما تصوروه هم من الذات، لا أنه في الخارج ذات مجردة عن تلك الصفة، وصفة زائدة عليها، بل ليس إلا الذات المتصفة بتلك الصفات.
ولكن يجب الفرق بين أن يقال: إن الصفات غير الذات، وبين أن يقال: إنها غير الله؛ فإن اسم (الله) متناول لذاته المتصفة بصفاته. فإذا قال القائل: دعوت الله وعبدت الله؛ فلم يدع ذاتا مجردة ولا صفات مجردة، بل دعا الذات المتصفة بصفاتها فاسمه تعالى يتناول ذلك. فليست صفاته خارجة عن مسمى اسمه ولا زائدة على ذلك، وإن قيل إنها زائدة على الذات المجردة. ومن ظن أنها زائدة على الذات المتصفة بصفاتها التي تدخل صفاتها في مسماها، فقد غلط ولكن في الأذهان والألسنة زلق في هذا الموضع كثيرا.
فإذا قيل: الصفات مغايرة للذات، لم يكن في هذا من المحذور ما في قولنا: إن صفات الله غير الله؛ فإن اسم الله يتناول صفاته.
فإذا قيل: إنها غيره؛ فهم من ذلك أنها مباينة له وهذا باطل. ولهذا كان النفاة إذا ناظروا أئمة المسلمين، كما ناظروا الإمام أحمد بن حنبل في محنته المشهورة فقالوا له: " ما تقول في القرآن وكلام الله، أهو الله أم غير الله؟ " عارضهم بالعلم؛ وقال لهم: " ما تقولون في علم الله، أهو الله أم غير الله؟ ". وأجاب أيضا: بأن الرسل لم تنطق بواحد من الأمرين، فلا حجة لهم في كلام الله ورسوله، فإن الله لم يقل لكلامه: هو أنا، ولا قال: إنه غيري! حتى يقول القائل: إذا كان قد جعل كلامه غيره وسواه فقد أخبر أنه خالق لكل ما سواه!.
فإن كان الاحتجاج بالسمع؛ فلا حجة فيه، وإن كان الاحتجاج بالعقل؛ فالمرجع في ذلك إلى المعاني لا إلى العبارات. فإن أراد المريد بقوله: هل كلامه وعلمه غيره، أنه مباين له. فليس هو غيرا له بهذا الاعتبار. وإن أراد بذلك أن نفس الكلام والعلم ليس هو العالم المتكلم؛ فهو غير له بهذا الاعتبار. وإذا كان اللفظ مجملا لم يجز إطلاقه على الوجه الذي يفهم المعنى الفاسد. وأما الذين جعلوا الأعيان القائمة بأنفسها صفات، فهم هؤلاء المتفلسفة النفاة للصفات ومن أشبههم؛ فإنهم قالوا: إن رب العالمين عقل وعاقل ومعقول.
ولفظ (العقل) عندهم وإن كانوا يقولون: هو جوهر قائم بنفسه، فقد صرحوا أيضا بأنه - نفسه - علمه، حتى صرحوا بأن رب العالمين علم، كما صرح بذلك ابن رشد وغيره، ونقلوه عن أرسطو، وأن العقول العشرة كل منها علم، فهو علم وعالم ومعلوم، بل قالوا: عقل وعاقل ومعقول، وعاشق ومعشوق وعشق، ولذيذ وملتذ ولذة، فجعلوه - نفسه - لذة وعقلا وعشقا، وجعلوا ذلك هو العالم العاشق الملتذ، وجعلوا نفس العلم نفس العشق ونفس اللذة؛ فجعلوه - نفسه - صفات، وجعلوه ذاتا قائمة بنفسها، وجعلوا كل صفة هي الأخرى، وهذا مما يعلم - بصريح العقل - بطلانه.
ومنهم من لا يصرح بأنه - نفسه - علم، فإنه يقول: هو عاقل ومعقول وعقل؛ يقول: إنه يعلم - نفسه - بلا علم علمه، بل هو العالم، وهو المعلوم وهو العلم. وحقيقة كلامهم تعود إلى قول أولئك؛ فإنهم إذا قالوا: إن العلم الذي يعلم به ذاته هو العالم وهو المعلوم؛ فقد جعلوا نفس العلم نفس العالم ونفس العلم نفس المعلوم وهي حقيقة قول أولئك، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
الوجه الثاني: أن يقال لهم: أنتم تقولون إنكم متبعون للكتب الإلهية، وإذا كان كذلك لم ينبغ لكم في شريعة إيمانكم من الأسماء إلا ما جاءت به الأنبياء عليهم السلام.
والأنبياء لم يسم الله أحد منهم جوهرا، وإنما سماه بذلك أرسطو وأمثاله، وهؤلاء كانوا مشركين يعبدون الأصنام ولم يكونوا يعرفون الله المعرفة الصحيحة، ولا يقولون: إنه خالق السماوات والأرض، ولا إنه بكل شيء عليم، ولا على كل شيء قدير، وإنما كانوا يعبدون الكواكب العلوية، والأصنام السفلية ويعبدون الشياطين ويؤمنون بالجبت والطاغوت، وإنما صاروا مؤمنين لما دخل إليهم دين المسيح، صلوات الله عليه وسلامه بعد الإسكندر المقدوني - صاحب أرسطو - بنحو ثلاثمائة سنة. ويقال: إنه آخر ملوكهم كان (بطليموس) وكانوا يسمون الملك من ملوكهم (بطليموس) كما يسمون القبط ملكها (فرعون) والحبشة ملكها (النجاشي) والفرس (كسرى) ونحو ذلك. وحينئذ فعدولكم عن طريقة الأنبياء والمرسلين. إلى طريقة الكفار والمشركين المعطلين من الضلال المبين.
وفي كتبهم: أن بولص لما صار إلى (أيثينية) دار الفلاسفة، وفيها دار الأصنام، وجد مكتوبا على باب دار العلماء: الإله الخفي الذي لا يعرف هو [1] الذي خلق العالم.
فكانوا لا يعرفون رب العالمين، فكيف يعدل عن طريقة رسل الله وأنبيائه كموسى، وداود، والمسيح، إلى طريقة هؤلاء الكفار المشركين المعطلين؟
ولكن النصارى ركبوا دينا من دينين: من دين الأنبياء الموحدين ودين المشركين، فصار في دينهم قسط مما جاءت به الأنبياء، وقسط مما ابتدعوه من دين المشركين في أقوالهم وأفعالهم، كما أحدثوا ألفاظ الأقانيم، وهي ألفاظ لا توجد في كلام الأنبياء، وكما أحدثوا الأصنام المرقومة بدل الأصنام المجسدة، والصلاة إلى الشمس والقمر والكواكب، بدل الصلاة لها، والصيام في وقت الربيع، ليجمعوا بين الدين الشرعي والأمر الطبيعي وغير ذلك.
الوجه الثالث: قولهم: إن الذي يشغل حيزا ويقبل عرضا هو الجوهر الكثيف، فأما الجوهر اللطيف فما يقبل عرضا ولا يشغل حيزا، مثل جوهر النفس وجوهر العقل وجوهر الضوء. فيقال: الكلام في الجواهر. هل هي منقسمة إلى متحيز وغير متحيز أو كلها متحيزة؟ متصل بالكلام على نفس الإنسان الناطقة.
فنقول إن المسلمين من أعظم الناس معرفة بوجود الملائكة والجن، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وكذلك سلف الأمة وأئمتها يعرفون وجود النفس التي هي روح الإنسان التي تفارق بدنه حين الموت، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة، وإن كان كثير من أهل الكتاب يزعم أنها عرض من أعراض البدن، أو جزء من أجزائه، فهذا قول محدث في الإسلام لم يذهب إليه أحد من السلف والأئمة، وإن كان محكيا عن أكثر المتكلمين، فليس الذين قالوا هذا من سلف الأمة ولا أئمتها، بل هم من أهل الكلام المحدث المذموم عند السلف. وأئمة الأمة وكثير من المتفلسفة الداخلين في أهل الملل يقولون: إن الذوات التي تسميها الأنبياء الملائكة هي التي تسميها المتفلسفة المشاءون عقولا، أو عقولا ونفوسا، وهذا غلط عظيم كما قد بسط في موضعه.
فإن العقول التي يثبتها هؤلاء المتفلسفة لا حقيقة لها عند الرسل وأتباعهم، بل ولا حقيقة لها في المعقول الصريح، بل حقيقة كلامهم أنها أعراض قائمة بنفسها. وقد صرحوا بأن واجب الوجود - نفسه - هو علم، وجعلوا نفس العلم هو نفس العالم، ونفس تصور هذا القول يكفي في العلم بفساده، كما أن هؤلاء المتفلسفة
- أتباع أرسطو - لا يعرفون الملائكة، بل ولا الجن، وإنما علمهم معرفة الأجسام الطبيعية، وتكلموا في الإلهيات بكلام قليل نزر؛ باطله أكثر من حقه، كما قد بسط في موضع آخر.
وهؤلاء يزعمون أن العقل الأول أبدع ما دونه من العقول والأفلاك إلى أن ينتهي الأمر إلى العقل العاشر، فهو مبدع ما تحت فلك القمر. وهذا كله من أعظم الكفر عند الرسل وأتباعهم أهل الملل. فإن مضمون هذا أن ملكا من الملائكة خلق كل ما تحت السماء، وملكا فوقه خلق كل ما سوى الله - سبحانه - وهذا من أعظم الكفر في دين المرسلين وأهل الملل المسلمين واليهود والنصارى. قال تعالى: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون
فأخبر أن الملائكة لا تسبقه بالقول، ولا تعمل إلا بأمره، فضلا عن أن يكون ملك خلق كل شيء.
وهؤلاء يقولون: إن الوحي والكلام الذي جاءت به الرسل، إنما هو فيض من هذا العقل الفعال على قلوب الأنبياء. والله تعالى عند هؤلاء لم يكن يعرف موسى ولا عيسى ولا إبراهيم ولا محمدا ولا غيرهم من الرسل، ولا يعرف الجزئيات، بل عند أرسطو وأتباعه: أنه لا يعلم شيئا من الأشياء، بل ولا خلق عندهم شيئا، بل ولا يقدر عندهم على خلق شيء، فضلا عن أن يكون على كل شيء قدير وأن يكون أحاط بكل شيء علما.
وأرسطو وقومه كانوا مشركين يعبدون الأصنام بمقدونية وأثينية وغيرهما من مدائن فلاسفة اليونان، وكان وزيرا للإسكندر بن فيلبس المقدوني، وكان هذا قبل المسيح "عليه السلام" بنحو ثلاثمائة سنة، ولم يكن وزيرا لذي القرنين الذي بنى سد يأجوج ومأجوج،
وعامة علم القوم علم الطبيعيات والحسابيات، وأما العلم الإلهي - وهو الذي يسمونه علم ما بعد الطبيعة، وهو منتهى فلسفتهم - فإنما تكلموا فيه على أمور كلية، قسموا الوجود إلى جوهر وتسعة أعراض يجمعها بيتان
زيد الطويل الأسود بن مالك في داره بالأمس كان متكى
في يده سيف نضاه فانتضى فهذه عشر مقولات سوا
وهي: الجوهر، والكم، والكيف، والأين، ومتى، والإضافة، والملك، والوضع، وأن يفعل، وأن ينفعل.
وقد نازعه أتباعه وغيرهم في هذا الحصر وقالوا: إنه لا دليل عليه. ومنهم من جعلها ثلاثة. ومنهم من قال غير ذلك وأثبت العلة الأولى بناء على حركة الفلك، وأنه يتحرك حركة شوقية، فلابد له مما يتشبه به. فالعلة الأولى هي غاية لحاجة الفلك إليها من جهة أنه متحرك ليتشبه بها كحركة المؤتم بإمامه، والمقتدي بقدوته، وقد يقولون: كتحريك المعشوق لعاشقه.
وكلام أرسطو في ذلك موجود، وقد نقلته بألفاظه وتكلمت عليه في غير هذا الموضع، وقد ذكر ذلك في مقالة اللام وهي آخر فلسفته ومنتهى حكمته وفي كتاب أثولوجيا: ولم يثبت أن الرب مبدع لفلك وعلة فاعلة، ولا يسمى واجب الوجود. ولا قسم الموجودات إلى واجب قديم وممكن قديم، بل ذلك فعل المتأخرين؛ كابن سينا وأمثاله، وقد بسطنا الكلام عليهم في غير هذا الموضع.
والمتأخرون الذين سمعوا كلام أهل الملل أرادوا إصلاح كلامه وتقريبه إلى العقول، لعله يوافق ما علم بصريح المعقول وصحيح المنقول. فتكلم عليه ثابت بن قرة وبين أن الفلك لا قوام له إلا بطبيعته ولا قوام لطبيعته إلا بحركته، ولا قوام لحركته الإرادية إلا بمحرك لها.
وزعموا أن المحرك يجب أن لا يكون متحركا، وقرروا ذلك بأدلة فاسدة، قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع؛ فقالوا: إنه إنما تحرك الفلك من جهة نسبة الفلك به، وإن لم يكن هو القادر على تحريك الفلك، بل ولا شعور منه بالفلك. وعبر عن ذلك ابن رشد الفيلسوف وأمثاله؛ فقالوا: إنه يأمر الفلك بالحركة وقوام الفلك بطاعته لأمر الله. مع أنه عندهم لا إرادة له ولا علم له بما يأمر به، بل كونه آمرا وهو معنى كون الفلك يتشبه به، كما يأمر المعشوق عاشقه أن يحبه، وإن كان المعشوق لا شعور له ولا إرادة في أن يحبه ذلك.
ثم لو قدر أنه هو الآمر؛ فإنما يصدر بسبب أمره، مجرد حركة الفلك؛ ولهذا شبهوا ذلك بأمر السلطان لعسكره بأمر يطيعونه فيه، فجعلوا الحركات معلولة بهذا الاعتبار، لم يثبتوا أنه أبدع شيئا من الأفلاك والعناصر والمولدات ولا العقول ولا النفوس، لا أبدع أعيانها ولا صفاتها، ولا أفعالها، بل غايته أن يكون آمرا لها بالحركة؛ كأمر الملك لعسكره، مع أنه عندهم ليس آمرا بالحقيقة، بل ولا علم له بشيء من الموجودات، بل غاية ما يزعم أرسطو وأتباعه أن للفلك حاجة إليه من جهة تشبهه به، وأما كونه هو علية موجبة للفلك، فإنما يقول هذا من يقوله من متأخريهم كابن سينا.
وأما الفارابي؛ فهو الذي وسع القول في هذا الباب، وقسم الوجود إلى واجب وممكن، وجعل الأفلاك ممكنة واجبة به، وفي ذلك من الفساد والاضطراب ما قد بسط في غير هذا الموضع. وبنى ابن سينا الكلام في نفي صفاته على كونه واجب الوجود.
وأما الفارابي في كتاب " آراء المدينة الفاضلة " وغير ذلك فاعتمد على كونه أول، وكذا أرسطو في كتاب " أثولوجيا " اعتمد على كونه هو الأول، وشبهه بالأول في العدد، وعلى ذلك بنوا نفي الصفات، وإنما لو أثبتناها لخرج عن كونه أول، مع أنهم لم يقيموا حجة على كونه أول بهذا المعنى الذي زعموه، كما لم يقيموا حجة على كونه واجب الوجود بالمعنى الذي ادعوه، بل تكلموا بألفاظ مجملة متشابهة، تحتمل حقا وباطلا؛ فإنه معلوم أن الله واجب الوجود بذاته موجود بنفسه، وأنه الأول الذي ليس قبله شيء، وهو القديم الأزلي الذي لم يزل ولا يزال، وهؤلاء جعلوا وجوب الوجود بمعنى أنه لا يتعلق بغيره فلا يكون له صفة. وكونه أول بمعنى أول الأعداد الذي لا تعدد فيه، فمعلوم أن الواحد والأول المجرد عن كل شيء إنما يقدر في الأذهان لا في الأعيان.
فالذهن يقدر واحدا واثنين وثلاثة وأربعة، إلى سائر الأعداد المجردة، والعدد المجرد عن المعدود إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان، فأما الموجود في الخارج فإنما هي أعيان قائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها والأول منها هو ذات متصفة بصفاتها لا توجد في الأعيان، ليس بذات قائمة بنفسها، ولا صفة قائمة بغيرها، بل لا توجد ذات مجردة عن صفاتها وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع، ولكن نبهنا هنا عليها لأن هؤلاء القوم قالوا إنا نعجب من هؤلاء القوم أنهم ذو فضل وأدب ومعرفة، ومن هذا صورته وقد قرأ شيئا من كتب الفلاسفة والمنطق، فما حقهم ينكرون علينا هذا.
فكل كلام هؤلاء النصارى يتضمن تعظيم الفلاسفة وأهل المنطق، وأن من قرأ كتبهم عرف بها من الحق في الإلهيات ما لا يعرفه سائر أهل الملل، وهذا يدل على جهل هؤلاء النصارى بما جاءت به الرسل، وبما يعرف بالعقل المحض.
أما الأول: فلأن المسيح وأتباعه كالحواريين ومن اتبعهم ليس فيهم من عظم هؤلاء الفلاسفة، ولا استعان بهم، ولا التفت إليهم، بل وهم عندهم من أئمة الكفر ورءوس الضلال، وكذلك موسى وأتباعه، وكذلك محمد وأتباعه، فليس في رسل الله وأنبيائه ولا في أتباعهم من يعظمهم ولا يستعين بكلامهم، بل الرسل وأتباعهم متفقون على تضليلهم وتجهيلهم.
وأما العقليات: فإنما يعظم كلام هؤلاء الفلاسفة في العلوم الكلية والإلهية من هو من أجهل الناس بالمعارف الإلهية والعلوم الكلية؛ إذ كان كلامهم في ذلك، فيه من الجهل والضلال ما لا يحيط به إلا ذو الجلال، وإنما كان القوم يعرفون ما يعرفونه من الطبيعيات والرياضيات كالهندسة وبعض الهيئة وشيئا من علوم الأخلاق والسياسات المدنية والمنزلية التي هي جزء مما جاءت به الرسل، واليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل أعلم من هؤلاء بالعلوم الإلهية والأخلاق والسياسات، فضلا عما وراء ذلك.
فاعتضاد هؤلاء النصارى هؤلاء المتفلسفة يدل على عظيم جهلهم بالشرعيات والعقليات، وهذا قد بسط الكلام عليه في مواضع متعددة؛ إذ كان الرد على الفلاسفة لا يختص به النصارى، بل الكلام في ذلك معهم ومع من يعظمهم من أهل الملل عموما.
ومعلوم أن المنتسبين إلى الإسلام من أتباع الفلاسفة؛ كالفارابي وابن سينا والسهروردي المقتول، وابن رشد الحفيد إمامهم، أحذق بهم وأعلم من النصارى.
وكتب الفلاسفة التي صارت إلى الإسلام، من الطب والحساب والمنطق وغير ذلك، هذبها المنتسبون إلى الإسلام فجاء كلامهم فيها خيرا من كلام أولئك اليونان.
والنصارى واليهود إنما يعتمدون في هذه العلوم على ما وصفه هؤلاء المنتسبون إلى الإسلام، مع أن هؤلاء عند علماء المسلمين جهال ضلال في الإلهيات والكليات، فكيف يكون سلفهم ومن يعظمهم من اليهود والنصارى؟.
ولما صار أولئك اليونان عارفين بالله، موحدين له، عابدين له، مؤمنين بملائكته وكتبه ورسله، لما دخل إليهم أتباع المسيح يدعونهم إلى دين الله الذي بعث به المسيح. وكل من كان من أتباع المسيح - غير مبدل لشيء من دينه قبل النسخ - فإنه من المؤمنين المهتدين، وهم من أولياء الله وهم من أهل الجنة.
ومن ظن أن كلام الرسل يوافق هؤلاء اليونان؛ فإن ذلك يدل على جهله بما جاءت به الرسل وبما يقول هؤلاء. وإنما يوجد مثل هذا في كلام الملاحدة من أهل الملل؛ ملاحدة اليهود والنصارى وغيرهم؛ كأصحاب رسائل إخوان الصفا، وأمثالهم من الملاحدة المنتسبين إلى تشيع أو إلى تصوف كابن عربي وابن سبعين وأمثالهما. وفي الكتب المضنون بها على غير أهلها ونحو ذلك من الكلام المنسوب إلى أبي حامد قطعة من ذلك.
وهؤلاء يحتجون بالحديث المأثور " أول ما خلق الله العقل فقال له: أقبل. فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: وعزتي ما خلقت خلقا أكرم علي منك، فبك آخذ وبك أعطي، وبك الثواب وعليك العقاب ".
وهذا الحديث كذب موضوع على النبي ﷺ كما ذكر ذلك أهل العلم بالحديث؛ كأبي جعفر العقيلي، وأبي حاتم بن حبان البستي، وأبي الحسن الدارقطني، وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم.
ثم لفظه لو كان صحيحا حجة على نقيض مطلوبهم، فإنه قال: " أول ما خلق الله العقل " بنصب " أول "، وفي لفظ " لما خلق الله العقل قال له ".
فلفظه يقتضي أنه خاطبه في أول ما خلقه، فحرفوا لفظه وقالوا: أول ما خلق الله العقل بالضم، وليس هذا لفظه، ولكن لفظه يقتضي أنه خاطبه في أول أوقات خلقه؛ ولهذا قال: " ما خلقت خلقا أكرم علي منك "، وهذا يقتضي أنه خلق قبله غيره.
وعندهم هو أول المبدعات، يمتنع أن يتقدمه شيء، مع أنه وسائر العقول والأفلاك - عندهم - قديمة أزلية لم تزل ولا تزال.
ثم قال: " فبك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وعليك العقاب " فجعل به هذه الأنواع الأربعة.
وعندهم أن العقل صدر عنه جميع العالم العلوي والسفلي؛ وذلك أن لفظ (العقل) في الحديث سواء كان صحيحا أو ضعيفا، هو العقل في لغة الأنبياء والمرسلين، هو عقل الإنسان، وهو عرض قائم به، وهذه صفة قائمة بالإنسان، ليس هو جوهرا قائما بنفسه.
والعقل في لغة هؤلاء الفلاسفة هو جوهر قائم بنفسه. وأما النفس الفلكية، فلهم فيها قولان: قيل: إنها عرض قائم بالفلك، وهو قول أكثرهم. وقيل: بل جوهر قائم بنفسه، ولهذا يميل ابن سيناء، وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر.
والمقصود هنا ذكر هؤلاء النصارى أن ثم جوهرا لطيفا، غير الجوهر الكثيف، ومثلوا ذلك بالنفس والعقل والضوء، ثم لم يقيموا على ثبوت شيء من ذلك دليلا، ولا دليل مما دلت عليه الكتب الإلهية، فإن النفس الفلكية والعقول العشرة لم ينطق بها كتاب ولا رسول، بل ولا دل عليها دليل عقلي، وأدلة المتفلسفة عليها ضعيفة. وإنما دل العقل على ما أخبرت به الرسل من الملائكة.
ولكن هؤلاء الذين حملوا كلام الرسل على ما يوافق قول المتفلسفة يجعلون اللوح المحفوظ، هو النفس الفلكية، كما يجعلون العقل والقلم هو العقل الأول والعرش هو الفلك التاسع، وغير ذلك مما قد بسط الكلام عليه في موضع آخر.
وإذ لم يقيموا حجة شرعية ولا عقلية على ما مثلوا به من الجواهر اللطيفة لم يكن لهم حجة على من قال: إن الجوهر ما يشغل حيزا ويقبل عرضا. ولما قرنوا النفس بالعقل، كان ذلك ظاهرا في أنهم أرادوا النفس الفلكية.
فأما إن أرادوا النفس الإنسانية فهذه ثابتة، أخبرت بها الرسل وأتباعهم، كما قد بسط في موضعه. لكن هذه لا تقرن بالعقل الذي هو جوهر. والعقل صفة هذه وهو مصدر عقل يعقل عقلا. وقد يراد بالعقل غريزة قائمة بها، ويراد بالعقل العمل بالعلم كما قد بسط في موضع آخر.
الوجه الرابع: قولهم: " وجوهر الضوء " فيقال لهم: إن أردتم بالضوء نفس الشمس والنار فهذا جسم متحيز؛ يشغل حيزا، ويقبل عرضا، ليس هو من الجواهر اللطيفة الذي مثلتم بها وإن أردتم بالضوء الشعاع القائم بالهواء والجدران ونحو ذلك، فليس هذا بجوهر، لا لطيف ولا كثيف، بل هو عرض قائم بغيره.
الوجه الخامس: قولكم: " إن الجوهر اللطيف لا يقبل عرضا " كلام ممنوع، وهو باطل أيضا. فإن نفس الإنسان تقبل الأعراض القائمة بها، وكذلك النفس الفلكية - عند من أثبتها - تقوم بها إرادات وتصورات متجددة. ولفظ " العرض " في اصطلاح النظار يراد به ما قام بغيره سواء كان صفة لازمة أو عارضة، وهذا موجب تقسيم النصارى، كما هو قول الفلاسفة.
فإنهم قالوا: ليس في الوجود شيء إلا وهو إما جوهر وإما عرض؛ لأنه أي أمر نظرناه وجدناه إما قائما بنفسه، غير مفتقر في وجوده إلى غيره، وهو الجوهر، وإما مفتقر في وجوده إلى غيره، لا قوام له بنفسه وهو " العرض " قالوا: " ولا يمكن أن يكون لهذين قسم ثالث ".
وهذا الذي قالوه هو تقسيم أرسطو وأتباعه، وهو يسمي المبدأ الأول جوهرا وهذا تقسيم سائر النظار. لكن أكثرهم لا يدخلون رب العالمين في مسمى الجوهر، ومنهم من يدخله فيه، وبعض النزاع في ذلك لفظي.
وإذا كان الأمر على ما قالوه؛ فالضوء القائم بالأرض والهواء عرض ليس جوهرا قائما بنفسه، وهم قد جعلوه جوهرا، وهذا تناقض بين. وأيضا فالجواهر اللطيفة تقوم بها الأعراض؛ كالحياة والعلم، بل والرب - على قولهم - تقوم به الحياة والعلم.
فإذا سموه جوهرا، لزمهم أن يسموا صفاته أعراضا، إذا قالوا: لا موجود إلا جوهر أو عرض.
فهذا يناقض قولهم: " الموجود إما جوهر وإما عرض، فليس في الموجودات إلا هذا أو هذا " بل موجب كلامهم أنها قائمة بذات الله، فكيف بذات غيره؟.
وإذا قالوا: " ويعنى بالأعراض، الصفات العارضة أو القائمة بالأجسام " كان هذا مناقضا لقولهم: " الموجود إما جوهر وإما عرض " مع قولهم: " إن الرب جوهر ثلاثة أقانيم، والأقنوم ذات وصفة " ومع قولهم: " إن الرب جوهر " فقولهم يقتضي أن الرب جوهر تقوم به الأعراض، فكيف غيره.
ثم يقال: إذا قدر أنهم يدعون ثبوت جوهر لا يقوم به الأعراض، فهذا اصطلاح لهم وافقوا فيه نفاة الصفات من الفلاسفة كأرسطو وذويه، فإنهم يقولون: إن الرب جوهر لا يتصف بشيء من الصفات الثبوتية، لكن ليس هذا قول النصارى، فتبين أنهم في قولهم: " إن الرب جوهر " وفي قولهم: " إن من الجواهر ما لا يقوم به الصفات " موافقون للمشركين الفلاسفة، أرسطو وأتباعه، لا موافقين للمسيح والحواريين، وأنهم أثبتوا الصفات لله موافقة للمسيح والحواريين ثم جعلوه جوهرا، ثم قالوا: " إن الجوهر اللطيف لا تقوم به الصفات " وهذا قول الفلاسفة المشركين المعطلين، وهذا تحقيق ما ذكرناه عنهم من أنهم ركبوا دينا من دين المسيح والحواريين ومن دين الكفار المشركين.
فهؤلاء إن عنوا بالعرض هذا فكل جوهر يقبل الصفات، وإن أرادوا بالعرض ما تعنيه المتفلسفة بالصفات العرضية التي يفرقون بينها وبين الذاتية - مع أن هذا ليس مقتضى كلامهم - فقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن تقسيم هؤلاء الصفات اللازمة للموصوف إلى ذاتية وعرضية تقسيم باطل، وتقدير أن يكون حقا، فالنفس - أيضا - تقبل الصفات العرضية، بل وكذلك كل جوهر سواء كان لطيفا أو كثيفا. فقولكم: " إن الجوهر اللطيف لا يقبل عرضا؛ مثل جوهر النفس وجوهر العقل وجوهر الضوء وما يجري هذا المجرى من الجواهر اللطيفة، كلام باطل على كل تقدير.
وإن عنوا بلفظ العرض شيئا آخر، لم ينفعهم ذلك، فإن المتكلمين الذين قالوا: " الجوهر هو ما يشغل حيزا ويقبل عرضا " إنما أرادوا بالعرض ما يقوم بغيره من المعاني، سواء كان لازما له أو عارضا له، ومعلوم أن كل جوهر فإنه يقوم به المعاني. والخالق تعالى عندهم يقوم به الحياء والعلم، فإذا كان الخالق تعالى يقوم به المعاني - وهم يسمونه جوهرا - فكيف لا تقوم المعاني بغيره.
وهؤلاء يثبتون جوهرا لطيفا لا تقوم به الأعراض، مع قولهم: " إنه تقوم به المعاني " وهذا اصطلاح لهم لا يوافقهم عليه أحد. ثم يتناقضون فيقولون: " الموجود إما جوهر وإما عرض " وهذا تناقض.
ونظار المسلمين لهم في تسمية صفات الله القائمة به أعراضا نزاع: بعضهم يسميها أعراضا، وبعضهم ينكر هذه التسمية، مع اتفاق هاتين الطائفتين على قيام الصفات به. وجمهور نظار المسلمين لا يسمونه جوهرا، وبعضهم يسميه جوهرا، وأما من أنكر قيام الصفات به فذاك لا يسمي الله جوهرا ولا جسما.
وهؤلاء النصارى متناقضون تناقضا بينا، ولهذا كان لهم طريقة لا يوافقهم عليها أحد من طوائف العقلاء، ذلك يظهر:
بالوجه السادس: وهو أن الناس لهم في إثبات الصفات القائمة بذات الله تعالى قولان: فسلف المسلمين وأئمتهم وجمهور الخلق من أهل الملل وغير أهل الملل، يثبتون قيام الصفات بالله، تبارك وتعالى. وهل تسمى أعراضا؟ على قولين: والقول الثاني: قول من ينفي الصفات، مثل الملاحدة الجهمية ونحوهم، من مبتدعة المسلمين، ومن وافقهم من الفلاسفة، وبعض اليهود والنصارى، فهؤلاء لا تقوم به المعاني والصفات عندهم، فلا يقولون: تقوم به الأعراض. ثم من هؤلاء من يسميه جوهرا كأرسطو وأتباعه، ومنهم من لا يسميه جوهرا، كمتأخري الفلاسفة: ابن سينا وأمثاله، مع جمهور نظار المسلمين وغيرهم، سواء سموه جوهرا أو لم يسموه.
وأما الجمهور القائلون بقيام المعاني به؛ فبعضهم يسميها أعراضا وإن لم يسمه جوهرا. وقد سماه بعضهم جوهرا، وبعضهم ينفي أن يكون أعراضا، وبعضهم يسكت عن النفي والإثبات، فلا يسميها أعراضا ولا ينفي تسميتها بذلك، أو يستفصل القائل عن كونها أعراضا.
وأما هؤلاء النصارى فقالوا: " جوهر ثلاثة أقانيم " ووصفوه بالصفات الثبوتية؛ وهي الحياة والنطق، وقالوا: " الموجود إما جوهر وإما عرض " فلزمهم أن تكون صفات الله أعراضا عندهم، ثم قالوا: " الجوهر اللطيف لا يقوم به الأعراض " ونزهوا الرب أن تقوم به الأعراض، مع قولهم: " إنه جوهر " تناقضوا تناقضا بينا، حيث جمعوا بين كلام الرسل وأتباعهم وبين كلام المشركين المعطلين الفلاسفة. فما تلقوه عن المسيح فهو حق، وما ابتدعوه من قول من خالف الرسل فهو باطل. فجمعوا في قولهم بين الحق والباطل، وسلكوا مسلكا لا يعرف عن غيرهم، وإيضاح هذا أن يقال في:
الوجه السابع: أن هذا الذي ذكروه تناقض بين؛ فإنهم قالوا: الموجود إما جوهر وإما عرض: " القائم بذاته هو الجوهر، والقائم بغيره هو العرض ".
ثم قالوا: " إنه موجود حي ناطق، له حياة ونطق ". فيقال لهم: حياته ونطقه؛ إما جوهر وإما عرض، وليس جوهرا؛ لأن الجوهر ما قام بنفسه، والحياة والنطق لا يقومان بنفسيهما، بل بغيرهما، فهما من الأعراض، فتعين أنه عندهم جوهر يقوم به الأعراض، مع قولهم: " إنه جوهر لا يقبل عرضا ".
فإن قيل: أرادوا بقولهم: " لا يقبل عرضا " ما كان حادثا؛ قيل: فهذا ينقض تقسيمهم الموجود إلى جوهر وعرض، فإن المعنى القديم الذي يقوم به ليس جوهرا وليس حادثا. فإن كان عرضا؛ فقد قام به العرض وقبله، وإن لم يكن عرضا؛ بطل التقسيم.
يبين هذا أنه يقال: أنتم قلتم: " إنه شيء حي ناطق " وقلتم: " هو ثلاثة أقانيم " وقلتم: " المتحد بالمسيح أقنوم الكلمة " وقلتم في الأمانة: " نؤمن بإله واحد أب ضابط الكل، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، إله حق من إله حق من جوهر أبيه مولود غير مخلوق مساو للأب في الجوهر ".
ثم قلتم: " إن الرب جوهر " وقلتم: " إن الذي يشغل حيزا أو يقبل عرضا هو الجوهر الكثيف؛ فأما الجوهر اللطيف فلا يقبل عرضا ولا يشغل حيزا؛ مثل جوهر النفس وجوهر العقل، وما يجري هذا المجرى من الجواهر اللطيفة. فإذا كانت الجواهر اللطيفة المخلوقة لا تقبل عرضا ولا تشغل حيزا؛ فيكون خالق الجواهر اللطائف والكثائف ومركب اللطائف بالكثائف يقبل عرضا ويشغل حيزا كلا " فصرحتم بأنه جوهر لا يقبل عرضا، وقلتم: " ليس في الموجود شيء إلا وهو إما جوهر وإما عرض؛ فإن كان قائما بنفسه غير محتاج في وجوده إلى غيره فهو الجوهر، وإن كان مفتقرا في وجوده إلى غيره لا قوام له بنفسه فهو العرض ".
فيقال لكم: الابن القديم الأزلي المولود من جوهر أبيه - الذي هو مولود غير مخلوق، الذي تجسد ونزل - جوهر قائم بنفسه أم هو عرض قائم بغيره، والموجود عندكم: إما جوهر وإما عرض. فإن قلتم: هو جوهر، فقد صرحتم بإثبات جوهرين: الأب جوهر، والابن جوهر، ويكون حينئذ أقنوم الحياة جوهرا ثالثا، فهذا تصريح بإثبات ثلاثة جواهر قائمة بنفسها، وحينئذ فيبطل قولكم: " إنه إله واحد، وإنه أحدي الذات ثلاثي الصفات، وإنه واحد بالجوهر ثلاثة بالأقنوم " إذ كنتم قد صرحتم - على هذا التقدير - بإثبات ثلاثة جواهر.
وإن قلتم: بل الابن القديم الأزلي، الذي هو الكلمة، التي هي العلم والحكمة، عرض قائم بجوهر الأب، ليس هو جوهرا ثانيا؛ فقد صرحتم بأن الرب جوهر تقوم به الأعراض، وقد أنكرتم هذا في كلامكم، وقلتم: " هو جوهر لا تقوم به الأعراض " وقلتم: " إن من المخلوقات جواهر لا تقوم بها الأعراض، فالخالق أولى " وهذا تناقض بين لا حيلة فيه لمن تدبر كلامهم أوله وآخره.
فإن كلامهم هذا يوجب أنه جوهر واحد، لا يقوم به شيء من الأعراض.
وهم يقولون: " جوهر واحد، ثلاثة أقانيم " وسواء سموها صفات أو خواص أو أعراضا، أو قالوا: الأقنوم هو الذات والصفة. فيقال لهم: الرب مع الأقانيم: ثلاثة جواهر أو جوهر واحد له ثلاثة صفات، أو جوهر لا صفة له. فإن قالوا: ثلاثة جواهر، أثبتوا ثلاثة وبطل قولهم: " إن الرب جوهر واحد وإله واحد " وصرحوا بإثبات ثلاثة آلهة.
وإن قالوا: بل جوهر واحد له ثلاث صفات، فقد صرحوا أن هذا الجوهر تقوم به الصفات، وإذا قامت به الصفات - وقد سموه جوهرا - وقالوا: " كل موجود إما جوهر وإما عرض " لزمهم قطعا أن تكون صفاته أعراضا فبطل قولهم: " إنه جوهر لا يقوم به الأعراض " وإن قالوا: جوهر واحد لا تقوم به الصفات. بطل قولهم: " له حياة ونطق " وإذا نفوا الصفات؛ أبطلوا التثليث والاتحاد وبطلت الأمانة، مع مخالفتهم لكتب الأنبياء، فإنها مصرحة بإثبات الصفات، ومع مخالفتهم لصريح العقل.
والمقصود أنهم يتناقضون تناقضا بينا؛ لأنهم أثبتوا جوهرا لا تقوم به الأعراض مع قولهم: " الموجود إما جوهر وإما عرض " ومع قولهم: " إنه جوهر ثلاثة أقانيم " فإذا لم تقم به الأعراض، لم يكن له صفات، فإن الصفة قائمة بغيرها ليست جوهرا، بل هي - إذا كان الموجود إما جوهر وإما عرض - من قسم الأعراض، لا من قسم الجواهر، فكان هذا الكلام نافيا لقيام الصفات به مطلقا.
ثم قالوا بالأقانيم التي توجب إما إثبات صفات، وإما إثبات جواهر ثلاثة قائمة بنفسها، مع أنها إذا قامت بنفسها لزم اتصافها بالصفات. ولا ريب أن القوم يجمعون في قولهم بين النقيضين، بين إثبات الصفات ونفيها، وبين إثبات ثلاثة جواهر ثلاثة آلهة، وبين قولهم الإله الواحد.
وسبب ذلك: أنهم ركبوا لهم اعتقادا، بعضه من نصوص الأنبياء المحكمة، كقولهم: " إله واحد " وبعضه من متشابه كلامهم، كلفظ ( الابن) و (روح القدس) وبعضه من كلام الفلاسفة المشركين المعطلين، كقولهم: " جوهر لا تقوم به الصفات ".
ومما يوضح ذلك أنك تجد عامة علماء النصارى - فضلا عن عامتهم - لا يعرفون ما نسخه المسيح من شريعة التوراة مما أقره، مع اتفاقهم على أن المسيح لم ينسخها كلها، ولم يقرها كلها، بل أخبرهم أنه إنما جاء ليتمها لا ليبطلها، وقد أحل بعض ما حرم فيها، كالعمل في السبت.
ومعلوم أن المقصود بالرسل تصديقهم فيما أخبروا، وطاعتهم فيما أمروا، فإذا كان عامة النصارى لا يميزون ما أمرهم به مما لم يأمرهم به، ولا ما نهاهم عنه مما لم ينههم عنه - مع اعترافهم بأنه أقر كثيرا من شريعة التوراة، بل أكثرها وأحل بعضها فنسخه ورفعه، وهم لا يعرفون هذا من هذا، لم يكونوا عارفين بما جاء به المسيح، ولا يعرفون ما أمرهم الله على لسان موسى وسائر الأنبياء - فإنهم لا يجوز لهم العمل بكل ما في التوراة، بل قد نسخ المسيح بعض ذلك باتفاقهم واتفاق المسلمين على ذلك.
ولا يجوز لهم تعطيل جميع شريعة التوراة، بل يجب عليهم العمل بما لم ينسخه المسيح، وعامتهم لا يعرفون ما نسخه مما لم ينسخه، فلا يمكنهم العمل بالتوراة والانتفاع بها في الشرع، حتى يعرفوا المنسوخ منها من غير المنسوخ.
وعامتهم لا يعرفون ذلك، فلم يكونوا حينئذ على شريعة منزلة من الله، لا من جهة المسيح، ولا من جهة موسى فلم يعلموها، بل كان ذلك مجهولا عند عامتهم وجمهورهم أو جميعهم، فكانوا محتاجين إلى أن يعرفوا ما شرعه الله مما لم يشرعه؛ فأرسل الله محمدا ﷺ بشرع أمر فيه بمحاسن ما في الكتابين، وعوض عما نسخه بما هو خير منه.
فصل: نقض دعواهم الاستغناء باليهودية والنصرانية
ثم قالوا: " إنا نعجب من هؤلاء القوم، الذين مع أدبهم وما يأخذون به أنفسهم من الفضل، كيف لم يعلموا أن الشرائع شريعتان: شريعة عدل وشريعة فضل؛ لأنه لما كان الباري عدلا وجوادا وجب أن يظهر عدله على خلقه فأرسل موسى إلى بني إسرائيل فوضع شريعة العدل وأمرهم بفعلها إلى أن استقرت في نفوسهم، ولما كان الكمال الذي هو الفضل لا يمكن أن يضعه إلا أكمل الكمال، وجب أن يكون هو - تقدست أسماؤه وجلت آلاؤه - الذي يضعه؛ لأنه ليس شيء أكمل منه، ولأنه جواد؛ وجب أن يجود بأجل الموجودات وليس في الموجودات أكمل من كلمته؛ لذلك وجب أن يجود بكلمته، فلهذا وجب أن يجود بكلمته، فلهذا وجب أن يتحد بذات محسوسة يظهر منها قدرته وجوده. ولما لم يكن في المخلوقات أجل من الإنسان، اتحد بالطبيعة البشرية من السيدة الطاهرة، من مريم البتول المصطفاة على نساء العالمين، وبعد هذا الكمال ما تبقى شيء يوضع؛ لأن جميع ما يتقدمه وما يأتي مقتضيه، وما يأتي بعد الكمال غير محتاج إليه؛ لأن ليس شيء يأتي بعد الكمال فيكون فاضلا، بل دون، أو أخذ منه. فهو فاضل لا يحتاج إليه، وفي هذا القول نفع. والسلام على من اتبع الهدى، وهذا مما عرفته من أن القوم الذين رأيتهم وخاطبتهم في محمد "عليه السلام" وما يحتجون به عن أنفسهم، فإن يكن ما ذكروه صحيحا؛ فلله الحمد. وإن كان خلاف ذلك فمولانا يكتب ذلك، فقد جعلوني سفيرا، والحمد لله رب العالمين ".
والجواب على هذا من وجوه، أحدها: أن يقال: بل الشرائع ثلاثة: شريعة عدل فقط، وشريعة فضل فقط، وشريعة تجمع العدل والفضل، فتوجب العدل، وتندب إلى الفضل، وهذه أكمل الشرائع الثلاث وهي شريعة القرآن الذي جمع فيه بين العدل والفضل. مع أنا لا ننكر أن يكون موسى "عليه السلام" أوجب العدل وندب إلى الفضل، وكذلك المسيح - أيضا - أوجب العدل وندب إلى الفضل.
وأما من يقول: إن المسيح أوجب الفضل وحرم على كل مظلوم أن يقتص من ظالمه، أو أن موسى لم يندب إلى الإحسان، فهذا فيه غضاضة بشريعة المرسلين. لكن قد يقال: إن ذكر العدل في التوراة أكثر، وذكر الفضل في الإنجيل أكثر، والقرآن جمع بينهما على غاية الكمال.
والقرآن بين أن السعداء أهل الجنة، وهم أولياء الله نوعان: أبرار مقتصدون، ومقربون سابقون؛ فالدرجة الأولى تحصل بالعدل: وهي أداء الواجبات وترك المحرمات، والثانية لا تحصل إلا بالفضل: وهو أداء الواجبات والمستحبات، وترك المحرمات والمكروهات.
فالشريعة الكاملة تجمع العدل والفضل؛ كقوله تعالى وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة. فهذا عدل واجب، من خرج عنه استحق العقوبة في الدنيا والآخرة.
ثم قال: وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون. فهذا فضل مستحب مندوب إليه، من فعله أثابه الله ورفع درجته، ومن تركه لم يعاقبه.
وقال تعالى: ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله. فهذا عدل.
ثم قال تعالى: إلا أن يصدقوا. فهذا فضل.
وقال تعالى: والجروح قصاص. فهذا عدل.
ثم قال: فمن تصدق به فهو كفارة له. فهذا فضل.
وقال تعالى: وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم. فهذا عدل.
ثم قال: إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى. فهذا فضل.
وقال تعالى: وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به. فهذا عدل.
ثم قال: ولئن صبرتم لهو خير للصابرين. فهذا فضل.
وقال تعالى: وجزاء سيئة سيئة مثلها. فهذا عدل.
ثم قال: فمن عفا وأصلح فأجره على الله. فهذا فضل.
وهو - سبحانه - دائما يحرم الظلم ويوجب العدل ويندب إلى الفضل، كما في آخر سورة البقرة لما ذكر حكم الأموال. والناس فيها إما محسن وإما عادل وإما ظالم؛ فالمحسن المتصدق، والعادل المعاوض كالبايع، والظالم كالمرابي.
فبدأ بالإحسان والصدقة فذكر ذلك ورغب فيه فقال: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم الآيات.
ثم ذكر تحريم الربا، فقال:
الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
ثم لما أحل البيع ذكر المداينات، وحكم البيع الحال والمؤجل، وحفظ ذلك بالكتاب والشهود أو الرهن، وختم السورة بأصول الإيمان من الإيمان بالكتب والرسل، وهو - سبحانه - بعد أن افتتحها بذكر أصناف الناس، وهم ثلاثة: إما مؤمن وإما كافر وإما منافق. فذكر نعت المؤمنين، ثم ذكر نعت الكافرين، ثم ذكر نعت المنافقين، ثم مهد أصول الإيمان؛ فأمر بعبادة الله تعالى وذكر آياته وآلائه. ثم قرر نبوة رسله، ثم ذكر اليوم الآخر والوعد والوعيد، ثم ذكر بدء العالم وخلق السماوات والأرض، ثم خلق آدم وإسجاد الملائكة له وخروجه من الجنة، وهبوطه إلى الأرض.
ثم بعد أن عم بالدعوة جميع الخلق، خص أهل الكتاب فخاطبهم: خاطب اليهود أولا بني إسرائيل، ثم النصارى، ثم خاطب المؤمنين فقرر لهم قواعد دينه؛ فذكر أصل ملة إبراهيم وبناءه للبيت ودعاءه لأهل مكة، ووكد الأمر بملة إبراهيم، ثم ذكر ما يتعلق بالبيت من اتخاذه قبلة ومن تعظيم شعائر الله التي عنده كالصفا والمروة، ثم ذكر التوحيد والحلال والحرام والمطاعم للناس عموما، ثم للذين آمنوا خصوصا.
ثم ذكر ما يتعلق بالقتل من القصاص وبالموت من الوصية، ثم ذكر شرائع الدين، فذكر صيام شهر رمضان، وما يكون فيه من الاعتكاف، ثم ذكر ما يتصل بشهر الصيام، وهو أشهر الحج، فذكر الحج، وذكر حكم القتال عموما، وخصوصا في البلد الحرام. ولما ذكر الصلاة والصيام والحج والجهاد والصدقة، ذكر بعد ذلك الحلال والحرام في الفروج. فذكر أحكام وطء النساء والحيض والإيلاء منهن والطلاق لهن، واختلاعهن. وذكر حكم الأولاد وإرضاعهم، واعتداد النساء وخطبتهن في العدة، وطلاقهن قبل الدخول وبعده، ثم ذكر الصلوات والمحافظة عليهن، ثم قرر المعاد وما يدل عليه من إحياء الموتى في الدنيا مرة بعد مرة.
فتضمنت هذه السورة الواحدة جميع ما يحتاج الناس إليه في الدين وأصوله وفروعه، وافتتحها بالإيمان بالكتب والرسل، ووسطها بالإيمان بالكتب والرسل، وختمها بالإيمان بالكتب والرسل. فإن الإيمان بالكتب والرسل هو عمود الإيمان وقاعدته وجماعه.
وأمر فيها الخلق عموما وخصوصا، وذكر فيها الإيمان بالخالق وآيات ربوبيته، والإيمان بالمعاد والدار الآخرة، والأعمال الصالحة التي أمر بها، وأن من كان من أتباع الرسل من المؤمنين واليهود والنصارى.
والصابئين قائما بهذه الأصول: وهو الإيمان بالله واليوم الآخر، والعمل الصالح فهو السعيد في الآخرة الذي له أجره عند ربه، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
بخلاف من بدل منهم الكتاب، أو كذب بكتاب فإن هؤلاء من الكفار. فمن كان متبعا لشرع التوراة قبل مبعث المسيح، غير مبدل له فهو من السعداء. وكذلك من كان متبعا لشرع الإنجيل قبل مبعث محمد ﷺ غير مبدل له فهو من السعداء. ومن بدل شرع التوراة أو كذب بالمسيح فهو كافر، كاليهود بعد مبعث المسيح "عليه السلام" وكذلك من بدل شرع الإنجيل أو كذب محمدا ﷺ فهو كافر كالنصارى بعد مبعث محمد، ﷺ.
فقدماء اليهود والنصارى الذين اتبعوا الدين قبل النسخ والتبديل سعدوا، وأما اليهود والنصارى الذين تمسكوا بشرع مبدل منسوخ وتركوا اتباع الكتب والرسول الذي أرسل إليهم وإلى غيرهم وعدلوا عن الشرع المنزل المحكم، فهم كفار.
ورد دعاوى اليهود والنصارى الكاذبة، مثل قول هؤلاء: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا. وقول هؤلاء: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، فقال: بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وبين من كفر اليهود والنصارى، مما عرف بهم حالهم. لكن أكثر ما ذكر في هذه السورة: اليهود، كما أن أكثر ما ذكر في سورة آل عمران النصارى، فإن هذه نزلت أول مقدمه المدينة، وكان اليهود جيرانه. وآل عمران تأخر نزولها إلى آخر الأمر، لما قدم عليه نصارى نجران، وفيها فرض الحج، لما طهر الله مكة من المشركين، فكان أكثر دعائه في أول الأمر للمشركين؛ لأنهم جيرانه بمكة، ثم لليهود؛ لأنهم جيرانه بالمدينة، ثم للنصارى؛ لأنهم كانوا أبعد عنه من ناحية الشام واليمن، والمجوس - أيضا - لأنهم كانوا أبعد عنه بأرض العراق وخراسان.
وهذا هو الترتيب المناسب، يدعو الأقرب إليه فالأقرب، ثم يرسل رسله إلى الأبعد. وهو ﷺ كان - أولا - مشغولا بجهاد المشركين واليهود. فلما صالح المشركين صلح
الحديبية، وحارب يهود خيبر عقيب ذلك، ففتحها الله عليه، وقسمها بين الذين بايعوه تحت الشجرة: الذين شهدوا صلح الحديبية، تفرغ لمن بعد عنه، فأرسل رسله إلى جميع من حواليه من الأمم؛ أرسل إلى ملوك النصارى بمصر والشام والحبشة، فإنه كان قد مات ملك الحبشة النجاشي الذي أسلم، وأخبر الناس بموته يوم مات، وخرج بأصحابه إلى ظاهر المدينة فصلى عليه بهم صلاة الجنازة كما كان يصلي على سائر موتى المسلمين. وتولى بعد النجاشي آخر فأرسل إليه كما ذكره مسلم في صحيحه، وأرسل إلى ملوك اليمن من المشركين واليهود، وإلى ملوك العرب. وكان في العرب خلق كثير يهود، وخلق كثير نصارى، وخلق كثير مجوس فدعا جميع الخلق من اليهود والنصارى والمجوس والمشركين، عربهم وعجمهم.
الوجه الثاني: أن يقال لهم: الناس لهم في أمر الله ونهيه قولان مشهوران:
أحدهما: أنه يرجع إلى محض المشيئة، لا يعتبر فيه أن يكون المأمور به مصلحة للخلق، وإن اتفق أن يكون مصلحة، وإن كان الواقع كونه مصلحة، وهذا قول من يقول: لا يفعل ولا يحكم بسبب ولا لحكمة ولا لغرض.
والقول الثاني: - وهو قول جمهور الناس - إن الله إنما أرسل الرسل ليأمروا الناس بما يصلحهم وينفعهم إذا فعلوه، كما قال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.
وقال تعالى: فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى.
فإن قيل بالأول: لم يسأل عن حكمة إرسال الرسل، وإن قيل بالثاني: ففي إرسال محمد ﷺ من الحكم والمصالح أعظم مما كان في إرسال موسى والمسيح، والذي حصل به من صلاح العباد في المعاش والمعاد أضعاف ما حصل بإرسال موسى والمسيح من جهة الأمر والخلق. فإن في شريعته من الهدى ودين الحق أكمل مما في الشريعتين المتقدمتين. وتيسير الله من اتباع الخلق له واهتدائهم به ما لم يتيسر مثله لمن قبله، فحصل فضيلة شريعته من جهة فضلها في نفسها، ومن جهة كثرة من قبلها وكمال قبولهم لها، بخلاف شريعة من قبله، فإن موسى ﷺ بعث إلى بني إسرائيل، وكان فيهم من الرد والعناد في حياة موسى وبعد موته ما هو معروف، وقد ذكر النصارى في كتابهم هذا من ذلك ما تقدم.
ولم تكن شريعة التوراة في الكمال مثل شريعة القرآن، فإن القرآن فيه ذكر المعاد وإقامة الحجج عليه وتفصيله، ووصف الجنة والنار، ما لم يذكر مثله في التوراة. وفيه من ذكر قصة هود وصالح وشعيب وغيرهم من الأنبياء، ما لم يذكر في التوراة، وفيه من ذكر أسماء الله الحسنى وصفاته ووصف ملائكته وأصنافهم وخلق الإنس والجن ما لم يفصل مثله في التوراة، وفيه من تقرير التوحيد بأنواع الأدلة ما لم يذكر مثله في التوراة، وفيه من ذكر أديان أهل الأرض ما لم يذكر مثله في التوراة، وفيه من مناظرة المخالفين وإقامة البراهين على أصول الدين ما لم يذكر مثله في التوراة، مع أنه لم ينزل كتاب من السماء أهدى من القرآن والتوراة. وفي شريعة القرآن تحليل الطيبات وتحريم الخبائث، وشريعة التوراة فيها تحريم كثير من الطيبات عليهم، حرمت عليهم عقوبة لهم، وفي شريعة القرآن من قبول الدية في الدماء ما لم يشرع في التوراة، وفيها من وضع الآصار والأغلال التي في التوراة ما يظهر به أن نعمة الله على أهل القرآن أكمل.
وأما الإنجيل؛ فليس فيه شريعة مستقلة، ولا فيه الكلام على التوحيد وخلق العالم وقصص الأنبياء وأممهم، بل أحالهم على التوراة في أكثر الأمر. ولكن أحل المسيح بعض ما حرم عليهم، وأمرهم بالإحسان والعفو عن الظالم واحتمال الأذى، والزهد في الدنيا، وضرب الأمثال لذلك.
فعامة ما امتاز به الإنجيل عن التوراة بمكارم الأخلاق المستحسنة، والزهد المستحب، وتحليل بعض المحرمات وهذا كله في القرآن، وهو في القرآن أكمل، فليس في التوراة والإنجيل والنبوات ما هو من العلوم النافعة والأعمال الصالحة إلا وهو في القرآن أو ما هو أفضل منه. وفي القرآن من العلوم النافعة والأعمال الصالحة من الهدى ودين الحق ما ليس في الكتابين. لكن النصارى لم يتبعوا لا التوراة ولا الإنجيل، بل أحدثوا شريعة لم يبعث بها نبي من الأنبياء، كما وضعوا لقسطنطين (الأمانة) ووضعوا له أربعين كتابا فيها القوانين، فيها بعض ما جاءت به الأنبياء، وفيها شيء كثير مخالف لشرع الأنبياء وصاروا إلى كثير من دين المشركين الذين عبدوا مع الله آلهة أخرى، وكذبوا رسله فصار في دينهم من الشرك وتغيير دين الرسل ما غيروا به شريعة الإنجيل؛ ولهذا التبست عند عامتهم شريعة الإنجيل بغيرها، فلا يعرفون ما نسخه المسيح من شريعة التوراة مما أقره ولا ما شرعه مما أحدث بعده.
فالمسيح لم يأمرهم بتصوير الصور وتعظيمها، ولا دعاء من صورت تلك التماثيل على صورته، ولا أمر بهذا أحد من الأنبياء؛ لا يوجد قط عن نبي أنه أمر بدعاء الملائكة والاستشفاع بهم، ولا بدعاء الموتى من الأنبياء والصالحين والاستشفاع بهم، فضلا عن دعاء تماثيلهم والاستشفاع بها، فإن هذا من أصول الشرك الذي نبهت عليه الرسل، وهذا كان أصل الشرك في بني آدم من عهد نوح "عليه السلام".
قال الله تعالى عن قوم نوح: لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا.
قال كثير من العلماء، منهم ابن عباس وغيره: وهؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم وقد ذكر ذلك المسيح وعلماء النصارى.
والمسيح "عليه السلام" لم يأمرهم بعبادته ولا قال: إنه الله، ولا بما ابتدعوه من التثليث والاتحاد. والمسيح لم يأمرهم باستحلال كل ما حرمه الله في التوراة من الخبائث؛ كالخنزير وغيره، فاستحلوا الخبائث المحرمة وغيروا شريعة التوراة والإنجيل. والمسيح لم يأمرهم بأن يصلوا إلى المشرق ولم يأمرهم أن يعظموا الصليب، ولم يأمرهم بترك الختان ولا بالرهبانية ولا بسائر ما ابتدعوه بعده.
ولهذا لما ظهر فساد دين النصارى، صار بعض الناس، كأبي عبد الله الرازي يقول: " لم يظهر الانتفاع بدين المسيح، إلا في طائفة قليلة كانوا قبل محمد ﷺ فإن الدين الذي كان عليه جمهور النصارى، ليس هو دين المسيح.
وتبين هذا:
بالوجه الثالث: وهو أن يقال: هب إن شريعة الكتاب كانت كافية، فإنما ذاك إذا كانت محفوظة معمولا بها، ولم يكن الأمر كذلك، بل كانت قد درس كثير من معالمها.
وقد اختلف أهل الكتاب في المسيح وغيره اختلافا عظيما كما قال تعالى: ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون.
وقد قال تعالى: كان الناس أمة واحدة. أي فاختلفوا. فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه.
والوقت الذي بعث الله فيه محمدا ﷺ لم يكن قد بقي أحد مظهرا لما بعث الله به الرسل قبله.
فبعثه على حين فترة من الرسل، وطموس من السبل، أحوج ما كان الناس إلى رسول، كما في صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله ﷺ: " إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب ".
وكان الناس حين مبعث محمد ﷺ إما أميين، لا كتاب لهم، يشركون بالرحمن، ويعبدون الأوثان، وإما أهل كتاب قد بدلوا معانيه وأحكامه وحرفوا حلاله وحرامه ولبسوا حقه بباطله، كما هو الموجود. فلو أراد الرجل أن يميز له أهل الكتاب ما جاءت به الأنبياء مما هم عليه مما أحدثوه بعدهم، لم يعرف جمهورهم ذلك، بل قد صار الجميع عندهم دينا واحدا.
فبعث الله - تبارك وتعالى - محمدا بالكتاب الذي أنزله عليه مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا، فميز به الحق من الباطل والهدى من الضلال والغي من الرشاد. قال تعالى:
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير - إلى قوله - يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير.
الوجه الرابع: إن شريعة التوراة تغلب عليها الشدة، وشريعة الإنجيل يغلب عليها اللين، وشريعة القرآن معتدلة جامعة بين هذا وهذا، كما قال تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا.
وقال في وصف أمته: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم.
وقال أيضا: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين.
فوصفهم بالرحمة للمؤمنين، والذلة لهم، والشدة على الكفار والعزة عليهم.
وكذلك كان صفة محمد ﷺ نبيهم، أكمل النبيين وأفضل الرسل؛ بحيث قال: " أنا محمد وأنا أحمد، وأنا نبي الرحمة، وأنا نبي الملحمة، وأنا نبي التوبة، وأنا الضحوك القتال ".
فوصف نفسه بأنه نبي الرحمة والتوبة، وأنه نبي الملحمة، وأنه الضحوك القتال، وهذا أكمل ممن نعت بالشدة والبأس غالبا، أو باللين غالبا، وقد قيل بسبب ذلك: أن بني إسرائيل كانت نفوسهم قد ذلت لقهر فرعون لهم واستعباد فرعون لهم، فشرعت لهم الشدة لتقوى أنفسهم ويزول عنهم ذلك الذل.
ولهذا لما أمروا بالجهاد نكلوا عنه وقال لهم موسى: يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.
وأما أصحاب محمد ﷺ فقال له قائلهم يوم بدر: والله لا نقول لك كما قال قوم موسى: فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، لكن نقاتل أمامك ووراءك وعن يمينك وعن يسارك. والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك.
وكان الكلام قريبا من (بدر) والبحر من جهة الغرب و (برك الغماد) مكان من يماني مكة، بينه وبين مكة عدة ليال، والكفار كانوا - إذ ذاك - بمكة وأصحابه من ناحية المدينة شامي مكة، فمكة جنوبهم والبحر غربهم. تقول: لو طلبت أن ندخل بلد العدو ونذهب إلى تلك الناحية لفعلناه.
قالوا: فلما نصر الله بني إسرائيل وأظهرهم، ظهرت فيهم الأحداث بعد ذلك وتجبروا، وقست قلوبهم وصاروا شبها بآل فرعون، فبعث الله المسيح "عليه السلام" باللين والصفح والعفو عن المسيء واحتمال أذاه؛ ليلين أخلاقهم ويزيل ما كانوا فيه من الجبرية والقسوة.
فأفرط هؤلاء في اللين حتى تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، وتركوا الحكم بين الناس بالعدل وإقامة الحدود، وترهب عبادهم منفردين، مع أن في ملوك النصارى من الجبرية والقسوة والحكم بغير ما أنزل الله وسفك الدماء بغير حق مما يأمرهم به علماؤهم وعبادهم ومما لم يأمروهم به ما شاركوا فيه اليهود.
فبعث الله محمدا ﷺ بالشريعة الكاملة العادلة، وجعل أمته عدلا خيارا لا ينحرفون إلى هذا الطرف ولا إلى هذا الطرف، بل يشتدون على أعداء الله ويلينون لأولياء الله ويستعملون العفو والصفح فيما كان لنفوسهم، ويستعملون الانتصار والعقوبة فيما كان حقا لله.
وهذا كان خلق نبيهم، كما في الصحيحين عن عائشة قالت: " ما ضرب رسول الله بيده خادما ولا امرأة ولا دابة ولا شيئا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه، إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله ".
وفي الصحيح عن أنس أنه قال: " خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين، فما قال لي أف قط، ولا قال لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لم لا فعلته؟ وكان بعض أهله
إذا عتبوني على شيء يقول: " دعوه، فلو قدر شيء لكان "، هذا مع قوله - في الحديث الصحيح - لما سرقت امرأة كانت من أشرف قريش من بني مخزوم فأمر بقطع يدها، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله ﷺ؟ فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد؟ فكلموه فكلمه فيها، فقال: " يا أسامة! أتشفع في حد من حدود الله؟ إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد! والذي نفس محمد بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ".
ففي شريعته ﷺ من اللين والعفو والصفح ومكارم الأخلاق أعظم مما في الإنجيل، وفيها من الشدة والجهاد، وإقامة الحدود على الكفار والمنافقين أعظم مما في التوراة، وهذا هو غاية الكمال؛ ولهذا قال بعضهم: بعث موسى بالجلال، وبعث عيسى بالجمال، وبعث محمد بالكمال.
الوجه الخامس: إن نعم الله على عباده تتضمن نفعهم والإحسان إليهم، وذلك نوعان:
أحدهما: أن يدفع بذلك مضرتهم ويزيل حاجتهم وفاقتهم؛ مثل رزقهم الذي لولا هو لماتوا جوعا، ونصرهم الذي لولا هو لأهلكهم عدوهم، ومثل هداهم الذي لولا هو لضلوا ضلالا يضرهم في آخرتهم. وهذا النوع من النعمة لا بد لهم منه، وإن فقدوه حصل لهم ضرر، إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما؛ ولهذا كان في سورة النحل، وهي سورة النعم، في أولها أصول النعم، وفي أثنائها كمال النعم.
والنوع الثاني: النعم التي تحصل بها من كمال النعم وعلو الدرجة ما لا يحصل بدونها، كما أنهم في الآخرة نوعان: أبرار أصحاب يمين، ومقربون سابقون. ومن خرج عن هذين كان من أصحاب الجحيم.
وإذا كانت النعمة نوعين، فالخلق كانوا محتاجين إلى إرسال محمد ﷺ من هذين الوجهين، وحصل بإرساله هذان النوعان من النعمة، فإن الناس بدونه كانوا جهالا ضالين أميين، وأهل الكتاب منهم.
ولم يكن قد بقي من أهل الكتاب - أتباع المسيح - من هو قائم بالدين الذي يوجب السعادة عند الله في الآخرة، بل كانوا قد بدلوا وغيروا. وأيضا فلو قدر أنهم لم يبدلوا شيئا ففي إرساله من كمال النعم وتواصلها وعلو الدرجات في السعادة ما لم يكن حاصلا بالكتاب الأول، فكان إرساله أعظم نعمة أنعم الله بها على أهل الأرض من نوعي النعيم.
ومن استقرأ أحوال العالم تبين له أن الله لم ينعم على أهل الأرض نعمة أعظم من إنعامه بإرساله ﷺ وإن الذين ردوا رسالته هم من قال الله فيهم: ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار.
ولهذا وصف بالشكر من قبل هذه النعمة فقال تعالى: وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين.
وقال تعالى: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين.
الوجه السادس: أن يقال: قولهم: " إنا نعجب من هؤلاء القوم.... " إلى آخر الفصل، قول جاهل ظالم يستحق أن يقال له: بل العجب من هذا العجب هو الواجب، بل هو الذي لا ينقضي منه العجب، وإن كل عاقل ليعجب ممن عرف دين محمد ﷺ وقصده الحق، ثم اتبع غيره، ويعلم أنه لا يفعل ذلك إلا مفرط في الجهل والضلال أو مفرط في الظلم واتباع الهوى.
وذلك أن أهل الأرض نوعان: أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى، وغير أهل الكتاب كالمشركين من العرب والهند والترك، وغيرهم كالمجوس من الفرس، وغيرهم كالصابئة من المتفلسفة، وغيرهم.
وأهل الكتاب يسلمون لنا أن من سوى أهل الكتاب انتفع بنبوة محمد ﷺ منفعة ظاهرة، وأنه دعا جميع طوائف المشركين والمجوس والصابئين إلى خير مما كانوا عليه، بل كانوا أحوج الناس إلى رسالته. وأما أهل الكتاب: فاليهود مسلمون لنا حاجة النصارى إليه، وأنه دعاهم إلى خير مما كانوا عليه، والنصارى تسلم لنا حاجة اليهود إليه، وأنه دعاهم إلى خير مما كانوا عليه.
فما من طائفة من طوائف أهل الأرض إلا وهم مقرون بأن محمدا ﷺ دعا سائر الطوائف - غيرهم - إلى خير مما كانوا عليه هذه شهادة من جميع أهل الأرض؛ بأنه دعا أهل الأرض إلى خير مما كانوا عليه. فإن شهادة جميع الطوائف مقبولة على غيرهم؛ إذ كانوا غير متهمين عليهم، فإنهم معادون لمحمد وأمته، معادون لسائر الطوائف، وأما شهادتهم لأنفسهم فغير مقبولة فإنهم خصومه وشهادة الخصم على خصمه غير مقبولة.
وقد اعترف الفلاسفة بأنه لم يقرع العالم ناموس بأفضل من ناموسه، واعترفوا بأنه أفضل من ناموس موسى والمسيح عليهما الصلاة والسلام، بل كان لهم من الطعن في نواميس غيره ما ليس هذا موضع ذكره. بخلاف ناموس محمد ﷺ فإنه لم يطعن فيه أحد منهم، إلا من كان خارجا عن قانون الفلسفة التي توجب عندهم العدل والكلام بعلم. وأما من التزم منهم الكلام بعلم وعدل فهم متفقون على أن ناموس محمد ﷺ أفضل ناموس طرق العالم، فكيف يعجب من مثل هذا الناموس؟
الوجه السابع: أن يقال لأهل الكتاب خصوصا، فيقال لليهود: أنتم أذل الأمم، فلو قدر أن ما أنتم عليه دين الله الذي لم يبدل فهو مغلوب مقهور في جميع الأرض، فهل تعجبون من أن يبعث الله رسولا يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، فيبعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله حتى يصير دين الله الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه منصورا ظاهرا بالحجة والبيان والسيف والسنان.
ويقال للنصارى: أنتم لم تخلصوا دين الله الذي بعث به رسله من دين المشركين والمعطلين، بل أخذتم من أصول المشركين والمعطلين من الفلاسفة وغيرهم ما أدخلتموه في دينكم، وليس لكم على أكثر الكفار حجة علمية ولا يد قهرية، بل للكفار في قلوبكم من الرعب والخوف والتعظيم ما أنتم به من أضعف الأمم حجة وأضيقها محجة، وأبعدها عن العلم والبيان، وأعجزها عن إقامة الحجة والبرهان؛ تارة تخافون من الكفار والفلاسفة وغيرهم من المشركين والمعطلين، فإما أن توافقوهم على أقوالهم، وإما أن تخضعوا لهم متواضعين، وتارة تخافون من سيوف المشركين، فإما أن تتركوا بعض دينكم لأجلهم، وإما أن تذلوا لهم خاضعين.
ففيكم من ضعف سلطان الحجة، وضعف سلطان النصرة ما يظهر به حاجتكم إلى قيام الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه فالعجب منكم كيف تعدلون عما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة إلى ما فيه شقاؤكم في الدنيا والآخرة. هذا هو العجب ليس العجب ممن آمن بما فيه سعادة الدنيا والآخرة وفي خلافه شقاوة الدنيا والآخرة.
ومثل هذا لا يرد على المسلمين، فإنه لم يزل ولا يزال فيه طائفة قائمة بالهدى ودين الحق ظاهرة بالحجة والبيان واليد والسنان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين، كما ثبت في الصحاح عن النبي ﷺ أنه قال: " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة " وفي لفظ " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة حتي يأتي الله بأمره ".
الوجه الثامن: أن يقال لأهل الكتاب: لليهود: أنتم لما كنتم متبعين لموسى "عليه السلام" كنتم على الهدى ودين الحق وكنتم منصورين، ثم كثرت فيكم الأحداث التي تعرفونها كما قال تعالى: قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل.
وقوله تعالى: وعبد الطاغوت معطوف على (لعنه الله) أي من لعنه الله وغضب عليهم وعبد هو الطاغوت، ليس هو داخلا في خبر " جعل "، حتى يلزم إشكال كما ظنه بعض الناس.
وأهل الكتاب معترفون بأن اليهود عبدوا الأصنام مرات، وقتلوا الأنبياء.[2]
وقال تعالى: وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا.
وهم معترفون بأن بيت المقدس خرب مرتين.
فالخراب الأول لما جاء " بختنصر " وسباهم إلى بابل وبقي خرابا سبعين سنة، والخراب الثاني بعد المسيح بنحو سبعين سنة، وقد قيل: هذا تأويل قوله: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم.
فبعد الخراب الثاني تفرقوا في الأرض ولم يبق لهم ملك. وبين الخرابين كانوا تحت قهر الملوك الكفار، وبعث المسيح - عليه الصلاة والسلام - وهم كذلك.
ويقال للنصارى: أنتم ما زلتم مقهورين مغلوبين مبددين في الأرض، حتى ظهر قسطنطين وأقام دين النصرانية بالسيف، وقتل من خالفه من المشركين واليهود. لكن أظهر دينا مبدلا مغيرا ليس هو دين المسيح "عليه السلام" ومع هذا فكانت أرض العراق وفارس كفارا - المجوس وغيرهم - مجوسا ومشركين. وكانوا في بعض الأزمنة يقهرون النصارى على بلادهم، وأما أرض المشرق والمغرب ففيهما من أنواع المشركين أمم، وكان الشرك والكفر ظاهرا في أرض اليمن والحجاز والشام والعراق، فلما بعث الله محمدا ﷺ أظهر به توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ظهورا لم يعرف في أمة من الأمم، ولم يحصل مثله لنبي من الأنبياء، وأظهر به من تصديق الكتب والرسل والتوراة والإنجيل والزبور، وموسى وعيسى وداود وسليمان وغيرهم من الرسل ما لم يكن ظاهرا لا عند أهل الكتاب ولا غيرهم، فأهل الكتاب وإن كانوا خيرا من غيرهم فلم يكونوا قائمين بما يجب من الإيمان بالله ورسله ولا باليوم الآخر ولا شرائع دينه، ولا كانوا قاهرين لأكثر الكفار، ولا كانوا منصورين عليهم ولهذا قال: تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب.
أما اليهود ففيهم من التنقص من الأنبياء في سبهم، وذكر عيوب نزههم الله عنها، ما هو معروف. حتى إن منهم من يقول أن سليمان كان ساحرا، وداود كان منجما لم يكن نبيا، إلى أمثال ذلك.
مما يطول وصفه. ففيهم من الكفر بالأنبياء، من جنس ما كان في سلفهم الخبيث.
وأما النصارى - فمع غلوهم في المسيح وأتباعه - يستخفون بغيره فتارة يجعلون الحواريين مثل إبراهيم وموسى أو أفضل منهم، وتارة يقولون - كما قال اليهود -: " إن سليمان لم يكن نبيا بل سقط من النبوة "، وتارة يجعلون ما خاطب الله به داود وغيره من الأنبياء إنما أريد به المسيح، مع أن اللفظ لا يدل على ذلك، بل يتأولون كتب الله بمجرد هوى أنفسهم، وتارة يقولون: إن الواحد منهم إذا أطاع الله بما يزعمون أنه طاعة، صار مثل واحد من الأنبياء، ويسوغون لمثل هؤلاء أن يغيروا شرائع الأنبياء ويضعوا دينا ابتدعوه ومحمد ﷺ وأمته أقاموا توحيد الله الذي كان عليه إبراهيم وموسى وسائر الرسل وآمنوا بكل كتاب أنزله الله وكل رسول بعثه الله، وأقاموا دين الرحمن إقامة لم يقمها أحد من الأمم. فعامة أهل الأرض مع محمد ﷺ: إما مؤمن به باطنا وظاهرا - وهم أولياء الله المتقون وحزبه المفلحون وجنده الغالبون - وإما مسلمون له في الظاهر تقية وخوفا من أمته، وهم المنافقون. وإما مسالمون له بالعهد والذمة والهدنة - وهم أهل الذمة والهدنة في جميع الأرض - وإما خائفون من أمته.
وحيث كان الواحد والطائفة من أمته متمسكا بدينه، كان نوره ظاهرا وبرهانه باهرا معظما منصورا، يعرف فضله على كل من سواه.
وهذا أمر يعرفه الناس في أرض الكفار من المشركين وأهل الكتاب؛ لما خص الله به محمدا ﷺ وأمته من الهدى ودين الحق. وقد أظهروا دين الرب في مشارق الأرض ومغاربها بالقول والعمل. فهل يقول من عنده علم وعدل: إنه لا فائدة في إرسال محمد ﷺ وأنه يستغنى بما عند أهل الكتاب عن رسالته؟
الوجه التاسع: أن يقال: هم معترفون بانتفاع المشركين به غاية الانتفاع، فإنه أقام توحيد الله ودينه فيهم، وأنه عظم المسيح. ورد على اليهود قولهم فيه وأهانهم وحينئذ فهذا من أعظم الفوائد وأجل المقاصد وأعظم نعم الله على عباده، ثم هو - مع ذلك - قال: إن الله أرسله وأمره بذلك.
فإن كان كاذبا فالكذاب المفتري على الله من شر الكفار، ومن يكون كذلك لا يحصل منه هذا الخير العظيم، الذي ما حصل مثله من أحد من الأنبياء، فإنه أزال دين المشركين، ودين المجوس، وقمع اليهود وكل واحدة من هذه الثلاث لم يقدر عليها أحد قبله من الأنبياء والمرسلين.
وإن كان صادقا؛ فهو قد أخبر أنه رسول الله إلى النصارى وغيرهم من الأمم، وأخبر عن الله بكفر كل من لم يؤمن به. وهذا الوجه ممن يخاطب به كل صنف، فيقال لكل صنف من الأمم: أنتم معترفون بأن من سواكم إذا اتبعوا دين محمد ﷺ كان خيرا لهم مما هم عليه؛ فاليهود معترفة بأن النصارى إذا اتبعوه كان خيرا لهم من دين النصارى، والنصارى معترفون بأن اليهود إذا اتبعوه كان خيرا لهم من دين اليهود، وأهل الكتاب اليهود والنصارى معترفون بأن من سواهم إذا اتبعوا محمدا كان خيرا لهم مما هم عليه.
فالمجوس والمشركون من العرب، والسودان والترك وأصناف الخزر والصقالبة، إذا اتبعوه كان خيرا لهم مما هم عليه وسائر أصناف الكفار معترفون بأن أتباعه خير من غيرهم. ومن ليس من أهل الكتاب - عامتهم - معترفون بأن دين المسلمين خير من دين اليهود والنصارى. وحينئذ فيقال: من جاء بهذا الدين الذي يفضله جميع أهل الأرض على غيره يمتنع أن يكون من أكفر الناس وأحقهم بغضب الله وعقابه. وكل من قال: إنه رسول الله؛ فإن كان صادقا كان من خير أهل الأرض وأحقهم برضوان الله وثوابه، وإن كان كاذبا كان من شر أهل الأرض وأحقهم بغضب الله وعقابه. ومن حصل منه هذا الخير والعلم والهدى وما فيه صلاح الدنيا والآخرة أعظم مما حصل من جميع الخلق يمتنع أن يكون من أكفر الناس المستحقين لغضب الله وعقابه، فوجب أن يكون من خير أهل الأرض، بل هو خير أهل الأرض وأحقهم برضوان الله وثوابه.
الوجه العاشر: إن الله - سبحانه وتعالى - كانت سنته قبل إنزال التوراة، إذا كذب نبي من الأنبياء ينتقم الله من أعدائه بعذاب من عنده، كما أهلك قوم نوح بالغرق، وقوم هود بالريح الصرصر، وقوم صالح بالصيحة، وقوم شعيب بالظلة، وقوم لوط بالحاصب، وقوم فرعون بالغرق قال تعالى: ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون.
فلما أنزل التوراة، أمر أهل الكتاب بالجهاد، [3] فمنهم من نكل ومنهم من أطاع.
وصار المقصود بالرسالة لا يحصل إلا بالعلم والقدرة كما قال تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا.
فقول هؤلاء: " إن التوراة جاءت بالعدل، والإنجيل بالفضل فلا حاجة إلى غيرهما، لو قدر أنه حق. إنما يستقيم إذا كان الكتابان لم يبدلا، بل كانا متبعين علما وعملا، وكان أهلهما مع ذلك منصورين مؤيدين على من خالفهم، فكيف وكل منهما قد بدل كثير مما فيه، وأهلهما غير منصورين على سائر الكفار، بل الكفار ظاهرون عليهم في أكثر الأرض؛ كأرض اليمن والحجاز وسائر جزيرة العرب وأرض العراق وخراسان والمغرب وأرض الهند والسند والترك، وكان بأيدي أهل الكتاب الشام ومصر وغير ذلك، ومع هذا فكانت الفرس قد غلبتهم على ذلك، ثم إن الله أظهر النصارى عليهم، فكان ظهورهم توطئة وتمهيدا لإظهار دين الإسلام.
فإن الفرس المجوس لما غلبوا الروم ساء ذلك النبي ﷺ والمؤمنين به، وفرح بذلك مشركو العرب وكانوا أكثر من المؤمنين؛ لأن أهل الكتاب أقرب إلى المؤمنين من المجوس، والمجوس أقرب إلى المشركين منهم إلى أهل الكتاب، ووعد الله المؤمنين أن تغلب الروم بعد ذلك، وأنه يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله. فأضاف النصرة إلى اسم الله، ولم يقل بنصر الله إياهم. وذلك أنه حين ظهرت الروم على فارس كان النبي ﷺ وأصحابه قد ظهروا على المشركين واليهود.
وأرسل النبي ﷺ إذ ذاك يدعو ملوك النصارى بالشام ومصر إلى الإيمان به، فعرفوه وعرفوا أنه النبي المبشر به، وكان ذلك أول ظهور دينه، ثم أرسل طائفة من أصحابه إلى غيرهم، ثم خرج بالمسلمين بنفسه معهم عام تبوك إلى الشام، ثم فتح هذه البلاد أصحابه، فكان تأييد دين الله وظهوره وإذلال المشركين والمجوس وغيرهم من الكفار على يديه ويدي أمته، لا على يد اليهود والنصارى.
فلو قدر أن شرع أولئك كامل لا تبديل فيه، لكان مغلوبا مقهورا، وكان الله قد أرسل من يؤيد دينه ويظهره، فكيف وهو مبدل؟ ولو لم يبدل فدين أحمد أكمل وأفضل منه، فذاك مفضول مبدل، وهذا فاضل لم يبدل، وذلك مغلوب مقهور، وهذا مؤيد منصور. وببعض هذا تحصل الفائدة في إرساله.
فكان من أجل الفوائد إرسال محمد ﷺ فكيف يقال: إنه لا فائدة في إرساله.
الوجه الحادي عشر: قولهم: " لما كان الباري عدلا جوادا أوجب أن يظهر عدله وجوده " فيقال لهم: جود الجواد غير إلزام الناس بترك حقوقهم، فإن الجواد هو الذي يحسن إلى الناس ليس هو الذي يلزم الناس بترك حقوقهم، وهؤلاء يزعمون أن شريعة الإنجيل ألزمت الناس بترك حقوقهم، وأنه لا ينصف مظلوم من ظالمه، ولهذا ليس عندهم حكم عدل يحكمون به بين الناس، بل الحكم عندهم حكمان: حكم الكنيسة، وليس فيه إنصاف المظلوم من الظالم. والثاني: حكم الملوك، وليس هو شرعا منزلا، بل هو بحسب آراء الملوك.
ولهذا تجدهم يردون الناس إلى حكم شرع الإسلام في الدماء والأموال ونحو ذلك، حتى في بعض بلادهم يكون الملك والعسكر كلهم نصارى، وفيهم طائفة قليلة مسلمون لهم حاكم، فيردون الناس في الدماء والأموال إلى حكم شرع المسلمين، وذلك أن الدماء والأموال وإن كان يستحب للمظلوم أن يعفو فيها عن ظالمه، فالحاكم الذي يحكم بين الناس، متى حكم على المظلوم بترك حقه كان حاكما بالظلم لا بالعدل.
ولو أمرنا كل ولي مقتول أن لا يقتص من القاتل، وكل صاحب دين أن لا يطالب غريمه، بل يدعه على اختياره، وكل مشتوم ومضروب أن لا ينتصف من ظالمه، لم يكن للظالمين زاجر يزجرهم، وظلم الأقوياء الضعفاء، وفسدت الأرض. قال تعالى: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض.
فلا بد من شرع يتضمن الحكم بالعدل ولا بد - مع ذلك - من ندب الناس إلى العفو والأخذ بالفضل.
وهذه شريعة الإسلام كما تقدم ما ذكرنا من الآيات مثل قوله: والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له.
وقوله: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم:
وقوله: وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله.
وقوله: وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين.
وقوله: الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين.
وقوله: ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا.
وقوله: ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور.
وقال أنس: " ما رفع للنبي ﷺ أمر فيه القصاص، إلا أمر فيه بالعفو " فكان يأمر بالعفو، ولا يلزم الناس به؛ ولهذا لما عتقت (بريرة)، وكان لها أن تفسخ النكاح، وطلب زوجها أن لا تفارقه، شفع إليها أن لا تفارقه، فقالت: أتأمرني؟ قال: لا إنما أنا شافع فلم يوجب عليها قبول شفاعته ﷺ.
الوجه الثاني عشر: قولهم: " ولما كان الكمال الذي هو الفضل لا يمكن أن يضعه إلا أكمل الكمال " فيقال لهم: العدل والفضل لا يشرعه إلا الله، فشريعة التوراة لم يشرعها إلا الله، وشريعة الإنجيل لم يشرعها إلا الله - عز وجل -.
يبين ذلك أن الله كلم موسى من الشجرة تكليما، وهم غاية ما قرروا به إلهية المسيح أن زعموا أن الله كلم الناس من ناسوت المسيح، كما كلم موسى من الشجرة، ومعلوم عند كل عاقل، لو كان هذا حقا، أن تكليمه لموسى من الشجرة أعظم تكليم كلمه الله لعباده فكيف يقال: إن شريعة العدل لم يشرعها الله عز وجل؟.
ثم يقال لهم: بل شريعة العدل أحق بأن تضاف إلى الله من شريعة الفضل، فإن الأمر بالإحسان والعفو يحسنه كل أحد، وأما معرفة العدل والحكم بين الناس به، فلا يقدر عليه إلا آحاد الناس؛ ولهذا يوجد الذي يصلح بين الناس بالإحسان خلق كثير، وأما الذي يحسن أن يفصل بينهم بالعدل فناس قليل، فكيف يقال: إن الذي يأمر بشرع الفضل هو الله، دون الذي يأمر بشرع العدل؟.
والله تعالى أرسل الرسل، وأنزل الكتب؛ ليقوم الناس بالقسط كما قال تعالى: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز.
وأمر المسيح "عليه السلام" للمظلوم بالعفو عن الظالم: ليس فيه ما يدل على أنه من الواجب الذي من تركه استحق الذم والعقاب، بل هو من المرغب فيه الذي من فعله استحق المدح والثواب. وموسى "عليه السلام" أوجب العدل الذي من تركه استحق الذم والعقاب. وحينئذ فلا منافاة بين إيجاب العدل، وبين استحباب الفضل.
لكن إيجاب العدل يقترن به الترهيب والتخويف في تركه، واستحباب الفضل يقترن به الترغيب والتشويق إلى فعله، فذاك فيه رهبة مع ما فيه من الرغبة. وهذا فيه رغبة بلا رهبة؛ ولهذا قال المسيح "عليه السلام": وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم.
ولهذا قيل: إن المسيح "عليه السلام" بعث لتكميل التوراة، فإن النوافل تكون بعد الفرائض كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: يقول الله تعالى: " من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه ".
وإلا فلو قيل: إن المسيح "عليه السلام" أوجب على المظلوم العفو عن الظالم؛ بمعنى أنه يستحق الوعيد والذم والعقاب إن لم يعف عنه لزم من هذا أن يكون كل من انتصف من الظالم، ظالما مستحقا للذم والعقاب، وهذا ظلم ثان للمظلوم الذي انتصف؛ فإن الظالم ظلمه أولا فلما انتصف منه ظلم ظلما ثانيا، فهو ظلم العادل انتصف من ظالمه.
وما أحسن كلام الله حيث يقول: فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور.
وقال: ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور.
فهذا من أحسن الكلام وأعدله وأفضله حيث شرع العدل فقال: وجزاء سيئة سيئة مثلها. ثم ندب إلى الفضل، فقال: فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين.
ولما ندب إلى العفو، ذكر أنه لا لوم على المنتصف، لئلا يظن أن العفو فرض فقال: ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل.
ثم بين أن السبيل إنما يكون على الظالمين فقال: إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم.
ثم لما رفع عنهم السبيل ندبهم مع ذلك إلى الصبر والعفو فقال: ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور.
فهذا أحسن شرع وأحكمه يرغب في الصبر والغفر والعفو والإصلاح بغاية الترغيب، ويذكر ما فيه من الفضائل والمحاسن وحميد العاقبة، ويرفع عن المنتصف ممن ظلمه الملام والعذل، ويبين أنه لا حرج عليه ولا سبيل إذا انتصر بعدما ظلم.
فهل يمكن أن تأتي شريعة بأن تجعل على المنتصف سبيلا مع عدله وهي لا تجعل على الظالم سبيلا مع ظلمه؟
فعلم أن ما أمر به المسيح من العفو لم يكن لأن تاركه مستحق للذم والعقاب، بل لأنه محروم مما يحصل للعافي المحسن من الأجر والثواب، وهذا حق لا يناقض شرع التوراة، فعلم أن شرع الإنجيل لم يناقض شرع التوراة؛ إذ كان فرعا عليها ومكملا لها، وحينئذ فزعمهم أن شرع الإنجيل شرعه الله دون شرع التوراة كلام من هو من أجهل الناس وأضلهم ولهذا كان فرعا على قولهم بالاتحاد، وأن المسيح هو الله.
فذاك الضلال مما أوجب هذا القول المحال.
فصل: بطلان استدلالهم بما يدعون أنه من كلام الأنبياء السابقين
وجميع ما احتجوا به من التوراة والإنجيل وغيرهما من كلام الأنبياء عليهم السلام إنما يكون الحجة فيه علمية برهانية، إذا أقاموا الدليل على نبوة من احتجوا بكلامه، بأن بينوا إمكان النبوة ثم بينوا وقوعها في الشخص المعين بالطرق التي يستدل بها على نبوة النبي.
وهم لم يفعلوا شيئا من ذلك، بل احتجوا بذلك بناء على أنها مقدمة مسلمة يسلمها المسلمون لهم. وهذا لا ينفعهم لوجوه:
أحدها: أن فيمن ذكروه من لم يثبت عند المسلمين أنه نبي كميخا وعاموص.
الثاني: أن من ثبت عند المسلمين نبوته كموسى وعيسى وداود وسليمان لم يثبت عندهم أنهم قالوا جميع ما ذكروه من الكلام وأن ترجمته بالعربية هو ما ذكروه، وأن مرادهم به ما فسروه.
الثالث: أن جمهور المسلمين لا يعلمون نبوة أحد من الأنبياء قبل محمد إلا بإخبار محمد ﷺ بنبوتهم فلا يمكنهم التصديق بنبوة أحد من هؤلاء إلا بعد التصديق بنبوة محمد ﷺ.
فإذا طلب هؤلاء من المسلمين أن يسلموا نبوة هؤلاء، دون نبوة محمد لم يمكن المسلمين أن يسلموا ذلك لهم، ولا يشرع ذلك للمسلمين لا عقلا ولا نقلا، وحينئذ إذا لم يقيموا الأدلة على نبوة أولئك؛ لم يكونوا قد ذكروا لا حجة برهانية ولا حجة جدلية.
الرابع: أن المسلمين لم يصدقوا بنبوة موسى وعيسى، إلا مع إخبارهما بنبوة محمد، فإن سلموا أنهما أخبرا بنبوة محمد ثبتت نبوته ونبوتهما، وإن جحدوا ذلك جحد المسلمون نبوة من يدعون أنه موسى وعيسى اللذين لم يخبرا بمحمد ﷺ.
الخامس: أن المسلمين وكل عاقل، يمنع - بعد النظر التام - أن يقر بنبوة موسى وعيسى دون محمد ﷺ، إذ كانت نبوته أكمل، وطرق معرفتها أتم وأكثر وما من دليل يستدل به على نبوة غيره إلا وهو على نبوته أدل، فإن جحد نبوته يستلزم جحد نبوة غيره بطريق الأولى. ولكن من قال ذلك هو متناقض كما يتناقض سائر أهل الباطل؛ ولهذا قال تعالى في الكفار: إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك.
فصل: إثبات الفضل والكمال لرسول الله وشريعته وأمته
قد ذكرنا في جواب أول كتابهم بيان امتناع احتجاجهم بشيء من كلام محمد ﷺ أو غيره من الأنبياء عليهم السلام على ما يخالف دين المسلمين من دينهم. ونحن نبسط هذا هنا فنقول: لا ريب أن الباطل لا يقوم عليه دليل صحيح لا عقلي ولا شرعي؛ سواء كان من الخبريات أو الطلبيات. فإن الدليل الصحيح يستلزم صحة المدلول عليه، فلو قام على الباطل دليل صحيح لزم أن يكون حقا مع كونه باطلا، وذلك جمع بين النقيضين؛ مثل كون الشيء موجودا معدوما.
وأهل الكتاب معهم حق في الخبريات والطلبيات، ومعهم باطل، وهو ما بدلوه في الخبريات، سواء كان المبدل هو اللفظ أو معناه وما ابتدعوه أو ما نسخ من العمليات. والمنسوخ الذي تنوعت فيه الشرائع قليل بالنسبة إلى ما اتفقت عليه الكتب والرسل. فإن الذي اتفقت عليه هو الذي لا بد للخلق منه في كل زمان ومكان، وهو الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح كما قال تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وعامة السور المكية، كالأنعام، والأعراف، وآل حم، وآل طس، وآل الر، هي من الأصول الكلية التي اتفقت عليها شرائع المرسلين، كالأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والصدق والعدل والإخلاص، وتحريم الظلم والفواحش والشرك، والقول على الله بلا علم، وعامة ما عندهم من النقول الصحيحة عن الأنبياء من التوراة والإنجيل والزبور ونبوات الأنبياء توافق المنقول عن محمد ﷺ شهد هذا لهذا وهذا لهذا. وذلك من دلائل نبوة أولئك الأنبياء ومن دلائل نبوة محمد ﷺ.
ولهذا يذكر الله ذلك بيانا لإنعامه بمحمد ودلالة لنبوته كقوله تعالى: وإذ قالت الملائكة يامريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يامريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون.
وقال: تعالى لما قص قصة نوح.: تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين
فذكر الإله نعمته وآيته، بكونه لم يكن يعلمها هو ولا قومه - أيضا - كانوا يعلمونها؛ لئلا يظن أنه تعلم ذلك من قومه، فإن قومه لم يكونوا يعلمون ذلك.
وقد علم بالنقل المتواتر أن محمدا ﷺ ولد بمكة، وبها نشأ بعد أن كان مسترضعا في بادية سعد بن بكر قريبا من الطائف شرقي مكة وهو صغير ثم حملته مرضعته حليمة السعدية إلى أمه بمكة، لا يعلم شيئا من ذلك، ولا هناك من يتعلم منه شيء من ذلك. وأهل مكة يعلمون حاله وأنه لم يتعلم ذلك من أحد ثم أخبرهم بالغيب الذي لا يعلمه أحد إلا بتعليم الله له.
فكان هذا من أعلام رسالته، ودلائل نبوته، عليهم أولا، وعلى غيرهم آخرا. فإنهم كانوا مشاهدين له يعلمون أنه لم يتعلم ذلك من أحد. وغيرهم يعلم ذلك بالأخبار المتواترة، ويعلم أن قومه المكذبين له مع حرصهم على الطعن فيه، ومع علمهم بحاله، لو كان قد تعلم من أهل الكتاب لقالوا: هذا قد تعلمه منهم.
قال تعالى: قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون.
والمقصود أنه نفى علم قومه بما أخبره فيه، بيانا لآلاء الله التي هي آياته ونعمه فإن ذلك يدل على أنه لم يتعلم ذلك من قومه وفيه إنعام الله على الخلق بذلك.
وقال تعالى لما ذكر قصة يوسف: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون.
وقال تعالى: ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك.
فنفى - سبحانه - شهادته لهذه الأمور الغائبة وحضوره لها؛ تنبيها للناس على أنه أخبر بالغيب الذي لم يشهده ولم يعرفه من جهة أخبار الناس، فإن قومه لم يكونوا يعلمون ذلك ولا عاشر غير قومه. وكل من عرف حاله يعلم أنه لم يتعلم شيئا من ذلك، لا من أهل الكتاب ولا ممن نقل عن أهل الكتاب.
فإذا كان محمد ﷺ أخبر بمثل ما أخبرت به الأنبياء قبله، في باب أسماء الله وصفاته، وتوحيده وملائكته وأوليائه وأعدائه، مع العلم بأن في هذه الأمور من التفاصيل الكثيرة ما يمتنع اتفاق اثنين عليه إلا عن مواطأة بينهما، ومحمد وموسى - صلوات الله عليهما وسلامه لم يتواطآ، بل لم يواطئ محمد ﷺ أحدا من الرسل قبله ولا واطأوه.
والخبر الكذب إما أن يتعمد صاحبه الكذب، وإما أن يغلط. فالكاذبان المتعمدان للكذب لا يتفقان في القصص الطويلة والتفاصيل العظيمة.
وكذلك الغالطان لا يتفق غلطهما في مثل ذلك، بل الاثنان من آحاد الناس إذا أخبر كل منهما عن حال بلدة وأخبر الآخر بمثل خبره من غير مواطأة عرف صدقهما، فكيف بالأمور الغائبة التي لا يمكن العلم بها إلا من جهة الله تعالى فهذا من دلائل نبوة الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم -.
وأما القدر الذي يخالف ما جاء به محمد ﷺ مما ينقلونه عن الأنبياء فهو نوعان:
أحدهما: ما وقع فيه النسخ من الشرائع وهذا لا يمنعه لكن المنسوخ مثل هذا بالنسبة إلى ما لم ينسخ من الكتاب نظير المنسوخ من القرآن والأحاديث النبوية، فإنه قليل جدا بالنسبة إلى ما لم ينسخ، وكذلك عامة ما أمر به موسى وداود والمسيح وغيرهم من الأنبياء، إذا اعتبر بما أمر به محمد ﷺ وجد عامة ذلك متفقا لم ينسخ منه إلا القليل.
والثاني: الخبريات؛ وهذه قد ادعى بعض أهل الكتاب أن محمدا خالف بعض ما أخبرت به الأنبياء قبله، وهذا باطل، فإن أخبار الأنبياء لا يجوز أن تتناقض؛ إذ هم - كلهم - صادقون مصدقون ومن علم أن محمدا رسول الله، وأن موسى رسول الله، وأن المسيح رسول الله، علم أن أخبارهم لا تتناقض لكن قد يخبر هذا بما لم يخبر به هذا؛ فيكون في أخبار أحدهم زيادات على أخبار غيره لا ما يناقض خبر غيره.
وما يذكره أهل الكتاب مما يناقض خبر محمد ﷺ فهو - عامته - مما حرفوا معناه وتأويله وقليل منه حرف لفظه، وأهل الكتاب - اليهود والنصارى - مع المسلمين متفقون على أن الكتب المتقدمة وقع التحريف بها، إما عمدا وإما خطأ في ترجمتها وفي تفسيرها وشرحها وتأويلها. وإنما تنازع الناس: هل وقع التحريف في بعض ألفاظها؟ وكل ما يدعي فيه مدع أنمحمدا ﷺ ناقضه فلا بد له من أن يثبت مقدمتين:
إحداهما: ثبوت ذلك اللفظ عن ذلك النبي.
والثاني: ثبوت معناه.
وكل من احتج بنقل عن نبي، فلا بد له من هاتين المقدمتين: الإسناد والمتن، فلا بد له من ثبوت اللفظ، ولابد له من ثبوت معنى اللفظ. وإذا كان النقل ليس بلغة النبي، بل بلغة أخرى فلا بد من الترجمة الصحيحة، وعامة النصارى ليس عندهم كتب الأنبياء بلغة الأنبياء.
فإن موسى والمسيح ومن بينهما من أنبياء بني إسرائيل إنما كانوا يتكلمون باللغة العبرانية.
والمسيح كان عبرانيا، لم يتكلم بغير العبرانية، وإنما تكلم بغيرها، كالسريانية واليونانية والرومية بعض من اتبعه. وجمهور النصارى لا يعرفون بالعبرانية، فلا يحسنون أن يقرءوا بالعبرانية لا توراة ولا إنجيلا ولا غير ذلك، وإنما يتكلمون بذلك: الرومية أو السريانية أو غيرهما، وإن كان فيهم قليل ممن يتكلم بالعبرانية، بخلافاليهود، فإن العبرانية فاشية فيهم، وحينئذ فمن احتج من أهل الكتاب بشيء من كلام الأنبياء المنقول بالرومية والسريانية أو بالعربية، فإنه يحتاج مع إثبات النقل إلى إثبات الترجمة وصحتها؛ فإنهم كثيرا ما يضطربون في الترجمة وصحتها ويختلفون في معناها.
فهذه مقدمات ثلاث لا بد لهم منها في كل ما يحتجون من كلام الأنبياء، ولو لم يدعوا أنه معارض لما أخبر به محمد ﷺ فكيف إذا ادعوا به تناقضه لما جاء به محمد ﷺ فإن قدر أنه ثبت أن نبيا أخبر بشيء امتنع قطعا أن يخبر محمد ﷺ بنقيضه. فإن فيما نقل عن محمد ﷺ أيضا ما ليس بثابت لفظه؛ مثل بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وفيما ثبت لفظه ما ليس معناه صريحا في المناقضة، بل لا يدل على ذلك.
فكم ممن يفسر القرآن بما لا يدل عليه لفظ القرآن، بل ولا قاله أحد من الصحابة، بل ولا التابعين، كمن يقول: إن شعيبا النبي هو كان حمو موسى. وليس في القرآن والسنة وكلام الصحابة إلا ما يدل على نقيض ذلك. وكمن يقول: إن الرسل الذين أرسلوا إلى القرية كانوا من أتباع المسيح. وليس في القرآن والمنقول عن الصحابة إلا ما يدل على نقيض ذلك.
وأما ما علم أن محمدا ﷺ أخبر به فقد قامت الأدلة القاطعة اليقينية على صدقه وصدق ما أخبر به، أعظم مما قامت على صدق غيره وصدق ما جاء به، فمهما عارض ذلك علم أنه كذب على الأنبياء. ولا يمكن أحدا من الخلق أن يذكر دليلا قطعيا على صحة ذلك النقل، بل غايتهم أن يذكروا طريقا ظنيا لا يفيدهم إلا الظن، والظن لا يعارض اليقين.
فما جاء به محمد ﷺ يمكن صاحب النظر والاستدلال أن يعلمه علما يقينا لا يرتاب فيه. وما يناقضه لا سبيل لأحد إلى العلم به، ولا يتصور أن يقوم بقلبه منه إلا الظن والتقليد، وكلاهما لا يناقض العلم، فهذا أصل جامع. ثم العارف يعبر عنه مع كل إنسان بحسب ما يوصل معناه إلى ذلك المخاطب. والمقصود هنا أن يقال: كل ما يحتجون به على مخالفة ما ثبت عن محمد ﷺ لا يمكن أن يقوم لهم عليه دليل لا شرعي ولا عقلي، وهذا نعلمه مجملا.
ونحن نبين ذلك مفصلا فنقول: ما يحتجون به إما أن يكون حجة عقلية وإما أن يكون سمعية؛ أما العقليات: فمعلوم أن الحجج العقلية الدالة على فساد ما يقوله النصارى، أظهر مما يحتجون به على صحة دينهم ومن احتج منهم أو من اليهود بحجة عقلية على مخالفة شيء من دينه فلها أجوبة:
أحدها: أن يبين أن ذلك يلزم غيره من الأنبياء، فإنهم جاءوا بذلك أو بأعظم منه. فلا يقدح أحد بحجة عقلية في محمد ﷺ إلا كان ذلك قد جاء بطريق الأولى في غيره من الأنبياء، كما بينا في الرد على الرافضة، أنه لا يقدح أحد في الخلفاء الثلاثة: أبي بكر وعمر وعثمان، إلا أمكن أن يقدح بمثل ذلك وبأعظم منه في علي، فيمتنع أن يكون علي سليما من القوادح في إمامته إلا والثلاثة أسلم منه مما يقدح في إمامتهم.
ويمتنع أن يكون موسى وعيسى وداود برآء مما يقدح في نبوتهم إلا ومحمد أبرأ مما يقدح في نبوته. وهذا كما لو احتج محتج بما في القرآن من إثبات الصفات، فيقال له: في التوراة وغيرها من كتب الأنبياء مثل ذلك وأعظم، وإذا احتج بإنزال المتشابهات فيقال له: في الكتب المتقدمة من التشابه أعظم مما في القرآن. وهل ضلت النصارى إلا باتباع المتشابه من كلام الأنبياء وترك المحكم؟
والثاني: أن يبين أن تلك الحجة لا تصلح أن يعارض بها ما جاءت به الأنبياء. كما إذا أخذ بعض الناس يطعن في شيء من الشرائع بالرأي، بين له أن ما ثبت عن الأنبياء لا يعارض برأي ولا قياس.
الثالث: أن يبين فساد تلك الحجة العقلية. إن كانت من باب الخبريات: بين فسادها كما قد بسطنا القول في ذلك في كتاب " درء تعارض العقل والشرع " وذكرنا أن جميع ما يحتج به على خلاف نصوص الأنبياء من العقليات، فإنه باطل. وذكرنا ما يعتمد عليه النفاة من هذا الباب.
وإن كانت من باب الطلبيات فهي من باب الأمر والنهي. فمن كان في مذهبه أنه لا يعلل أحكام الله ولا يقول: إن حسن الأفعال وقبحها يعلم بالعقل، ولا ينزه الله عن فعل ولا عن حكم، بل يجوز عليه كل شيء، وإنما ينفي ذلك بالخبر السمعي أو العادة، فهذا يجاب بهذا الجواب لكن عامة القلوب والعقول لا تقبل هذا.
وأما على قول الجمهور: فنبين ما في مأموراته من الحكم والمصالح، وما في منهياته من المفاسد والضرر، ونبين رجحان ما جاء به على ما يعارض به، بل ونبين رجحان شرائع الأنبياء على سياسات سائر الأمم، بل ونبين رجحان شريعة محمد ﷺ على سائر الشرائع، وهذا مبسوط في مواضع.
وأما إذا احتج أهل الكتاب على مناقضة محمد ﷺ بحجة سمعية سواء كانت من كلامه، أو كلام غيره من الأنبياء عليهم السلام، كان الجواب من وجوه:
أحدها: أن يقال لهم: لا يمكنكم أن تصدقوا بنبوة نبي من الأنبياء مع التكذيب بمحمد ﷺ. والطريق الذي بها تثبت نبوة محمد ﷺ بمثلها وبأعظم منها. بل نحن نبين أن التصديق بنبوته أولى من التصديق بنبوة غيره، وأن كل ما يستدل به على نبوة نبي فمحمد أحق بجنس ذلك الدليل من غيره، وما يعارض به نبوة نبي، فالجواب عن محمد ﷺ أولى من الجواب عن غيره.
فهو مقدم فيما يدل على النبوة، وفيما يجاب به عن المعارضة، وهذه أكمل في ذلك. فيمتنع مع العلم أو العدل أن يصدق بنبوة غيره مع التكذيب بنبوته، كما يمتنع مع العلم والعدل في كل اثنين أحدهما أكمل من الآخر في فن أن يقر بمعرفة ذلك الفن للمفضول دون الفاضل. وقولنا: مع العلم والعدل؛ لأن الظالم يفضل المفضول مع علمه بأنه مفضول، والجاهل قد يعرف المفضول، ولا يعرف الفاضل.
فإن كثيرا من الناس يعلمون فضيلة متبوعهم: إما في العلم أو العبادة ولا يعرفون أخبار غيره حتى يوجد أقوام يعظمون بعض الأتباع دون متبوعه الذي هو أفضل منه عند التابع، وغيره لا يعرفونه. فهؤلاء ليس عندهم علم؛ ولهذا تجد كثيرا من هؤلاء يرجح المفضول؛ لعدم علمه بأخبار الفاضل، وهذا موجود في جميع الأصناف، حتى في المدائن، يفضل الإنسان مدينة يعرفها على مدينة هي أكمل منها لكونه لا يعرفها.
والحكم بين الشيئين بالتماثل أو التفاضل، يستدعي معرفة كل منهما ومعرفة ما اتصف به من الصفات التي يقع بها التماثل والتفاضل كمن يريد أن يعرف أن البخاري أعلم من مسلم، وكتابه أصح، أو أن سيبويه أعلم من الأخفش، ونحو ذلك.
وقد فضل الله بعض النبيين على بعض، كما قال تعالى: ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض.
وقال تعالى: وتلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض.
والكلام في شيئين.:
أحدهما: في كون المفضول يستحق تلك المنزلة دون الفاضل، وهذا غاية الجهل والظلم. كقول الرافضة الذين يقولون: إن عليا كان إماما عالما عادلا، والثلاثة لم يكونوا كذلك.
وكذلك اليهود والنصارى الذين يقولون: إن موسى كان رسولا، ومحمد ﷺ لم يكن كذلك، فإن هذا في غاية الجهل والظلم. بخلاف من اعترف باستحقاق الاثنين للمنزلة، ولكن فضل المفضول، فهذا أقل جهلا وظلما.
ومعلوم أن المرسلين يتفاضلون، تارة في الكتب المنزلة عليهم وتارة في الآيات والمعجزات الدالة على صدقهم، وتارة في الشرائع وما جاءوا به من العلم والعمل وتارة في أممهم.
فمن عنده علم وعدل؛ فينظر في القرآن وفي غيره من الكتب كالتوراة والإنجيل، أو في معجزات محمد ﷺ ومعجزات غيره، أو في شريعته وشريعة غيره، أو في أمته وأمة غيره وجد له من التفضيل على غيره ما لا يخفى إلا على مفرط في الجهل أو الظلم.
فكيف يمكن مع هذا أن يقال: هو كاذب مفتر، وغيره هو النبي الصادق؟
نعم، كثير من أهل الكتاب لم يعرفوا من أخباره ما يبين لهم ذلك كما أن كثيرا من الرافضة لم يعرفوا من أخبار الثلاثة ما يبين لهم فضيلتهم عن علي رضي الله عنه، فهؤلاء في الجهل، وطلب العلم عليهم فرض، خصوصا أمر النبوة. فإن النظر في أمر من قال: إني رسول الله إليكم، مقدم على كل شيء؛ إذ كان التصديق بهذا مستلزما لغاية السعادة، والتكذيب به مقتضيا لغاية الشقاوة، فبالرسول يحصل الفرق بين السعداء والأشقياء وبين الحق والباطل والهدى والضلال، والفرق بين أولياء الله وأعدائه.
وكما يسلك هذه الطريق العقلية في القياس والاعتبار، بأن يعتبر حال محمد ﷺ وكتابه وشرعه وأمته بحال غيره وكتابه وشرعه، وينظر هل هما متماثلان أو متفاضلان وأيهما أفضل، وإذا تبين أن حاله أفضل كان تصديقه أولى، وامتنع أن يكون غيره صادقا وهو كاذب.
بل لو كانا متماثلين وجب كونه صادقا، بل وكذلك لو كانا متقاربين وغيره أفضل فإن المتنبي الكذاب لا يقارب الصادق، بل بينهما من التباين ما لا يخفى إلا على أعمى الناس.
وكذلك نسلك هذه الطريق في جنس الأنبياء - عليهم السلام - مطلقا وأممهم، بأن تعرف أخبار من مضى من الأنبياء وأممهم. وترى آثار هؤلاء وهؤلاء كما قال تعالى:
أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
وقال تعالى: أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون.
وقال تعالى لما ذكر آل فرعون: وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين.
وكذلك قال تعالى عن عاد: وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود.
وقال تعالى عن قوم شعيب: ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود.
وإذا ذكر الأنبياء عليهم السلام قال تعالى: وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين؛ سلام على إبراهيم؛ سلام على موسى وهارون؛ سلام على إل ياسين.
وقال تعالى: وجعلنا لهم لسان صدق عليا.
ومثل هذا في القرآن كثير، فيذكر من حال الأنبياء وأتباعهم، وما حصل لهم من الكرامة، وما حصل للكفار بهم من الخزي والعذاب، ما بين حسن حال هؤلاء وقبح حال هؤلاء.
ومما يوضح ذلك من أن من اعتبر حال أهل الملل، من المسلمين واليهود، والنصارى، وحال غيرهم في العلوم النافعة والأعمال الصالحة، تبين له أن حال أهل الملل أكمل بما لا يحصى. وإذا نظر ما عند غير أهل الملل من الحكمة العلمية والعملية، كحكمة الهند واليونان والعرب من الجاهلية والفرس وغيرهم، وجد ما عندهم بعض ما عند أهل الملل، من الحكمة العلمية والعملية فيمتنع أن يكون علماء اليونان والهند ونحوهم على حق وهدى، وعلماء المسلمين واليهود والنصارى على باطل وضلال. وكذلك يمتنع أن تكون الأمة لها علم نافع وعمل صالح وأهل الملل ليسوا كذلك.
ففي الجملة: لا يوجد في غير أهل الملل من علم نافع وعمل صالح: من حكمة علمية وعملية، إلا وذلك في أهل الملل أكمل، ولا يوجد في أهل الملل شر إلا وهو في غيرهم أكثر.
وهؤلاء فلاسفة اليونان، الذين قد شهروا عند كثير من الناس باسم الحكمة، وحكمتهم كحكمة سائر الأمم، نوعان: فطرية وعملية؛ والعملية في الأخلاق وسياسة المنزل وسياسة المدائن، وكل من تأمل ما عند اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل من سياسة الأخلاق والمنزل والمدائن وجده خيرا مما عند أولئك بأضعاف مضاعفة.
فإن أولئك عمدة أمرهم: الكلام على قوى النفس الشهوية والغضبية، وقوة العلم والعدل، كأمور من جنس آداب العقلاء، ليس عندهم من معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله، ومن عبادته وحده لا شريك له شيء له قدر والذي عندهم من العلوم الطبيعية والحسابية، ليس مما ينفع بعد الموت إلا أن يستعان به على ما ينفع بعد الموت. والذي عندهم من العلم الإلهي قليل جدا مع ما فيه من الخطأ الكثير.
وكل ما عندهم من علم نافع وعمل صالح، فهو جزء مما جاءت به الأنبياء عليهم السلام فيمتنع أن يكون هؤلاء المسمون بالحكماء وأتباعهم على حق في الاعتقاد، وصدق في الأقوال وخير في الأعمال كما هو غاية مطلوبهم. والأنبياء وأتباعهم ليسوا كذلك.
واعتبر ذلك بمن يعرف من خاصة هؤلاء وعامتهم، وخاصة هؤلاء وعامتهم، وإن كان بينهما من التفاوت ما بين أهل الجنة وأهل النار، فالاعتبار في مثل ذلك مما جاء به التنزيل.
قال تعالى: آلله خير أما يشركون.
والمقصود أنه بالاعتبار والقياس العقلي والموازنة يوزن الشيء بما يناظره، ويعتبر به قياس الطرد وقياس العكس.
فيظهر لكل من تدبر ذلك أن أهل الملل أولى بالحق والصدق والخير من غيرهم، وإن كان لأولئك من الحكمة ما يناسب أحوالهم. وحكماؤهم أفضل من عوامهم، وهم خير من الكفار بالرسل الذين ليس فيهم خير أصلا وهذا مما استفادوه أتباع الأنبياء منهم، فيكون هذا من دلائل نبوتهم وأعلام رسالتهم استدلالا بالأثر على المؤثر وبالمعلول على علته.
وكذلك من تدبر حال المسلمين، وحال اليهود والنصارى، تبين له رجحان حال المسلمين فيكون هذا من دلائل نبوة محمد ﷺ وأعلام رسالته.
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن النبوة تعلم بطرق كثيرة، وذكرنا طرقا متعددة في معرفة النبي الصادق والمتنبي الكذاب، غير طريق المعجزات. فإن الناس كلما قويت حاجتهم إلى معرفة الشيء يسر الله أسبابه كما يتيسر ما كانت حاجتهم إليه في أبدانهم أشد.، فلما كانت حاجتهم إلى النفس والهواء أعظم منها إلى الماء، كان مبذولا لكل أحد في كل وقت، ولما كانت حاجتهم إلى الماء أكثر من حاجتهم إلى القوت، كان وجود الماء أكثر.
وكذلك لما كانت حاجتهم إلى معرفة الخالق أعظم، كانت آياته ودلائل ربوبيته وقدرته وعلمه ومشيئته وحكمته أعظم من غيرها، ولما كانت حاجتهم إلى معرفة صدق الرسل بعد ذلك أعظم من حاجتهم إلى غير ذلك، أقام الله - سبحانه - من دلائل صدقهم وشواهد نبوتهم وحسن حال من اتبعهم وسعادته ونجاته، وبيان ما يحصل له من العلم النافع والعمل الصالح، وقبح حال من خالفهم وشقاوته وجهله وظلمه - ما يظهر لمن تدبر ذلك. ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
وهذا الذي ذكرناه من اعتبار الشيء بنظرائه وموافقيه وأشباهه، واعتباره بأضداده ومخالفيه، حتى يعرف في المتشابهين أيهم أكمل وأفضل، وفي المختلفين أيهم أولى بالحق والهدى، والعدل موجود في سائر الأمور علمها وعملها، كعلم الطب والحساب والفقه وغير ذلك، فيمتنع - مع العلم والعدل - أن يقال: جالينوس كان طبيبا، وأبقراط لم يكن طبيبا، أو أن يقال: تاميطميوس كان فيلسوفا، وأرسطو لم يكن فيلسوفا، أو أن يقال: الأخفش كان نحويا وسيبويه لم يكن نحويا، أو أن يقال: زفر والحسن بن زياد ومحمد بن الحسن كانوا فقهاء، وأبو حنيفة لم يكن فقيها، أو أن أشهب وابن القاسم، وابن وهب كانوا فقهاء، ومالك لم يكن فقيها، أو أن المزني والبويطي وحرملة كانوا فقهاء، والشافعي لم يكن فقيها، وأن أبا داود وإبراهيم الحربي وأبا بكر الأثرم كانوا فقهاء، وأحمد بن حنبل لم يكن فقيها، أو أن عليا كان إمام عدل، وأبا بكر وعمر لم يكونوا يكونا إمامي عدل، أو أن نور الدين الشهيد كان عادلا، وعمر بن عبد العزيز لم يكن عادلا، أو أن كوشيار كان يعلم الهيئة، وبطليموس لم يكن يعرف الهيئة، أو أن النابغة الجعدي كان شاعرا، والنابغة الذبياني لم يكن شاعرا، أو أن يقال: إن القمر مستنير، والشمس ليست مستنيرة، أو أن عطارد نجم ثاقب، وزحل ليس بنجم ثاقب، أو أن مسلما كان عالما بالحديث، والبخاري لم يكن كذلك، أو أن كتابه أصح من كتاب البخاري. ونحو ذلك مما يطول تعداده.
فصل: اشتراطهم لصحة النبوة تبشير الأنبياء بها والرد عليهم
والنصارى لهم سؤال مشهور بينهم، وهو أن فيهم من يقول: محمد ﷺ لم تبشر به النبوات بخلاف المسيح فإنه بشرت به النبوات " وزعموا أن من لم تبشر به، فليس بنبي وهذا السؤال يورد على وجهين:
أحدهما: أنه لا يكون نبيا حتى تبشر به.
والثاني: أن من بشرت به أفضل أو أكمل، ممن لم تبشر به، أو أن هذا طريق يعرف به نبوة المسيح، اختص به.
وأنتم قد قلتم: " ما من طريق تثبت به نبوة نبي إلا ومحمد تثبت نبوته بمثل تلك الطريق وأفضل " فأما هذا الثاني، فيستحق الجواب، وأما الأول نجيبهم عنه أيضا. لكن هل تجب الإجابة عنه؟ فيه قولان بناء على أصل وهو أنه: هل من شرط النسخ الإشعار بالمنسوخ؟ ولنظار المسلمين فيه قولان:
أحدهما: أنه لا بد إذا شرع حكما يريد أن ينسخه، فلا بد أن يشعر المخاطبين بأنه سينسخه؛ لئلا يظنوا دوامه فيكون ذلك تجهيلا لهم.
والثاني لا يشترط ذلك.
وأيضا، فمن بعث بعد موسى، هل يجب أن يكون مبشرا به؟ فيه قولان.
وبكل حال، فلا ريب عند علماء المسلمين أن المسيح "عليه السلام" بشر بمحمد ﷺ - كما قال تعالى: وإذ قال عيسى ابن مريم يابني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد.
وقد قال تعالى: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.
وقال تعالى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار.
وقال تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
في موضعين من القرآن؛ أحدهما في التوحيد والقرآن، والآخر في القبلة، والقرآن ومحمد.
فقال في الأول: قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون.
وهذا في سورة الأنعام، وهي مكية.
وقال في سورة البقرة وهي مدنية: قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك فلا تكونن من الممترين.
وقال تعالى: وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين.
وقال تعالى: أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين.
وقال تعالى: أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل.
وقال تعالى: قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب.
وقال تعالى: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق.
وقال تعالى: إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا.
وقال تعالى: الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون.
وقال تعالى: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك.
وإذا كان كذلك فيقال: معلوم باتفاق أهل الملل، أنه ليس من شرط نبوة كل نبي أن يبشر به من قبله؛ إذ النبوة ثابتة بدون ذلك، لاسيما ونوح وإبراهيم وغيرهما لم يعلم أنه بشر بهما من قبلهما، وكذا عامة الأنبياء الذين قاموا في بني إسرائيل لم تتقدم بهم بشارات؛ إذ كانوا لم يبعثوا بشريعة ناسخة، كداود وأشعيا وغيرهما.
وإنما قد يدعى هذا فيمن جاء بنسخ شرع من قبله، كما جاء المسيح بنسخ بعض أحكام التوراة، وكذلك محمد ﷺ. ففي مثل هذا يتنازع المتنازعون من علماء المسلمين وغيرهم: هل يشترط أن يكون قد أخبر بذلك قبل النسخ؟ على قولين.
وحينئذ فالمسلمون يقولون: شريعة التوراة والإنجيل لم تشرع شرعا مطلقا، بل مقيدا إلى أن يأتي محمد ﷺ وهذا مثل الحكم المؤقت بغاية لا يعلم متى تكون، كقوله تعالى:
فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره.
وقوله تعالى: فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا.
ومثل هذا جائز باتفاق أهل الملل.
وهل يسمى هذا نسخا؟ فيه قولان: قيل: لا يسمى نسخا، كالغاية المعلومة، كقوله تعالى: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل.
فإن ارتفاع وجوب الصيام بمجيء الليل لا يسمى نسخا باتفاق الناس. فقيل: إن الغاية المجهولة كالمعلومة. وقيل: بل هذا يسمى نسخا. ولكن هذا النسخ جائز باتفاق أهل الملل اليهود وغيرهم، وعلى هذا فثبوت نبوة المسيح ومحمد - صلوات الله وسلامه عليهما - لا تتوقف على جواز النسخ المتنازع فيه، فإن ذلك إنما يكون في الحكم المطلق. والشرائع المتقدمة لم تشرع مطلقا.
وسواء قيل: إن الإشعار بالناسخ واجب، أو قيل: إنه غير واجب، فعلى القولين قد أشعر أهل الشرع الأول بأنه سينسخ. فإن موسى بشر بالمسيح، وكذلك غيره من الأنبياء وموسى والمسيح، وغيرهما من الأنبياء بشروا بمحمد، وإذا كان هذا هو الواقع فنبوة المسيح ومحمد - صلى الله عليهما وسلم - لا تتوقف على ثبوت النسخ المتنازع فيه.
وحينئذ فنقول العلم بنبوة محمد ﷺ ونبوة المسيح لا تتوقف على العلم بأن من قبلهما بشر بهما، بل طرق العلم بالنبوة متعددة. فإذا عرفت نبوته بطريق من الطرق ثبتت نبوته عند من علم ذلك وإن لم يعلم أن من قبله بشر به. لكن يقال: إذا كان الواجب أو الواقع أنه لا بد من إخبار من قبله بمجيئه وأن الإشعار بنسخ شريعة من قبله واجب أو واقع صار ذلك شرطا في النبوة، ومن علم نبوته علم أن هذا قد وقع، وإن لم ينقل إليه.
فإذا قال المعارض: عدم إخبار من قبله به يقدح في نبوته، وأنه إذا قدر أنه لم يخبر به من قبله، والإخبار شرط في النبوة، كان ذلك قدحا - قيل: الجواب هنا من طريقين:
أحدهما أن يقال: إذا علمت نبوته بما قام عليها من أعلام النبوة؛ فإما أن يكون تبشير من قبله لازما لنبوته واجبا أو أو واقعا، وإما أن لا يكون لازما.
فإن لم يكن لازما لم يجب وقوعه، وإن كان لازما علم أنه قد وقع، وإن كان ذلك لم ينقل إلينا إذ ليس كل ما قالته الأنبياء المتقدمون علمناه ووصل إلينا، وليس كل ما أخبر به المسيح ومن قبله من الأنبياء وصل إلينا، وهذا مما يعلم بالاضطرار.
ولو قدر أن هذا ليس في الكتب الموجودة لم يلزم أن المسيح ومن قبله لم يذكروه، بل يمكن أنهم ذكروه وما نقل، ويمكن أنه كان في كتب غير هذه، ويمكن أنه كان في نسخ غير هذه النسخ فأزيل من بعضها، ونسخت هذه مما أزيل منه، وتكون تلك النسخ التي هو موجود فيها غير هذه، فكل هذا ممكن في العادة لا يمكن الجزم بنفيه.
فلو قدر أنه ليس في هذه الكتب الموجودة اليوم بأيدي أهل الكتاب، لم يقطع بأن الأنبياء لم يبشروا به، فإذا لم يمكن لليهود أن يقطعوا بأن المسيح لم يبشر به الأنبياء، ولا يمكن أهل الكتاب أن يقطعوا بأن محمدا لم يبشر به الأنبياء، لم يكن معهم علم بعدم ذلك، بل غاية ما يكون عند أحدهم ظن لكونه طلب ذلك فلم يجده.
ودلائل نبوة المسيح ومحمد قطعية يقينية، لا يمكن القدح فيها بظن؛ فإن الظن لا يدفع اليقين، لاسيما مع الآثار الكثيرة المخبرة بأن محمدا كان مكتوبا باسمه الصريح فيما هو منقول عن الأنبياء، كما في صحيح البخاري أنه قيل لعبد الله بن عمرو: " أخبرنا ببعض صفة رسول الله في التوراة "، فقال: إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن " يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لست بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق، ولا تجزي بالسيئة السيئة، ولكن تجزي بالسيئة الحسنة وتعفو وتغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة.
الموجاء، فأفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا، بأن يقولوا لا إله إلا الله.
ولفظ التوراة والإنجيل والقرآن والزبور قد يراد به الكتب المعينة، ويراد به الجنس، فيعبر بلفظ القرآن عن الزبور وغيره، كما في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ: " خفف على داود القرآن فكان ما بين أن تسرج دابته إلى أن يركبها يقرأ القرآن " والمراد به قرآنه وهو الزبور، ليس المراد به القرآن الذي لم ينزل إلا على محمد.
وكذلك ما جاء في صفة أمة محمد: " أناجيلهم في صدورهم " فسمى الكتب التي يقرءونها - وهي القرآن - أناجيل.
وكذلك في التوراة: " إني سأقيم لبني إسرائيل نبيا من إخوتهم أنزل عليه توراة مثل توراة موسى " فسمى الكتاب الثاني توراة.
فقوله: " أخبرني بصفة رسول الله ﷺ في التوراة " قد يراد بها نفس الكتب المتقدمة كلها، وكلها تسمى توراة، ويكون هذا في بعضها.
وقد يراد به التوراة المعينة، وعلى هذا فيكون هذا في نسخة لم ينسخ منها هذه النسخ، فإن النسخ الموجودة بالتوراة التي وقفنا عليها ليس فيها هذا.
لكن هذا عندهم في نبوة أشعيا، قال فيها: " عبدي الذي سرت به نفسي، أنزل عليه وحيي، فيظهر في الأمم عدلي ويوصيهم بالوصايا، لا يضحك ولا يسمع صوته في الأسواق، يفتح العيون العور، والآذان الصم، ويحيي القلوب الغلف، وما أعطيه لا أعطي أحدا، يحمد الله حمدا جديدا يأتي من أقصى الأرض، وتفرح البرية وسكانها يهللون الله على كل شرف ويكبرونه على كل رابية، لا يضعف ولا يغلب ولا يميل إلى الهوى، مشقح ولا يذل الصالحين الذين هم كالقصبة الضعيفة، بل يقوي الصديقين، وهو ركن المتواضعين، وهو نور الله الذي لا يطفى. أثر سلطانه على كتفيه ".
وهذه صفات منطبقة على محمد ﷺ وأمته، وهي من أجل بشارات الأنبياء المتقدمين به.
ولفظ التوراة قد عرف أنه يراد به جنس الكتب التي يقر بها أهل الكتاب، فيدخل في ذلك الزبور، ونبوةأشعيا، وسائر النبوات غير الإنجيل.
فإن كان المراد بلفظ التوراة والإنجيل في القرآن هذا المعنى؛ فلا ريب أن ذكر النبي في التوراة كثير متعدد.
الطريق الثاني من الجواب: أن نبين أن الأنبياء قبله بشروا به. وهذا دليل مستقل على نبوته وعلم عظيم من أعلام رسالته، وهذا - أيضا - يدل على نبوة ذلك النبي إذ أخبر بأنباء من الغيب مع دعوى النبوة، ويدل على نبوة محمد ﷺ لإخبار من تثبت نبوته بنبوته. هذا إذا وجد الخبر ممن لا نعلم نحن نبوته، ولم يذكر في كتابنا.
وأما من ثبتت نبوته بطرق أخرى كموسى والمسيح، فهذا مما تظاهر فيه الأدلة على المدلول الواحد، وهو - أيضا - يتضمن أن كل ما ثبتت به نبوة غيره فإنه تثبت به نبوته، وهو جواب ثان لمن يجعل ذلك شرطا لازما لنبوته.
فصل: طرق العلم ببشارة الأنبياء بمحمد عليهم الصلاة والسلام
ثم العلم بأن الأنبياء قبله بشروا به يعلم من وجوه:
أحدها: ما في الكتب الموجودة اليوم بأيدي أهل الكتاب من ذكره.
الثاني: إخبار من وقف على تلك الكتب وغيرها من كتب أهل الكتاب - ممن أسلم ومن لم يسلم - بما وجدوه من ذكره فيها.
وهذا مثل ما تواتر عن الأنصار أن جيرانهم من أهل الكتاب كانوا يخبرون بمبعثه، وأنه رسول الله، وأنه موجود عندهم، وكان هذا من أعظم ما دعا الأنصار إلى الإيمان به لما دعاهم إلى الإسلام، حتى آمن الأنصار به وبايعوه من غير رهبة ولا رغبة.
ولهذا قيل: إن المدينة فتحت بالقرآن، لم تفتح بالسيف كما فتح غيرها.
ومثل ما تواتر عن إخبار النصارى بوجوده في كتبهم مثل إخبار هرقل ملك الروم والمقوقس ملك مصر صاحب الإسكندرية والنجاشي ملك الحبشة والذين جاءوه بمكة وقد ذكر الله ذلك في القرآن في قوله عن اليهود:
وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.
وقال عن النصارى:
وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين.
وقوله:
الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا.
وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله ﷺ قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه "، فقال معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن معرور، وداود بن سلمة: " يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ﷺ ونحن أهل شرك وتخبرونا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته "، فقال سلام بن مشكم، أخو بني النضير، " ما جاءنا شيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم ". فأنزل الله تعالى: فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين.
وقال أبو العالية وغيره: " كانوا - يعني اليهود - إذا استنصروا بمحمد على مشركي العرب يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا، حتى نعذب المشركين ونقتلهم " فلما بعث الله محمدا ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسدا للعرب وهم يعلمون أنه رسول الله ﷺ فأنزل الله هذه الآيات: فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.
وروى ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ثم الظفري، عن رجال من قومه قالوا: " ومما دعانا إلى الإسلام - مع رحمة الله وهداه - أنا كنا نسمع من رجال يهود، كنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل الكتاب عندهم علم ليس عندنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رسوله ﷺ رسولا من عند الله، أجبنا حين دعانا إلى الله، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه، فآمنا به وكفروا به ففينا وفيهم نزلت هؤلاء الآيات التي في البقرة: ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين.
قال ابن إسحاق: " وحدثنا صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، حدثنا يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة الأنصاري، قال: حدثني من شئت من رجال قومي عن حسان بن ثابت الأنصاري، قال: والله إني لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان سنين، أعقل كل ما سمعت، إذ سمعت يهوديا يقول على أطم يثرب، يصرخ: " يا معشر اليهود " فلما اجتمعوا عليه قالوا: " ما لك ويلك " قال: " طلع نجم أحمد الذي يبعث الليلة ".
وروى أبو زرعة، بإسناد صحيح، عن أسامة بن زيد، عن أبيه زيد بن حارثة، قال: " خرج رسول الله ﷺ وهو مردفي ثم أقبل رسول الله ﷺ في يوم حار من أيام مكة، حتى إذا كنا بأعلى الوادي لقيه زيد بن عمرو بن نفيل، فقال له رسول الله: " يا ابن عمرو، ما لي أرى قومك قد شنفوك؟ ". قال: " أما والله، إن ذلك لغير ثائرة كانت مني فيهم لكن أراهم على ضلال " فخرجت أبتغي هذا الدين، فأتيت إلى أحبار يثرب، فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي. فخرجت حتى آتي أحبار خيبر فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي، فقال لي حبر من أحبار الشام: " إنك لتسأل عن دين ما نعلم أحدا يعبد الله به إلا شيخ بالجزيرة ". فخرجت فقدمت عليه فأخبرته بالذي خرجت له، فقال: " إن كل من رأيت في ضلالة فمن أنت "، قلت: " أنا من أهل بيت الله، ومن أهل الشوك والقرظ ". فقال: " إنه قد خرج في بلدك نبي - أو: خارج - قد خرج نجمه، فارجع فصدقه واتبعه وآمن به، فرجعت فلم أحس شيئا بعد، قال: " فأناخ رسول الله ﷺ بعيره، فقدمنا إليه السفرة " قال زيد: " ما آكل شيئا ذبح لغير الله " فتفرقا، فجاء رسول الله ﷺ فطاف بالبيت. قال زيد: وأنا معه، وكان صنمان من نحاس يقال لهما: (إساف) و (نائلة) مستقبل الكعبة، يتمسح بهما الناس إذا طافوا فقال رسول الله ﷺ " لا تمسهما ولا تمسح بهما ". قال زيد: فقلت في نفسي - وقد طفنا - لأمسنهما حتى أنظر ما يقول، فمسستهما، فقال رسول الله ﷺ " ألم تنهه؟ " فلا والذي أكرمه، ما مسستهما حتى أنزل الله عليه الكتاب.
ومات زيد بن عمرو بن نفيل قبل الإسلام. فقال رسول الله ﷺ: إنه يبعث أمة وحده.
وروى البخاري حديث خروج زيد بن عمرو قريبا من هذا اللفظ.
وقال ابن إسحاق: حدثنا صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمود بن لبيد، عن سلمة بن سلامة بن وقش، قال: كان بين أبياتنا يهودي، فخرج على نادي قومه بني عبد الأشهل ذات غداة، فذكر البعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان، فقال ذلك لأصحاب وثن، لا يرون أن بعثا كائن بعد موت، وذلك قبل مبعث رسول الله، فقالوا: " ويحك يا فلان - أو: ويلك - وهذا كائن، أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون من أعمالهم "، قال: " نعم، والذي يحلف به لوددت أن حظي من تلك النار أن توقدوا أعظم تنور في داركم فتحمونه ثم تقذفوني فيه ثم تطينون علي وأني أنجو من تلك النار غدا. فقيل: يا فلان، فما علامة ذلك؟ قال: " نبي يبعث من ناحية هذه البلاد " وأشار إلى مكة واليمن بيده، قالوا: " فمتى تراه؟ " فرمى بطرفه فرآني وأنا مضطجع بفناء باب أهلي وأنا أحدث القوم، فقال: " إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه " فما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله، وإنه لحي بين أظهرهم، فآمنا به وصدقناه، وكفر به بغيا وحسدا، فقلنا له: يا فلان ألست الذي قلت ما قلت وأخبرتنا؟ قال: ليس به.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن غلاما يهوديا كان يخدم النبي، فمرض فأتاه رسول الله يعوده، فوجد أباه عند رأسه يقرأ التوراة، فقال له رسول الله يا يهودي أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة صفتي ومخرجي؟ قال: لا، قال الفتى: " بلى والله يا رسول الله إنا نجد في التوراة نعتك ومخرجك، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال: النبي ﷺ أقيموا هذا من عند رأسه، ولوا أخاكم رواه البيهقي بإسناد صحيح. وقال: ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن شيخ من بني قريظة، قال: هل تدري عما كان إسلام أسيد وثعلبة ابني سعية، وأسد بن عبيد، نفر من هدل، لم يكونوا من بني قريظة وبني النضير، كانوا فوق ذلك، فقلت: لا، قال: فإنه قدم علينا رجل من الشام من يهود، يقال له: ابن الهيبان، فأقام عندنا، والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس خيرا منه، فقدم علينا قبل مبعث النبي ﷺ بسنين، وكنا إذا أقحطنا وقل علينا المطر، نقول: يا ابن الهيبان اخرج فاستسق لنا، فيقول: لا والله حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة، فنقول كم؟ فيقول صاعا من تمر أو مدين من شعير، فنخرجه ثم يخرج إلى ظاهر حرتنا ونحن معه فنستقي، فوالله ما يقوم من مجلسه حتى تمر الشعاب. قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثة، فحضرته الوفاة واجتمعوا إليه، فقال: يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قالوا: أنت أعلم، قال: " فإنه إنما أخرجني أتوقع خروج نبي قد أظل زمانه، هذه البلاد مهاجره، فاتبعوه ولا تستبقن إليه إذا خرج، يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء، وبسبي الذراري والنساء ممن يخالفه، ولا يمنعنكم ذلك منه " ثم مات، فلما كان الليلة التي فتحت فيها قريظة، قال أولئك الثلاثة الفتية - وكانوا شبانا أحداثا -: يا معشر يهود والله إنه الذي ذكر لكم ابن الهيبان، فقالوا: ما هو به، قالوا: " بلى والله إنه لصفته " ثم نزلوا فأسلموا وخلوا أموالهم وأولادهم وأهاليهم. قال ابن إسحاق: فلما فتح الحصن رد ذلك عليهم.
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب، لما حدثه عن هرقل - وقد تقدم حديثه في أول الكتاب - وذكر فيه أن هرقل لما سأله عن صفات رسول الله ﷺ قال: إن يكن ما تقول حقا، إنه نبي، قد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه منكم، ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.
وزاد البخاري في حديثه، وقال ابن الناطور: وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم، فنظر فقال: إن ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟ قال: تختتن اليهود، فلا يهمنك شأنهم، وابعث إلى من في مملكتك من اليهود فيقتلوهم. ثم وجد إنسانا من العرب فقال: انظروا أمختتن هو؟ فنظروا فإذا هو مختتن، وسأله عن العرب، فقال: يختتنون. وقال فيه: وكان برومية صاحب له كان هرقل نظيره في العلم، فأرسل إليه، وصار إلى حمص، فلم يرم من حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأيه على خروج النبي ﷺ وأنه نبي.
وكذلك النجاشي ملك الحبشة، لما هاجر الصحابة إليه، لما آذاهم المشركون وخافوا أن يفتنوهم عن دينهم، وقرءوا عليه القرآن، قال: فأخذ عودا بين أصبعيه، فقال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته، فقال: وإن نخرتم. اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي. يعني أنتم آمنون. وقال هذا لأن قريشا أرسلوا هدايا إليه وطلبوا منه أن يرد هؤلاء المسلمين وقالوا: " هؤلاء فارقوا ديننا وخالفوا دينك ".
وفي الصحيح، حديث ورقة بن نوفل الذي ترويه عائشة - رضي الله عنها - في بدء الوحي، قالت: أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصادقة من النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد - إلى أن قالت - فأتت به خديجة ورقة بن نوفل، وكان قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، فقالت: اسمع من ابن أخيك فأخبره رسول الله ﷺ خبر ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، ليتني كنت جذعا أنصرك إذ يخرجك قومك، قال: أومخرجي هم؟ قال: لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا " ثم لم ينشب ورقة أن توفي.
وقال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله ﷺ عشرون رجلا - أو قريب من ذلك - وهو بمكة من النصارى حين ظهر خبره بالحبشة، فوجدوه في المجلس فكلموه وسألوه ورجال من قريش في أنديتهم. فلما فرغوا من مسألتهم رسول الله ﷺ عما أرادوا، دعاهم رسول الله ﷺ إلى الله - عز وجل - وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا من عنده اعترضهمأبو جهل في نفر من قريش، فقالوا: خيبكم الله من ركب، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم لترتادوا لهم فتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم؟ ما نعلم ركبا أحمق منكم - أو كما قالوا لهم - فقالوا: " سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ". ويقال: فيهم نزل قوله تعالى: الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين.
وعن محمد بن عمر بن إبراهيم بن محمد بن جبير: حدثتني جدتي أم عثمان بنت سعيد بن محمد بن جبير، عن أبيها سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: سمعت أبي جبيرا يقول: لما بعث الله نبيه وظهر أمره بمكة خرجت إلى الشام، فلما كنت ببصرى، أتتني جماعة من النصارى فقالوا لي: أمن الحرم أنت؟ قلت: نعم، قالوا: فتعرف هذا الذي تنبأ فيكم؟ قلت: نعم، قال: فأخذوا بيدي فأدخلوني ديرا لهم فيه تماثيل وصور، فقالوا لي: انظر هل ترى صورة هذا النبي الذي بعث فيكم؟ فنظرت فلم أر صورته، قلت: لا أرى صورته.
فأدخلوني ديرا أكبر من ذلك الدير فيه صور أكثر مما في ذلك الدير، فقالوا لي: انظر، هل ترى صورته؟ فنظرت، فإذا أنا بصفة رسول الله ﷺ وصورته، وإذا أنا بصفة أبي بكر وصورته، وهو آخذ بعقب رسول الله ﷺ فقالوا لي: انظر هل ترى صفته؟ قلت: نعم، قالوا: هو هذا؟ وأشاروا إلى صفة رسول الله ﷺ قلت: اللهم نعم. أشهد أنه هو. قالوا: أتعرف هذا الذي أخذ بعقبه؟ قلت: نعم.
قالوا: نشهد أن هذا صاحبكم، وأن هذا الخليفة من بعده رواه البخاري في تاريخه، وقال فيه: قال الذي أراه الصور: لم يكن نبي إلا كان بعده نبي، إلا هذا النبي. ورواه أبو نعيم في دلائل النبوة.
وروى موسى بن عقبة أن هشام بن العاص، ونعيم بن عبد الله، ورجلا آخر، قد سماه، بعثوا إلى ملك الروم زمن أبي بكر، قال: فدخلنا على جبلة بن الأيهم وهو بالغوطة فذكر الحديث، وأنه انطلق بهم إلى الملك وأنهم وجدوا عنده شبه الربعة العظيمة مذهبة، وإذا فيها أبواب صغار ففتح فيها بابا، فاستخرج منه خرقة حرير سوداء، فيها صورة بيضاء، وذكر صفة آدم ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة، وفيها صورة نوح ثم إبراهيم ثم أراهم حريرة فيها صورة محمد ﷺ وقال: هذا آخر الأبواب لكني عجلته؛ لأنظر ما عندكم ثم فتح أبوابا أخر، وأراهم صورة بقية الأنبياء؛ موسى، وهارون، وداود، وسليمان، وعيسى ابن مريم عليهم السلام وصفة لوط، وصفة إسحاق، وذكر أن هذا عندهم قديما من عهد آدم، وأن دانيال صورها بأعيانها.
وروي مثل هذا عن المغيرة بن شعبة، أنه لما دخل على المقوقس ملك مصر والإسكندرية ملك النصارى، أخرج له صور الأنبياء وأخرج له صورة نبينا ﷺ فعرفها.
والوجه الثالث: نفس إخباره بذلك في القرآن مرة بعد مرة، واستشهاده بأهل الكتاب وإخباره بأنه مذكور في كتبهم، مما يدل العاقل على أنه كان موجودا في كتبهم، فإنه لا ريب عند كل من عرف حال محمد من مؤمن وكافر، أنه كان من أعقل أهل الأرض، فإن المكذبين له لا يشكون في أنه كان عنده من الخبرة والمعرفة والحذق، ما أوجب أن يقيم مثل هذا الأمر العظيم، الذي لم يحصل لأحد مثله، لا قبله ولا بعده، فعلم ضرورة أنه لا يفعله ولا يخبر به، وهو من أحرص الناس على تصديقه، وأخبرهم بالطرق التي يصدق بها، وأبعدهم عن أن يفعل ما يعلم أنه يكذب به.
فلو لم يعلم أنه مكتوب عندهم - بل علم انتفاء ذلك - لامتنع أن يخبر بذلك مرة بعد مرة، ويستشهد به ويظهر ذلك لموافقيه ومخالفيه، وأوليائه وأعدائه، فإن هذا لا يفعله إلا من هو أقل الناس عقلا؛ لأن فيه إظهار كذبه عند من آمن به منهم، عند من يخبرونه وهو ضد مقصوده وهو بمنزلة من يريد إقامة شهود على حقه فيأتي إلى من يعلم أنه لا يكذب، ويعلم أنه ليس بشاهد ولا حضر قضيته، ويقول: هذا يشهد لي، وهذا يشهد لي فإنهم كانوا حاضرين هذه القضية، فيقول أولئك: لسنا نشهد له ولا حضرنا هذه القضية، فهذا لا يفعله عاقل يعلم أنهم لم يكونوا حاضرين، وأنهم يكذبونه، ولا يشهدون له.
الرابع: أن يقال: لما قامت الأعلام على صدقه، فقد أخبر أنه مكتوب في الكتب المتقدمة، وأن الأنبياء بشروا به علم أن الأمر كذلك. لكن هذا لا يذكر إلا بعد أن يقام دليل منفصل على نبوته.
والطريق الأول، هو من أظهر الحجج على أهل الكتاب، وأظهر الأعلام على نبوته.
وقد استخرج غير واحد من العلماء من الكتب الموجودة الآن في أيدي أهل الكتاب من البشارات بنبوته مواضع متعددة، وصنفوا في ذلك مصنفات، وهذه البشارات في هذه الكتب من جنس البشارات بالمسيح ﷺ.
واليهود يقرون باللفظ، لكن يدعون أن المبشر به ليس هو المسيح عيسى ابن مريم، وإنما هو آخر ينتظر، وهم - في الحقيقة - لا ينتظرون إلا المسيح الدجال، وينتظرون - أيضا - مجيء المسيح عيسى ابن مريم إذا نزل من السماء، كما بسط في موضع آخر ويحرفون دلالة اللفظ، ويقولون: إنها لا تدل على نبي منتظر، كما قالوا في قوله: " سأقيم لبني إسرائيل من إخوتهم مثلك يا موسى، أنزل عليه مثل توراة موسى، أجعل كلامي على فيه ".[4]
قال بعضهم: ليس هذا إخبارا، بل هذا استفهام إنكار وقدروا ألف استفهام، وليس في النص شيء من ذلك.
فاليهود يحرفون الدلالات المبشرة بالمسيح، وذلك عند المسلمين والنصارى لا يقدح في البشارة بالمسيح، بل تبين دلالة النصوص عليه، وبطلان تحريف اليهود.
وكذلك البشارات بمحمد ﷺ في الكتب المتقدمة، لا يقدح فيها تحريف أهل الكتاب، اليهود والنصارى، بل تبين دلالة تلك النصوص على نبوة محمد ﷺ وبطلان تحريف أهل الكتاب.
الوجه الخامس: أن يقال: معلوم أن ظهور دين محمد ﷺ في مشارق الأرض ومغاربها، أعظم حادث حدث في الأرض؛ فلم يعرف قط دين انتشر ودام كانتشاره ودوامه. فإن شرع موسى، وإن دام فلم ينتشر انتشاره ودوامه، بل كان غاية ظهوره ببعض الشام، وأما شرع المسيح فقبل، قسطنطين لم يكن له ملك، بل كانوا يكونون ببعض بلاد الروم وغيرها، وكانوا مستضعفين تقتل أعيانهم أو عامتهم في كثير من الأوقات، ولما انتشر تفرق أهله فرقا متباينة يكفر فيها بعضهم بعضا.
ثم إن شرع محمد ﷺ ظهر في مشارق الأرض ومغاربها وفي وسط الأرض المعمورة؛ الإقليم الثالث والرابع والخامس، وظهرت أمته على النصارى في أفضل الأرض وأجلها عندهم؛ كأرض الشام ومصر والجزيرة وغيرها، ودام شرعه، فله اليوم أكثر من سبعمائة سنة.
ومعلوم أن هذا المدعي للنبوة، سواء كان صادقا أو كاذبا لا بد أن يخبر به الأنبياء فإنهم أخبروا بظهور الدجال الكذاب، تحذيرا للناس، مع أن الدجال مدته قليلة، فلو كان ما يقوله المكذب لمحمد حقا، وأنه كاذب ليس برسول، لكانت فتنته أعظم من فتنة الدجال من وجوه كثيرة؛ لأن الذين اتبعوه أضعاف أضعاف من يتبع الدجال. فلو كان كاذبا لكان الذين افتتنوا به أضعاف أضعاف من يفتتن بالدجال، فكان التحذير منه أولى من التحذير من الدجال؛ إذ ليس في العالم من زمان آدم إلى اليوم كذاب ظهر ودام هذا الظهور والدوام، فكيف تغفل الأنبياء التحذير عن مثل هذا لو كان كاذبا؟
وإذا كان صادقا: فالبشارة للإيمان به أولى ما يبشر به الأنبياء من المستقبلات وتخبر به. فعلم أنه لا بد أن يكون في الكتب ذكره ثم قد وجد مواضع كثيرة في الكتب تزيد على مائة موضع استدلوا بها على أنه مذكور، وتواتر عن خلق كثير من أهل الكتاب أنه موجود في كتبهم، وتواتر عن كثير ممن أسلم أنه كان سبب إسلامهم - أو من أعظم سبب إسلامهم - علمهم بذكره في الكتب المتقدمة، إما بأنه وجد ذكره في الكتب كحال كثير ممن أسلم قديما وحديثا، وإما بما ثبت عندهم من أخبار أهل الكتاب، كالأنصار فإنه كان من أعظم أسباب إسلامهم ما كانوا يسمعونه من جيرانهم أهل الكتاب من ذكره ونعته، وانتظارهم إياه، وأن من خيارهم من لم يوجب له أن يسكن أرض يثرب مع شدتها ويدع أرض الشام مع رخائها إلا انتظاره لهذا النبي العربي الذي يبعث من ولد إسماعيل.
ولم يمكن أحد قط أن ينقل عن شيء من الكتب أنه وجد فيها ذكره بالذم والتكذيب والتحذير، كما يوجد ذكر الدجال. وعند أهل الكتاب من ذكر أصحابه؛ كعمر بن الخطاب وغيره، وعدلهم وسيرتهم، عن المسيح وغيره، ما هو معروف عندهم. فإذا كان الذين استخرجوا ذكره من كتب أهل الكتاب والذين سمعوا خبره من علماء أهل الكتاب إنما يذكرون نعته فيها بالمدح والثناء، علم بذلك أن الأنبياء المتقدمين ذكروه بالمدح والثناء، ولم يذكروه بذم ولا عيب.
وكل من ادعى النبوة ومدحه الأنبياء وأثنوا عليه، لم يكن إلا صادقا في دعوى النبوة، إذ يمتنع أن الأنبياء يثنون على من يكذب في دعوى النبوة: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء.
وهذا مما يبين أنه لا بد أن يكون الأنبياء ذكروه وأخبروا به، وأنهم لم يذكروه إلا بالثناء والمدح لا بالذم والعيب وذلك - مع دعوى النبوة - لا يكون إلا إذا كان صادقا في دعوى النبوة، فتبين أنهم بشروا بنبوته، وهو المطلوب.
يبين ذلك أن الأنبياء أخبروا أهل الكتاب بما سيكون منهم من الأحداث، وما يسلط عليهم من الملوك الذين يقتلونهم ويخربون بلادهم ويسبونهم ك - (بختنصر) و (سنجاريب) ولكن هؤلاء الملوك لم يدعوا أنهم أنبياء، ولم يدعوا إلى دين، فلم تحتج الأنبياء إلى التحذير من اتباعهم، وقد حذروا من اتباع من يدعي النبوة وهو كاذب.
ومحمد ﷺ قد قهر أهل الكتاب، وقتل من قتل وسبى من سبى، وأخرجهم من ديارهم فلا بد أن يذكروه ويذكروا الأحداث التي تجري عليهم في أيامه. وإذا كان كاذبا مدعيا للنبوة، فلا بد أن يحذرهم من اتباعه، ومعلوم أن عامة أهل الكتاب ومن نقل عنهم إما أن يقول: ليس موجودا في كتبنا، أو يقول: إنه موجود بالمدح والثناء، لا يمكن أحد أن ينقل عن الكتب المتقدمة أنه موجود فيها بالذم والتحذير. ولو كان مذكورا عندهم بالذم والتحذير، لكان من أعظم ما يحتجون به عليه في حياته، وعلى أمته بعد مماته، ويحتج به من لم يسلم منهم على من أسلم.
فإنه معلوم أن كثيرا من أهل الكتاب كان عندهم من البغض له والعداوة وتكذيبه، والحرص على إبطال أمره، ما أوجب أن يفتروا أشياء لم توجد، وينسبوا إليه أشياء يعرف كذبها كل من عرف أمره، حتى آل الأمر ببعضهم إلى أن فسروا قول المسلمين " الله أكبر " بأن " أكبر " صنم، وأن النبي أمرهم بتعظيم هذا الصنم. وقال بعضهم فيه: إنه أوجب الزنا على المرأة المطلقة ثلاثا. عقوبة لزوجها بأنه لا ينكحها حتى يزني بها غيره. وقال بعضهم: إنه تعلم من " بحيرى الراهب " مع علم كل من عرف سيرته أنه لم يجتمع ب - (بحيرى) وحده، ولم يره إلا بعض نهار مع أصحابه، لما مروا به لما قدموا الشام في تجارة، وأن (بحيرى) سألهم عنه ولم يكلمه إلا كلمات يستخبره فيها عن حاله لم يخبره بشيء.
ومع طعن بعض أهل الكتاب فيه بأنه بعث بالسيف، حتى قد يقولوا: إنما قام دينه بالسيف، وحتى يوهموا الناس أن الذين اتبعوه إنما اتبعوه خوفا من السيف، وحتى يقولوا: إن الخطيب إنما يتوكأ على سيف يوم الجمعة إشارة إلى أنه إنما يقوم الدين بالسيف، إلى أمثال هذه الأمور - التي هي من أظهر الأمور كذبا عليه - يعرف أدنى الناس معرفة بحاله أنها كذب، وهم مع هذا يتشبثون بها.
فلو كان عندهم أخبار عن الأنبياء توجب ذمه والتحذير من متابعته، لكان إظهارهم لذلك واحتجاجهم به أقوى وأبلغ، وكان ذلك مما يجب في العادة اشتهاره بين خاصتهم وعامتهم، قديما وحديثا، وكان ظهور ذلك فيهم أولى من ظهور خبر الدجال فيهم وفي المسلمين؛ فإن هذا الأمر من أعظم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله واشتهاره.
فإذا لم يكن كذلك، علم أنه ليس في كتب الأنبياء ما يوجب تكذيبه، وقد قام الدليل على أنه لا بد من أن تذكره الأنبياء وتخبر بحاله، فإذا لم يخبروا أنه كاذب علم أنهم أخبروا أنه نبي صادق، كما شاع ذلك وظهر واستفاض من وجوه كثيرة.
فالكتاب الذي بعث به مملوء بشهادة الكتب له، والكتب الموجودة فيها مواضع كثيرة شاهدة له من وجوه متعددة، والأخبار متواترة عمن أسلم لأجل ذلك، وهذا مما يوجب القطع بأنه مذكور فيها بما يدل على صدقه في دعوى النبوة، وليس فيها ما يخبر بكذبه والتحذير منه وهذا هو المطلوب.
وفي الجملة أمره أظهر وأشهر وأعجب وأبهر، وأخرق للعادة من كل أمر ظهر في العالم من البشر. ومثل هذا إذا كان كاذبا، فلكذبه لوازم كثيرة جدا تفوق الحصر متقدمة ومقارنة ومتأخرة. فإن من هو أدنى دعوة منه إذا كان كاذبا لزم كذبه من اللوازم ما يبين كذبه، فكيف مثل هذا؟ فإذا انتفت لوازم المكذوب انتفى الملزوم.
وصدقه لازم لأمور كثيرة كلها تدل على صدقه، وثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم ماضيه ومقارنه ومتأخره. ومدعي النبوة لا يخلو من الصدق أو الكذب، وكل من الصدق والكذب له لوازم وملزومات، فأدلة الصدق مستلزمة له وأدلة الكذب مستلزمة له، والصدق له لوازم والكذب له لوازم، فصدقه يعرف بنوعين: بثبوت دلائل الصدق المستلزمة لصدقه، وبانتفاء لوازم الكذب الموجب انتفاؤها انتفاء كذبه، كما أن كذب الكذاب يعرف بأدلة كذبه المستلزمة لكذبه، وبانتفاء لوازم الصدق المستلزم انتفاؤها لانتفاء صدقه، والله أعلم.
والشيء يعرف تارة بما يدل على ثبوته، وتارة بما يدل على انتفاء نقيضه، وهو الذي يسمى قياس الخلف، فإن الشيء إذا انحصر في شيئين، لزم من ثبوت أحدهما انتفاء الآخر، ومن انتفاء أحدهما ثبوت الآخر. ومدعي النبوة إما صادق وإما كاذب، وكل منهما له لوازم يدل انتفاؤها على انتفائه، وله ملزومات يدل ثبوتها على ثبوته.
فدليل الشيء مستلزم له كأعلام النبوة ودلائلها، وآيات الربوبية وأدلة الأحكام وغير ذلك، وانتفاء الشيء يعلم بما يستلزم نفيه كانتفاء لوازمه؛ مثل صدق الكاذب، يقال: لو كان صادقا لكان متصفا بما يتصف به الصادقون.
وكذلك كذب الصادق، يقال: لو كان كذابا لكان متصفا بما يتصف به الكذاب، فإنه قد عرف حال الأنبياء الصادقين، والمتنبئين الكذابين، فانتفاء لوازم الكذب دليل صدقه، كما أن ثبوت ما يستلزم الصدق دليل صدقه، وكذلك الكذاب يستدل على كذبه بما يستلزم كذبه وبانتفاء لوازم صدقه، وهكذا سائر الأمور.
فصل: شهادة الكتب المتقدمة لمحمد عليه الصلاة والسلام
ومما ينبغي أن يعرف ما قد نبهنا عليه غير مرة، أن شهادة الكتب المتقدمة لمحمد ﷺ إما شهادتها بنبوته، وإما شهادتها بمثل ما أخبر به هو من الآيات البينات على نبوته ونبوة من قبله، وهو حجة على أهل الكتاب وعلى غير أهل الكتاب من أصناف المشركين الملحدين، كما قد ذكر الله هذا النوع من الآيات في غير موضع من كتابه.
كما في قوله تعالى: أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل.
وقوله: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك.
وقوله: قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب.
وقوله: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
وقوله: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين.
وقوله: إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا.
وذلك مثل قوله في التوراة ما قد ترجم بالعربية: " جاء الله من طور سينا " وبعضهم يقول: " تجلى الله من طور سينا، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران ".[5]
قال كثير من العلماء - واللفظ لأبي محمد بن قتيبة - ليس بهذا خفاء على من تدبره ولا غموض؛ لأن مجيء الله من طور سينا: إنزاله التوراة على موسى من طور سينا، كالذي هو عند أهل الكتاب، وعندنا وكذلك يجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله الإنجيل على المسيح، وكان المسيح من ساعير - أرض الخليل بقرية تدعى (ناصرة) - وباسمها يسمى من اتبعه نصارى. وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح، فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران: إنزاله القرآن على محمد ﷺ وجبال فاران هي جبال مكة.
قال: وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة، فإن ادعوا أنها غير مكة، فليس ينكر ذلك من تحريفهم وإفكهم.
قلنا: أليس في التوراة أن إبراهيم أسكن (هاجر) و (إسماعيل) فاران؟ [6]
وقلنا: دلونا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه فاران، والنبي الذي أنزل عليه كتابا بعد المسيح أوليس (استعلن) و (علن) وهما بمعنى واحد؟ وهو ما ظهر وانكشف. فهل تعلمون دينا ظهر ظهور الإسلام وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوه؟
وقال ابن ظفر: (ساعير) جبل بالشام، منه ظهرت نبوة المسيح. قلت: وبجانب بيت لحم، القرية التي ولد فيها المسيح قرية تسمى إلى اليوم ساعير ولها جبل يسمى ساعير.
وفي التوراة: أن نسل العيص كانوا سكانا بساعير، وأمر الله موسى أن لا يؤذيهم.
وعلى هذا، فيكون ذكر الجبال الثلاثة حقا، جبل حراء الذي ليس حول مكة جبل أعلى منه، ومنه كان نزول أول الوحي على النبي ﷺ وحوله من الجبال جبال كثيرة، حتى قد قيل: إن بمكة اثني عشر ألف جبل. وذلك المكان يسمى فاران، إلى هذا اليوم، وفيه كان ابتداء نزول القرآن.
والبرية التي بين مكة وطور سينا تسمى برية فاران، ولا يمكن أحدا أن يدعي أنه - بعد المسيح - نزل كتاب في شيء من تلك الأرض ولا بعث نبي. فعلم أنه ليس المراد باستعلانه من جبال فاران إلا إرسال محمد ﷺ وهو - سبحانه - ذكر هذا في التوراة على الترتيب الزماني. فذكر إنزال التوراة ثم الإنجيل ثم القرآن، وهذه الكتب نور الله وهداه.
وقال في الأول: جاء، أو: ظهر، وفي الثاني: أشرق، وفي الثالث: استعلن. وكان مجيء التوراة مثل طلوع الفجر، أو ما هو أظهر من ذلك، ونزول الإنجيل مثل إشراق الشمس، زاد به النور والهدى.
وأما نزول القرآن، فهو بمنزلة ظهور الشمس في السماء؛ ولهذا قال: واستعلن من جبال فاران، فإن النبي ﷺ ظهر به نور الله وهداه في مشرق الأرض ومغربها، أعظم مما ظهر بالكتابين المتقدمين، كما يظهر نور الشمس إذا استعلت في مشارق الأرض ومغاربها؛ ولهذا سماه الله سراجا منيرا، وسمى الشمس سراجا وهاجا.
والخلق يحتاجون إلى السراج المنير، أعظم من حاجتهم إلى السراج الوهاج؛ فإن الوهاج يحتاجون إليه في وقت دون وقت، وكما قيل: قد ينضرون به بعض الأوقات، وأما السراج المنير فيحتاجون إليه كل وقت وفي كل مكان ليلا ونهارا، سرا وعلانية.
وقد قال النبي ﷺ: زويت لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها.
وهذه الأماكن الثلاثة أقسم الله بها في القرآن في قوله تعالى: والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين.
فأقسم بالتين والزيتون، وهو الأرض المقدسة الذي ينبت فيها ذلك، ومنها بعث المسيح، وأنزل عليه فيها الإنجيل، وأقسم بطور سينين، وهو الجبل الذي كلم الله فيه موسى وناداه من واديه الأيمن من البقعة المباركة من الشجرة، وأقسم بالبلد الأمين، وهي مكة وهو البلد الذي أسكن إبراهيم ابنه إسماعيل وأمه، وهو الذي جعله الله حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم خلقا وأمرا قدرا وشرعا، فإن إبراهيم حرمه ودعا لأهله فقال: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون.
وقال تعالى: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير.
فأخبر الله تعالى أن إبراهيم دعا الله بأن يجعل مكة بلدا آمنا، واستجاب الله دعاء إبراهيم، وذكر ذلك في غير موضع، وبها بنى إبراهيم البيت، كما قال تعالى: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم.
وقال تعالى: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين.
وقال تعالى: لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.
وقال تعالى: وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون.
وقال تعالى: أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون.
فقوله تعالى: والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين، إقسام منه بالأمكنة الشريفة المعظمة الثلاثة، التي ظهر فيها نوره وهداه، وأنزل فيها الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن. كما ذكر الثلاثة في التوراة بقوله: " جاء الله من طور سينا وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران ".
ولما كان ما في التوراة خبرا عنها، أخبر بها على ترتيبها الزماني، فقدم الأسبق فالأسبق. وأما القرآن فإنه أقسم بها تعظيما لشأنها، وذلك تعظيم لقدرته - سبحانه - وآياته، وكتبه، ورسله. فأقسم بها على وجه التدريج درجة بعد درجة، فختمها بأعلى الدرجات. فأقسم أولا بالتين والزيتون ثم بطور سينا ثم بمكة لأن أشرف الكتب الثلاثة: القرآن ثم التوراة ثم الإنجيل، وكذلك الأنبياء، فأقسم بها على وجه التدريج، كما في قوله: والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا.
فأقسم بطبقات المخلوقات، طبقة بعد طبقة، فأقسم بالرياح الذاريات ثم بالسحاب الحاملات للمطر فإنها فوق الرياح ثم بالجاريات يسرا، وقد قيل: إنها السفن. ولكن الأنسب أن تكون هي الكواكب المذكورة في قوله: فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس. فسماها جواري، كما سمى الفلك جواري في قوله: ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام. والكواكب فوق السحاب. ثم قال: فالمقسمات أمرا. وهي الملائكة التي هي أعلى درجة من هذا كله.
وما ذكر ابن قتيبة وغيره من علماء المسلمين، من تربية إسماعيل في برية " فاران " فهكذا هو في التوراة قال فيها: (وغدا إبراهيم، فأخذ الغلام وأخذ خبزا وسقاء من ماء ودفعه إلى هاجر وحمله عليها، وقال لها: اذهبي، فانطلقت هاجر، فضلت في برية سبع، ونفد الماء الذي كان معها، فطرحت الغلام تحت شجرة، وجلست في مقابلته على مقدار رمية بسهم؛ لئلا تبصر الغلام حين يموت، ورفعت صوتها بالبكاء، وسمع الله صوت الغلام فدعا ملك الله هاجر، وقال لها: ما لك يا هاجر لا تخشي؛ فإن الله قد سمع صوت الغلام حيث هو، فقومي فاحملي الغلام وشدي يدك به، فإني جاعله لأمة عظيمة، وفتح الله عينيها فبصرت بئر ماء فسقت الغلام وملأت سقاءها، وكان الله مع الغلام، فربى وسكن في برية " فاران ").[7]
فهذا خبر الله في التوراة: أن إسماعيل ربى وسكن في برية فاران بعد أن كاد يموت من العطش، وأن الله سقاه من بئر ماء. وقد علم بالتواتر، واتفاق الأمم أن إسماعيل إنما ربى بمكة، وهو وأبوه إبراهيم بنيا البيت، فعلم أن أرض مكة، فاران.
وهذه البشارة في التوراة لهاجر بإسماعيل، وقول الله: إني جاعله لأمة عظيمة ومعظمة جدا جدا، [8] وإن هاجر فتحت عينيها فرأت بئر ماء فدنت منها، إلى آخر الكلام.
وفي موضع آخر قال عن إسماعيل: " إنه يجعل يده فوق يدي الجميع ".[9]
ومعلوم باتفاق الأمم، والنقل، أن إسماعيل تربى بأرض مكة، فعلم أنها " فاران "، وأنه هو وإبراهيم بنيا البيت الذي ما زال محجوجا من عهد إبراهيم، تحجه العرب وغير العرب من الأنبياء وغيرهم، كما حج إليه موسى بن عمران ويونس بن متى، كما في الصحيح من رواية ابن عباس، أن رسول الله ﷺ مر بوادي الأزرق، فقال: أي واد هذا؟ فقالوا: هذا وادي الأزرق، فقال: كأني أنظر إلى موسى ﷺ هابطا من الثنية واضعا إصبعيه في أذنيه، له جؤار إلى الله - عز وجل - بالتلبية مارا بهذا الوادي. قال: ثم سرنا حتى أتينا على ثنية، فقال: أي ثنية هذه؟ قالوا: هرشى، فقال: كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراء عليه جبة صوف خطام ناقته ليف خلبة، مارا بهذا الوادي ملبيا.
وفي رواية أما موسى فرجل آدم، جعد على جمل أحمر مخطوم بخلبة.
ولما بعث الله محمدا ﷺ أوجب حجه على كل أحد، فحجت إليه الأمم من مشارق الأرض ومغاربها. والبئر الذي شرب منها إسماعيل وأمه، هي بئر زمزم، وحديثها مذكور في صحيح البخاري، عن ابن عباس، قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقا ليعفي أثرها على سارة. ثم جاء بها إبراهيم، وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت، عند دوحة فوق زمزم، في أعلى المسجد وليس بمكة. يومئذ أحد وليس بها ماء، ووضع عندها جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفا إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي ليس فيه أنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذا لا يضيعنا،. ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه الدعوات فقال: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم حتى بلغ " يشكرون ". وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء وعطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، انطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة، فقامت عليها ونظرت هل ترى من أحد؟ فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس: قال النبي ﷺ: فلذلك سعى الناس بينهما، فلما أشرفت المروة سمعت صوتا، فقالت صه - تريد نفسها - فسمعت - أيضا - فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه - أو قال: بجناحه - حتى ظهر الماء، فجعلت تحوطه وتقول بيدها هكذا، تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعدما تغرف. قال ابن عباس: قال النبي ﷺ: يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم لم تغرف من الماء لكان عينا معينا.
قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة؛ فإن هاهنا بيت الله، يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله. وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول، فتأخذه عن يمينه وشماله، وذكر تمام الحديث.
وكانت بئر زمزم قد عميت ثم أحياها عبد المطلب، جد النبي ﷺ وصارت السقاية في ولده: في العباس، وأولاده يسقون منها، ويسقون - أيضا - الشراب الحلو، والشرب من ذلك سنة.
والله تعالى قال في إسماعيل: " إني جاعله لأمة عظيمة ومعظمة جدا جدا ". وهذا التعظيم المؤكد ب - (جدا جدا) يقتضي أن يكون تعظيما مبالغا فيه. فلو قدر أن البيت الذي بناه لا يحج إليه أحد، وأن ذريته ليس منهم نبي، كما يقوله كثير من أهل الكتاب، لم يكن هناك تعظيم مبالغا فيه جدا جدا؛ إذ أكثر ما في ذلك أن يكون له ذرية. ومجرد كون الرجل له نسل وعقب، لا يعظم به إلا إذا كان في الذرية مؤمنون مطيعون لله.
وكذلك قوله: " أجعله لأمة عظيمة " إن كانت تلك الأمة كافرة، لم تكن عظيمة، بل كان يكون أبا لأمة كافرة، فعلم أن هذه الأمة العظيمة كانوا مؤمنين، وهؤلاء يحجون البيت، فعلم أن حج البيت مما يحبه الله ويأمر به. وليس في أهل الكتاب من يحج إليه إلا المسلمون، فعلم أنهم الذين فعلوا ما يحبه الله ويرضاه، وأنهم وسلفهم الذين كانوا يحجون البيت أمة أثنى الله عليها وشرفها، وأن إسماعيل عظمه الله جدا جدا، بما جعل في ذريته من الإيمان والنبوة، وهذا هو كما امتن الله على نوح وإبراهيم بقوله: ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب.
وقال في الخليل: وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب.
فعلم بذلك أن إسماعيل وذريته معظمون عند الله ممدوحون، وأن إسماعيل معظم جدا جدا، [10] كما عظم الله نوحا وإبراهيم، وإن كان إبراهيم أفضل من إسماعيل لكن المقصود أن هذا التعظيم له ولذريته إنما يكون إذا كانت ذريته على دين حق، وهؤلاء يحجون إلى هذا البيت، ولا يحج إليه بعد مجيء محمد غيرهم.
ولهذا لما قال الله تعالى: ولله على الناس حج البيت. فقالوا: لا نحج، فقال: ومن كفر فإن الله غني عن العالمين.
وأيضا فهذا التعظيم المبالغ فيه، الذي صار به ولد إسماعيل فوق الناس، لم يظهر إلا بنبوة محمد، فدل ذلك على أنها حق ومبشر به.
فهذا نعت محمد ﷺ لا نعت المسيح، فهو الذي بعث بشريعة قوية، ودق ملوك الأرض وأممها، حتى امتلأت الأرض منه ومن أمته من مشارق الأرض ومغاربها، وسلطانه دائم لم يقدر أحد أن يزيله، كما زال ملك اليهود وزال ملك النصارى عن خيار الأرض وأوسطها.
ومثل هذا بشارة أخرى بمحمد ﷺ من كلام " شمعون " بما رضوه من ترجمتهم، وهو: " جاء الله بالبينات من جبال فاران، وامتلأت السماء والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته ".
فهذا تصريح بنبوة محمد ﷺ الذي جاء بالنبوة من جبال " فاران " وامتلأت السماوات والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته.[11]
ولم يخرج أحد قط، وامتلأت السماوات والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته، مما يسمى " فاران " سوى محمد ﷺ والمسيح لم يكن في أرض فاران ألبتة. وموسى إنما كلم من الطور، والطور ليس من أرض فاران، وإن كانت البرية التي بين الطور وأرض الحجاز من فاران، فلم ينزل الله فيها التوراة، وبشارات التوراة قد تقدمت بجبل الطور وبشارة الإنجيل بجبل (ساعير).
ومثل هذا كما نقل في نبوة (حبقوق) أنه قال: جاء الله من التيمن، وظهر القدس على جبال (فاران) وامتلأت الأرض من تحميد أحمد وملك بيمينه رقاب الأمم، وأنارت الأرض لنوره وحملت خيله في البحر.[11]
ومن ذلك ما في التوراة التي بأيديهم، في السفر الأول منها، وهي خمسة أسفار في الفصل التاسع في قصة هاجر، لما فارقت سارة وخاطبها الملك فقال: " يا هاجر من أين أقبلت؟ وإلى أين تريدين؟ " فلما شرحت له الحال قال: ارجعي فإني سأكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصون وها أنت تحبلين وتلدين ابنا نسميه إسماعيل؛ لأن الله قد سمع تذللك وخضوعك، وولدك يكون وحشي الناس، ويكون يده فوق الجميع، ويد الكل به، ويكون على تخوم جميع إخوته.[12]
قال المستخرجون لهذه البشارة: معلوم أن يد بني إسماعيل قبل مبعث محمد ﷺ لم تكن فوق أيدي بني إسحاق، بل كان في بني إسحاق النبوة والكتاب، وقد دخلوا مصر زمن يوسف مع يعقوب، فلم يكن لبني إسماعيل فوقهم يد ثم خرجوا منها لما بعث موسى، وكانوا مع موسى أعز أهل الأرض لم يكن لأحد عليهم يد ثم مع (يوشع) بعده إلى زمن داود، وملك سليمان الذي لم يؤت أحد مثله وسلط عليهم بعد ذلك (بختنصر) فلم يكن لبني إسماعيل عليهم يد ثم بعث المسيح وخرب بيت المقدس الخراب الثاني، حيث أفسدوا في الأرض مرتين، ومن حينئذ زال ملكهم وقطعهم الله في الأرض أمما، وكانوا تحت حكم الروم والفرس، لم يكن للعرب عليهم حكم أكثر من غيرهم، فلم يكن لولد إسماعيل سلطان على أحد من الأمم - لا أهل الكتاب، ولا الأميين - فلم يكن يد ولد إسماعيل فوق الجميع، حتى بعث الله محمدا؛ الذي دعا به إبراهيم وإسماعيل حيث قالا: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم.
فلما بعث، صار يد ولد إسماعيل فوق الجميع، فلم يكن في الأرض سلطان أعز من سلطانهم، وقهروا فارس والروم وغيرهم من الأمم، وقهروا اليهود والنصارى والمجوس والمشركين والصابئين. فظهر بذلك تحقيق قوله في التوراة " وتكون يده فوق الجميع ويد الكل به " وهذا أمر مستمر إلى آخر الدهر.
فإن قيل: هذه بشارة بملكه وظهوره؟ قيل: الملك ملكان؛ ملك ليس فيه دعوى نبوة، وهذا لم يكن لبني إسماعيل على الجميع، وملك صدر عن دعوى نبوة، فإن كان مدعي النبوة كاذبا: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء.
وهذا من شر الناس وأكذبهم وأظلمهم وأفجرهم، وملكه شر من ملك الظالم الذي لم يدع نبوة ك - (بختنصر) و (سنجاريب).
ومعلوم أن الإخبار بهذه لا يكون بشارة، ولا تفرح سارة وإبراهيم بهذا، كما لو قيل: يكون جبارا طاغيا يقهر الناس على طاعته، ويقتلهم ويسبي حريمهم، ويأخذ أموالهم بالباطل، " فإن الإخبار بهذا لا يكون بشارة ولا يسر المخبر بذلك، وإنما يكون بشارة تسره، إذا كان ذلك يعدل، وكان علوه محمودا لا إثم فيه، وذلك في مدعي النبوة لا يكون إلا وهو صادق لا كاذب ".
فصل: بشارة من الزبور
وقال: داود في الزبور في قوله: " سبحوا الله تسبيحا جديدا، وليفرح بالخالق من اصطفى الله له أمته وأعطاه النصر، وسدد الصالحين منهم بالكرامة، يسبحونه على مضاجعهم ويكبرون الله بأصوات مرتفعة، بأيديهم سيوف ذات شفرتين؛ لينتقم بهم من الأمم الذين لا يعبدونه ".[13]
وهذه الصفات إنما تنطبق على صفات محمد ﷺ وأمته، فهم الذين يكبرون الله بأصوات مرتفعة في أذانهم للصلوات الخمس، وعلى الأماكن العالية، كما قال جابر بن عبد الله: (كنا مع رسول الله ﷺ إذا علونا كبرنا، وإذا هبطنا سبحنا، فوضعت الصلاة على ذلك) رواه أبو داود وغيره، وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: كان رسول الله ﷺ إذا قفل من الجيوش أو السرايا أو الحج أو العمرة إذا أوفى على ثنية أو فدفد، كبر ثلاثا ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده.
وفي صحيح البخاري عن أنس قال: (صلى رسول الله ﷺ ونحن معه بالمدينة، الظهر أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين ثم بات بها حتى أصبح ثم ركب حتى استوت به راحلته على البيداء، حمد الله وسبح وكبر ثم أهل بعمرة وحج) وذكر الحديث.
وعن أبي هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله، إني أريد أن أسافر فأوصني. قال: عليك بتقوى الله والتكبير على كل شرف، فلما أن ولى الرجل قال: اللهم اطو له البعد، وهون عليه السفر رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي.
وروى ابن ماجه منه: أوصيك بتقوى الله والتكبير على كل شرف وروى أبو داود وغيره بإسناد صحيح عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال: " كان النبي ﷺ وجيوشه إذا علوا شرفا كبروا، وإذا هبطوا سبحوا.
وهم يكبرون الله بأصوات عالية مرتفعة في أعيادهم: عيد الفطر وعيد النحر، في الصلاة والخطبة، وفي ذهابهم إلى الصلاة وفي أيام (منى) الحجاج، وسائر أهل الأمصار يكبرون عقيب الصلوات فإمام الصلاة يسن له الجهر بالتكبير.
وذكر البخاري عن عمر بن الخطاب: أنه كان يكبر بمنى، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون بتكبيره، فيسمعهم أهل الأسواق فيكبرون، حتى ترتج منى تكبيرا.
وكان ابن عمر وابن عباس يخرجان إلى السوق أيام العشر، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، ويكبرون على قرابينهم وهديهم وضحاياهم، كما كان نبيهم يقول عند الذبح: بسم الله والله أكبر ويكبرون إذا رموا الجمار، ويكبرون على الصفا والمروة، ويكبرون في الطواف عند محاذاة الركن، وكل هذا يجهرون فيه بالتكبير غير ما يسرونه.
قال تعالى لما ذكر صوم رمضان الذي يقيمون له عيد الفطر، قال تعالى: ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون.
ولما ذكر الهدي الذي يقرب في عيد النحر، وهو يوم الحج الأكبر قال: والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين.
والنصارى يسمون عيد المسلمين عيد " الله أكبر " لظهور التكبير فيه، وليس هذا لأحد من الأمم أهل الكتاب، ولا غيرهم - غير المسلمين - وإنما كان موسى يجمع بني إسرائيل بالبوق، والنصارى لهم الناقوس. وأما تكبير الله بأصوات مرتفعة، فإنما هو شعائر المسلمين، فإن الأذان شعار المسلمين، وبهذا يظهر تقصير من فسر ذلك بتلبية الحجاج.
وفي الصحيحين عن أنس عن النبي ﷺ: " أنه كان إذا أراد الإغارة إن سمع أذانا أو رأى مسجدا وإلا أغار ". وفي لفظ مسلم: " كان يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار ". فسمع رجلا يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله ﷺ على الفطرة. ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: خرجت من النار.
وكذلك قوله: " بأيديهم سيوف ذات شفرتين " وهي السيوف العربية التي بها فتح الصحابة وأتباعهم البلاد، وقوله: " يسبحونه على مضاجعهم. بيان لنعت المؤمنين الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، ويصلي أحدهم قائما، فإن لم يستطع فقاعدا، فإن لم يستطع فعلى جنب، فلا يتركون ذكر الله في حال، بل يذكرونه حتى في هذه الحال، ويصلون في البيوت على المضاجع. بخلاف أهل الكتاب.
والصلاة أعظم التسبيح، كما في قوله تعالى: فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون.
وقوله: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها.
وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله قال: كنا جلوسا عند رسول الله ﷺ إذ نظر القمر ليلة البدر، فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا. ثم قرأ قوله تعالى: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى.
وهذا معنى قول داود: سبحوا الله تسبيحا جديدا، والتسابيح التي شرعها الله جديدا: كالصلوات الخمس التي شرعها للمسلمين جديدا. ولما أقامها جبريل للنبي ﷺ قال: " هذا وقتك ووقت الأنبياء قبلك ".
فكان الأنبياء يسبحون في هذه الأوقات كما يدل التسبيح المقدم، والتسبيح الجديد كما يدل عليه سائر الكلام. ولا يمكن أن يكون ذلك للنصارى؛ لأنهم لا يكبرون الله بأصوات مرتفعة، ولا بأيديهم سيوف ذات شفرتين لينتقم الله بهم من الأمم، بل أخبارهم تدل على أنهم كانوا مغلوبين مع الأمم، لم يكونوا يجاهدونهم بالسيف، بل النصارى قد تعيب من يقاتل الكفار بالسيف.
ومنهم من يجعل هذا من معايب محمد ﷺ وأمته، ويغفلون ما عندهم من أن الله أمر موسى بقتال الكفار، فقاتلهم بنو إسرائيل بأمره، وقاتلهم يوشع وداود، وغيرهما من الأنبياء، وإبراهيم الخليل قاتل لدفع الظلم عن أصحابه.
فصل: بشارة ثانية من الزبور
وقال داود في مزاميره - وهي الزبور -: من أجل هذا بارك الله عليه إلى الأبد، فتقلد أيها الجبار بالسيف؛ لأن البهاء لوجهك، والحمد الغالب عليك. اركب كلمة الحق وسمة التأله، فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك، وسهامك مسنونة، والأمم يخرون تحتك.[14]
قالوا: فليس متقلد السيف من الأنبياء بعد داود سوى محمد ﷺ وهو الذي خرت الأمم تحته، وقرنت شرائعه بالهيبة، كما قال ﷺ: " نصرت بالرعب مسيرة شهر ". وقد أخبر داود أنه له ناموسا وشرائع، وخاطبه بلفظ الجبار، إشارة إلى قوته وقهره لأعداء الله، بخلاف المستضعف المقهور.
وهو ﷺ نبي الرحمة، ونبي الملحمة. وأمته أشداء على الكفار رحماء بينهم، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين. بخلاف من كان ذليلا للطائفتين من النصارى المقهورين مع الكفار، أو كان عزيزا على المؤمنين من اليهود، بل كان مستكبرا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقا وقتلوا فريقا.
فصل: بشارة ثالثة من الزبور
قالوا: وقال: داود في مزمور له: " إن ربنا عظيم محمود جدا " وفي ترجمته: " إلهنا قدوس، ومحمد قد عم الأرض كلها فرحا ". قالوا: فقد نص داود على اسم محمد ﷺ وبلده، وسماها قرية الله، وأخبر أن كلمته تعم الأرض كلها.
قلت: قد تقدم الحديث الصحيح لما قيل لعبد الله بن عمرو، وروي أنه عبد الله بن سلام " أخبرنا ببعض صفة رسول الله ﷺ في التوراة "، فقال: " إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن "، وذكر صفته موجودة في نبوة أشعياء، وليست موجودة في نفس كتاب موسى.
وتقدم أن لفظ التوراة يقصدون به جنس الكتب التي عند أهل الكتاب لا يخصون بذلك كتاب موسى.
وإذا كان هذا معروفا عندهم في التوراة والإنجيل، يراد بالتوراة جنس الكتب التي عند أهل الكتاب، يتناول ذلك كتاب موسى وزبور داود وصحف سائر الأنبياء - سوى الإنجيل - فإنه ليس عند أهل الكتاب، وإنما هو عند النصارى خاصة.
وأما سائر كتب الأنبياء، فالأمتان تقر بها ويؤيد ذلك أن الله كثيرا ما يقرن في القرآن بين التوراة والإنجيل وبين القرآن، وإنما يذكر الزبور مفردا،
كقوله تعالى: الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان.
وقوله: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن.
وقوله تعالى: الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.
وأهل الكتاب يجدونه مكتوبا في الكتب التي بأيديهم، وهو في كثير منها أصرح مما هو في كتاب موسى خاصة.
فإذا أريد بالتوراة جنس الكتب فلا يستريب عاقل في كثرة ذكره ونعته ونعت أمته في تلك الكتب، ومعلوم أن الله أراد بذلك الاستشهاد بوجوده في تلك الكتب، وإقامة الحجة بذكره فيها. فإذا كان ذكره في غير كتاب موسى أكبر وأظهر عندهم، كان الاستدلال بذلك أولى من تخصيص الاستدلال بكتاب موسى. فإذا حمل لفظ التوراة في هذا على جنس الكتب، كما هو موجود في لغة من تكلم بذلك من الصحابة والتابعين، كان هذا في غاية البيان والمدح للقرآن والكتب المتقدمة، وتصديق بعضها بعضا.
وقد أمرنا أن نؤمن بما أوتي النبيون مطلقا، كما قال تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون.
وقال: ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين.
والزبور ذكره مفردا في موضعين من القرآن،
في قوله: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما.
وقال تعالى: ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا.
فذكره مفردا.
وذكر كتاب موسى بهذه الإضافة، لا بلفظ التوراة في غير موضع فقال: أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده.
وقال: قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين - إلى قوله - ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين.
وقوله تعالى: وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس.
وقال تعالى: ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن.
وإذا كان لفظ التوراة يتناول الكتب الذي عند أهل الكتابين جميعا، والزبور وغيره داخل في هذا الاسم، وكان ظهور اسمه ونعته في التوراة، ووجود ذلك فيما عندهم، وتكرره في غاية القوة، وكان معرفتهم لذلك كما يعرفون أبناءهم واضحا بينا، إن قدر هذه الكتب التي يعترف بها عامتهم، لم يكتم منها شيء، بل هي باقية كما كانت.
فصل: بشارة رابعة من الزبور
وقالوا: قال داود في مزموره: " لترتاح البوادي وقراها، ولتصر أرض (قيذار) مروجا، وليسبح سكان الكهوف ويهتفوا من قلل الجبال بحمد الرب، ويذيعوا تسابيحه في الجزائر ".[15]
فلمن البوادي من الأمم سوى أمة محمد؟ ومن (قيذار) سوى ابن إسماعيل جد رسول الله ﷺ؟ ومن سكان الكهوف وتلك الجبال سوى العرب؟
فصل: بشارة خامسة من الزبور
قال داود في مزمور له: " ويحوز من البحر إلى البحر ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض، ويخر أهل الجزائر بين يديه، ويلحس أعداؤه التراب ويسجد له ملوك الفرس، وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد، ويخلص البائس المضطهد ممن هو أقوى منه، وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له، ويرأف بالمساكين والضعفاء، ويصلى عليه، ويبارك في كل حين ".[16]
وهذه الصفات منطبقة على محمد وأمته، لا على المسيح فإنه حاز من البحر الرومي إلى البحر الفارسي، ومن لدن الأنهار بجيحون وسيحون، إلى منقطع الأرض بالمغرب، كما قال: " زويت لي الأرض، مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها ".
وهو يصلى عليه ويبارك في كل حين: في كل صلاة في الصلوات الخمس وغيرها، يقول كل من أمته: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، فيصلى عليه ويبارك.
ومنه خرت أهل الجزائر بين يديه، أهل جزيرة العرب، وأهل الجزيرة التي بين الفرات ودجلة، وأهل جزيرة قبرص، وأهل جزيرة الأندلس. وخضعت له ملوك الفرس، فلم يبق منهم إلا من أسلم أو أدى الجزية عن يد وهم صاغرون. بخلاف ملوك الروم، فإن فيهم من لم يسلم، ويؤد الجزية، فلهذا خص ملوك فارس، ودانت له الأمم التي تعرفه وتعرف أمته، كانت إما مؤمنة به، أو مسلمة له منافقة، أو مهادنة مصالحة، أو خائفة منهم. وأنقذ الضعفاء من الجبارين.
وهذا بخلاف المسيح؛ فإنه لم يتمكن هذا التمكن في حياته، ولا من اتبعه بعد موته تمكنوا هذا التمكن، ولا حازوا ما ذكر، ولا صلي عليه وبورك عليه في اليوم والليلة، فإن القوم يدعون إلاهيته.
فصل: بشارة أشعياء براكب الحمار وراكب الجمل
وقالوا - في نبوة أشعياء -: قال أشعياء: " قيل لي: قم نظارا، فانظر ماذا ترى، فقلت: أرى راكبين مقبلين: أحدهما على حمار والآخر على جمل، يقول أحدهما لصاحبه: سقطت بابل وأصحابها للمنحر ".[17]
قالوا: فراكب الحمار هو المسيح، وراكب الجمل هو محمد ﷺ وهو أشهر بركوب الجمل من المسيح بركوب الحمار.
وبمحمد ﷺ سقطت أصنام بابل.
فصل: بشارة الكتب المتقدمة بالمسيح وبمحمد وتحذيرها من الدجال
ومما ينبغي أن يعرف: أن الكتب المتقدمة بشرت بالمسيح، كما بشرت بمحمد ﷺ، وكذلك أنذرت بالمسيح الدجال.
والأمم الثلاثة - المسلمون واليهود والنصارى - متفقون على أن الأنبياء أنذرت بالمسيح الدجال، وحذرت منه، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: ما من نبي إلا وقد أنذر أمته المسيح الدجال، حتى نوح أنذره أمته، وسأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لأمته: إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه (ك ف ر)، يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ.
والأمم الثلاثة متفقون على أن الأنبياء بشروا بمسيح من ولد داود. فالأمم الثلاثة متفقون على الإخبار بمسيح هدى، من نسل داود، ومسيح ضلالة، وهم متفقون على أن مسيح الضلالة لم يأت بعد، ومتفقون على أن مسيح الهدى سيأتي أيضا.
ثم المسلمون والنصارى متفقون على أن مسيح الهدى هو عيسى ابن مريم، واليهود ينكرون أن يكون هو عيسى ابن مريم، مع إقرارهم بأنه من ولد داود.
قالوا: " لأن المسيح المبشر به تؤمن به الأمم كلها "، وزعموا أن المسيح ابن مريم إنما بعث بدين النصارى، وهو دين ظاهر البطلان.
والنصارى تقر بأن المسيح مسيح الهدى بعث، ومقرون بأنه سيأتي مرة ثانية، لكن يزعمون أن هذا الإتيان الثاني هو يوم القيامة، ليجزي الناس بأعمالهم، وهو - في زعمهم - هو الله، والله الذي هو اللاهوت يأتي في ناسوته، كما زعموا أنه جاء قبل ذلك.
وأما المسلمون؛ فآمنوا بما أخبرت به الأنبياء على وجهه وهو موافق لما أخبر به خاتم الرسل، حيث قال في الحديث الصحيح: يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، وإماما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية.
وأخبر في الحديث الصحيح: أنه إذا خرج مسيح الضلالة الأعور الكذاب، نزل عيسى ابن مريم على المنارة البيضاء شرقي دمشق، بين مهرودتين، واضعا يديه على منكبي ملكين. فإذا رآه الدجال انماع كما ينماع الملح في الماء، فيدركه فيقتله بالحربة عند باب لد الشرقي، على بضع عشرة خطوات منه، وهذا تفسير قوله تعالى: ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته). أي: يؤمن بالمسيح قبل أن يموت، حين نزوله إلى الأرض، وحينئذ لا يبقى يهودي ولا نصراني، ولا يبقى إلا دين الإسلام، وهذا موجود في نعته عند أهل الكتاب.
ولكن النصارى ظنوا مجيئه بعد قيام القيامة، وأنه هو الله، فغلطوا في ذلك كما غلطوا في مجيئه الأول؛ حيث ظنوا أنه هو الله، واليهود أنكروا مجيئه الأول، وظنوا أن الذي بشر به ليس إياه، وليس هو الذي يأتي آخرا، وصاروا ينتظرون غيره، وإنما هو بعث إليهم أولا فكذبوه، وسيأتيهم ثانيا فيؤمن به كل من على وجه الأرض من يهودي ونصراني إلا من قتل أو مات، ويظهر كذب هؤلاء الذين كذبوه، ورموا أمه بالفرية، وقالوا: إنه ولد زنى، وهؤلاء الذين غلوا فيه، وقالوا: إنه الله.
ولما كان المسيح "عليه السلام" نازلا في أمة محمد ﷺ صار بينه وبين محمد - من الاتصال - ما ليس بينه وبين غير محمد؛ ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: إن أولى الناس بابن مريم لأنا، إنه ليس بيني وبينه نبي، وروي: كيف تهلك أمة أنا في أولها، وعيسى في آخرها. وهذا مما يظهر به مناسبة اقترانهما، فيما رواه أشعياء؛ حيث قال: " راكب الحمار وراكب الجمل ".
فصل: بشارة أشعياء بشأن مكة
قالوا: وقال أشعياء النبي "عليه السلام" متنبيا على مكة - شرفها الله -: " ارفعي إلى ما حولك بصرك، فستبتهجين وتفرحين من أجل أن يصير إليك ذخائر البحر، وتحج إليك عساكر الأمم، حتى يعم بك قطر الإبل الموبلة، وتضيق أرضك عن القطرات التي تجتمع إليك، وتساق إليك كباش مدين، ويأتيك أهل سبأ، ويسير إليك أغنام فاران، ويخدمك رجال مأرب "، [18] يريد سدنة الكعبة، وهم أولاد مأرب بن إسماعيل.
قالوا: فهذه الصفات كلها حصلت بمكة، فحملت إليها ذخائر البحرين، وحج إليها عساكر الأمم، وسيقت إليها أغنام فاران - الهدايا والأضاحي - و (فاران) هي البرية الواسعة التي فيها مكة، وضاقت الأرض عن قطرات الإبل الموبلة الحاملة للناس وأزوادهم إليها، وأتاها أهل سبأ، وهم أهل اليمن.
فصل: بشارة ثالثة من أشعياء
قالوا: وقال: أشعياء النبي ﷺ معلنا باسم رسول الله ﷺ: " إني جعلت أمرك يا محمد، يا قدوس الرب، اسمك موجود من الأبد " [19]
قالوا: فهل بقي بعد ذلك لزائغ فقال، أو لطاعن مجال؟ وقول أشعياء: إن اسم محمد موجود من الأبد موافق لقول داود الذي حكيناه: أن اسمه موجود قبل الشمس.
وقوله: " يا قدوس الرب " يعني يا من طهره الرب، وخلصه من بشريته، واصطفاه لنفسه.
فصل: بشارة رابعة من أشعياء
قالوا: وقال أشعياء - وشهد لهذه الأمة بالصلاح والديانة -: " سأرفع علما لأهل الأرض بعيدا، فيصفر لهم من أقاصي الأرض، فيأتون سراعا ".[20]
والنداء هو ما جاء به النبي ﷺ من التلبية في الحج، وهم الذين جعلوا لله الكرامة، فوحدوه وعبدوه، وأفردوه بالربوبية، وكسروا الأصنام، وعطلوا الأوثان. والعلم المرفوع: هو النبوة، وصفيره: دعاؤهم إلى بيته ومشاعره، فيأتونه سامعين مطيعين.
فصل: بشارة خامسة من أشعياء
قالوا: وقال أشعياء النبي - والمراد مكة شرفها الله تعالى -: سيري واهتزي أيتها العاقر، التي لم تلد، وانطقي بالتسبيح، وافرحي إذ لم تحبلي، فإن أهلك يكونون أكثر من أهلي.[21]
يعني بأهله: بيت المقدس، ويعني بالعاقر: مكة شرفها الله؛ لأنها لم تلد قبل نبينا عليه الصلاة والسلام، ولا يجوز أن يريد بالعاقر بيت المقدس؛ لأنه بيت للأنبياء ومعدن الوحي، فلم تزل تلك البقعة ولادة.
فصل: بشارة سادسة من أشعياء
قالوا: وقال أشعياء النبي - ونص على خاتم النبوة -: " ولد لنا غلام، يكون عجبا وبشرا، والشامة على كتفيه، أركون السلام، إله جبار، وسلطانه سلطان السلام، وهو ابن عالمه، يجلس على كرسي داود.[22]
قالوا: الأركون، هو العظيم بلغة الإنجيل، والأراكنة المعظمون. ولما أبرأ المسيح مجنونا من جنونه، قال اليهود: " إن هذا لا يخرج الشياطين من الآدميين إلا بأركون الشياطين " يعنون عظيمهم. وقال المسيح في الإنجيل: " إن أركون العالم يدان " [23] يريد إما إبليس أو الشرير العظيم الشر من الآدميين، وسماه إلها على نحو قول التوراة: " إن الله جعل موسى إلها لفرعون "؛ أي حاكما عليه ومتصرفا فيه، وعلى نحو قول داود للعظماء من قومه: " إنكم آلهة ".
فقد شهد أشعياء بصحة نبوة محمد ﷺ ووصفه بأخص علاماته وأوضحها، وهي شامته، [24] فلعمري لم تكن الشامة لسليمان، ولا للمسيح، وقد وصفه بالجلوس على كرسي داود، يعني أنه سيرث بني إسرائيل، نبوتهم وملكهم، ويبتزهم رياستهم.
فصل: بشارة سابعة من أشعياء
قالوا: وقال أشعياء في وصف أمة محمد ﷺ: " ستمتلئ البادية والمدن من أولاد قيذار يسبحون، ومن رءوس الجبال ينادون، هم الذين يجعلون لله الكرامة، ويسبحونه في البر والبحر." [25]
وقيذار هو ابن إسماعيل باتفاق الناس، [26] وربيعة ومضر من ولده، ومحمد ﷺ من مضر.
وهذا الامتلاء والتسبيح لم يحصل لهم إلا بمبعث محمد ﷺ.
فصل: بشارة ثامنة من أشعياء
قالوا: وقال أشعياء - والمراد مكة -: " أنا رسمتك على كفي، وسيأتيك أولادك سراعا، ويخرج عنك من أراد أن يخيفك ويخونك، فارفعي بصرك إلى ما حولك، فإنهم سيأتونك ويجتمعون إليك، فتسمي باسمي إني أنا الحي، لتلبسي الحلل وتزيني بالإكليل، مثل العروس، ولتضيقن خراباتك من كثرة سكانك والداعين فيك، وليهابن كل من يناوئك، وليكثرن أولادك حتى تقولي من رزقني هؤلاء كلهم؟ وأنا وحيدة فريدة، يرون رقوبا، فمن ربى لي هؤلاء، ومن تكفل لي بهم؟ ".[27]
قالوا: وذلك أيضا من أشعياء بشأن الكعبة، فهي التي ألبسها الله الحلل الديباج الفاخرة، ووكل بخدمتها الخلفاء والملوك، ومكة: هي التي ربا الله لها الأولاد من حجاجها، والقاطنين بها. وذلك أن مكة هي التي أخرج عنها كل من أراد أن يخيفها ويخربها، فلم تزل عزيزة مكرمة محرمة، لم يهنها أحد من البشر قط، بل أصحاب الفيل لما قصدوها، عذبهم الله العذاب المشهور، ولم تزل عامرة محجوجة، من لدن إبراهيم الخليل. بخلاف بيت المقدس، فإنه قد أخرب مرة بعد مرة، وخلا من السكان، واستولى العدو عليه وعلى أهله، وكذلك إخباره بإهانة كل من يناويها: هو للكعبة دون بيت المقدس، قال تعالى: ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم).
والحجاج بن يوسف كان معظما للكعبة؛ لم يرمها بمنجنيق، وإنما قصد ابن الزبير خاصة. وأما كثرة أولادها، وهم الذين يحجون إليها ويستقبلونها في صلاتهم، فهم أضعاف أضعاف أولاد بيت المقدس.
فصل: بشارة تاسعة من أشعياء
قالوا: وقال أشعياء - حاكيا عن الله تعالى -: " اشكر حبي وابني أحمد "، فسماه الله حبيبا وسماه ابنا، وداود ابنا غير أن الله خصه عليهم بمزية فقال: " حبي ابني اشكره "، فتعبد أشعياء بشكر محمد، ووظف عليه وعلى قومه شكره وإجلاله، ليتبين قدره ومنزلته عنده، وتلك منقبة لم يؤتها غيره من الرسل.
وقال: أشعياء: " إنما سمعنا من أطراف الأرض صوت محمد "، وهذا إفصاح من أشعياء باسم رسول الله ﷺ، فليرنا أهل الكتاب نبيا نصت الأنبياء على اسمه صريحا، سوى رسول الله ﷺ.
فصل: بشارة حبقوق بمحمد صلى الله عليه وسلم
قالوا: وقال حبقوق: - وسمي محمد رسول الله ﷺ صريحا مرتين في نبوته -: " إن الله جاء من التيمن، والقدوس من جبل فاران، لقد أضاءت السماء من بهاء محمد، وامتلأت الأرض من حمده، شعاع منظره مثل النور، يحوط بلاده بعزه، تسير المنايا أمامه، وتصحب سباع الطير أجناده، قام فمسح الأرض فتضعضعت له الجبال القديمة، وانخفضت الروابي، وتزعزعت ستور أهل مدين ".[28]
ثم قال: " زجرك في الأنهار، وإقدام صوامك في البحار، ركبت الخيول، وعلوت مراكب الإيفاد، وستنزع في قسيك أعراقا ونزعا، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء، ولقد رأتك الجبال فارتاعت، وانحرف عنك شؤبوب السيل، وتغيرت المهاوي تغيرا ورعبا، رفعت أيديها وجلا وخوفا، وسارت العساكر في بريق سهامك ولمعان نيازكك، وتدوخ الأرض غضبا، وتدوس الأمم زجرا؛ لأنك ظهرت بخلاص أمتك وإنقاذ تراث آبائك ".[29]
قالوا: وهذا تصريح بمحمد، ومن رام صرف نبوة حبقوق هذه عن محمد ﷺ فقد رام ستر النهار، وحبس الأنهار، وأنى يقدر على ذلك؟ وقد سماه باسمه مرتين، وأخبر بقوة أمته، وسير المنايا أمامهم، واتباع جوارح الطير آثارهم. وهذه النبوة لا تليق إلا بمحمد، ولا تصلح إلا له، ولا تدل إلا عليه، فمن حاول صرفها عنه فقد حاول ممتنعا. وقد ذكر فيها مجيء نور الله من التيمن - وهي ناحية مكة والحجاز - فإن أنبياء بني إسرائيل كانوا يكونون من ناحية الشام، ومحمد جاء من ناحية اليمن، وجبال فاران هي جبال مكة - كما قد تقدم بيان ذلك - وهذا مما لا يمكن النزاع فيه.
وأما امتلاء السماء من بهاء أحمد، بأنوار الإيمان والقرآن التي ظهرت منه ومن أمته، وامتلاء الأرض من حمده وحمد أمته في صلواتهم، فأمر ظاهر؛ فإن أمته هم الحمادون، لا بد لهم من حمد الله في كل صلاة وخطبة، ولا بد لكل مصل في كل ركعة من يقول: (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين).
فإذا قال: ( الحمد لله رب العالمين). قال الله: حمدني عبدي.
فإذا قال: ( الرحمن الرحيم). قال: أثنى علي عبدي.
فإذا قال: ( مالك يوم الدين). قال: مجدني عبدي.
فهم يفتحون القيام في الصلاة بالتحميد، ويختمونها بالتحميد، وإذا رفعوا رءوسهم من الركوع يقول: إمامهم سمع الله لمن حمده، ويقولون: جميعا ربنا ولك الحمد، ويختمون صلاتهم بتحميد، يجعل التحيات له والصلوات والطيبات. وأنواع تحميدهم لله مما يطول وصفه.
فصل: بشارة في سفر حزقيال
قالوا: وقال: حزقيال - وهو يهدد اليهود ويصف لهم أمة محمد ﷺ -: " وإن الله مظهرهم عليكم، وباعث فيكم نبيا، ومنزل عليهم كتابا، ومملكهم رقابكم، فيقهرونكم ويذلونكم بالحق، ويخرج رجال بني قيذار في جماعات الشعوب، معهم ملائكة على خيل بيض متسلحين، محيطون بكم، وتكون عاقبتكم إلى النار، نعوذ بالله من النار ".[30]
وذلك أن رجال بني قيذار هم (ربيعة) و (مضر) أبناء عدنان، وهما جميعا من ولد قيذار بن إسماعيل، [31] والعرب كلهم من بني عدنان، وبني قحطان. فعدنان - أبو ربيعة - ومضر وأنمار من ولد إسماعيل باتفاق الناس،. وأما قحطان فقيل هم من ولد إسماعيل، وقيل هم من ولد هود. ومضر ولد إلياس بن مضر، [32] وقريش هم من ولد إلياس بن مضر، وهوازن مثل عقيل، وكلاب، وسعد بن بكر و " بنو نمير "، وثقيف وغيرهم هم من ولد إلياس بن مضر.
وهؤلاء انتشروا في الأرض، فاستولوا على أرض الشام والجزيرة ومصر والعراق وغيرها، حتى إنهم لما سكنوا الجزيرة بين الفرات ودجلة، سكنت مضر في حران وما قرب منها، فسميت ديار مضر، وسكنت ربيعة في الموصل وما قرب منها، فسميت ديار ربيعة.
فصل: بشارة ثانية في سفر دانيال
وقال: دانيال "عليه السلام"، وذكر محمدا رسول الله ﷺ باسمه، فقال: " ستنزع في قسيك إغراقا، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء ".[33]
فهذا تصريح بغير تعريض، وتصحيح ليس فيه تمريض. فإن نازع في ذلك منازع فليوجدنا آخر اسمه محمد، له سهام تنزع، وأمر مطاع لا يدفع.
وقال: دانيال النبي - أيضا - حين سأله بخت نصر عن تأويل رؤيا رآها، ثم نسيها: " رأيت أيها الملك صنما عظيما، قائما بين يديك، رأسه من ذهب، وساعداه من الفضة، وبطنه وفخذاه من النحاس، وساقاه من الحديد، ورجلاه من الخزف، ورأيت حجرا لم تقطعه يد إنسان، قد جاء وصك ذلك الصنم فتفتت وتلاشى وعاد رفاتا، ثم نسفته الرياح، فذهب وتحول ذلك الحجر فصار جبلا عظيما حتى ملأ الأرض كلها، فهذا ما رأيت أيها الملك؟ ". فقال بخت نصر: صدق؛ فما تأويلها؟ قال دانيال: " أنت الرأس الذي رأيته من الذهب، ويقوم بعدك ولداك اللذان رأيت من الفضة، وهما دونك، ويقوم بعدهما مملكة أخرى هي دونهما، وهي شبه النحاس، والمملكة الرابعة تكون قوية مثل الحديد الذي يدق كل شيء، فأما الرجلان التي رأيت من خزف فمملكة ضعيفة وكلمتها مشتتة، وأما الحجر الذي رأيت قد صك ذلك الصنم العظيم ففتته فهو نبي يقيمه الله إله السماء والأرض من قبيلة بشريعة قوية، فيدق جميع ملوك الأرض وأممها، حتى تمتلئ منه الأرض ومن أمته، ويدوم سلطان ذلك النبي إلى انقضاء الدنيا، فهذا تعبير عن رؤياك أيها الملك ".[34]
فهذا نعت محمد ﷺ، لا نعت المسيح، فهو الذي بعث بشريعة قوية، ودق جميع ملوك الأرض وأممها، حتى امتلأت الأرض منه ومن أمته في مشارق الأرض ومغاربها، وسلطانه دائم، لم يقدر أحد أن يزيله كما زال ملك اليهود وزال ملك النصارى عن خيار الأرض وأوسطها.
فصل: بشارة ثالثة في سفر دانيال
وقال: دانيال النبي - أيضا -: " سألت الله وتضرعت إليه أن يبين لي ما يكون من بني إسرائيل، وهل يتوب عليهم ويرد إليهم ملكهم ويبعث فيهم الأنبياء، أو يجعل ذلك في غيرهم " قال: دانيال: " فظهر لي الملك في صورة شاب حسن الوجه، فقال: السلام عليك يا دانيال، إن الله تعالى يقول: إن بني إسرائيل أغضبوني وتمردوا علي وعبدوا من دوني آلهة أخرى، وصاروا من بعد العلم إلى الجهل، ومن بعد الصدق إلى الكذب، فسلطت عليهم بخت نصر فقتل رجالهم وسبى ذراريهم، وهدم بيت مقدسهم، وحرق كتبهم، وكذلك فعل من بعده بهم، وأنا غير راض عنهم ولا مقيلهم عثراتهم، فلا يزالون من سخطي حتى أبعث مسيحي ابن العذراء البتول فأختم عليهم عند ذلك باللعن والسخط، فلا يزالون ملعونين، عليهم الذلة والمسكنة حتى أبعث نبي بني إسماعيل، الذي بشرت به هاجر، وأرسلت إليها ملاكي فبشرها، فأوحي إلى ذلك النبي، وأعلمه الأسماء، وأزينه بالتقوى، وأجعل البر شعاره، والتقوى ضميره، والصدق قوله، والوفاء طبيعته، والقصد سيرته، والرشد سنته، أخصه بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتب، وناسخ لبعض ما فيها، أسري به إلي وأرقيه من سماء إلى سماء حتى يعلو، فأدنيه وأسلم عليه وأوحي إليه، ثم أرده إلى عبادي بالسرور والغبطة، حافظا لما استودع، صادعا بما أمر، يدعو إلى توحيدي باللين من القول والموعظة، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، رءوف بمن والاه، رحيم بمن آمن به، خشن على من عاداه، فيدعو قومه إلى توحيدي وعبادتي، ويخبرهم بما رأى من آياتي، فيكذبونه ويؤذونه.[35]
قال الناقل لهذه البشارة: قالوا: ثم سرد دانيال قصة رسول الله ﷺ حرفا حرفا مما أملاه عليه الملك، حتى وصل آخر أيام أمته بالنفخة وانقضاء الدنيا، ونبوته كثيرة، وهي الآن في أيدي النصارى واليهود يقرءونها. ومهما وصفنا مما ذكره الله من وصف هذه الأمة ونبيها، واتصال مملكتهم بالقيامة
قلت: فهذه نبوة دانيال فيها البشارة بالمسيح، والبشارة بمحمد ﷺ، وفيها من وصف محمد وأمته بالتفصيل ما يطول وصفه، وقد قرأها المسلمون لما فتحوا العراق، كما ذكر ذلك العلماء، منهم أبو العالية: ذكر أنهم لما فتحوا (تستر) وجدوا دانيال ميتا، ووجدوا عنده مصحفا. قال أبو العالية: أنا قرأت ذلك المصحف، وفيه صفتكم ولحون كلامكم، وكان أهل الناحية إذا أجدبوا كشفوا عن قبره فيسقون، فكتب أبو موسى في ذلك إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر: " أن احفر بالنهار ثلاثة عشر قبرا، وادفنه بالليل في واحد منها؛ لئلا يفتن الناس به ".
فصل: بشارة الفارقليط والتعليق المفصل على بشارات المسيح بمحمد
قالوا: وقال يوحنا الإنجيلي: قال يسوع المسيح - في الفصل الخامس عشر من إنجيله -: " إن الفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي، هو يعلمكم كل شيء ".[36]
وقال يوحنا التلميذ أيضا عن المسيح أنه قال لتلاميذه: " إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليط آخر، يثبت معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لم يطق العالم أن يقتلوه؛ لأنهم لم يعرفوه، ولست أدعكم أيتاما؛ لأني سآتيكم عن قريب ".[37]
وقال يوحنا: قال المسيح: من يحبني يحفظ كلمتي، وأبي يحبه، وإليه يأتي، وعنده يتخذ المنزل؛ كلمتكم بهذا لأني عندكم مقيم، والفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي، هو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم كل ما قلت لكم استودعتكم سلامي، لا تقلق قلوبكم ولا تجزع، فإني منطلق وعائد إليكم، لو كنتم تحبوني كنتم تفرحون بمضيي إلى الأب، [38] فإن أنتم ثبتم في كلامي وثبت كلامي فيكم كان لكم كل ما تريدون، وبهذا يمجد أبي.[39]
وقال أيضا: إذا جاء الفارقليط الذي أبي أرسله، روح الحق الذي من أبي، هو يشهد لي، [40] قلت لكم هذا حتى إذا كان تؤمنوا به ولا تشكوا فيه.[41]
وقال أيضا: " إن خيرا لكم أن أنطلق؛ لأني إن لم أذهب لم يأتكم الفارقليط، فإذا انطلقت أرسلته إليكم، فهو يوبخ العالم على الخطيئة، [42] وإن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله، ولكنكم لا تستطيعون حمله. لكن إذا جاء روح الحق ذاك يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بما يسمع، ويخبركم بكل ما يأتي، [43] ويعرفكم جميع ما للأب ".[44]
وقال يوحنا الحواري: قال المسيح: " إن أركون العالم سيأتي، وليس لي شيء ".[23]
وقال متى التلميذ: قال المسيح: " ألم يقرءوا أن الحجر الذي أرذله البناءون صار رأسا للزاوية من عند الله، كان هذا - وهو عجيب في أعيننا - ومن أجل ذلك أقول لكم: إن ملكوت الله سيؤخذ منكم، ويدفع إلى أمة أخرى تأكل ثمرها، ومن سقط على هذا الحجر ينشرح، وكل من سقط هو عليه يمحقه ".[45]
وقال يوحنا التلميذ - في كتاب رسائل التلاميذ، المسمى بفراكسيس -: " يا أحبابي، إياكم أن تؤمنوا بكل روح. لكن ميزوا الأرواح التي من عند الله من غيرها، واعلموا أن كل روح يؤمن بأن يسوع المسيح قد جاء فكان جسدانيا، فهي من عند الله، وكل روح لا تؤمن بأن يسوع المسيح جاء، وكان جسدانيا، فليست من عند الله، بل من المسيح الكذاب الذي سمعتم به، وهو الآن في العالم ".[46]
وقال شمعون الصفا، رئيس الحواريين - في كتاب فراكسيس -: " إنه قد حان أن يبتدئ الحكم من بيت الله ابتداء ".[47]
قلت: وهذا اللفظ، لفظ الفارقليط، في لغتهم ذكروا فيه أقوالا: قيل إنه الحماد، وقيل إنه الحامد، وقيل إنه المعز، وقيل إنه الحمد، ورجح هذا طائفة؛ وقالوا: الذي يقوم عليه البرهان في لغتهم أنه الحمد، والدليل عليه قول يوشع: " من عمل حسنة تكون له فارقليط جيدا - أي حمدا جيدا - وقولهم المشهور في تخاطبهم: فارقليط، وفارقليطان، وما زاد على الجميع - أي حمد - ومنه كما نقول نحن: يد ومنة. ومن قال: معناه المخلص فيحتجون بأنها كلمة سريانية، ومعناها المخلص، وقالوا: هو مشتق من قولنا: " راوف "، ويقال بالسريانية " فاروق "، فجعل " فارق ". قالوا: ومعنى " ليط " كلمة تزاد، والتقدير كما يقال في العربية: رجل هو، وحجر هو، وبدر هو، وذكر هو. قالوا: وكذلك يزاد في السريانية " ليط ". والذين قالوا: هو المعز، قالوا: هو في لسان اليونان المعز.
ويعترض على هذين القولين بأن المسيح لم تكن لغته سريانية ولا يونانية، بل عبرانية. ويجاب عنه بأنه تكلم بالعبرانية، وترجم عنه بلغة أخرى كما أملوا أحد الأناجيل باليونانية، والآخر بالرومية، وواحد بقي عبرانيا.
وأكثر النصارى على أنه المخلص، والمسيح - نفسه - يسمونه المخلص، وفي الإنجيل الذي بأيديهم أنه قال: " إني لم آت لأزين العالم، بل لأخلص العالم "، والنصارى يقولون في صلاتهم: " لقد ولدت لنا مخلصا ".
وقد اختلف فيه، فمن النصارى من قال: هو روح نزلت على الحواريين، وقد يقولون إنه ألسن نارية نزلت من السماء على التلاميذ، ففعلت الآيات والعجائب؛ ولهذا يقول من خبر أحوال النصارى: إنه لم ير أحدا منهم يحسن تحقيق مجيء هذا الفارقليط الموعود به. منهم من يزعم أنه المسيح - نفسه - لكونه جاء بعد الصلب بأربعين يوما، وكونه قام من قبره.
وتفسيره بالروح باطل، وأبطل منه تفسيره بالمسيح لوجوه:
منها: أن روح القدس ما زالت تنزل على الأنبياء والصالحين قبل المسيح وبعده، وهذا مما اتفق عليه أهل الكتاب: أن روح القدس نزلت على الأنبياء والصالحين قبل المسيح وبعده، وليست موصوفة بهذه الصفات، وقد قال تعالى: ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه).
وقال النبي ﷺ لحسان بن ثابت لما كان يهجو المشركين، قال: " اللهم أيده بروح القدس "، وقال: " إن روح القدس معك ما زلت تنافح عن نبيه ".
وإذا كان كذلك ولم يسم أحد هذه الروح فارقليط دل على أن الفارقليط أمر غير هذا. وأيضا فمثل هذه ما زالت يؤيد بها الأنبياء والصالحون، وما بشر به المسيح أمر عظيم، يأتي بعده أعظم من هذا، وأيضا فإنه وصف الفارقليط بصفات لا تناسب هذا، وإنما تناسب رجلا يأتي بعده نظيرا له، فإنه قال: (إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليط آخر، يثبت معكم إلى الأبد). فقوله: (فارقليط آخر) دل على أنه ثان لأول كان قبله، ولم يكن معهم في حياة المسيح إلا هو، لم تنزل عليهم روح، فعلم أن الذي يأتي بعده نظيرا له، ليس أمرا معتادا يأتي للناس.
وأيضا فإنه قال: (يثبت معكم إلى الأبد)، وهذا إنما يكون لما يدوم، ويبقى معهم إلى آخر الدهر. ومعلوم أنه لم يرد بقاء ذاته، فعلم أنه بقاء شرعه وأمره، فعلم أن الفارقليط الأول لم يثبت معهم شرعه ودينه إلى الأبد، وهذا يبين أن الثاني صاحب شرع لا ينسخ بخلاف الأول، وهذا إنما ينطبق على محمد ﷺ.
وأيضا فإنه أخبر أن هذا الفارقليط الذي أخبر به يشهد له، ويعلمهم كل شيء، وأنه يذكركم كل ما قال المسيح، وأنه يوبخ العالم على خطيئته فقال: (والفارقليط الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم كل ما قلت لكم).
وقال: (إذا جاء الفارقليط الذي أبي أرسله، هو يشهد لي، قلت لكم هذا حتى إذا كان تؤمنوا به، ولا تشكوا فيه).
وقال: (إن خيرا لكم أن أنطلق؛ لأني إن لم أذهب لم يأتكم الفارقليط، فإذا انطلقت أرسلته إليكم، فهو يوبخ العالم على الخطيئة، وإن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله، ولكنكم لا تستطيعون حمله. لكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه ليس ينطق من عند نفسه، بل يتكلم بما يسمع، ويخبر بكل ما يأتي، ويعرفكم جميع ما للأب).
فهذه الصفات والنعوت التي تلقوها عن المسيح لا تنطبق على شيء في قلب بعض الناس، لا يراه أحد، ولا يسمع كلامه؛ وإنما تنطبق على من يراه الناس، ويسمعون كلامه، فيشهد للمسيح، ويعلمهم كل شيء، ويذكرهم كل ما قال لهم المسيح، ويوبخ العالم على الخطيئة، ويرشد الناس إلى جميع الحق، وهو لا ينطق من عنده، بل يتكلم بما يسمع، ويخبرهم بكل ما يأتي، ويعرفهم جميع ما لرب العالمين.
وهذا لا يكون ملكا لا يراه أحد، ولا يكون هدى ولا علما في قلب بعض الناس، بل لا يكون إلا إنسانا عظيم القدر يخاطب الناس بما أخبر به المسيح، وهذا لا يكون إلا بشرا رسولا، بل يكون أعظم من المسيح، بين أنه يقدر على ما لا يقدر عليه المسيح، ويعلم ما لا يعلمه المسيح، ويخبر بكل ما يأتي، وبما يستحقه الرب حيث قال: (إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله، ولكنكم لا تستطيعون حمله، ولكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بما يسمع، ويخبركم بما يأتي، ويعرفكم جميع ما للأب).
وهذه الصفات لا تنطبق إلا على محمد ﷺ، وذلك أن الإخبار عن الله بما هو متصف به من الصفات، وعن ملائكته، وعن ملكوته، وعن ما أعده الله في الجنة لأوليائه، وفي النار لأعدائه، أمر لا يحتمل عقول كثير من الناس معرفته على التفصيل؛ ولهذا قال علي رضي الله عنه: " حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله ". وقال ابن مسعود: " ما من رجل يحدث قوما بحديث لا يبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم ". وسأل رجل ابن عباس عن قوله تعالى: ( خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن). قال: " ما يؤمنك أن لو أخبرتك بتفسيرها لكفرت؟ وكفرك بها تكذيبك بها ".
فقال لهم المسيح "عليه السلام": (إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله، ولكنكم لا تستطيعون حمله)، وهو الصادق المصدوق في هذا؛ لهذا ليس في الإنجيل من صفات الله، وصفات ملكوته، ومن صفات اليوم الآخر إلا أمور مجملة، وكذلك التوراة، ليس فيها من ذكر اليوم الآخر إلا أمور مجملة، مع أن موسى كان قد مهد الأمر للمسيح، ومع هذا فقد قال لهم المسيح: (إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله، ولكنكم لا تستطيعون حمله)، ثم قال: (ولكن إذا جاء روح الحق ذلك الذي يرشدكم إلى جميع الحق)، وقال: (إنه يخبركم بكل ما يأتي، ويعرفكم بجميع ما للرب). فدل هذا على أن هذا الفارقليط هو الذي يفعل هذا دون المسيح، وكذلك كان محمد ﷺ أرشد الناس إلى جميع الحق، حتى أكمل الله له الدين، وأتم به النعمة؛ ولهذا كان خاتم الأنبياء، فإنه لم يبق شيء يأتي به غيره، وأخبر محمد ﷺ بكل ما يأتي من أشراط الساعة، والقيامة، والحساب، والصراط، ووزن الأعمال، والجنة وأنواع نعيمها، والنار وأنواع عذابها، ولهذا كان في القرآن من تفصيل أمر الآخرة، وذكر الجنة والنار، وما يأتي من ذلك أمور كثيرة توجد لا في التوراة، ولا في الإنجيل، وذلك تصديق قول المسيح: إنه يخبر بكل ما يأتي.
ومحمد بعثه الله بين يدي الساعة كما قال: بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بأصابعه السبابة، والوسطى. وكان إذا ذكر الساعة علا صوته، واحمر وجهه، واشتد غضبه كأنه منذر جيش، وقال: ( إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد). وقال: (أنا النذير العريان).
فأخبر من الأمور التي تأتي في المستقبل بما لم يأت به نبي من الأنبياء، كما نعته به المسيح حيث قال: (إنه يخبركم بكل ما يأتي)، ولا يوجد مثل هذا قط عن أحد من الأنبياء قبل محمد ﷺ، فضلا عن أن يوجد شيء نزل على قلب بعض الحواريين.
وأيضا فقال: (ويعرفكم جميع ما للرب)، فبين أنه يعرف الناس جميع ما لله، وذلك يتناول ما لله من الأسماء والصفات، وما له من الحقوق، وما يجب من الإيمان به، وبملائكته وكتبه ورسله، بحيث يكون ما يأتي به جامعا لكل ما يستحقه الرب.
وهذا لم يأت به أحد غير محمد حيث يتضمن ما جاء به من الكتاب والحكمة، هذا كله. ومعلوم أن ما نزل على الحواريين لم يكن فيه هذا كله ولا نصفه ولا ثلثه، بل ما جاء به المسيح أعظم مما جاء به الحواريون، وهذا الفارقليط الثاني جاء بأعظم مما جاء به المسيح.
وأيضا، فالمسيح قال: (إذا جاء الفارقليط الذي أرسله أبي هو يشهد لي، قلت لكم هذا، حتى إذا كان تؤمنوا به ولا تشكوا فيه). فبين أنه أخبرهم به؛ ليؤمنوا به إذا جاء، ولا يشكوا فيه، وأنه يشهد له، وهذه صفة من بشر به المسيح، ويشهد للمسيح كما قال تعالى: ( وإذ قال عيسى ابن مريم يابني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد).
وأخبر أنه يوبخ العالم على الخطيئة، ولم يوجد أحد وبخ جميع العالم على الخطيئة إلا محمد ﷺ، فإنه أنذر جميع العالم من أصناف الناس، ووبخهم على الخطيئة: من الكفر والفسوق والعصيان، وبخ جميع المشركين من العرب والهند والترك وغيرهم، ووبخ المجوس، وكانت مملكتهم أعظم الممالك، ووبخ أهل الكتابين اليهود والنصارى، وقال في الحديث الصحيح عنه: إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب. لم يقتصر على مجرد الأمر والنهي، بل وبخهم وقرعهم وتهددهم.
وأيضا، فإنه أخبر أنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بكل ما يسمع. وهذا إخبار بأن كل ما يتكلم به فهو وحي يسمعه، ليس هو شيئا تعلمه من الناس، أو عرفه باستنباطه، وهذه خاصة محمد ﷺ، فإن المسيح ومن قبله من الأنبياء كانوا يتعلمون من غيرهم، مع ما كان يوحى إليهم، فعندهم علم غير ما يسمعونه من الوحي.
ومحمد ﷺ لم ينطق إلا بما يسمعه من الوحي، فهو مبلغ لما أرسل به، وقد قيل له: ( بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس).
فضمن الله له العصمة إذا بلغ رسالاته، فلهذا أرشد الناس إلى جميع الحق، وألقى إلى الناس ما لم يمكن غيره من الأنبياء إلقاءه؛ خوفا أن يقتلوه كما يذكرون عن المسيح، وغيره.
وقد أخبر المسيح بأنه لم يذكر لهم جميع ما عنده، وأنهم لا يطيقون حمله، وهم معترفون بأنه كان يخاف منهم إذا أخبرهم بحقائق الأمور. ومحمد أيده الله تأييدا لم يؤيده لغيره، فعصمه من الناس حتى لم يخف من شيء يقوله، وأعطاه من البيان والعلم ما لم يؤته غيره. فالكتاب الذي بعث به فيه من بيان حقائق الغيب ما ليس في كتاب غيره.
وأيد أمته تأييدا أطاقت به حمل ما ألقاه إليهم، فلم يكونوا كأهل التوراة الذين حملوا التوراة، ثم لم يحملوها، ولا كأهل الإنجيل الذين قال لهم المسيح: (إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم، ولكن لا تستطيعون حمله)، ولا ريب أن أمة محمد أكمل عقولا، وأعظم إيمانا، وأتم تصديقا وجهادا؛ ولهذا كانت علومهم وأعمالهم القلبية وإيمانهم أعظم.
وكانت العبادات البدنية لغيرهم أعظم، قال تعالى: ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين).
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أن الله قال: قد فعلت.
وأيضا، فإنه أخبر عن الفارقليط أنه يشهد له، وأنه يعلمهم كل شيء، وأنه يذكرهم كل ما قاله المسيح، ومعلوم أن هذا لا يكون إلا إذا شهد له شهادة يسمعها الناس، لا يكون هذا شيئا في قلب طائفة قليلة، ولم يشهد أحد للمسيح شهادة سمعها عامة الناس إلا محمد ﷺ، فإنه أظهر أمر المسيح، وشهد له بالحق حتى سمع شهادته له عامة أهل الأرض، وعلموا أنه صدق المسيح، ونزهه عما افترته عليه اليهود، وعما غلت فيه النصارى، فهو الذي شهد له بالحق؛ ولهذا لما سمع النجاشي من الصحابة ما شهد به محمد للمسيح قال لهم: (ما زاد عيسى على ما قلتم هذا العود).
وجعل الله أمة محمد شهداء على الناس، يشهدون عليهم بما علموه من الحق، إذ كانوا وسطا عدلا، لا يشهدون بباطل، فإن الشاهد لا يكون إلا عدلا بخلاف من جار في شهادته، فزاد على الحق أو نقص منه، كشهادة اليهود والنصارى في المسيح.
وأيضا، فإن معنى الفارقليط، إن كان هو الحامد أو الحماد أو الحمد، أو المعز، فهذا الوصف ظاهر في محمد ﷺ، فإنه وأمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل حال، وهو صاحب لواء الحمد، والحمد مفتاح خطبته، ومفتاح صلاته، ولما كان حمادا جوزي بوصفه؛ فإن الجزاء من جنس العمل. فكان اسمهمحمدا، وأحمد. وأما محمد فهو على وزن مكرم ومعظم ومقدس، وهو الذي يحمد حمدا كثيرا مبالغا فيه، ويستحق ذلك، فلما كان حمادا لله كان محمدا، وفي شعر حسان بن ثابت:
وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
وأما أحمد، فهو أفعل التفضيل: أي أحق بأن يكون محمودا أكثر من غيره، يقال: هذا أحمد من هذا؛ أي هذا أحق بأن يحمد من هذا، فيكون فيه تفضيل له على غيره في كونه محمودا. فلفظ (محمد) يقتضي فضله في الكمية، ولفظ (أحمد) يقتضي فضله في الكيفية. ومن الناس من يقول أحمد؛ أي أكثر حمدا من غيره. فعلى هذا يكون بمعنى الحامد والحماد.
وقال: من رجح أن معنى الفارقليط في لغتهم هو الحمد - كما تقدم -: فإذا كان كذلك فهو ما جاء في القرآن: ( ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد).
قالوا: ولا شك عندهم أنه اسم مشتق من الحمد، مثل ما نقول في لغتنا: ضارب ومضروب. وأما من فسره بالمعز فلم يعرف قط نبي أعز أهل التوحيد لله والإيمان كما أعزهم محمد، فهو أحق باسم المعز من كل إنسان.
وأما معنى المخلص، فهو أيضا ظاهر فيه، فإن المسيح هو المخلص الأول كما ذكر في الإنجيل، وهو معروف عند النصارى أن المسيح - صلوات الله عليه - سمي مخلصا، فيكون المسيح هو الفارقليط الأول، وقد بشر بفارقليط آخر، فإنه قال: (وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليط آخر، يثبت معكم إلى الأبد)، فهذه بشارة بمخلص ثان يثبت معهم إلى الأبد، والمسيح هو المخلص الأول. وأما ما ينزل في القلوب فلم يسمه أحد مخلصا، ولا فارقليط، فلا يجوز أن يفسر كلام المسيح إلا بلغته، ومعانيه المعروفة التي خاطب بها، وكذلك سائر الأنبياء، بل وسائر الناطقين.
وقد وصف هذا المخلص الثاني بأنه يثبت معهم إلى الأبد، ومحمد هو المخلص الذي جاء بشرع باق إلى الأبد، لا ينسخ.
وأيضا، فإن في الإنجيل؛ إنجيل يوحنا، أن المسيح قال: (أركون العالم سيأتي وليس لي شيء).
وقد ذكروا أن الأركون بلغتهم العظيم القدر، والأراكنة العظماء، وقد كانوا يقولون: عن المسيح: (إن أركون الشياطين يعينه) [48] أي عظيم الشياطين. وهو من افتراء اليهود على المسيح، فقول المسيح "عليه السلام" أركون العالم، إنما ينطبق على عظيم العالم وسيد العالم وكبير العالم. وقد أخبر أنه سيأتي، فامتنع أن يكون هذا الأركون المسيح أو أحدا مثله، ولم يأت بعد المسيح من ساد العالم، وأطاعه العالم غير محمد ﷺ، وهذا من بشارة المسيح به.
وقد سئل ﷺ ما كان أول أمرك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي رأت حين ولدتني أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام.
وبالجملة، فمعلوم باتفاق أهل الأرض أنه لم يأت بعد المسيح من ساد العالم باطنا وظاهرا، وانقادت له القلوب والأجساد، وأطيع في السر والعلانية، في محياه وبعد مماته في جميع الأعصار، وأفضل الأقاليم شرقا وغربا، غير محمد، فإن الملوك يطاعون ظاهرا لا باطنا، ولا يطاعون بعد موتهم، ولا يطيعهم أهل الدين طاعة يرجون بها ثواب الله في الدار الآخرة، ويخافون عقاب الله في الدار الآخرة، بخلاف الأنبياء.
ومحمد أظهر دين الرسل قبله، وصدقهم، ونوه بذكرهم وتعظيمهم، فبه آمن بالأنبياء والرسل قبل موسى والمسيح وغيرهما أمم عظيمة، لولا محمد لم يؤمنوا بهم. ومن كان يعرف هؤلاء من أهل الكتاب كانوا مختلفين فيهم كاختلاف أهل الكتاب في المسيح، وكانوا يقدحون في داود وسليمان وغيرهما بما هو معروف عندهم.
وأيضا، فإنه ذكر لهم من الرسل ما لم يكونوا يعرفونه، مثل هود وصالح وشعيب وغيرهم.
ومحمد ﷺ صدق المسيح في أخباره؛ بأنه أركون العالم فقال: أنا سيد ولد آدم ولا فخر. آدم فمن دونه تحت لوائي، أنا خطيب الأنبياء إذا وفدوا، وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا.
وهو صاحب لواء الحمد، وهو صاحب المقام المحمود، الذي يغبطه به الأولون والآخرون يوم القيامة، فهو سيد العالمين حقا، وهذا مطابق لقول المسيح: (إنه أركون العالم)، فهو أركون الآخرين في الدنيا والآخرة، وهو أركون الأولين والآخرين في الآخرة.
وقول المسيح: (إن أركون العالم سيأتي، وليس لي شيء) تضمن الأصلين: إثبات الرسول، وإثبات التوحيد، وأن الأمر كله لله، وهو تحقيق شهادة: أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وقول المسيح: (ليس لي شيء) تنزيه له مما نسب إليه من الربوبية، وهذا النفي يشترك فيه جميع الخلق، قال الله تعالى لمحمد ﷺ: ( ليس لك من الأمر شيء).
وقال تعالى: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي).
وقال: ( قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا) (أي ملجأ وملاذا) (إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا).
وقال تعالى: (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله).
وأيضا، ففي نبوة أشعياء أنه وصف محمدا بأنه أركون السلم والسلم والسلام: الإسلام. فهو يبين أنه سيد دين الإسلام. ولا ريب أن الأنبياء كلهم بعثوا بدين الإسلام. لكن لم يظهر هذا الدين واسمه، وانتشر ذكر دين الإسلام في الأرض كما ظهر لمحمد، فمحمد أركون الإسلام الذي يجمع كل خير وبر، كما أن إبليس أركون الشر، قال تعالى عن نوح: ( يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين).
فهذا نوح: أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، يذكر أنه أمر أن يكون من المسلمين.
وقالت السحرة - لما أسلموا، وأراد فرعون قتلهم -: ( ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين).
وقال: ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا).
وقال: ( وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون).
فإن قيل: فقد سمى المسيح الفارقليط روح الحق، وسماه روح القدس. وقال تعالى عن إبراهيم: ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون). ( وقال موسى ياقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين). وقالت بلقيس: ( رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين).
قيل: قد قال يوحنا في كتاب أخبار الحواريين، المسمى (إفراكسيس): " يا أحبابي، إياكم أن تؤمنوا بكل روح. لكن ميزوا الأرواح التي من عند الله من غيرها، واعلموا أن كل روح تؤمن بأن يسوع المسيح قد جاء، فكان جسدانيا، فهي من عند الله، وكل روح لا تؤمن بأن المسيح جاء، وكان جسدانيا، فليست من عند الله، بل من المسيح الكذاب الذي هو الآن في العالم ".[46]
وإذا كان كذلك علم أن الروح عندهم يتناول النبي المرسل من البشر، وجبريل الذي نزل بالوحي على محمد هو روح القدس، وهو روح الحق، كما قال تعالى: ( قل نزله روح القدس من ربك بالحق).
وقال: ( نزل به الروح الأمين على قلبك).
وقال: ( من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله).
وهذا الروح إنما جعله بمجيء محمد، والكلام الذي نزل به هو الذي بلغه محمد؛ ولهذا قال الله تعالى: (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس).
فاصطفى الله جبريل من الملائكة، واصطفى محمدا من البشر؛ ولهذا يضاف القول الذي هو القرآن إلى قول هذا تارة، وإلى قول هذا تارة كما قال تعالى: ( إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين).
فهذا الرسول هنا جبريل، وقال تعالى في الآية الأخرى: ( إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين).
فهذا الرسول هنا محمد، وأضافه إلى كل منهما بلفظ الرسول؛ لتضمنه أنه بلغه عن مرسله، لم يقل: " إنه لقول ملك، ولا نبي "، بل كفر من قال: إنه قول البشر كما ذكر ذلك عن الوحيد، وقد قال تعالى في القرآن: ( قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور).
ومعلوم أن الرسول - نفسه - لم ينزل، بل أبدل الرسول من الذكر؛ لأن الرسول جاء بالذكر.
ولما كان الرسول الملكي، والرسول البشري، والذكر المنزل أمورا متلازمة يلزم من ثبوت واحد ثبوت الآخرين، ومن الإيمان بواحد الإيمان بالآخرين، فيلزم من كون القرآن حقا كون جبريل ومحمد حقا، وكذلك يلزم من كون محمد حقا كون جبريل والقرآن حقا، ويلزم من كون جبريل حقا كون القرآن ومحمد حقا.
ولهذا جمع الله بين الإيمان بالملائكة والكتب والرسل في مثل قوله: ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله).
فتعليم محمد وتذكيره وشهادته هو تعليم روح القدس وروحه، والأخبار بأن الملك ينطق على لسان البشر، أو الجني ينطق على لسان البشر كثير كما في حديث ابن عمر: " كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر "، ويقال: " ما ألقى هذا على لسانك إلا الشيطان "، ويكون مع هذا البشر ينطق بقدرته واختياره ليس هو كالمصروع الذي يتكلم الجني على لسانه وهو يدري ما يقول؛ فلهذا يقال: هذا قول الرسول البشري، وهو قول الرسول الملكي.
ويقال: الفارقليط روح الحق وروح القدس يشهد لي وهو يعلمكم، وهو يذكركم، ونحو ذلك، فإن الفارقليط يتضمن ذكر جبريل ومحمد جميعا، وقول أحدهما هو قول الآخر، ومعروف في اللغة بدل الاشتمال؛ كقوله: ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه). والشهر ليس هو نفس القتال، لكن لما اشتمل على القتال أبدل أحدهما من الآخر، وقوله: ( قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا).
ومن هذا النمط أبدل الرسول من الذكر لاشتماله عليه، وهذا الثاني اشتمل على الأول، والرسول البشري كان الرسول الملكي يتصل به في الباطن فيثقل عليه الوحي حين ينزله.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام قال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ قال: أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني، وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة: " ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا ".
والفصم: الفك والفصل من الأمور اللينة، كما قال: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم). وبالقاف: هو الكسر الذي يكون في الأمور الصلبة.
فبين أن الملك حين ينزل الوحي عليه يتصل به، ويلتبس به، ثم بعد ذلك ينفصل عنه وينفك عنه، وهذا الاشتمال والانفصال أبلغ من غيره، فيحسن معه أن يكون إبدال أحدهما من الآخر أحسن من غيره. فيقال: هذا القرآن بلغه الرسول النبي، وبلغه جبريل عن الله، ونظائر هذا متعددة في جميع بشارات المسيح. يذكر أن الأب وهو في لغتهم: الله الذي يرسل الفارقليط. وفي بعضها قال: " أنا أطلب من الأب يعطيكم فارقليط آخر، يثبت معكم إلى الأبد "، [49] وفي بعضها: " والفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي، هو يعلمكم كل شيء "، [36] فقد بين أن الله يرسله، وأنه يطلب من الله أن يرسله. وأما قوله في بعض الألفاظ: " فإذا انطلقت أرسلته إليكم " فيكون معناه: إني أرسله بدعاء أبي، وطلبي منه أن يرسله، كما يطلب الطالب من ولي الأمر أن يرسل رسولا، أو يولي نائبا، أو يعطي أحدا، ويقول أنا أرسلت هذا، ووليت هذا، وأعطيت هذا؛ أي كنت سببا في ذلك. ومما ينبغي أن يعلم أن الله إذا قضى ما يكون الشيء فإنه يقدر له أسبابا يكون بها، ومن تلك الأسباب دعاء طائفة من عباده به. فيكون في ذلك من النعمة في إجابته دعاء هذا وهذا وهذا.
ومحمد دعا به الخليل "عليه السلام" فقال: ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم).
مع أن الله قضى بإرساله، وأعلن باسمه قبل ذلك كما قيل له: يا رسول الله، متى كنت نبيا؟ قال: " وآدم بين الروح والجسد "، وقال: " إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته ".
وهذا كما أن الله قضى بنصره يوم بدر، ومن أسباب ذلك استغاثته بالله، وكذلك بما يقضيه من إنزال الغيث يكون من أسبابه دعاء عباده له، ونظائره كثيرة، فلا يمتنع أن يكون المسيح سأل ربه بعد صعوده أن يرسل محمدا، ويكون هذا من أسباب إرساله، لكن إبراهيم سأل في الدنيا فذكر الله ذلك، بخلاف سؤال المسيح، فإنه كان بعد صعوده إلى السماء.
فصل: براهين مستقلة من القرآن على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
والقرآن نفسه قد بين من آيات نبوته وبراهين رسالته أنواعا متعددة مع اشتمال كل نوع على عدد من الآيات والبراهين، مثال ذلك: إخباره لقومه بالغيب الماضي الذي لا يمكن بشرا أن يعلمه إلا أن يكون نبيا، أو يكون ممن تلقاه عن نبي، وقومه يعلمون أنه لم يتعلم ذلك من بشر، ولا من أهل الكتاب، ولا غيرهم. وهذا نوعان:
منه: ما كان يسأله عنه المشركون وأهل الكتاب؛ لينظر هل هو نبي أم لا؟
وكان قومه يرسلون إلى أهل الكتاب، البعيدين عنهم، مثل من كان بالمدينة، وغيرها من أهل الكتاب، يطلبون منهم ما يسألونه عنه، فيرسلون إليهم ليسألوه عن ذلك، ويمتحنون بذلك هل هو نبي أم لا؟
ومنه: ما كان الله يخبره به ابتداء، ويجعله علما وآية لنبوته، وبرهانا لرسالته، مع ما في ذكر هذه القصص من الاعتبار لأمور أخرى، فكان كل من هذين النوعين دليلا وعبرة على نبوته، من طريقين، فكان دليلا وعبرة على نبوته من جهة إخباره بالغيب، الذي لا يعلمه إلا نبي، وكانت عبرة بما فيها من أحوال المؤمنين والكافرين التي توجب اتباع سبيل المؤمنين الذين اتبعوا مثله، وتجنب سبيل الكافرين الذين خالفوا مثله، وحكم الشيء حكم نظيره. فإذا كان من كان مثله ومثل من اتبعه سعيدا، وحال من خالف مثله ومثل من اتبعه شقيا، كان في هذا دلالة وعبرة توجب اتباعه، وتنهى عن مخالفته، وهذا - أيضا - دليل على نبوة من قبله من الأنبياء من وجهين: من جهة أنه أخبر بمثل ما أخبروا به، من غير مواطأة بينهم وبينه، ولا تشاعر، لم يأخذوا عنه، ولم يأخذ عنهم.
وكل منهما أخبر عن الله بأخبار مفصلة، يمتنع الاتفاق عليها عادة إلا بتواطؤ، فإذا لم يكن تواطؤ وتشاعر، وامتنع اتفاق ذلك من غير مواطأة، علم أن كلا من المخبرين صادق، قال تعالى: ( لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين).
وقص قصته في السورة، إلى أن قال: ( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) - إلى قوله - ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون).
وقال تعالى: (ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا).
وقال: ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).
وقال: ( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا).
وقال تعالى لما قص قصة نوح من سورة هود، وهي أطول ما قصه في قصة نوح: ( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين).
فذكر سبحانه أن هذا الذي أوحاه إليه من أنباء الغيب، ما كان يعلمه هو ولا قومه من قبل هذا. فإذا لم يكن قومه يعلمون ذلك لا من أهل الكتاب، ولا من غيرهم، وهو لم يعاشر إلا قومه، وقومه يعلمون ذلك منه، ويعلمون أنهم لم يكونوا يعلمون ذلك، ويعلمون - أيضا - أنه هو لم يكن تعلم ذلك، وأنه لم يكن يعاشر غيرهم، وهم لا يعلمون ذلك، صار هذا حجة على قومه، وعلى من بلغه خبر قومه، ومثل ما أخبرهم عن قصة آدم، وسجود الملائكة له، وتزيين إبليس له حتى أكل من الشجرة، وهبط هو وزوجه.
وأخبرهم عن قصة نوح ومكثه فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، وهذا في التوراة الموجودة بأيدي أهل الكتاب: مقدار لبثه في قومه قبل الغرق وبعده.
وأخبرهم عن قصة الخليل، وما جرى له مع قومه، وإلقائه في النار، وذبح ولده، ومجيء الملائكة إليه في صورة ضيفان، وتبشيره بإسحاق ويعقوب، وذهاب الملائكة إلى لوط، وما جرى للوط مع قومه، وإهلاك الله مدائن قوم لوط، وقصة إسرائيل مع بنيه؛ كقصة يوسف، وما جرى له بمصر، وقصة موسى مع فرعون، وتكليم الله إياه مرة بعد مرة، وآياته كالعصا، واليد البيضاء، والقمل، والضفادع، والدم، وفلق البحر، وتظليل الغمام على بني إسرائيل، وإطعامهم المن والسلوى، وانفجار الماء من الحجر اثنتي عشرة عينا لسقيهم وعبادتهم العجل، وقتل بعضهم بعضا لما تاب الله عليهم، وقصة البقرة، ونتق الجبل فوقهم، وقصة داود، وقتله لجالوت، وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم، وقصة الذي أماته الله مائة عام، ثم بعثه، وغير ذلك من أحوال بني إسرائيل إلى أن ذكر قصة زكريا وابنه يحيى، وعيسى ابن مريم، وأحوال المسيح وآياته، ودعائه لقومه، والآيات التي بعث بها، وتفاصيل ذلك، وذكر قصة أصحاب الكهف، وقصة ذي القرنين، وغير ذلك من قصص الأنبياء والصالحين والكفار مفصلة مبينة بأحسن بيان وأتم معرفة، مع علم قومه الذين يعرفون أحواله من صغره إلى أن ادعى النبوة: أنه لم يتعلم هذا من بشر، بل لم يجتمع هو بأحد من البشر يعرف ذلك، ولا كان عندهم بمكة من يعرف ذلك، لا يهودي ولا نصراني، ولا غيرهم.
فكان هذا من أعظم الآيات والبراهين لقومه بأن هذا إنما أعلمه به وأنبأه به الله، ومثل هذا الغيب لا يعلمه إلا نبي، أو من أخذ عن نبي، فإذا لم يكن هو أخذه عن نبي، تعين أن يكون نبيا.
ثم سائر أهل الأرض يعلمون أنه لم يتعلم ذلك من بشر، من طرق:
أحدها: أن قومه المعادين له، الذين هم من أحرص الناس على القدح في نبوته، مع كمال علمهم - لو علموا أنه تعلم ذلك من بشر - لطعنوا عليه بذلك وأظهروه، فإنهم - مع علمهم - بحاله يمتنع أن لا يعلموا ذلك لو كان، ومع حرصهم على القدح فيه، يمتنع أن لا يقدحوا فيه، ويمتنع أن لا يظهر ذلك.
الثاني: أنه قد تواتر عن قومه أنهم كانوا يقولون: إنه لم يكن يجتمع به من يعلمه ذلك.
الثالث: أنه لو كانت هذه القصص المتنوعة قد تعلمها من أهل الكتاب - مع عداوته لهم - لكانوا يخبرون بذلك، ويظهرونه، ولو أظهروا ذلك لنقل ذلك وعرف، فإن هذا من الحوادث التي تتوفر الهمم والدواعي على نقله.
الرابع: أنه حيث بعث كان الناس إما مشركا وإما كتابيا، فلم يكن هناك أحد على الدين الذي دعا إليه، وقد علم الناس بالتواتر أن المشركين - من قريش وغيرهم - لم يكونوا يعرفون هذه القصص، ولو قدر أنهم كانوا يعرفونها فهم أول من دعاهم إلى دينه فعادوه وكذبوه، فلو كان فيهم من علمه، أو يعلم أنه تعلم من غيره لأظهر ذلك.
الخامس: أن مثل هذا لو كان، فلا بد أن يعرفه - ولو خواص الناس - وكان في أصحابه الذين آمنوا به من يعرف ذلك، وكان ذلك يشيع، ولو تواصوا بكتمانه كما شاع ما كتم من أمر الدول الباطنية، ولكان خواصه في الباطن يعلمون كذبه، وكان علمهم بذلك يناقض تصديقه في الباطن كما عرف في مثل ذلك. فكيف، وكان أخص أصحابه وأعلمهم بحاله أعظمهم محبة وموالاة؟ بخلاف حال من يبطن خلاف ما يظهر، فإن خواص أصحابه لا يعظمونه في الباطن. فإنه علم الناس أن قومه الذين كانوا معادين له غاية العداوة، وكانوا يطلبون القدح في نبوته بكل طريق، يعلمون أنه لم يكن عندهم بشر يعلمه مثل هذا، وأنه لم يكن في قومه ولا بلده من يعرف هذا؛ علم الناس ما علمه قومه أن هذا أنبأه به الله، وكان هذا من أعلامه وآياته وبراهينه، وهذا مما يبين الله في القرآن أنه من آياته، وأنه حين أخبر قومه بهذا - مع تكذيبهم وفرط عداوتهم له - لم يمكن أحدا منهم أن يقول له: بل فينا من كان يعلم ذلك، وأنت كنت تعلم ذلك، وقد تعلمته منا أو من غيرنا. فكان إقرارهم بعدم علمه وعلمهم، ومع فرط عداوتهم له، آية بينة لجميع الأمم أنه لم يكن هو ولا هم يعلمون ذلك.
ولهذا لما كان بعضهم يفتري عليه فرية ظاهرة، كانوا كلهم يعلمون كذبه، وإذا اجتمعوا وتشاوروا في أمره يعرفون أن هذا كذب ظاهر عليه كما كان بعضهم يقول: إنه مجنون، وبعضهم يقول: إنه كاهن، وبعضهم يقول: إنه ساحر، وبعضهم يقول: إنه تعلمه من بشر، وبعضهم يقول: أضغاث أحلام.
فحكى الله أقوالهم، مبينا لظهور كذب من قال ذلك، وأنه قول ضال حائر، قد بهره حال الرسول، فحار، فلم يدر ما يقول، كما قال تعالى:
تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما
فأخبر عمن قال ذلك، وهم يعلمون أن هذا من أظهر الكذب، فإن هذه القصص المذكورة في القرآن، لم يكن بمكة من يعرفها، فضلا عن أن يمليها كما قال: ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك).
وقال: ( ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا).
ولهذا قال: ( أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض).
فأخبر أن هذا من علم من يعلم السر، إذ كان البشر لا يعلمون ذلك إلا من جهة أخبار الأنبياء، وليس بمكة من يعلم ما أخبرت به الأنبياء.
ثم ذكر ما اقترحوه فقال: ( وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا).
أمر بالنظر في كيفية ما ضربوه من الأمثال، حيث شبهوه بمن يظهر الفرق بينه وبينه ظهورا لا يخفى على الناظر؛ ولهذا قال: ( فضلوا فلا يستطيعون سبيلا).
إذ كان ظاهرا أن هذا ضلال عن طريق الحق، فلا يستطيع الضال عن طريق الحق إليه سبيلا.
وقال تعالى: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين).
فأخبر عما افتراه بعضهم، من قوله: إنما يعلمه هذا القرآن بشر.
وكان بمكة مولى أعجمي لبعض قريش، قيل: إنه مولى لبني الحضرمي، والنبي لا يحسن أن يتكلم بلسان العجمي، وذاك لا يحسن أن يتكلم بهذا الكلام العربي. فلما قالوا: إنه افترى
هذا القرآن، وأنه علمه إياه بشر قال تعالى: ( لسان الذي يلحدون).
أي يضيفون إليه هذا التعليم، وينسبونه إليه، وعبر عنه بلفظ الإلحاد؛ لما فيه من الميل، فقال: لسان هذا الشخص الذي قالوا إنه يعلمه القرآن، لسان أعجمي، وهم لم يمكنهم أن يضيفوا هذا التعليم إلى رجل عربي، بل إلى هذا الأعجمي؛ لكونه كان يجلس - أحيانا - إلى النبي ﷺ، وذلك الأعجمي لا يمكنه التكلم بهذا الكلام العربي، بل هو أعجمي، ومحمد لا يعرف بالعجمية، لكن غاية ذلك الأعجمي كعبد بني الحضرمي أن يعرف قليلا من كلام العرب الذي يحتاج إليه في العادة، مثل الألفاظ التي يحتاج إليها في غالب الأوقات؛ كلفظ الخبز والماء والسماء والأرض، ولا يعرف أن يقرأ سورة واحدة من القرآن.
فبين سبحانه ظهور كذبهم فيما افتروه، ولم يقل أحد منهم ما يمكن أن يكون شبهة من تعلمه أنباء الغيب، من علماء أهل الكتاب ونحو ذلك، وإنما قالوا ما ظهر بطلانه لكل أحد، ولم ينقل عن أحد منهم أنه قال قولا يخفى بطلانه، بل ما يظهر كذبه لكل أحد.
فتبين أنه لم يمكنهم أن يقولوا: إنه تعلم أخبار الغيوب من أحد. وهذه القصة: قصة نوح - لا سيما قصته في سورة هود كما تقدم - لا يعلمها إلا نبي، أو من تلقاها عن نبي، فإذا عرف أنه لم يتلقاها عن أحد، علم أنه نبي؛ ولهذا قال تعالى في آخرها: ( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين).
والقول في سائر القصص، كالقول فيها.
وكما قال في سورة يوسف: ( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون).
وقال في سورة آل عمران، لما ذكر قصة زكريا ومريم: ( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون).
وقال في قصة موسى: ( وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك) الآية.
والإنسان إنما يعلم مثل هذا بمشاهدة أو خبر، فنبه بقوله: (وما كنت لديهم) على أنه إنما علمت ذلك بإخبارنا وإيحائنا إليك وإعلامنا لك بذلك، إذ كان معلوما عند كل من عرفه: أنه لم يسمع ذلك من بشر، وأنه لم يكن هو ولا قومه يعلمون ذلك.
وقد قال تعالى: ( قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون).
بين بذلك أن تلاوته عليهم هذا الكتاب، وإدراءهم؛ أي إعلامهم به، هو بمشيئة الله وقدرته لا من تلقاء نفسه،
كما قال تعالى: ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به).
فبين أنه لبث فيهم عمرا من قبله، وهو لا يتلو شيئا من ذلك، ولا يعلمه، ولا يعلمهم به، فليس الأمر من جهته، ولكن من جهة الله الذي لو شاء ما تلاه عليهم ولا أدراهم به، وتلاوته عليهم وإدراؤهم به هو من الإعلام بالغيوب الذي لا يعلمها إلا نبي، وبين أن ذلك من الإرسال الذي يحبه الله ويرضاه، لا من الكوني الذي قدره، وهو لا يحبه، ولا يرضاه؛ كإرسال الشياطين، ولهذا كانوا يعرضون عليه أن يصير ملكا عليهم، وأن يعطوه حتى يكون من أغناهم، وأن يزوجوه ما شاء من نسائهم، فيقول: " لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أدع هذا الأمر لم أستطع أن أدعه "، وهذه الثلاث هي مطلوب النفوس من الدنيا (السلطان والمال والنساء)، فيعرض عن قبول الدنيا التي هي غاية أماني طالبها، ويبين أنه لا يقدر على أن يدع ما أمر به من تبليغ الرسالة.
وقال تعالى: (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا).
بين سبحانه أنهم كادوا أن يمنعوه بكل طريق، فإن الإنسان إنما يتم عمله بإرادته وقدرته. فمع الإدارة الجازمة والقدرة التامة يجب وجود المقدور، وإذا تعذر أحدهما امتنع، فطلبوا تغيير إرادته ليركن إليهم فيغير ما أوحي إليه، فعصمه الله وثبته.
ثم طلبوا تعجيزه بأن يستفزوه ويخرجوه، حتى يعجز عن تبليغ رسالة ربه، ولو كان ذلك لعاجلهم الله بالعقوبة، أسوة بمن تقدمه من الرسل، فإن الله كان إذا أراد إهلاك أمة، أخرج نبيها منها ثم أهلكها، لا يهلكها وهو بين أظهرها، كما قال تعالى: ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون).
وهذا بعد قوله: ( وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم).
قال تعالى: ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون).
فلما خرج من بينهم بالهجرة أتاهم الله بعذاب أليم يوم (بدر) وغيره، فقوله: ( وإن كادوا ليفتنونك) إشارة إلى سعيهم في إفساد إرادته.
وقوله: ( وإن كادوا ليستفزونك من الأرض) إشارة إلى سعيهم في تعجيزه.
وقال تعالى: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون).
بين سبحانه من حاله ما يعلمه العامة والخاصة، وهو معلوم لجميع قومه الذين شاهدوه، متواتر عند من غاب عنه، وبلغته أخباره من جميع الناس: أنه كان أميا لا يقرأ كتابا، ولا يحفظ كتابا من الكتب، لا المنزلة ولا غيرها، ولا يقرأ شيئا مكتوبا، لا كتابا منزلا ولا غيره، ولا يكتب بيمينه كتابا، ولا ينسخ شيئا من كتب الناس المنزلة ولا غيرها.
ومعلوم أن من يعلم من غيره إما أن يأخذ تلقينا وحفظا، وإما أن يأخذ من كتابه، وهو لم يكن يقرأ شيئا من الكتب من حفظه، ولا يقرأ مكتوبا، والذي يأخذ من كتاب غيره إما أن يقرأه وإما أن ينسخه، وهو لم يكن يقرأ ولا ينسخ.
وقال تعالى: (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وإنه لفي زبر الأولين أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل) - إلى قوله - ( وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).
فقال تعالى: ( وإنه لفي زبر الأولين).
وقال: ( أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل).
وعلماء بني إسرائيل يعلمون ذكر إرسال محمد ونزول الوحي عليه، كما قال تعالى: ( الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل).
وقال: ( والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين).
وقال: ( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون).
وقال: ( وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين).
ويعلمون المعاني التي فيه أنها موافقة لأقوال الرسل قبله في الخبر والأمر.
فإنه أخبر عن توحيد الله وصفاته، وعرشه وملائكته، وخلقه السماوات والأرض، وغير ذلك بمثل ما أخبرت به الرسل قبله. وأمر بتوحيد الله وعبادته وحده لا شريك له وبالعدل والصدق والصلاة والزكاة، ونهى عن الشرك والظلم والفواحش كما أمرت ونهت الرسل قبله.
والسور المكية نزلت بالأصول الكلية المشتركة، التي اتفقت عليها الرسل، التي لا بد منها، وهي الإسلام العام الذي لا يقبل الله من أحد من الأولين والآخرين دينا غيره.
وأما السور المدنية ففيها هذا وفيها ما يختص به محمد ﷺ من الشرعة والمنهاج. فإن دين الأنبياء واحد كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: إنا - معشر الأنبياء - ديننا واحد.
قال الله تعالى: ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه).
وقال تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون).
وقال تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون).
وأما الشرعة والمنهاج، فقد قال عن أهل التوراة والإنجيل والقرآن: ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا).
وقال: ( ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) - إلى قوله - ( لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه).
وأما القبلة: فلم يجعل ما ابتدعه أهل الكتاب من القبلة، فلذلك قال: ( ولكل وجهة هو موليها).
لم يقل: إنا جعلنا لكل وجهة، كما قال في المنسك والشرعة والمنهاج. وقال تعالى: ( وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى).
فإنه إذا أتاهم ببيان ما في الصحف الأولى - مع علمهم بأنه لم يعاشر أحدا من أهل الصحف الأولى، ولا استفاد منهم علما - كان هذا من أعظم الآيات من الله.
وكما أن إخباره عن أمور الغيب يدل على نبوته، فإنه يدل على أن النبوة إنباء من الله، ليس ذلك كما يقوله بعض المتفلسفة كابن سينا وأمثاله: (إنه فيض فاض عليه من النفس الفلكية أو العقل الفعال)، ويقولون: (إن النفس أو العقل هو اللوح المحفوظ، وأن من اتصلت نفسه به علم ما علمته الأنبياء)، ويقولون: (النبوة مكتسبة؛ لأن هذه صفتها)، ويقولون: (إن سبب علمه بالغيب هو اتصال نفسه بالنفس الفلكية)، وزعموا أنها اللوح المحفوظ، وأن تحريكها للفلك هو سبب حدوث الحوادث في الأرض، فتكون عالمة بما يحدث في الأرض؛ لأن العلم بالسبب يوجب العلم بالمسبب. فإن هذا مبني على مقدمات باطلة، قد بسط الكلام على بطلانها في مواضع أخرى:
منها: إثبات العقل الفعال.
ومنها: دعواهم أنه لا سبب للحوادث إلا حركة الفلك.
ومنها: أن المحرك له هو النفس.
ومنها: اتصال نفوسنا بتلك النفس.
والمقصود هنا أن هذا لو كان حقا فإنما يفيد علما بالمستقبل الذي تكون الحركة الحاضرة سببا له، أما ما قد مضى بمئين أو ألوف من السنين فليس شيء من حركات الفلك - حين مبعث الرسول - كان سببا له، وإنما تكون الحركة الموجودة في زمانه سببا للمستقبل لا للماضي، وحينئذ فلا يكون تحريك النفس للفلك سببا للعلم بهذه الأمور، ولا يكون ذلك هو اللوح المحفوظ، بل القرآن المجيد في لوح محفوظ، وهو في أم الكتاب، وهو: ( في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون).
وأخبر سبحانه أنه: ( نزل به الروح الأمين).
وقال في آية أخرى: ( قل نزله روح القدس من ربك بالحق).
وقال: في موضع آخر: ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله).
وقال: ( إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم).
وقال تعالى: (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس).
فذكر أنه قول رسول اصطفاه من الملائكة، نزله به على رسول اصطفاه من البشر، فقال: ( إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين وإنه لتذكرة للمتقين وإنا لنعلم أن منكم مكذبين وإنه لحسرة على الكافرين وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم).
فنزه كلا من الرسولين عما قد يشتبه به؛ نزه الملك أن يكون شيطانا، ونزه البشر أن يكون شاعرا أو كاهنا، وبين برهان ذلك وآيته، فقال: ( وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون). فبين أنه ما يصلح لهم النزول به، بل هم منهيون عن ذلك، وهم ممتنعون عن ذلك لا يريدونه لمنافاته لمقصودهم، وأنهم لو أرادوا لعجزوا عن ذلك فلم يستطيعوه؛ إذ كانوا معزولين عن أن يسمعوه من الملأ الأعلى، وهم إنما يقدرون على أن ينزلوا بما سمعوه لا بما لم يسمعوه، وذلك أن الفاعل للفعل إنما يفعله إذا كان مريدا له قادرا عليه.
فبين قوله: ( وما ينبغي لهم) أنهم لا يريدون تنزيله، وبقوله: ( وما يستطيعون) أنهم عاجزون عن تنزيله.
أما كونهم لا يريدون؛ فلأنه لا ينبغي لهم، (وينبغي) مضارع بغى يبغي: أي طلب وأراد. فالذي لا ينبغي للفاعل هو الذي لا يطلبه ولا يريده، إما لكونه ممتنعا من ذلك، أو لكونه ممنوعا منه. والشيطان إنما يريد الكذب والفجور، لا يريد الصدق والصلاح.
وما جاء به الرسول مناقض لمراد الشياطين غاية المناقضة، فلم يحدث في الأرض أمر أعظم مناقضة لمراد الشياطين من إرسال محمد، فنزول القرآن عليه، فيمتنع أن تفعل الشياطين ما لا يريدون إلا نقيضه، وهم - أيضا - ممنوعون من ذلك بحيث لا يصلح لهم ذلك ولا يتأتى منهم كما أن الساحر لا ينبغي له أن يكون نبيا. والمعروف بالكذب والفجور لا ينبغي له - مع ذلك - أن يكون نبيا، ولا أن يكون حاكما، ولا شاهدا، ولا مفتيا؛ إذ الكذب والفجور يناقض مقصود الحكم والشهادة والفتيا، فكذلك ما في طبع الشياطين من إرادة الكذب والفجور يناقض أن تتنزل بهذا الكلام الذي هو في غاية الصدق والعدل، لم يشتمل على كذبة واحدة ولا ظلم لأحد.
ثم قال: ( وما يستطيعون).
فإنهم عن سمع هذا الكلام لمعزولون، بما حرست به السماء من الشهب كما قال عن الجن: ( وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا).
وقد ذكرنا تواتر هذا الخبر وأن السماء حرست حرسا لم يعهده الناس قبل ذلك، ورأى الناس ذلك بأبصارهم فكانوا قد عاينوا ما أخبرهم به من الرمي بالشهب التي يرمى بها لطرد الشياطين، فعزلوا بذلك عن سمع الملأ الأعلى، وكان ما عاينه الكفار - من الرمي الشديد العام - الذي انتقضت به العادة المعروفة من رمي الشهب، دليلا على سبب خارق للعادة، ولم يحدث - إذ ذاك - في الأرض أمر لم تجر به العادة إلا ادعاءه للرسالة، فلم يعرف قبله من نزل عليه الكلام كنزوله عليه؛ إذ كان موسى "عليه السلام" إنما أنزلت عليه التوراة مكتوبة، لم تنزل عليه منجمة مفرقة ملقاة إليه حفظا، حتى تحتاج السماء إلى حراستها عن استراق سمعها. والزبور تابع لشرع التوراة، وكذلك الإنجيل فرع على التوراة. لم ينزل كتاب مستقل إلا التوراة والقرآن، كما قال تعالى: ( قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين).
ولهذا يقرن سبحانه بين التوراة والقرآن كثيرا كما في قوله: ( وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس) - إلى قوله - ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه).
وقال: ( أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده).
قال سعيد بن جبير وغيره: " والأحزاب هي الملل كلها "، قال: وهذا تصديق قول النبي ﷺ: والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار، وقرأ هذه الآية: ( ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده).
وقالت الجن: ( إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى).
وقال النجاشي - لما سمع القرآن -: (إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة).
وأيضا، فكان معروفا عندهم إخبار الكهان عن الشياطين التي تسترق السمع، فلما رأوا أن السماء قد حرست حرسا شديدا خلاف العادة، علموا أن الشياطين منعوا استراق السمع، وعلمت الجن ذلك كما تقدم، وقد قالت الجن: ( وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا).
وقد تواترت الأخبار بأنه حين المبعث كثر الرمي بالشهب، وهذا أمر خارق للعادة، حتى خاف بعض الناس أن يكون ذلك لخراب العالم، حتى نظروا هل الرمي بالكواكب التي في الفلك أم الرمي بالشهب؟ فلما رأوا أنه بالشهب، علموا أنه لأمر حدث. وأرسلت الجن تطلب سبب ذلك، حتى سمعت القرآن، فعلموا أنه كان لأجل ذلك.
وهذا من أعلام النبوة ودلائلها.
وقبل زمان البعث وبعده، كان الرمي خفيفا، لم تمتلئ به السماء كما ملئت حين نزول القرآن، وقال تعالى: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون).
والأفاك الكذاب، والأثيم الفاجر، كما قال: ( لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة).
قال في الحديث المتفق على صحته: عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يدعو إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا.
فالشياطين تنزل على من يحصل مقصودها بنزولها عليه، وهو المناسب لها في الكذب والفجور. فأما الصادق البار، فلا يحصل به مقصود الشياطين، فإن الشيطان لا يطلب الصدق والبر، وإنما يطلب الكذب والفجور.
ومحمد ﷺ ما زال قومه يعرفونه بينهم بالصادق الأمين، لم تجرب عليه كذبة واحدة. ولما جاءه الروح بالوحي لم يخبر بخبر واحد كذب، لا عمدا ولا خطأ.
ومن تنزلت عليه الشياطين لا بد أن يخبر بالكذب، فإن الشياطين يلقون إليهم السمع، ولا يلقون إليهم ما سمعوه على وجهه، بل يكذبون فيه كثيرا؛ إذ كان أكثر الشياطين الذين ينزلون عليهم كاذبين فيما ينزلون به عليهم. والشياطين وإن كان كلهم كاذبا - فليس كل من ألقى السمع يكذب فيما يلقيه، بل قد يصدق أحدهم فيما يلقيه من السمع ويسترقه، ولكن أكثرهم يكذبون، والذي يصدق منهم مرة يكذب مرات، والذي ينزل عليه الشياطين أفاك أثيم.
فالفرق بين الصادق البار الذي يأتيه الملك، والكاذب الأثيم الذي يأتيه الشيطان الرجيم، فرق بين، يعرف بأدنى معرفة بحال الاثنين، ولما كان الكاهن الذي يأتيه شيطان قد يخبر ببعض الأمور الغائبة بين سبحانه أن هذا يكون - وإن صدق في بعض الأخبار - كاذبا فاجرا، والذي يأتيه بالكذب، فلا يشتبه بمن لا يكذب ولا يفجر، وهذا مما يبين أن النبي لا يكون إلا بارا معصوما أن يصر على ذنب.
فصل: الدلائل القاطعة عند أهل مكة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ونبوته
وقد ذكرنا أن قومه المعادين له غاية العداوة ما زالوا معترفين بصدقه ﷺ، وأنهم لم يجربوا عليه كذبا، بل ومعترفين بأن ما يقوله ليس بشعر ولا كهانة، وأنه ليس بساحر، وكانوا في أول أمره يرسلون إلى البلاد التي فيها علماء أهل الكتاب يسألونهم عنه؛ لأن مكة لم يكن بها ذلك.
ففي الصحيحين عن ابن عباس أن أبا سفيان بن حرب حدثه، قال: " انطلقت إلى الشام في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله ﷺ قال: فبينما أنا بالشام إذ جيء بكتاب رسول الله ﷺ إلى هرقل، قال: وكان دحية الكلبي جاء به، فدفعه إلى عظيم بصرى، فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل، فقال هرقل:: هل هاهنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قالوا: نعم، قال: فدعيت في نفر من قريش فدخلنا على هرقل، فأجلسنا بين يديه، فقال: أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، قال أبو سفيان: فقلت أنا. فأجلسوني بين يديه، وأجلسوا أصحابي خلفي. فدعا بترجمانه، فقال: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كذبني فكذبوه. قال: فقال: وايم الله! لولا مخافة أن يؤثر علي كذب لكذبت عليه. ثم قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم؟ قال: قلت: هو فينا ذو حسب. قال: فهل كان في آبائه من ملك، قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا "، وذكر باقي الحديث.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود، حديث سعد بن معاذ، لما قال لأمية: إنهم قاتلوك (يعني النبي ﷺ وأصحابه)، وفزع منه لذلك، وقال لامرأته ذلك، فقالت: والله ما يكذب محمد، وقال هو - في رواية أخرى -: والله ما يكذب محمد، وعزم أن لا يخرج خوفا من هذا، وقال: والله لا أخرج من مكة. وأراد التخلف عن بدر، حتى قال له أبو جهل: إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد هذا الوادي تخلفوا معك. فقال: أما إذ غلبتني فلأشترين أجود بعير بمكة، وذكرته امرأته بقول سعد، فقال: ما أريد أن أكون معهم إلا قريبا.
وكذلك ما ذكره أهل المغازي وغيرهم أن أبي بن خلف لما بلغه أن النبي ﷺ قال: أنا أقتله، ثم طعنه رسول الله ﷺ فخدشه، وجعل أصحابه يجزعونه ويقولون: إنما هو خدش وليس بشيء، فقال: والله لو كان بمضر لقتلهم، أليس قال: " لأقتلنك ". وعن مجاهد: قال مولاي السائب بن أبي السائب: كنت فيمن بنى البيت، وأن قريشا اختلفوا في الحجر حين أرادوا أن يضعوه، حتى كادوا يقع بينهم قتال بالسيوف، فقال: اجعلوا بينكم أول رجل يدخل من الباب، فدخل رسول الله ﷺ وكانوا يسمونه في الجاهلية الأمين.
فقالوا: يا محمد، قد رضينا بك.
وعن عقيل بن أبي طالب قال: " جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا له: إن ابن أخيك يأتينا في كعبتنا ونادينا ويسمعنا ما يؤذينا، فإن رأيت أن تكفه عنا فافعل. قال: فقال لي: يا عقيل التمس ابن عمك. قال: فأخرجته من كبس من أكباس شعب أبي طالب، فأقبل يمشي حتى انتهى إلى أبي طالب، فقال له: يا ابن أخي، والله ما علمت إن كنت لي مطيعا، وقد جاءني قومك يزعمون أنك تأتيهم في كعبتهم وناديهم فتسمعهم ما يؤذيهم، فإن رأيت أن تكف عنهم؟ قال: فحلق ببصره إلى السماء، فقال: والله ما أنا بأقدر على أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من النار فقال أبو طالب: إنه - والله - ما كذب قط فارجعوا راشدين. رواه البخاري في تاريخه، وأبو زرعة في الدلائل، ورواه ابن إسحاق قريبا من هذا اللفظ، وقال: " فأخرجته من حفش - وهو بيت صغير - وقال فيه: فظن رسول الله ﷺ أن قد بدا لعمه، وأنه خاذله ومسلمه، وضعف عن القيام معه، فقال: يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن الصامت قال: " قال أبو ذر: خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلون الشهر الحرام، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا، فنزلنا على خال لنا فأكرمنا، وأحسن إلينا فحسدنا قومه، فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس. فجاء خالنا فثنا علينا الذي قيل له، فقلت له: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته، ولا جماع لك فيما بعد. فقربنا صرمتنا، فاحتملنا عليها، وتغطى خالنا بثوبه يبكي، وانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة.
فنافر أنيس رجلا عن صرمتنا وعن مثلها فأتينا الكاهن فخير أنيسا فأتى بصرمتنا ومثلها معها. قال: وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله ﷺ بثلاث سنين، قلت: لمن؟ قال: لله، قلت: فأين توجه؟ قال: أتوجه حيث يوجهني ربي، أصلي عشاء، حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء، حتى تعلوني الشمس، فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة فاكفني. فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث علي، ثم جاء فقلت: ما صنعت؟ قال: لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله، قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر. وكان أنيس أحد الشعراء، قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعراء فما يلتئم على لسان أحد يقري بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون. قال: قلت: فاكفني حتى أذهب فأنظر، قال: فأتيت مكة فضعفت رجلا منهم، فقلت: أين هذا الذي تدعونه الصابئ؟ فأشار إلي فقال: الصابئ، فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علي... "، وذكر الحديث وصفة إسلامه رضي الله عنه بلفظ مسلم.
وفي حديث البخاري عن ابن عباس: " أن أبا ذر أرسل أخاه، وقال: اعلم لي علم هذا الرجل، الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله، ثم ائتني، فانطلق الآخر حتى قدم مكة، وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاما ما هو بالشعر.
فقال: ما شفيتني فيما أردت، فتزود وحمل شنة له فيها ماء حتى قدم مكة فأتى المسجد... " وذكر تمام الحديث.
وعن جابر بن عبد الله " قال الملأ وأبو جهل: لقد غلبنا أمر محمد، فلو التمستم رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر، فأتاه فكلمه، وأتانا ببيان من أمره.
قال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر، وعلمت من ذلك علما، فما يخفى علي إن كان كذلك. فأتاه، فلما خرج إليه قال: أنت - يا محمد - خير أم هاشم؟ وأنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فيم تشتم آلهتنا، وتضلل آباءنا؟ فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا لك الرياسة، فكنت رأسنا ما بقيت، وإن كان بك الباه زوجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش شئت، وإن كان بك المال، جمعنا لك ما تستغني به أنت وعقبك من بعد، ورسول الله ﷺ ساكت لا يتكلم، فلما فرغ قرأ رسول الله ﷺ: ( بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون) - إلى قوله - ( فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود). فأمسك عتبة على فيه، وناشد بالرحم أن يكف، ورجع إلى أهله، فلم يخرج إلى قريش، فاحتبس عنهم عتبة، فقال أبو جهل: يا معشر قريش، والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد، وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، فانطلقوا بنا إليه، فأتاه أبو جهل فقال: يا عتبة، ما حبسك عنا إلا أنك صبوت إلى محمد، وأعجبك أمره، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب وأقسم أن لا يكلم محمدا ا أبدا، وقال: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا، ولكني أتيته وقصصت عليه القصة، فأجابني بشيء، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر: ( حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون) - إلى قوله - ( فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود). فأمسكت بفيه، وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب ". رواه أبو بكر أحمد بن مردويه، في كتاب التفسير عن محمد بن فضيل عن الأجلح عن الذيال بن حرملة عنه، ورواه يحيى بن معين عن محمد بن فضيل، ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده، ورواه عبد بن حميد عن شيخ أبي يعلى ابن أبي شيبة.
وفي بعض الطرق: " إن كنت تزعم أن هؤلاء خيرا منك فقد عبدوا الآلهة، وإن كنت تزعم أنك خيرا منهم فتكلم حتى نسمع "، ورواه ابن إسحاق قال: حدثني يزيد بن زياد مولى لبني هاشم عن محمد بن كعب، قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا حليما.. وذكر الحديث إلى أن قال: " لما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد، قال: ورائي أني - والله - قد سمعت قولا ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة، يا معشر قريش أطيعوني، واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، واعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصيبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، فقالوا: سحرك - والله - يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم،. ثم ذكر شعر أبي طالب يمدح عتبة فيما قال.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: قدم ضماد مكة وهو رجل من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمدا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل، لعل الله أن يشفيه على يدي، قال: فلقيت محمدا، فقلت: إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهلم، فقال محمد: " إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد " قال: فقال: أعد علي كلماتك هؤلاء. فأعادهن عليه رسول الله ﷺ ثلاث مرات فقال: والله لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت بمثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر. فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه رسول الله ﷺ فقال: " وعلى قومك "، فقال: وعلى قومي. الحديث.
وعن ابن عباس: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي، فقرأ عليه من القرآن: ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). قال: أعد، فأعاد النبي ﷺ فقال: " والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا البشر ".
وفي لفظ: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي ﷺ فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا. قال: ولم؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعوض مما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له وأنك كاره له، قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. قال: لا ترضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر فيه. فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره. فنزلت: ( ذرني ومن خلقت وحيدا). رواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة عنه.
وفي رواية أخرى: " أن الوليد بن المغيرة اجتمع، ونفر من قريش، وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا، فيكذب بعضكم بعضا، ويرد بعضكم قول بعض، فقالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل، وأقم لنا رأيا نقوم به. فقال: بل أنتم فقولوا وأنا أسمع، فقالوا: نقول كاهن، فقال: ما هو بكاهن، لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكهان. فقالوا: نقول مجنون، فقال: ما هو بمجنون، لقد رأينا المجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر، فقال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريظه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر. قالوا: فنقول ساحر، قال: فما هو بساحر، قد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده. فقالوا: ما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله حلاوة، وإن أصله لغدق، وإن فرعه لجنى، فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول أن تقولوا: ساحر يفرق بين المرء وبين أبيه، وبين المرء وبين أخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه، فجعلوا يجلسون للناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا له أمره؛ فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة، وذلك من قوله: ( ذرني ومن خلقت وحيدا) - إلى قوله - ( سأصليه سقر).
وأنزل في النفر الذين كانوا معه: ( الذين جعلوا القرآن عضين) أي أصنافا.
وروى ابن إسحاق، عن شيخ من أهل مصر، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: قام النضر بن الحارث فقال: " يا معشر قريش، والله لقد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله، لقد كان محمد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر، لا - والله - ما هو بسحر، قد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن، لا - والله - ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر، لا - والله - ما هو بشاعر، لقد روينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها؛ هزجه ورجزه وقريظه، وقلتم: مجنون، ولا - والله - ما هو بمجنون، لقد رأينا المجنون فما هو بخنقه، ولا تخليطه، يا معشر قريش انظروا في شأنكم فإنه - والله - لقد نزل بكم أمر عظيم ". وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وممن يؤذي رسول الله ﷺ، وينصب له العداوة.
قال: وحدثني الزهري قال: " حدثت أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله ﷺ وهو يصلي بالليل في بيته، وأخذ كل رجل منهم مجلسا ليستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا أصبحوا وطلع الفجر تفرقوا، فجمعتهم الطريق فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثانية، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة، ثم انصرفوا، فلما كانت الليلة الثالثة، فعلوا كذلك، ثم جمعتهم الطريق فتعاهدوا أن لا يعودوا، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد، فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، فقال الأخنس: وأنا، والذي حلفت به، ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد، فقال: ماذا سمعت، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف؛ أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، ثم إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به ولا نصدقه أبدا ".
وكذلك روي عن المغيرة بن شعبة، أن أبا جهل قال له مثل ذلك، وقال: إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن بني قصي قالوا: فينا الندوة. فقلنا: نعم، فينا الحجابة، فقلنا: نعم، فينا السقاية، فقلنا: نعم. وذكر نحوه.
وقد كانوا يرسلون إلى أهل الكتاب ليسألوهم عن أمره ﷺ.
قال محمد بن إسحاق حدثني شيخ من أهل مصر قدم منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: " بعثت قريش النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهم: اسألوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة، فسألوا أحبار يهود عن رسول الله ﷺ ووصفوا لهم أمره وبعض قوله وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال: فقالت لهم أحبار يهود: " سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان من أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح، ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فإنه نبي فاتبعوه، وإن هو لم يخبركم فهو رجل متقول، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر وعقبة، حتى قدما مكة على قريش، فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، فأخبروهم بها فجاءوا رسول الله ﷺ فقالوا: يا محمد، خبرنا فسألوه عما أمروهم به. فقال: لهم رسول الله ﷺ أخبركم، وجاءه جبريل من الله بسورة الكهف، فيها خبر ما سألوه عنه، من أمر الفتية، والرجل الطواف، وقول الله: ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).
قال ابن إسحاق: بلغني أن رسول الله ﷺ افتتح السورة فقال: ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) يعني محمدا، إنك رسولي في تحقيق ما سألوه عنه من نبوته، ( ولم يجعل له عوجا قيما) أي أنزله قيما؛ أي معتدلا لا اختلاف فيه، وذكر تفسير السورة إلى قوله: ( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا). أي وما قدروا من قدري، وفيما صنعت من أمر الخلائق، وما وضعت على العباد من حجتي، ما هو أعظم من ذلك.
قال مجاهد: " ليس بأعجب من آياتنا من هو أعجب من ذلك ".
وفي تفسير العوفي عن ابن عباس: " الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب، أفضل من شأن أصحاب الكهف ". قلت: والأمر على ما ذكره السلف، فإن قصة أصحاب الكهف هي من آيات الله، فإن مكثهم نياما لا يموتون ثلاثمائة سنة، آية دالة على قدرة الله ومشيئته، وأنه يخلق ما يشاء، ليس كما يقوله أهل الإلحاد. وهي آية على معاد الأبدان كما قال تعالى: وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها. وكان الناس قد تنازعوا في زمانهم: هل تعاد الأرواح دون الأبدان. وإخبار النبي ﷺ بقصتهم من غير أن يعلمه بشر آية على نبوته، فكانت قصتهم آية على أصول الإيمان الثلاثة؛ الإيمان بالله، واليوم الآخر، والإيمان برسوله. ومع هذا فليسوا من آيات الله بعجب، بل من آيات الله ما هو أعجب من ذلك.
وقد ذكر الله تعالى سؤالهم عن الآيات التي كانوا يسألونه عنها ليعلموا: هل هو نبي صادق أم كاذب؟ فقال تعالى: ( ويسألونك عن ذي القرنين). وقال: ( لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين) - إلى قوله - ( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون) - إلى قوله - ( وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) - إلى قوله - ( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون).
وقال تعالى لما ذكر قصة أهل الكهف التي سألوه عنها: ( ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا)، أي يسألونك عن ذاك، ويسألونك عن هذا.
والقرآن مملوء من إخباره عن الغيب الماضي، الذي لا يعلمه أحد من البشر، إلا من جهة الأنبياء الذين أخبرهم الله بذلك، ليس هو الشيء الذي تزعمه ملاحدة المتفلسفة، فإن هذه الأمور الغيبية المعينة المفصلة لا يؤخذ خبرها قط إلا عن نبي، كموسى، ومحمد، وليس أحد ممن يدعي المكاشفات؛ لا من أولياء الله، ولا من غير أولياء الله يخبر بشيء من ذلك؛ ولهذا كان هذا من أعلام الأنبياء وخصائصهم التي لا يشركهم فيها غيرهم.
وأهل الملل متفقون على ما دل عليه العقل الصريح من أن هذا لا يعلم إلا بخبر نبي. فإذا كان محمد قد أخبر من ذلك بما أخبر به موسى وغيره من الأنبياء، وأخبر بما يعلمونه مما لا يعلمه أحد إلا بالتعلم منهم، وقد عرف أن محمدا لم يتعلم هذا من بشر، كان هذا آية وبرهانا قاطعا على نبوته،. ثم العلم بأن محمدا لم يتعلم هذا من بشر يحصل في حياته، أما قومه المباشرون له، الخبيرون بحاله، فكانوا يعلمون أنه لم يتعلم هذا من بشر، فقامت عليهم الحجة بذلك، وأما من لم يعرف حاله إلا بالسماع فيعلم ذلك بطرق:
منها: تواتر أخباره، وكيف كان؟ من حين ولد إلى أن مات كما هي مستفيضة مشهورة متواترة، يعلمها من كان له خبرة بذلك، أعظم مما يعلم به حال موسى وعيسى، فإن محمدا ظهر أمره، وانتشرت أخباره، وتواترت أحواله، أعظم من جميع بني آدم. فما بقي ما دون هذا من أحواله يخفى على الناس فكيف مثل هذا؟
ومنها: أنه أخبر في القرآن بما لا يوجد عند أهل الكتاب، مثل: قصة هود وصالح وشعيب، وبعض التفاصيل في قصة إبراهيم وموسى وعيسى؛ مثل تكليم المسيح في المهد، ومثل نزول المائدة، فإن هذا لا يعرفه أهل الكتاب، ومثل إيمان امرأة فرعون، وغير ذلك. فيمتنع أن يقال: إن هذا تعلمه من أهل الكتاب، وقومه لم يكونوا يعلمون ذلك، بل قد أراهم وغيرهم آثار المنذرين الذين عاقبهم الله لما كذبوا الرسل، كقوم عاد وثمود، وغيرهم.
فيستدل الناس بالآثار الموجودة على صدق الرسل، وعقوبة الله لمن يكذبهم. ويستدل قومه وغيرهم على صدقه فيما أخبر به من هذه الأمور التي لم يتعلمها من أهل الكتاب بتصديق أهل الكتاب له فيما وافقهم فيه، مع علمهم أنه لم يتعلم ذلك منهم، ويكون هذا مما يدل على أنه لم يتعلم من أهل الكتاب شيئا كما قد يظنه بعضهم، وذلك من الوجهين كما تقدم.
ومنها: أن أكثر قومه كانوا من أعظم الناس عداوة له، وحرصا على تكذيبه والطعن فيه، وبحثا عما به يقدحون فيه. فلو كان قد تعلم هذه الأخبار من بشر لكانوا يعلمون ذلك، ويقدحون به فيه ويظهرونه، ولكان هذا مما يظهر أعظم مما ظهر غيره. فلما لم يقع ذلك دل على أنهم لم يكونوا يعلمون ذلك، ولم يتمكنوا من القدح به فيه مع علمهم بحاله، ورغبتهم في القدح به. ومع كمال الداعي والقدرة، يجب وجود المقدور، فلما كان داعيهم تاما، ولم يقدحوا، علم أن ذلك لعجزهم. وعجزهم عن القدح مع علمهم بحاله دليل على أنهم علموا أنه لم يتعلمه من بشر.
ومنها: أن يقال: مثل هذا لو وقع لكان من أعظم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، بل كان المتبعون له المؤمنون به إذا اطلعوا على ذلك فلا بد أن يشيعوه ويعلنوه، فكيف المخالفون له، المكذبون له؟ فإن القوم المتفرقين الذين لم يتواطئوا، كما لا يجتمعون على تعمد الكذب، فلا يجتمعون على كتمان مثل ذلك، بل يجتهد الملوك والرؤساء في إخفاء ما يبطنونه من أمر ملكهم الذي بنوه عليه، ويحلفون أولياءهم على كتمان ذلك، ويبذلون لهم الرغبة والرهبة في ذلك، ثم يظهر ذلك كما فعل القرامطة الباطنية، من أهل البحرين بني عبيد الله بن ميمون القداح، وكما عرف الناس أن النصيرية لهم خطاب يسرونه إلى أوليائهم، وإن لم يعلم أكثر الناس ما ذلك الخطاب الذي يسرونه. لا سيما والذين آمنوا بحمده واتبعوه - أولا - من المهاجرين كانوا مؤمنين به باطنا وظاهرا، هجروا لأجله الأوطان والأهل والمال، وصبروا على أنواع المكاره والأذى: طائفة كبيرة ذهبت إلى الحبشة،
مهاجرة بدينها لما عذبها المخالفون له حتى يرجعوا عن دينه، وطائفة كانوا بمكة يعذبون؛ هذا يقتل، وهذا يخرج به إلى بطحاء مكة في الحر وتوضع الصخرة على بطنه حتى يكفر، وهذا يمنع رزقه ويترك جائعا عريانا.
ثم إنهم هجروا أحب البلاد إليهم، وأفضلها عندهم: مكة - أم القرى - إلى مدينة كانوا فيها محتاجين إلى أهلها، وتركوا أموالهم بمكة؛
قال تعالى: ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون).
وقال تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله).
وقال تعالى: (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب).
وقوله: ( يخرجون الرسول وإياكم).
وجميع المهاجرين والأنصار آمنوا به طوعا واختيارا، قبل أن يؤمر أحد بقتال. فإنه مكث بمكة بضع عشرة سنة لا يقاتل أحدا، ولم يؤمر بقتال، بل كان لا يكره أحدا على الدين كما قال تعالى: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي
وكانوا خلقا كثيرا، ومعلوم أن الخلق الكثير الذين اتبعوا شخصا قد جاء بدين لا يوافقه عليه أحد، وطلب منهم أن يؤمنوا به ويتبعوه، ويفارقوا دين آبائهم، ويصبروا على عداوة الناس وأذاهم، ويهجروا لأجله ما ترغب النفوس فيه من الأهل والمال والوطن، وهو - مع ذلك - لم يعط أحدا منهم مالا، ولا كان له مال يعطيهم إياه، ولا ولى أحدا ولاية، ولم يكن عنده ولاية يوليهم إياها، ولا أكره أحدا، ولا بقرصة في جلده، فضلا عن سوط أو عصا أو سيف، وهو - مع ذلك - يقول عما يخبرهم به من الغيب: " الله أخبرني به، لم يخبرني بذلك بشر ".
فلو كانوا - مع ذلك - يعلمون أن تعلمه من بشر لكان هذا مما يقوله بعضهم لبعض. ويمتنع في جبلة بني آدم وفطرهم أن يعلموا أنه كاذب وأنه قد تعلم هذا من بشر، وليس فيهم من يخبر بذلك، مع أنهم كانوا كثيرين لا يمكن تواطؤهم على الكذب والكتمان، بل ولا داعي لهم يدعوهم إلى ذلك. ويمتنع أن لا يعلموا ذلك، وهم بطانته المطلعون على أحواله، وهم يسمعون كلام أعدائه المطلعين على حاله.
والقرآن كان ينزل شيئا فشيئا، لم ينزل جملة، بل كانوا يسألونه عن الشيء بعد الشيء من الغيب بين الذين آمنوا به وباطنوه واطلعوا على أسراره، وهو لا يعلم شيئا من ذلك، ثم يخبرهم به، وهم مطلعون على أمره خبرا بعد خبر، وسؤالا بعد سؤال، وهذا كان بمكة، وليس بها أحد من علماء أهل الكتاب، لا اليهود ولا النصارى، ثم هاجر إلى المدينة، وبها خلق كثير من اليهود؛ قينقاع والنضير وقريظة، ولعلهم كانوا بقدر نصف أهلها، أو أقل أو أكثر، وهم - أيضا - يسألونه عن الغيوب التي لا يعلمها إلا نبي فيخبرهم بها، ويتلو عليهم ما سأله عنه المشركون من الغيب، وما أخبرهم به، ويتلو عليهم هذا الغيب الذي أوحاه الله إليه، ويبين أن الله أعلمه ذلك، لم يعلمه إياه بشر، فآمن به طائفة من أهل الكتاب وكفرت به طائفة أخرى، والطائفتان ليس فيهم من يقول: إن هذا تعلمه منا أو من إخواننا أو نظرائنا، ولا إنك قرأته في كتبنا. مع أنه لو كان قد تعلم ذلك منهم لكان شيوخه منهم، وشيوخهم إذا علموا أنه كاذب تعلمه منهم، يمتنع أن يصدقوه باطنا وظاهرا، بل تصديقهم الكتاب الأول، وعلمهم بكذب من ادعى نزول كتاب ثان وقد تعلم منهم يدعوهم إلى أن يبينوا أمره، ويظهروا كذبه، ويقولوا للناس تعلم منا، نحن أخبرناه بذلك، لا سيما مع ما فعله باليهود من القتل والحصار والجلاء والسبي، وغير ذلك.
وهذا لو وقع، لكان من أعظم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، ينقله الموافق والمخالف، فلما لم يقل ذلك أحد ولم ينقله أحد مع ما أظهره من الأخبار المتواترة التي علمها الخاص والعام بأن هذا مما أنبأني الله، لم يخبرني به بشر، كان هذا دليلا قاطعا بينا في أن هذه الأخبار الغيبية التي لا يعلمها إلا نبي أعلمه الله بها، أو من تعلمها من نبي: هي مما أنبأه الله به، ولم يعلمه ذلك بشر، وهذا من الغيب الذي قال الله فيه - في السورة التي فيها استماع الجن للقرآن، وإنذار قومهم به حيث قال: ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا) - إلى قوله - ( وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا).
فقوله تعالى: ( فلا يظهر على غيبه) يبين أنه غيب يضاف إليه يختص به، لا يعلمه أحد إلا من جهته، بخلاف ما يغيب عن بعض الناس ويعلمه بعضهم، فإن هذا قد يتعلمه بعضهم من بعض.
فمما سأله عنه أهل الكتاب في المدينة مسائل، وهي غير المسائل التي كان يسأل عنها وهو بمكة، كما كان مشركو قريش يرسلون إلى اليهود بالمدينة، يسألونهم عن محمد، فيرسل اليهود بمسائل يمتحنون بها نبوته، وذلك مثل ما في صحيح البخاري عن أنس قال: " جاء عبد الله بن سلام إلى رسول الله ﷺ مقدمه المدينة فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام يأكله أهل الجنة، والولد ينزع إلى أمه تارة، وإلى أبيه ". قال: " أخبرني جبريل آنفا ". قال عبد الله: ذاك عدو اليهود من الملائكة. " أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وأما الولد، فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إلى أمه "، فقال: " أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله "، قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك، فجاءت اليهود، فقال لهم النبي ﷺ: أي رجل عبد الله فيكم، قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وعالمنا وابن عالمنا، قال: أرأيتم إن أسلم عبد الله، قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال: " أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله "، فقالوا: " شرنا وابن شرنا "، وتنقصوه. قال: فهذا ما كنت أخاف وأحذر.
وروى مسلم في صحيحه عن ثوبان قال: " كنت قائما عند رسول الله ﷺ فجاء حبر من أحبار اليهود، وقال: " السلام عليك يا محمد "، فدفعته دفعة كاد يصرع منها، فقال: لم تدفعني؟ قال: قلت: ألا تقول يا رسول الله؟ قال: إنما سميته باسمه الذي سماه به أهله. فقال رسول الله ﷺ: إن اسمي الذي سماني به أهلي محمد، فقال: اليهودي جئت أسألك، فقال رسول الله ﷺ: ينفعك شيء إن حدثتك. قال: أسمع بأذني، فنكت بعود معه، فقال له: سل، فقال اليهودي: " أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ " فقال: رسول الله ﷺ: في الظلمة دون الجسر، قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: فقراء المهاجرين، فقال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون؟ قال: زيادة كبد نون، قال: وما غذاؤهم على أثره؟ قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها قال: فما شرابهم عليه؟ قال: من عين فيها تسمى سلسبيلا قال: صدقت. قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان، قال: ينفعك إذا حدثتك قال: أسمع بأذني، قال: جئت أسألك عن الولد، قال: ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله فقال: اليهودي صدقت، وإنك لنبي، ثم انصرف. فقال: النبي ﷺ: إنه سألني هذا الذي سألني عنه، وما أعلم شيئا منه حتى أتاني به الله تعالى.
وروى أبو داود الطيالسي: حدثنا عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس، قال: حضرت عصابة من اليهود يوما إلى النبي ﷺ فقالوا: يا رسول الله، حدثنا عن خلال نسألك عنها لا يعلمها إلا نبي، فقال: سلوني عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله، وما أخذ يعقوب على بنيه إن أنا حدثتكم بشيء تعرفونه صدقا لتتابعوني على الإسلام قالوا: لك ذلك، قال: فسلوني عما شئتم، قالوا: أخبرنا عن أربع خلال؛ أخبرنا عن الطعام الذي حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، وأخبرنا عن ماء الرجل كيف يكون الذكر منه حتى يكون ذكرا، وكيف يكون الأنثى حتى يكون أنثى، وأخبرنا كيف هذا النبي في النوم، ومن وليك من الملائكة؟ قال: فعليكم عهد الله وميثاقه لئن أنا حدثتكم لتتابعوني، فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق، قال: أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى؛ هل تعلمون أن إسرائيل - يعقوب - مرض مرضا شديدا طال سقمه فيه فنذر لله نذرا لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه، وأحب الطعام إليه، وكان أحب الشراب إليه ألبان الإبل، وأحب الطعام إليه لحوم الإبل قالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله ﷺ: اللهم اشهد عليهم، قال: فأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، الذي أنزل التوراة على موسى؛ هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض، وأن ماء المرأة رقيق أصفر فأيهما علا كان الولد، والشبه له بإذن الله، قالوا: اللهم نعم، فقال: اللهم اشهد، قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، وأنزل التوراة على موسى؛ هل تعلمون أن هذا النبي تنام عيناه، ولا ينام قلبه، قالوا: اللهم نعم، قال: اللهم اشهد، قالوا: أنت الآن حدثنا من وليك من الملائكة، فعندها نجامعك أو نفارقك، قال: وليي جبريل "عليه السلام"، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه، قالوا: فعندها نفارقك، لو كان غيره لاتبعناك وصدقناك، قال: فما يمنعكم أن تصدقوا قالوا: إنه عدونا من الملائكة. فأنزل الله عز وجل: ( من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا) - إلى قوله - ( فإن الله عدو للكافرين).
ففي هذه الأحاديث أن علماء اليهود كعبد الله بن سلام، وغيره كانوا يسألونه عن مسائل، يقولون فيها: لا يعلمها إلا نبي: أي ومن تعلمها من الأنبياء، فإن السائلين كانوا يعلمونها، كما جاء أيضا: " لا يعلمها إلا نبي أو رجل أو رجلان ". فكانوا يمتحنونه بهذه المسائل ليتبين هل يعلمها، وإذا كان يعلم ما لا يعلمه إلا نبي، كان نبيا، ومعلوم أن مقصودهم بذلك إنما يتم إذا علموا أنه لم يعلم هذه المسائل من أهل الكتاب، ومن تعلم منهم، وإلا فمعلوم أن هذه المسائل كان تعلمها بعض الناس، لكن تعلمها هؤلاء من الأنبياء.
وهذا يبين أن هؤلاء السائلين له من أهل الكتاب كانوا يعلمون أن أحدا من البشر لم يعلمه ما عند أهل الكتاب من العلم؛ إذ لو جوزوا ذلك عليه لم يحصل مقصودهم من امتحانه؛ هل هو نبي أم لا؟ فإنهم إذا جوزوا أن يكون تعلم ما لا يعلمه إلا نبي من أهل الكتاب، كان من جنسهم، فلم يكن في علمه بها وإجابتهم عنها دليل على نبوته.
فلا بد أن يكون هؤلاء السائلون يقطعون بأنه لم يتعلم من أهل الكتاب. وهذا كان بالمدينة بعد أن أقام بمكة بضعة عشرة سنة، وانتشر أمره، وكذبه قومه، وحرصوا على إبطال دعوته بكل طريق يقدرون عليه، فلو كان بمكة أو بالمدينة أحد من أهل الكتاب يتعلم منه، أو لقي أحدا من أهل الكتاب في طريق فتعلم منه، لكان ذلك يقدح في مقصود هؤلاء السائلين.
فتبين أنه كان معلوما عند أهل الكتاب أنه لم يتعلم شيئا من الغيب من بشر، لا سيما ولو كان قد تعلمه من أهل الكتاب وقد كذبهم وحاربهم، لأظهروا ذلك، ولشاع في أهل الكتاب، فكان إذا أجابهم قالوا: هذا تعلمته من فلان، وفلان منا، أو هذا علمكه بعض أهل ديننا. وهذا كما كانوا يرسلون إلى قومه من قريش ليسألوه عن مسائل، ويقولون: إن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإلا فهو متقول، ويقولون: سلوه عن مسائل لا يعلمها إلا نبي.
فهذا من أهل المدينة ومن قريش قومه، يبين أن قومه المشركين وأهل الكتاب كانوا متفقين على أنه لم يتعلم شيئا من ذلك البشر، إذ لو جوزوا ذلك لم يحصل مقصودهم بذلك، ولم يجز أن يقولوا لا يعلمها إلا نبي، فإنهم كانوا جميعا يعلمون أن من أهل الكتاب من يعلم هذه المسائل، وبذلك يعرف هل يجيب فيها بما قالته الأنبياء، أو بخلاف ذلك، ويعلمون أن من كان تعلمها من أهل الكتاب، ومن تعلم منهم لا يدل جوابه عنها على نبوته كما لو أجاب عن تلك المسائل بعض أهل الكتاب، وكما لو سأل في زماننا بعض الناس لبعض المسلمين عن تلك المسائل أو غيرها من أنباء الغيب، التي لا يعلمها إلا نبي، فإن ذلك لا يدل على نبوته؛ لأنه قد تعلم ذلك من الأنبياء.
فدل على أن مرادهم بقولهم: لا يعلمها إلا نبي: أي لا يعلمها ابتداء بدون تعليم من بشر إلا نبي، ويدل على أن المشركين وأهل الكتاب كانوا جميعا متفقين على أنه لم يتعلم من بشر مع انتشار أخباره، ومع اطلاع قومه على أسراره، ومع ظهور ذلك - لو وجد - ومع أنهم لو جوزوا تجويزا أن يكون قد تعلمها من بشر في الباطن، لم يجز أن يستدل بها على نبوته، فدل على أنهم كانوا قاطعين بأنه لم يتعلم ذلك من بشر؛ لا في الباطن، ولا في الظاهر، وهذا طريق بين يدل على أنه لم يتعلم ذلك من بشر سوى الطرق المذكورة هنا.
فصل: جلاء آيات الأنبياء وتنوعها وكثرتها
ولما كان محمد ﷺ رسولا إلى جميع الثقلين جنهم وإنسهم، عربهم وعجمهم، وهو خاتم الأنبياء - لا نبي بعده - كان من نعمة الله على عباده، ومن تمام حجته على خلقه أن تكون آيات نبوته وبراهين رسالته معلومة لكل الخلق الذين بعث إليهم، وقد يكون عند هؤلاء من الآيات والبراهين على نبوته، ما ليس عند هؤلاء.
وكان يظهر لكل قوم من الآيات النفسية والأفقية ما يبين به أن القرآن حق، كما قال تعالى: ( قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد).
أخبر سبحانه أنه سيري عباده الآيات في أنفسهم، وفي الآفاق حتى يتبين لهم أن القرآن حق، فإن الضمير عائد إليه؛ إذ هو الذي تقدم ذكره كما قال: ( قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد).
والضمير في (كان) عائد إلى معلوم؛ يقول: أرأيتم إن كان القرآن من عند الله، ثم كفرتم به، من أضل ممن هو في شقاق بعيد. فإنه على هذا التقدير يكون الكافر في شقاق بعيد قد شاق الله ورسوله، ولا أحد أضل ممن هو في مثل هذا الشقاق؛ حيث كان في شق، والله ورسوله في شق، كما قال تعالى: ( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم).
بين أن من تولى عن ذلك لم يكن متبعا للحق قاصدا له، فإن هذا الذي قلتموه لا يتولى عنه من أهل الكتاب من قصده الحق، وإنما يتولى عنه من قصده المشاقة والمعاداة، لهوى نفسه، وهذا يكفيك الله أمره.
والقرآن إن كان من عند الله، ثم كفر به من كفر فلا أحد أضل ممن هو في مثل حاله؛ إذ هو في شقاق بعيد، وإن قدر أنه لم يعلم أنه حق فهو ضال. والشقاق قد يكون مع العناد، وقد يكون مع الجهل، فإن الآيات إذا ظهرت فأعرض عن النظر الموجب للعلم كان مشاقا؛ ولهذا قال عقب ذلك: ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).
فأخبر أنه سيري عباده من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين أنه حق، ثم قال: ( أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد). فإن شهادته وحده كافية بدون ما ينتظر من الآيات، كما قال تعالى: ( قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب).
وشهادته للقرآن ولمحمد، تكون بأقواله التي أنزلها قبل ذلك على أنبيائه كما قال تعالى عن أهل الكتاب: ( ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله).
وتكون بأفعاله وهو ما يحدثه من الآيات والبراهين، الدالة على صدق رسله، فإنه صدقهم بها فيما أخبروا به عنه، وشهد لهم بأنهم صادقون.
والقرآن - نفسه - هو قول الله، وفيه شهادة الله بما أخبر به الرسول، وإنزاله على محمد ﷺ وإتيان محمد به هو آية وبرهان، وذلك من فعل الله؛ إذ كان البشر لا يقدرون على مثله لا يقدر عليه أحد من الأنبياء، ولا الأولياء، ولا السحرة، ولا غيرهم، كما قال تعالى: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
ومحمد أخبر بهذا في أول أمره إذ كانت هذه الآية في سورة (سبحان) وهي مكية صدرها بذكر الإسراء الذي كان بمكة باتفاق الناس. وقد أخبر خبرا وأكده بالقسم عن جميع الثقلين - إنسهم وجنهم - أنهم إذا اجتمعوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، بل يعجزون عن ذلك، وهذا فيه آيات لنبوته.
منها إقدامه على هذا الخبر العظيم عن جميع الإنس والجن إلى يوم القيامة بأنهم لا يفعلون هذا، بل يعجزون عنه. هذا لا يقدم عليه من يطلب الناس أن يصدقوه إلا وهو واثق بأن الأمر كذلك؛ إذ لو كان عنده شك في ذلك لجاز أن يظهر كذبه في هذا الخبر فيفسد عليه ما قصده، وهذا لا يقدم عليه عاقل مع اتفاق الأمم؛ المؤمن بمحمد، والكافر به، على كمال عقله ومعرفته وخبرته، إذ ساس العالم سياسة لم يسسهم أحد بمثلها.
ثم جعله هذا في القرآن المتلو المحفوظ إلى يوم القيامة، الذي يقرأ به في الصلوات، ويسمعه العام والخاص، والولي والعدو، دليل على كمال ثقته بصدق هذا الخبر، وإلا لو كان شاكا في ذلك لخاف أن يظهر كذبه عند خلق كثير، بل عند أكثر من اتبعه ومن عاداه، وهذا لا يفعله من يقصد أن يصدقه الناس، فمن يقصد أن يصدقه الناس، لا يقول مثل هذا، ويظهره هذا الإظهار، ويشيعه هذه الإشاعة، ويخلده هذا التخليد، إلا وهو جازم عند نفسه بصدقه.
ولا يتصور أن بشرا يجزم بهذا الخبر إلا أن يعلم أن هذا مما يعجز عنه الخلق، إذ علم العالم بعجز جميع الإنس والجن إلى يوم القيامة، هو من أعظم دلائل كونه معجزا، وكونه آية على نبوته، فهذا من دلائل نبوته في أول الأمر عند من سمع هذا الكلام، وعلم أنه من القرآن الذي أمر ببلاغه إلى جميع الخلق، وهو وحده كاف في العلم بأن القرآن معجز.
دع ما سوى ذلك من الدلائل الكثيرة على أنه معجز، مثل عجز جميع الأمم عن معارضته مع كمال الرغبة والحرص على معارضته، وعدم الفعل مع كمال الداعي يستلزم عدم القدرة، فلما كان دواعي العرب وغيرهم على المعارضة تامة، علم عجز جميع الأمم عند معارضته، وهذا برهان ثان يعلم به صدق هذا الخبر، وصدق هذا الخبر آية لنبوته غير العلم بأن القرآن معجز، فإن ذلك آية مستقلة لنبوته، وهي آية ظاهرة باقية إلى آخر الدهر، معلومة لكل أحد، وهي من أعظم الآيات.
فإن كونه معجزا يعلم بأدلة متعددة، والإعجاز فيه وجوه متعددة، فتنوعت دلائل إعجازه، وتنوعت وجوه إعجازه، وكل وجه من الوجوه هو دال على إعجازه، وهذه جمل لبسطها تفصيل طويل؛ ولهذا قال تعالى: وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون.
فهو كاف في الدعوة والبيان، وهو كاف في الحجة والبرهان.
فصل: التحقيق في اسم المعجزة والآية والكرامة
والآيات والبراهين الدالة على نبوة محمد ﷺ كثيرة متنوعة، وهي أكثر وأعظم من آيات غيره من الأنبياء، ويسميها من يسميها من النظار (معجزات)، وتسمى (دلائل النبوة) و (أعلام النبوة).
وهذه الألفاظ إذا سميت بها آيات الأنبياء، كانت أدل على المقصود من لفظ المعجزات، ولهذا لم يكن لفظ (المعجزات) موجودا في الكتاب والسنة، وإنما فيه لفظ (الآية) و (البينة) و (البرهان)، كما قال تعالى في قصة موسى: ( فذانك برهانان من ربك) في العصا واليد، وقال الله تعالى في حق محمد ﷺ: ( يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا).
وقد قال في مطالبة أهل الدعاوى الكاذبة بالبرهان: ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين).
وقال تعالى: (أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين).
وقال: ( ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون).
وقال تعالى: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون).
وأما لفظ (الآيات) فكثير في القرآن، كقوله تعالى: ( وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته).
وقوله تعالى: ( ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات).
وقال تعالى: (وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء) آية أخرى.
وقول فرعون له: ( فأت به إن كنت من الصادقين).
وقال قوم صالح له: ( فأت بآية إن كنت من الصادقين قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم).
وقال: ( هذه ناقة الله لكم آية).
وقال المسيح: ( قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين).
وقال في حق محمد: ( وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون).
اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر
وقال: ( ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين).
وقال تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون).
وقال: ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).
وقال تعالى: ( قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار).
وقال تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي).
وقال تعالى: (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون).
وقال لما ذكر قصص الأنبياء في سورة الشعراء - قال في آخر كل قصة: ( إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم).
وقال: ( لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين) - إلى أن قال في آخرها - ( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون) - إلى قوله - ( وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون).
وقال تعالى: (وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين).
وقال: ( وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين).
وأما لفظ المعجز، فإنما يدل على أنه أعجز غيره، كما قال تعالى: ( وما هم بمعجزين).
وقال: ( وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء).
ومن لا يثبت فعلا إلا لله يقول: المعجز هو الله، وإنما سمي غيره معجزا مجازا. وهذا اللفظ لا يدل على كون ذلك آية ودليلا إلا إذا فسر المراد به وذكر شرائطه، ولهذا كان كثير من أهل الكلام لا يسمي معجزا إلا ما كان للأنبياء فقط، وما كان للأولياء إن أثبت لهم خرق عادة سماها كرامة.
والسلف - كأحمد وغيره - كانوا يسمون هذا وهذا معجزا، ويقولون لخوارق الأولياء: إنها معجزات، إذ لم يكن في اللفظ ما يقتضي اختصاص الأنبياء بذلك. بخلاف ما كان آية وبرهانا على نبوة النبي، فإن هذا يجب اختصاصه.
وقد يسمون الكرامات آيات، لكونها تدل على نبوة من اتبعه الولي، فإن الدليل مستلزم للمدلول، يمتنع ثبوته بدون ثبوت المدلول، فكذلك ما كان آية وبرهانا، وهو الدليل والعلم على نبوة النبي يمتنع أن يكون لغير النبي. وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أن دلائل نبوة محمد ﷺ كثيرة متنوعة كما قد تكلمنا على ذلك في غير هذا الكتاب، وبينا أن من يخصص دلائل النبوة بنوع فقد غلط، بل هي أنواع كثيرة، لكن الآيات نوعان:
ومنها: ما مضى وصار معلوما بالخبر، كمعجزات موسى وعيسى.
ومنها: ما هو باق إلى اليوم كالقرآن الذي هو من أعلام نبوة محمد ﷺ، وكالعلم والإيمان الذي في أتباعه، فإنه من أعلام نبوته، وكشريعته التي أتى بها، فإنها - أيضا - من أعلام نبوته، وكالآيات التي يظهرها الله وقتا بعد وقت من كرامات الصالحين من أمته، ووقوع ما أخبر بوقوعه، كقوله: " لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك "، وقوله: " لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى ". وقد خرجت هذه النار سنة خمسين وستين وستمائة، وشاهد الناس أعناق الإبل ببصرى.
وظهر دينه وملته بالحجة والبرهان، واليد والسنان، ومثل المثلات والعقوبات التي تحيق بأعدائه، وغير ذلك، وكنعته الموجود في كتب الأنبياء قبله، وغير ذلك.
فصل: بحث في إعجاز القرآن
والقرآن كلام الله، وفيه الدعوة والحجة، فله به اختصاص على غيره كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال: ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة.
والقرآن يظهر كونه آية وبرهانا له من وجوه: جملة وتفصيلا. أما الجملة، فإنه قد علمت الخاصة والعامة من عامة الأمم، علما متواترا أنه هو الذي أتى بهذا القرآن، وتواترت بذلك الأخبار أعظم من تواترها بخبر كل أحد من الأنبياء والملوك والفلاسفة، وغيرهم.
والقرآن نفسه فيه تحدي الأمم بالمعارضة، والتحدي هو أن يحدوهم: أي يدعوهم فيبعثهم إلى أن يعارضوه، فيقال فيه: حداني على هذا الأمر: أي بعثني عليه، ومنه سمي حادي العيس؛ لأنه بحداه يبعثها على السير.
وقد يريد بعض الناس بالتحدي دعوى النبوة، ولكنه أصله الأول، قال تعالى: في سورة الطور: ( أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين).
فهنا قال: ( فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين).
في أنه تقوله، فإنه إذا كان محمد قادرا على أن يتقوله كما يقدر الإنسان على أن يتكلم بما يتكلم به من نظم ونثر، كان هذا ممكنا للناس، الذين هم من جنسه، فأمكن الناس أن يأتوا بمثله.
ثم إنه تحداهم بعشر سور مثله فقال تعالى: ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين).
ثم تحداهم بسورة واحدة منه فقال تعالى: ( وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين).
فطلب منهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات هم وكل من استطاعوا من دون الله، ثم تحداهم بسورة واحدة هم ومن استطاعوا، قال: ( فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو).
وهذا أصل دعوته، وهو الشهادة بأنه لا إله إلا الله، والشهادة بأن محمدا رسول الله.
وقال تعالى: (فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله).
كما قال: ( لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون) أي: هو يعلم أنه منزل، لا يعلم أنه مفترى، كما قال: ( وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله) أي: ما كان لأن يفترى، يقول: ما كان ليفعل هذا. فلم ينف مجرد فعله، بل نفى احتمال فعله، وأخبر بأن مثل هذا لا يقع، بل يمتنع وقوعه فيكون المعنى: ما يمكن، ولا يحتمل، ولا يجوز أن يفترى هذا القرآن من دون الله، فإن الذي يفتريه من دون الله مخلوق، والمخلوق لا يقدر على ذلك. وهذا التحدي كان بمكة، فإن هذه السور مكية؛ سورة يونس، وهود، والطور.
ثم أعاد التحدي في المدينة بعد الهجرة، فقال في (البقرة) وهي سورة مدنية: ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين).
ثم قال: ( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة).
فذكر أمرين:
أحدهما قوله: فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار.
يقول: إذا لم تفعلوا فقد علمتم أنه حق، فخافوا الله أن تكذبوه، فيحيق بكم العذاب، الذي وعد به المكذبين، وهذا دعاء إلى سبيل ربه بالموعظة الحسنة، بعد أن دعاهم بالحكمة، وهو جدالهم بالتي هي أحسن.
والثاني قوله: ولن تفعلوا.
و (لن) لنفي المستقبل، فثبت الخبر أنهم فيما يستقبل من الزمان، لا يأتون بسورة من مثله كما أخبر قبل ذلك، وأمره أن يقول في سورة (سبحان)، وهي سورة مكية، افتتحها بذكر الإسراء، وهو كان بمكة بنص القرآن والخبر المتواتر، وذكر فيها من مخاطبته للكفار بمكة ما يبين بذلك بقوله: ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا).
فعم بالخبر جميع الخلق معجزا لهم، قاطعا بأنهم إذا اجتمعوا كلهم، لا يأتون بمثل هذا القرآن، ولو تظاهروا وتعاونوا على ذلك، وهذا التحدي والدعاء هو لجميع الخلق، وهذا قد سمعه كل من سمع القرآن وعرفه الخاص والعام، وعلم - مع ذلك - أنهم لم يعارضوه، ولا أتوا بسورة مثله، ومن حين بعث، وإلى اليوم، الأمر على ذلك، مع ما علم من أن الخلق كلهم كانوا كفارا قبل أن يبعث، ولما بعث إنما تبعه قليل.
وكان الكفار من أحرص الناس على إبطال قوله، مجتهدين بكل طريق يمكن، تارة يذهبون إلى أهل الكتاب فيسألونهم عن أمور من الغيب، حتى يسألوه عنها، كما سألوه عن قصة يوسف وأهل الكهف وذي القرنين كما تقدم. وتارة يجتمعون في مجمع بعد مجمع على ما يقولونه فيه، وصاروا يضربون له الأمثال، فيشبهونه بمن ليس مثله لمجرد شبه ما مع ظهور الفرق. فتارة يقولون: مجنون. وتارة يقولون: ساحر. وتارة يقولون: كاهن. وتارة يقولون: شاعر... إلى أمثال ذلك من الأقوال التي يعلمون - هم وكل عاقل سمعها - أنها افتراء عليه.
فإذا كان قد تحداهم بالمعارضة - مرة بعد مرة - وهي تبطل دعوته، فمعلوم أنهم لو كانوا قادرين عليها لفعلوها، فإنه مع وجود هذا الداعي التام المؤكد إذا كانت القدرة حاصلة، وجب وجود المقدور، ثم هكذا القول في سائر أهل الأرض.
فهذا القدر يوجب علما بينا لكل أحد بعجز جميع أهل الأرض، عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن بحيلة، وبغير حيلة. وهذا أبلغ من الآيات التي يكرر جنسها كإحياء الموتى، فإن هذا لم يأت أحد بنظيره، وكون القرآن أنه معجزة ليس هو من جهة فصاحته وبلاغته فقط، أو نظمه وأسلوبه فقط، ولا من جهة إخباره بالغيب فقط، ولا من جهة صرف الدواعي عن معارضته فقط، ولا من جهة سلب قدرتهم على معارضته فقط، بل هو آية بينة معجزة من وجوه متعددة: من جهة اللفظ، ومن جهة النظم، ومن جهة البلاغة في دلالة اللفظ على المعنى، ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وملائكته، وغير ذلك.
ومن جهة معانيه، التي أخبر بها عن الغيب الماضي، وعن الغيب المستقبل، ومن جهة ما أخبر به عن المعاد، ومن جهة ما بين فيه من الدلائل اليقينية، والأقيسة العقلية التي هي الأمثال المضروبة، كما قال تعالى: ( ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا).
وقال تعالى: (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا).
وقال: ( ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرءانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون).
وكل ما ذكره الناس من الوجوه في إعجاز القرآن، هو حجة على إعجازه، ولا تناقض في ذلك، بل كل قوم تنبهوا لما تنبهوا له.
ومن أضعف الأقوال قول من يقول من أهل الكلام: إنه معجز بصرف الدواعي - مع تمام الموجب لها - أو بسلب القدرة التامة، أو بسلبهم القدرة المعتادة في مثله سلبا عاما، مثل قوله تعالى لزكريا: ( آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا).
وهو أن الله صرف قلوب الأمم عن معارضته مع قيام المقتضي التام. فإن هذا يقال على سبيل التقدير والتنزيل، وهو أنه إذا قدر أن هذا الكلام يقدر الناس على الإتيان بمثله، فامتناعهم - جميعهم - عن هذه المعارضة، مع قيام الدواعي العظيمة إلى المعارضة، من أبلغ الآيات الخارقة للعادات، بمنزلة من يقول: إني آخذ أموال جميع أهل هذا البلد العظيم، وأضربهم جميعهم، وأجوعهم، وهم قادرون على أن يشكوا إلى الله، أو إلى ولي الأمر، وليس فيهم - مع ذلك - من يشتكي، فهذا من أبلغ العجائب الخارقة للعادة.
ولو قدر أن واحدا صنف كتابا يقدر أمثاله على تصنيف مثله، أو قال شعرا، يقدر أمثاله أن يقولوا مثله، وتحداهم كلهم، فقال: عارضوني، وإن لم تعارضوني فأنتم كفار، مأواكم النار، ودماؤكم لي حلال، امتنع في العادة أن لا يعارضه أحد. فإذا لم يعارضوه كان هذا من أبلغ العجائب الخارقة للعادة.
والذي جاء بالقرآن قال للخلق كلهم: أنا رسول الله إليكم جميعا، ومن آمن بي دخل الجنة، ومن لم يؤمن بي دخل النار، وقد أبيح لي قتل رجالهم، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، ووجب عليهم كلهم طاعتي، ومن لم يطعني كان من أشقى الخلق، ومن آياتي هذا القرآن، فإنه لا يقدر أحد على أن يأتي بمثله، وأنا أخبركم أن أحدا لا يأتي بمثله.
فيقال: لا يخلو إما أن يكون الناس قادرين على المعارضة أو عاجزين.
فإن كانوا قادرين، ولم يعارضوه، بل صرف الله دواعي قلوبهم، ومنعها أن تريد معارضته مع هذا التحدي العظيم، أو سلبهم القدرة التي كانت فيهم قبل تحديه، فإن سلب القدرة المعتادة أن يقول رجل: معجزتي أنكم كلكم لا يقدر أحد منكم على الكلام ولا على الأكل والشرب، فإن المنع من المعتاد كإحداث غير المعتاد - فهذا من أبلغ الخوارق.
وإن كانوا عاجزين، ثبت أنه خارق للعادة، فثبت كونه خارقا على تقدير النقيضين؛ النفي والإثبات. فثبت أنه من العجائب الناقضة للعادة في نفس الأمر.
فهذا غاية التنزل، وإلا فالصواب المقطوع به أن الخلق كلهم عاجزون عن معارضته، لا يقدرون على ذلك، ولا يقدر محمد ﷺ - نفسه - من تلقاء نفسه على أن يبدل سورة من القرآن، بل يظهر الفرق بين القرآن وبين سائر كلامه لكل من له أدنى تدبر، كما قد أخبر الله به في قوله: ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا).
وأيضا فالناس يجدون دواعيهم إلى المعارضة حاصلة، لكنهم يحسون من أنفسهم العجز عن المعارضة، ولو كانوا قادرين لعارضوه.
وقد انتدب غير واحد لمعارضته، لكن جاء بكلام فضح به نفسه، وظهر به تحقيق ما أخبر به القرآن من عجز الخلق عن الإتيان بمثله، مثل قرآن مسيلمة الكذاب، كقوله: (يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي كم تنقين، لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعين، رأسك في الماء، وذنبك في الطين).
وكذلك أيضا يعرفون أنه لم يختلف حال قدرتهم قبل سماعه وبعد سماعه، فلا يجدون أنفسهم عاجزين عما كانوا قادرين عليه كما وجد زكريا عجزه عن الكلام بعد قدرته عليه.
وأيضا فلا نزاع بين العقلاء المؤمنين بمحمد والمكذبين له، إنه كان قصده أن يصدقه الناس ولا يكذبوه، وكان - مع ذلك - من أعقل الناس وأخبرهم وأعرفهم بما جاء به، ينال مقصوده، سواء قيل: إنه صادق أو كاذب. فإن من دعا الناس إلى مثل هذا الأمر العظيم، ولم يزل حتى استجابوا له طوعا وكرها، وظهرت دعوته وانتشرت ملته هذا الانتشار، هو من عظماء الرجال على أي حال كان. فإقدامه - مع هذا القصد - في أول الأمر وهو بمكة، وأتباعه قليل، على أن يقول خبرا، يقطع به أنه لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، لا في ذلك العصر، ولا في سائر الأعصار المتأخرة، لا يكون إلا مع جزمه بذلك، وتيقنه له، وإلا فمع الشك والظن لا يقول ذلك من يخاف أن يظهر كذبه فيفتضح فيرجع الناس عن تصديقه.
وإذا كان جازما بذلك - متيقنا له - لم يكن ذلك إلا عن إعلام الله له بذلك. وليس في العلوم المعتادة أن يعلم الإنسان أن جميع الخلق لا يقدرون أن يأتوا بمثل كلامه إلا إذا علم العالم أنه خارج عن قدرة البشر. والعلم بهذا يستلزم كونه معجزا، فإنا نعلم ذلك وإن لم يكن علمنا بذلك خارقا للعادة، ولكن يلزم من العلم ثبوت المعلوم، وإلا كان العلم جهلا، فثبت أنه على كل تقدير يستلزم كونه خارقا للعادة.
وأما التفصيل، فيقال: نفس نظم القرآن وأسلوبه عجيب بديع ليس من جنس أساليب الكلام المعروفة، ولم يأت أحد بنظير هذا الأسلوب، فإنه ليس من جنس الشعر ولا الرجز ولا الخطابة ولا الرسائل، ولا نظمه نظم شيء من كلام الناس عربهم وعجمهم، ونفس فصاحة القرآن وبلاغته هذا عجيب خارق للعادة، ليس له نظير في كلام جميع الخلق، وبسط هذا وتفصيله طويل، يعرفه من له نظر وتدبر.
ونفس ما أخبر به القرآن في باب توحيد الله وأسمائه وصفاته، أمر عجيب خارق للعادة، لم يوجد مثل ذلك في كلام بشر، لا نبي ولا غير نبي.
وكذلك ما أخبر به عن الملائكة والعرش والكرسي والجن وخلق آدم، وغير ذلك، ونفس ما أمر به القرآن من الدين، والشرائع كذلك، ونفس ما أخبر به من الأمثال، وبينه من الدلائل هو - أيضا - كذلك.
ومن تدبر ما صنفه جميع العقلاء في العلوم الإلهية والخلقية والسياسية وجد بينه وبين ما جاء في الكتب الإلهية - التوراة والإنجيل والزبور وصحف الأنبياء - وجد بين ذلك وبين القرآن من التفاوت أعظم مما بين لفظه ونظمه، وبين سائر ألفاظ العرب ونظمهم.
فالإعجاز في معناه أعظم وأكثر من الإعجاز في لفظه، وجميع عقلاء الأمم عاجزون عن الإتيان بمثل معانيه أعظم من عجز العرب عن الإتيان بمثل لفظه. وما في التوراة والإنجيل: ولو قدر أنه مثل القرآن، لا يقدح في المقصود، فإن تلك كتب الله - أيضا - ولا يمتنع أن يأتي نبي بنظير آية نبي، كما أتى المسيح بإحياء الموتى، وقد وقع إحياء الموتى على يد غيره؛ فكيف وليس ما في التوراة والإنجيل مماثلا لمعاني القرآن؛ لا في الحقيقة ولا في الكيفية ولا الكمية، بل يظهر التفاوت لكل من تدبر القرآن وتدبر الكتب.
وهذه الأمور من ظهرت له من أهل العلم والمعرفة، ظهر له إعجازه من هذا الوجه، ومن لم يظهر له ذلك اكتفى بالأمر الظاهر الذي يظهر له ولأمثاله كعجز جميع الخلق عن الإتيان بمثله مع تحدي النبي، وإخباره بعجزهم، فإن هذا أمر ظاهر لكل أحد.
ودلائل النبوة من جنس دلائل الربوبية، فيها الظاهر البين لكل أحد؛ كالحوادث المشهودة؛ مثل خلق الحيوان والنبات والسحاب وإنزال المطر، وغير ذلك، وفيها ما يختص به من عرفه مثل دقائق التشريح ومقادير الكواكب وحركاتها، وغير ذلك، فإن الخلق كلهم محتاجون إلى الإقرار بالخالق والإقرار برسله، وما اشتدت الحاجة إليه في الدين والدنيا فإن الله يجود به على عباده جودا عاما ميسرا.
فلما كانت حاجتهم إلى النفس أكثر من حاجتهم إلى الماء، وحاجتهم إلى الماء أكثر من حاجتهم إلى الأكل، كان سبحانه قد جاء بالهواء جودا عاما في كل مكان وزمان لضرورة الحيوان إليه، ثم الماء دونه، ولكنه يوجد أكثر مما يوجد القوت وأيسر؛ لأن الحاجة إليه أشد.
فكذلك دلائل الربوبية، حاجة الخلق إليها في دينهم أشد الحاجات، ثم دلائل النبوة؛ فلهذا يسرها الله وسهلها أكثر مما لا يحتاج إليه العامة، مثل تماثل الأجسام واختلافها، وبقاء الأعراض أو فنائها، وثبوت الجوهر الفرد أو انتفائه، ومثل مسائل المستحاضة، وفوات الحج وفساده، ونحو ذلك مما يتكلم فيه بعض العلماء.
فصل: شخصية الرسول وشريعته وأمته وكرامات صالحيها من آياته
وسيرة الرسول وأخلاقه وأقواله وأفعاله وشريعته من آياته، وأمته من آياته، وعلم أمته ودينهم من آياته، وكرامات صالح أمته من آياته. وذلك يظهر بتدبر سيرته من حين ولد وإلى أن بعث، ومن حيث بعث إلى أن مات، وتدبر نسبه وبلده وأصله وفصله، فإنه كان من أشرف أهل الأرض نسبا، من صميم سلالة إبراهيم الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، فلم يأت نبي بعد إبراهيم إلا من ذريته، ونجعل له ابنين: إسماعيل، وإسحاق، وذكر في التوراة هذا وهذا، وبشر في التوراة بما يكون من ولد إسماعيل، ولم يكن في ولد إسماعيل من ظهر فيما بشرت به النبوات غيره، ودعا إبراهيم لذرية إسماعيل بأن يبعث فيهم رسولا منهم، ثم من قريش صفوة بني إبراهيم، ثم من بني هاشم صفوة قريش، ومن مكة أم القرى وبلد البيت الذي بناه إبراهيم، ودعا الناس إلى حجه، ولم يزل محجوجا من عهد إبراهيم، مذكورا في كتب الأنبياء بأحسن وصف.
وكان من أكمل الناس تربية ونشأة، لم يزل معروفا بالصدق والبر والعدل ومكارم الأخلاق، وترك الفواحش والظلم وكل وصف مذموم، مشهودا له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة، وممن آمن به، وممن كفر بعد النبوة لا يعرف له شيء يعاب به؛ لا في أقواله، ولا في أفعاله، ولا في أخلاقه، ولا جرب عليه كذبة قط، ولا ظلم ولا فاحشة، وكان خلقه وصورته من أكمل الصور وأتمها وأجمعها للمحاسن الدالة على كماله، وكان أميا من قوم أميين لا يعرف، لا هو ولا هم ما يعرفه أهل الكتاب: التوراة والإنجيل، ولم يقرأ شيئا عن علوم الناس، ولا جالس أهلها، ولم يدع نبوة إلى أن أكمل الله له أربعين سنة، فأتى بأمر هو أعجب الأمور وأعظمها، وبكلام لم يسمع الأولون والآخرون بنظيره، وأخبرنا بأمر لم يكن في بلده وقومه من يعرف مثله.
ثم اتبعه أتباع الأنبياء وهم ضعفاء الناس، وكذبه أهل الرياسة وعادوه، وسعوا في هلاكه وهلاك من اتبعه بكل طريق، كما كان الكفار يفعلون بالأنبياء وأتباعهم، والذين اتبعوه لم يتبعوه لرغبة، ولا لرهبة، فإنه لم يكن عنده مال يعطيهم، ولا جهات يوليهم إياها، ولا كان له سيف، بل كان السيف، والمال، والجاه مع أعدائه. وقد آذوا أتباعه بأنواع الأذى، وهم صابرون محتسبون لا يرتدون عن دينهم لما خالط قلوبهم من حلاوة الإيمان والمعرفة. وكانت مكة يحجها العرب من عهد إبراهيم فتجتمع في الموسم قبائل العرب فيخرج إليهم يبلغهم الرسالة، ويدعوهم إلى الله صابرا على ما يلقاه من تكذيب المكذب، وجفاء الجافي، وإعراض المعرض، إلى أن اجتمع بأهل يثرب وكانوا جيران اليهود قد سمعوا أخباره منهم، وعرفوه، فلما دعاهم علموا أنه النبي المنتظر الذي تخبرهم به اليهود، وكانوا قد سمعوا من أخباره ما عرفوا به مكانته، فإن أمره كان قد انتشر، وظهر في بضع عشرة سنة فآمنوا به، وبايعوه على هجرته وهجرة أصحابه إلى بلدهم، وعلى الجهاد معه، فهاجر هو ومن اتبعه إلى المدينة، وبها المهاجرون والأنصار، ليس فيهم من آمن برغبة دنيوية، ولا برهبة إلا قليلا من الأنصار أسلموا في الظاهر، ثم حسن إسلام بعضهم، ثم أذن له في الجهاد، ثم أمر به، ولم يزل قائما بأمر الله على أكمل طريقة، وأتمها من الصدق والعدل والوفاء، لا يحفظ له كذبة واحدة ولا ظلم لأحد ولا غدر بأحد، بل كان أصدق الناس وأعدلهم، وأوفاهم بالعهد، مع اختلاف الأحوال عليه من حرب وسلم وأمن وخوف وغنى وفقر وقلة وكثرة، وظهوره على العدو تارة وظهور العدو عليه تارة، وهو - على ذلك - لازم لأكمل الطرق وأتمها، حتى ظهرت الدعوة في جميع أرض العرب التي كانت مملوءة من عبادة الأوثان، ومن أخبار الكهان، وطاعة المخلوق في الكفر بالخالق، وسفك الدماء المحرمة، وقطيعة الأرحام، لا يعرفون آخرة ولا معادا، فصاروا أعلم أهل الأرض وأدينهم وأعدلهم وأفضلهم، حتى إن النصارى لما رأوهم - حين قدموا الشام - قالوا: ما كان الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء، وهذه آثار علمهم وعملهم في الأرض، وآثار غيرهم يعرف العقلاء فرق ما بين الأمرين.
وهو ﷺ مع ظهور أمره، وطاعة الخلق له، وتقديمهم له على الأنفس والأموال، مات ﷺ ولم يخلف درهما ولا دينارا، ولا شاة ولا بعيرا له، إلا بغلته وسلاحه، ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين صاعا من شعير ابتاعها لأهله، وكان بيده عقار ينفق منه على أهله، والباقي يصرفه في مصالح المسلمين، فحكم بأنه لا يورث ولا يأخذ ورثته شيئا من ذلك.
وهو في كل وقت يظهر على يديه من عجائب الآيات وفنون الكرامات ما يطول وصفه، ويخبرهم بخبر ما كان وما يكون، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويشرع الشريعة شيئا بعد شيء حتى أكمل الله دينه الذي بعث به، وجاءت شريعته أكمل شريعة، لم يبق معروف تعرف العقول أنه معروف إلا أمر به، ولا منكر تعرف العقول أنه منكر إلا نهى عنه، لم يأمر بشيء فقيل ليته لم يأمر به، ولا نهى عن شيء فقيل ليته لم ينه عنه، وأحل الطيبات لم يحرم شيئا منها كما حرم في شرع غيره، وحرم الخبائث لم يحل منها شيئا كما استحله غيره، وجمع محاسن ما عليه الأمم، فلا يذكر في التوراة والإنجيل والزبور نوع من الخبر عن الله وعن ملائكته وعن اليوم الآخر إلا وقد جاء به على أكمل وجه، وأخبر بأشياء ليست في الكتب.
فليس في الكتب إيجاب لعدل، وقضاء بفضل، وندب إلى الفضائل، وترغيب في الحسنات إلا وقد جاء به وبما هو أحسن منه.
وإذا نظر اللبيب في العبادات التي شرعها، وعبادات غيره من الأمم ظهر فضلها ورجحانها، وكذلك في الحدود والأحكام، وسائر الشرائع.
وأمته أكمل الأمم في كل فضيلة، فإذا قيس علمهم بعلم سائر الأمم ظهر فضل علمهم، وإن قيس دينهم وعباداتهم وطاعتهم لله بغيرهم ظهر أنهم أدين من غيرهم، وإذا قيس شجاعتهم وجهادهم في سبيل الله وصبرهم على المكاره في ذات الله، ظهر أنهم أعظم جهادا وأشجع قلوبا، وإذا قيس سخاؤهم وبذلهم وسماحة أنفسهم بغيرهم، تبين أنهم أسخى وأكرم من غيرهم، وهذه الفضائل به نالوها، ومنه تعلموها، وهو الذي أمرهم بها، لم يكونوا قبله متبعين لكتاب جاء هو بتكميله كما جاء المسيح بتكميل شريعة التوراة.
فكانت فضائل أتباع المسيح وعلومهم بعضها من التوراة، وبعضها من الزبور، وبعضها من النبوات، وبعضها من المسيح، وبعضها ممن بعده كالحواريين، وقد استعانوا بكلام الفلاسفة، وغيرهم حتى أدخلوا - لما غيروا دين المسيح - في دين المسيح أمورا من أمور الكفار المناقضة لدين المسيح.
وأما أمة محمد ﷺ فلم يكونوا قبله يقرءون كتابا، بل عامتهم ما آمنوا بموسى وعيسى وداود، والتوراة والإنجيل والزبور إلا من جهته، فهو الذي أمرهم أن يؤمنوا بجميع الأنبياء، ويقروا بجميع الكتب المنزلة من عند الله، ونهاهم أن يفرقوا بين أحد من الرسل، فقال تعالى في الكتاب الذي جاء به: ( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون * فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم).
وقال تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين).
وأمته لا يستحلون أن يأخذوا شيئا من الدين من غير ما جاء به، ولا يبتدعون بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، فلا يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله.
لكن ما قصه عليهم من أخبار الأنبياء وأممهم اعتبروا به، وما حدثهم أهل الكتاب، موافقا لما عندهم، صدقوه، وما لم يعلموا صدقه ولا كذبه أمسكوا عنه، وما عرفوا أنه باطل كذبوه، ومن أدخل في الدين ما ليس منه من أقوال متفلسفة الهند أو الفرس أو اليونان أو غيرهم، كان - عندهم - من أهل الإلحاد والابتداع، وهذا هو الدين الذي كان عليه أصحاب رسول الله ﷺ والتابعون، وهو الذي عليه أئمة الدين، الذين لهم في الأمة لسان صدق، وعليه جماعة المسلمين وعامتهم، ومن خرج عن ذلك كان مذموما مدحورا عند الجماعة، وهو مذهب أهل السنة والجماعة الظاهرون إلى قيام الساعة، الذين قال فيهم النبي ﷺ: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعة.
وقد تنازع بعض المسلمين، مع اتفاقهم على هذا الأصل الذي هو دين الرسل عموما، ودين محمد خصوصا.
ومن خالف في هذا الأصل كان عندهم ملحدا مذموما، ليسوا كالنصارى الذين ابتدعوا دينا قام به أكابر علمائهم وعبادهم، وقاتل عليه ملوكهم، ودان به جمهورهم، وهو دين مبتدع ليس هو دين المسيح، ولا دين غيره من الأنبياء.
والله - سبحانه وتعالى - أرسل رسله بالعلم النافع والعمل الصالح، فمن اتبع الرسل، حصل له سعادة الدنيا والآخرة. وإنما دخل في البدع من قصر في اتباع الأنبياء علما وعملا.
ولما بعث الله محمدا ﷺ بالهدى ودين الحق تلقى ذلك عنه المسلمون أمته.
فكل علم نافع وعمل صالح عليه أمة محمد ﷺ أخذوه عن نبيهم، مع ما يظهر لكل عاقل: أن أمته أكمل الأمم في جميع الفضائل العلمية والعملية، ومعلوم أن كل كمال في الفرع المتعلم هو من الأصل المعلم، وهذا يقتضي أنه كان أكمل الناس علما ودينا، وهذه الأمور توجب العلم الضروري بأنه كان صادقا في قوله: ( إني رسول الله إليكم جميعا). لم يكن كاذبا مفتريا، فإن هذا القول لا يقوله إلا من هو من خيار الناس وأكملهم إن كان صادقا، أو هو من شر الناس وأخبثهم إن كان كاذبا.
وما ذكر من كمال علمه ودينه، يناقض الشر والخبث والجهل، فتعين أنه متصف بغاية الكمال في العلم والدين، وهذا يستلزم أنه كان صادقا في قوله: ( إني رسول الله).
لأن الذي لم يكن صادقا: إما أن يكون متعمدا للكذب، أو مخطئا، والأول: يوجب أنه كان ظالما غاويا، والثاني: يقتضي أنه كان جاهلا ضالا، وكمال علمه ينافي جهله، وكمال دينه ينافي تعمد الكذب. فالعلم بصفاته يستلزم العلم بأنه لم يكن متعمدا للكذب، ولم يكن جاهلا يكذب بلا علم، وإذا انتفى هذا وذاك تعين أنه كان صادقا عالما بأنه صادق؛ ولهذا نزهه الله عن هذين الأمرين بقوله تعالى: ( والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى).
وقال تعالى عن الملك الذي جاء به: ( إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين).
ثم قال عنه: ( وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين) أي: بمتهم أو بخيل، كالذي لا يعلم إلا بجعل، أو لمن يكرمه: ( وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين).
وقال تعالى: (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) - إلى قوله - ( هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون).
بين سبحانه أن الشيطان إنما ينزل على من يناسبه ليحصل به غرضه، فإن الشيطان يقصد الشر: وهو الكذب والفجور، ولا يقصد الصدق والعدل، فلا يقترن إلا بمن فيه كذب، إما عمدا وإما خطأ، فإن الخطأ في الدين هو من الشيطان أيضا، كما قال ابن مسعود - لما سئل عن مسألة -: " أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه ".
فالرسول بريء من تنزل الشيطان عليه في العمد والخطأ، بخلاف غير الرسول، فإنه قد يخطئ، ويكون خطؤه من الشيطان، وإن كان خطؤه مغفورا له، فإذا لم يعرف له خبر أخبر به كان فيه مخطئا، ولا أمر أمر به كان فيه فاجرا، علم أن الشيطان لم ينزل عليه، وإنما ينزل عليه ملك كريم؛ ولهذا قال في الآية الأخرى عن النبي: ( إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين).
فصل: نقل الناس لصفاته عليه السلام الدالة على كماله
وقد نقل الناس صفاته الظاهرة الدالة على كماله، ونقلوا أخلاقه من حلمه وشجاعته وكرمه وزهده وغير ذلك، ونحن نذكر بعض ذلك.
ففي الصحيحين عن البراء بن عازب، قال: " كان رسول الله ﷺ أحسن الناس وجها، وأحسنهم خلقا، ليس بالطويل الذاهب ولا بالقصير ".
وعنه قال: " كان بعيد ما بين المنكبين، عظيم الجمة إلى شحمة أذنيه، عليه حلة حمراء، ما رأيت شيئا قط أحسن منه ".
وفي البخاري: وسئل البراء: " أكان وجه رسول الله ﷺ مثل السيف، قال: لا، بل مثل القمر ".
وفي الصحيحين من حديث كعب بن مالك قال: " كان النبي ﷺ إذا سر استنار وجهه، حتى كأنه فلقة قمر ".
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: " كان رسول الله ﷺ ضخم الرأس والقدمين، لم أر قبله ولا بعده مثله، وكان بسط الكفين ضخم اليدين ".
وسئل عن شعره، فقال: " كان شعرا رجلا، ليس بالجعد ولا بالسبط، بين أذنيه وعاتقه ".
وفي الصحيحين عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة، قال: " كان رسول الله ضليع الفم، أشكل العينين، منهوس العقبين "، وفسرها سماك بن حرب فقال: واسع الفم، طويل شق العين، قليل لحم العقب.
وفي الصحيحين عن أنس قال: " كان رسول الله ﷺ ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، ولا بالأبيض الأمهق ولا بالآدم، ولا بالجعد القطط ولا بالسبط ".
وفي الصحيحين عنه قال: " كان رسول الله ﷺ أزهر اللون، كأن عرقه اللؤلؤ، إذا مشى تكفأ، وما مسست ديباجة ولا حريرا ألين من كف رسول الله ﷺ ولا شممت مسكا ولا عنبرة أطيب من رائحة رسول الله. ﷺ ".
وروى الدارمي عن ابن عباس قال: " كان رسول الله ﷺ أفلج الثنيتين، إذا تكلم رئي النور يخرج من ثناياه ".
وروي عن ابن عمر قال: " ما رأيت أحدا أنجد ولا أجود ولا أشجع ولا أضوأ من رسول الله ﷺ ".
وعن أنس قال: " دخل علينا رسول الله ﷺ فقال عندنا، فعرق، وجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت العرق فيها، فاستيقظ رسول الله ﷺ فقال: أم سليم، ما هذا الذي تصنعين؟ قالت: هذا عرقك نجعله في طيبنا، وهو أطيب من الطيب "، أخرجاه في الصحيحين.
وروى الدارمي عن جابر قال: " كان رسول الله ﷺ لا يسلك طريقا فيتبعه أحد، إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عرقه ".
وفي حديث أم معبد المشهور، لما مر بها النبي ﷺ في الهجرة هو وأبو بكر، ومولاه، ودليلهم، وجاء زوجها فقال: صفيه لي يا أم معبد، فقالت: " رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن ".
وروى أبو زرعة عن محمد بن عمار بن ياسر، قالت: قلت للربيع بنت معوذ بن عفراء: صفي لنا رسول الله ﷺ، فقالت: " يا بني، لو رأيته رأيت الشمس طالعة ".
وفي الصحيحين عن أنس، قال: " كان رسول الله أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله راجعا، وقد سبقهم إلى الصوت، وقد استبرأ الخبر، وهو على فرس لأبي طلحة عري في عنقه السيف وهو يقول: لن تراعوا، وقال: " وجدناه بحرا "، وكان الفرس قبل ذلك بطيئا فعاد لا يجارى ".
وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: " كان رسول الله ﷺ أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، فيدارسه القرآن، فلرسول الله ﷺ أجود بالخير من الريح المرسلة ".
وفي الصحيحين عن البراء بن عازب قال: " كنا إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا الذي يحاذي به (يعني رسول الله ﷺ).
وعن علي بن أبي طالب، قال: " لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله ﷺ، وكان أشد الناس بأسا، وما كان أحد أقرب إلى العدو منه " ذكره البيهقي بإسناد صحيح.
وفي الصحيحين عن أنس، قال: " خدمت رسول الله عشر سنين، والله ما قال لي (أفا) قط، ولا قال لي لشيء: لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا؟ ".
وفي رواية في الصحيحين أيضا قال: " خدمته في السفر والحضر، والله ما قال لي لشيء صنعته: لم صنعت هذا هكذا؟ ولا لشيء لم أصنعه: لم لم تصنع هذا هكذا؟ وكان أحسن الناس خلقا ".
وفي الصحيحين عن جابر، قال: " ما سئل رسول الله ﷺ شيئا، فقال: لا ".
وفي الصحيحين عن أنس قال: " ما سئل رسول الله ﷺ على الإسلام شيئا إلا أعطاه، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم، أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة ".
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: " كان رسول الله ﷺ أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه ".
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو، وذكر رسول الله ﷺ، قال: " لم يكن فاحشا ولا متفحشا ".
وروى البخاري عن أنس قال: " لم يكن رسول الله ﷺ سبابا ولا فحاشا ولا لعانا، كان يقول لأحدنا عند المعتبة: ما له تربت جبينه ".
وفي صحيح مسلم عن عائشة أنها قالت: " ما خير رسول الله ﷺ بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله ﷺ لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمة الله ".
وعنها قالت: " ما ضرب رسول الله ﷺ بيده شيئا قط، لا امرأة ولا خادما، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله ".
وروى مسلم في صحيحه عنها، وقد سئلت عن خلق رسول الله ﷺ، فقالت: " كان خلقه القرآن ".
وروى أبو داود الطيالسي عن شعبة، حدثنا أبو إسحاق، حدثنا أبو عبد الله الجدلي، قال: سمعت عائشة، وسألها عن خلق رسول الله ﷺ، فقالت: " لم يكن فاحشا ولا متفحشا، ولا سخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، أو يغفر " شك أبو داود. ورواه الحاكم في مستدركه على الصحيحين.
وفي الصحيحين عن علقمة، قال: سألت عائشة: كيف كان عمل رسول الله ﷺ؟ وهل كان يخص شيئا من الأيام؟ قالت: " لا، كان عمله ديمة، وأيكم يستطيع ما كان رسول الله ﷺ يستطيع ".
وروى مسلم في صحيحه عن سعد بن هشام، وقد سأل عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله ﷺ، فقالت: " ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: فإن خلق نبي الله القرآن ".
وفي صحيح الحاكم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: بعثت لأتمم صالح الأخلاق.
وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة، قال: " قام رسول الله حتى تورمت قدماه، فقيل: يا رسول الله، أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: " ما عاب رسول الله ﷺ طعاما قط، إن اشتهاه أكله، وإلا تركه ".
وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وأبو الشيخ الأصبهاني من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده، أن أخاه أتى النبي ﷺ فقال: " جيراني على ما أخذوا "، فأعرض عنه النبي ﷺ فقال: " إن الناس يزعمون أنك نهيت عن الغي، ثم تستخلي به "، فقال: " لأن كنت أفعل ذلك أنه لعلي وما هو عليهم، خلوا له جيرانه ".
وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي عن أنس بن مالك قال: " ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله ﷺ، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا، لما يعلمون من كراهته لذلك " رواه عن عبد الرحمن بن مهدي: ثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عنه.
وروى عنه أبو نعيم وأبو الشيخ، وغيرهما، عن ابن عباس: " أن الله أرسل إلى نبيه ﷺ ملكا من الملائكة معه جبريل، فقال: الملك: " إن الله خيره بين أن يكون عبدا وبين أن يكون ملكا نبيا، قال: فالتفت رسول الله ﷺ إلى جبريل كالمستشير، فأشار جبريل بيده: أن تواضع، فقال رسول الله ﷺ: لا بل أكون عبدا نبيا رواه النسائي والبخاري في تاريخه.
وفي صحيح مسلم عن أنس قال: " كان غلام يهودي يخدم النبي ﷺ فمرض، فأتاه النبي ﷺ فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ فنظر الغلام إلى أبيه فقال له أبوه: " أطع أبا القاسم "، فأسلم، فقال النبي ﷺ: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار.
وعن أبي حازم أن النبي ﷺ كلم رجلا فأرعد، فقال له رسول الله ﷺ: هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد رواه ابن الجوزي من طرق بعضها متصل عن ابن مسعود، قال ابن الجوزي: " وروي متصلا "، والصواب إرساله كما تقدم.
وفي الصحيح عن أنس: " أن امرأة كان في عقلها شيء، قالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة. قال: " يا أم فلان، خذي في أي الطرق شئت، قومي فيه حتى أقوم معك "، فخلا معها يناجيها حتى قضت حاجتها " رواه مسلم.
وعن أنس قال: " كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله ﷺ فتدور به في حوائجها حتى تفرغ، ثم يرجع " رواه البخاري في الأدب.
وروي عن ابن أبي أوفى قال: " كان رسول الله ﷺ يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له حاجته ".
وعنه قال: " كان رسول الله ﷺ يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يستنكف أن يمشي مع العبد ولا مع الأرملة، حتى يفرغ من حاجتهم " ورواه الدارمي، والحاكم في صحيحه.
وروى أبو داود الطيالسي عن أنس قال: " كان رسول الله ﷺ يركب الحمار، ويلبس الصوف، ويجيب دعوة المملوك، ولقد رأيته يوم خيبر على حمار خطامه ليف ".
وروى مسلم في صحيحه عن أنس، قال: " ما رأيت أرحم بالعيال من رسول الله ".
وروى البخاري عنه، قال " مر رسول الله على صبيان فسلم عليهم.
وروى ابن عباس، قال: " كان رسول الله يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعتقل الشاة، ويجيب دعوة المملوك ".
وعن قدامة بن عبد الله: " رأيت رسول الله ﷺ على بغلة شهباء، لا ضرب ولا طرد ولا إليك " رواهما أبو الشيخ.
وعن عائشة قالت: " ما رأيت رسول الله قط مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته، إنما كان يبتسم، وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف في وجهه، فقلت: يا رسول الله، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية، قال: يا عائشة، وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب؟ قد عذب قوم بالريح، وقد أتى العذاب قوما، وتلا قوله تعالى: ( فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا). أخرجاه في الصحيحين.
وفي الصحيحين أيضا عن أنس قال: " كنت أمشي مع النبي ﷺ وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذ بردائه جبذا شديدا، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله ﷺ قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك، قال: فالتفت إليه رسول الله فضحك، ثم أمر له بعطاء ".
وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة، قال: " كان رسول الله ﷺ لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام، وكانوا يتحدثون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم ".
وفي رواية أخرى صحيحة: " كان طويل الصمت، قليل الضحك، وكان أصحابه ربما تناشدوا عنده الشعر، والشيء من أمورهم، فيضحكون ويتبسم ".
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها، وسألها الأسود: ما كان رسول الله ﷺ يصنع في أهله؟ فقالت: " كان يكون في مهنة أهله - تعني خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة خرج ".
ومن رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، قال: " سأل رجل عائشة؛ هل كان يعمل في بيته؟ فقالت: كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته ".
وروى الطيالسي: ثنا شعبة، ثنا الأعور، قال: سمعت أنسا يقول: " كان رسول الله يركب الحمار، ويلبس الصوف، ويجيب دعوة المملوك، ولقد رأيته يوم خيبر على حمار خطامه من ليف ".
وروى مسلم في صحيحه عن أنس، قال: " ما رأيت أحدا أرحم بالعيال من رسول الله ".
وروى عنه البخاري قال: " مر رسول الله على صبيان، فسلم عليهم ".
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: " ما شبع رسول الله ﷺ ثلاثة أيام من خبز بر تباعا، حتى مضى لسبيله ".
وعنها قالت: " كنا آل محمد ﷺ يمر بنا الهلال والهلال، ما نوقد بنار لطعام، إلا أنه التمر والماء، إلا أنه حولنا أهل دور من الأنصار، فيبعث أهل كل دار بفريزة شاتهم إلى رسول الله ﷺ، وكان النبي ﷺ يشرب من ذلك اللبن " أخرجاه في الصحيحين.
وفي صحيح البخاري، قال أنس: " ما رأى رسول الله ﷺ رغيفا مرققا حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطا بعينه قط ".
وفي صحيح البخاري عنه: " ما أكل رسول الله ﷺ على خوان، ولا في سكرجة، ولا خبز له مرقق ". فقيل له: على ما كانوا يأكلون؟ قال: " على السفر ".
وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب: أنه خطب وذكر ما فتح على الناس، فقال: " لقد رأيت رسول الله ﷺ يتلوى يومه من الجوع ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه ".
وفي صحيح البخاري عن أنس: " أنه مشى إلى النبي ﷺ بخبز شعير، وإهالة سنخة، ولقد رهن درعه عند يهودي فأخذ لأهله شعيرا، ولقد سمعته يقول: ما أمسى عند آل محمد صاع بر ولا صاع حب، وإنهم يومئذ تسعة أبيات.
وفيه عن عائشة، قالت: " كان فراش رسول الله من أدم حشوه ليف ".
وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه - لما ذكر اعتزال رسول الله نساءه - قال: " فدخلت على رسول الله ﷺ في خزانته، فإذا هو مضطجع على حصير، فأدنى إليه إزاره وجلس، وإذا الحصير قد أثر بجنبه، وقلبت عيني في بيته فلم أجد شيئا يرد البصر غير قبضة من شعير وقبضة من قرظ نحو الصاعين، وإذا أفيق معلقة، فابتدرت عيناي، فقال رسول الله: ما يبكيك يا ابن الخطاب؟ فقلت: يا رسول الله، وما لي لا أبكي وأنت صفوة الله ورسوله وخيرته من خلقه، وهذه خزانتك، وهذه الأعاجم كسرى وقيصر في الثمار والأنهار! فقال: أوفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، وفي رواية أو ما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة؟ قال: بلى، قال: فالحمد لله عز وجل. قال: " فقلت: أستغفر الله ".
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا.
وروى الطيالسي بإسناد صحيح عن ابن مسعود، قال: " اضطجع النبي على حصير، فأثر الحصير بجلده، فجعلت أمسحه عنه وأقول: " بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ألا آذنتنا فنبسط لك شيئا يقيك منه تنام عليه؟ " فقال: " ما لي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها ".
ورواه الحاكم في صحيحه عن ابن عباس أن عمر دخل على النبي ﷺ وذكر نحوه.
وفي الترمذي عن أنس بن مالك، قال: " حج النبي ﷺ على رحل رث وقطيفة "، ورواه البخاري - أيضا - عن أنس في (كتاب الحج) فقال: " حج أنس على رحل رث، ولم يكن شحيحا، وحدث أن النبي ﷺ حج على رحل، وكانت زاملته ".
وفي صحيح الحاكم عن أنس: أن النبي ﷺ لبس خشنا، وأكل خشنا، ولبس الصوف، واحتذى المخصوف. قيل: للحسن: ما الخشن؟ قال: " غليظ الشعير، ما كان يسيغه إلا بجرعة ماء ".
هامش
- ↑ انظر الأعمال 17: 23
- ↑ الخروج 32: 8، يوشع 24: 23، القضاة 10: 6، متى 23: 31
- ↑ التثنية 20
- ↑ انظر التثنية 18:18
- ↑ التثنية 33: 2
- ↑ التكوين 21:21
- ↑ التكوين 21: 14-20
- ↑ التكوين 17: 20
- ↑ التكوين 16: 12
- ↑ التكوين 16: 10؛ 17: 20
- ↑ 11٫0 11٫1 حبقوق 3:3
- ↑ التكوين 16: 8-12
- ↑ مزمور 149: 1-7
- ↑ مزمور 45: 2-5
- ↑ انظر أشعيا 5: 26-28 و 54: 1-17
- ↑ انظر مزمور 72: 8-15
- ↑ انظر أشعياء 21: 6-9
- ↑ انظر أشعياء 60: 4-7
- ↑ انظر البشارات أوردها علي بن ربن الطبري.
- ↑ أشعياء 5: 26-30
- ↑ انظر أشعياء 54: 1-3
- ↑ انظر أشعياء 9: 6-7.
- ↑ 23٫0 23٫1 يوحنا 14: 30
- ↑ خاتم النبوة
- ↑ انظر أشعياء 42: 10-13
- ↑ التكوين 25: 13
- ↑ أشعياء 54: 1-17
- ↑ انظر حبقوق 3: 3-7
- ↑ انظر حبقوق 3: 8-13
- ↑ انظر حزقيال 20: 45-49
- ↑ أخبار الأيام الأول 1: 29
- ↑ في النسخ هنا زيادة (إلياس بن مضر)
- ↑ انظر دانيال 7: 13-14
- ↑ انظر دانيال 2
- ↑ انظر دانيال 9
- ↑ 36٫0 36٫1 يوحنا 14: 26
- ↑ يوحنا 14: 16-18
- ↑ يوحنا 14: 23-28
- ↑ يوحنا 15: 7-8
- ↑ يوحنا 15: 26
- ↑ يوحنا 16: 1
- ↑ يوحنا 16: 7-8
- ↑ يوحنا 16: 12-13
- ↑ انظر يوحنا 16: 15-16
- ↑ متى 21: 42-44
- ↑ 46٫0 46٫1 رسالة يوحنا الأولى 4: 1-3
- ↑ رسالة بطرس الأولى 4: 17
- ↑ إنجيل متى 9: 34
- ↑ يوحنا 14: 16