الرئيسيةبحث

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح/الجزء الأول

توجد نسخة

☰ جدول المحتويات


مقدمة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

لا إله إلا الله محمد رسول الله، الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين.

الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.

الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل.

والله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا.

الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور.

الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم.

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم: له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم؛ الأحد، الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الملك، القدوس، السلام المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، له الأسماء الحسنى، يسبح له ما في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا، أرسله بالحق بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، أرسله إلى جميع الثقلين الجن والإنس عربهم وعجمهم أميهم وكتابيهم، وأنزل عليه: أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد.

كتاب أنزله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض.

هداهم به إلى صراط مستقيم، صراط الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وهو صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهو دين الله الذي بعث به الرسل قبله، كما قال تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه.

وقال تعالى: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون.

وقال في الآية الأخرى: وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون.

وقال تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون.

وقال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين.

أنزل عليه الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، فصدق كتابه ما بين يديه من كتب السماء، وأمر بالإيمان بجميع الأنبياء، كما قال تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم.

وهيمن على ما بين يديه من الكتاب، وذلك يعم الكتب كلها، شاهدا وحاكما ومؤتمنا، يشهد بمثل ما فيها من الأخبار الصادقة.

وقرر ما في الكتاب الأول من أصول الدين وشرائعه الجامعة التي اتفقت عليها الرسل، كالوصايا المذكورة في آخر الأنعام، وأول الأعراف، وسورة سبحان، ونحوها من السور المكية.

قال تعالى: قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون.

وقال تعالى: قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون.

وقال تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا.

فدين الأنبياء والمرسلين دين واحد، وإن كان لكل من التوراة والإنجيل والقرآن شرعة ومنهاج، ولهذا قال ﷺ في الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ: إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، وإن أولى الناس بابن مريم لأنا، إنه ليس بيني وبينه نبي.

فدين المرسلين يخالف دين المشركين المبتدعين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا.

قال تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون.

وقال تعالى: وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون.

وقال تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب.

وقد خص الله تبارك وتعالى محمدا ﷺ بخصائص ميزه بها على جميع الأنبياء والمرسلين، وجعل له شرعة ومنهاجا، أفضل شرعة وأكمل منهاج.

كما جعل أمته خير أمة أخرجت للناس، فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله من جميع الأجناس، هداهم الله بكتابه ورسوله لما اختلفوا فيه من الحق قبلهم، وجعلهم وسطا عدلا خيارا، فهم وسط في توحيد الله وأسمائه وصفاته، وفي الإيمان برسله، وكتبه، وشرائع دينه من الأمر، والنهي، والحلال، والحرام.

فأمرهم بالمعروف، ونهاهم عن المنكر، وأحل لهم الطيبات، وحرم عليهم الخبائث، لم يحرم عليهم شيئا من الطيبات كما حرم على اليهود، ولم يحل لهم شيئا من الخبائث كما استحلتها النصارى، ولم يضيق عليهم باب الطهارة، والنجاسة كما ضيق على اليهود، ولم يرفع عنهم طهارة الحدث، والخبث كما رفعته النصارى، فلا يوجبون الطهارة من الجنابة ولا الوضوء للصلاة، ولا اجتناب النجاسة في الصلاة، بل يعد كثير من عبادهم مباشرة النجاسات من أنواع القرب والطاعات حتى يقال في فضائل الراهب: " له أربعون سنة ما مس الماء "، ولهذا تركوا الختان مع أنه شرع إبراهيم الخليل "عليه السلام" وأتباعه.

واليهود إذا حاضت عندهم المرأة، لا يؤاكلونها ولا يشاربونها، ولا يقعدون معها في بيت واحد؛ والنصارى لا يحرمون وطء الحائض.

وكان اليهود لا يرون إزالة النجاسة، بل إذا أصاب ثوب أحدهم قرضه بالمقراض، والنصارى ليس عندهم شيء نجس يحرم أكله أو تحرم الصلاة معه.

ولذلك المسلمون وسط في الشريعة؛ فلم يجحدوا شرعه الناسخ لأجل شرعه المنسوخ، كما فعلت اليهود، ولا غيروا شيئا من شرعه المحكم، ولا ابتدعوا شرعا لم يأذن به الله كما فعلت النصارى، ولا غلوا في الأنبياء والصالحين كغلو النصارى، ولا بخسوهم حقوقهم كفعل اليهود، ولا جعلوا الخالق سبحانه متصفا بخصائص المخلوق، ونقائضه، ومعايبه من الفقر، والبخل، والعجز، كفعل اليهود، ولا المخلوق متصفا بخصائص الخالق سبحانه التي ليس كمثله فيها شيء كفعل النصارى، ولم يستكبروا عن عبادته كفعل اليهود، ولا أشركوا بعبادته أحدا كفعل النصارى.

وأهل السنة والجماعة في الإسلام كأهل الإسلام في أهل الملل، فهم وسط في باب صفات الله عز وجل بين أهل الجحد والتعطيل، وبين أهل التشبيه والتمثيل، يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسله من غير تعطيل، ولا تمثيل إثباتا لصفات الكمال، وتنزيها له عن أن يكون له فيها أنداد، وأمثال، إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل. كما قال تعالى: ليس كمثله شيء ردا على الممثلة، وهو السميع البصير ردا على المعطلة.

وقال تعالى: قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.

فالصمد: السيد المستوجب لصفات الكمال، والأحد: الذي ليس له كفو، ولا مثال، وهم وسط في باب أفعال الله عز وجل بين المعتزلة المكذبين للقدر، والجبرية النافين لحكمة الله ورحمته وعدله، والمعارضين بالقدر أمر الله، ونهيه، وثوابه، وعقابه.

وفي باب الوعد والوعيد، بين الوعيدية الذين يقولون بتخليد عصاة المسلمين في النار، وبين المرجئة الذين يجحدون بعض الوعيد، وما فضل الله به الأبرار على الفجار.

وهم وسط في أصحاب رسول الله ﷺ، بين الغالي في بعضهم الذي يقول بإلهية، أو نبوة، أو عصمة، والجافي فيهم الذي يكفر بعضهم، أو يفسقه، وهم خيار هذه الأمة.

والله سبحانه أرسل محمدا ﷺ للناس رحمة وأنعم به نعمة يا لها من نعمة.

قال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.

وقال تعالى: ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا.

وهم الذين لم يؤمنوا بمحمد ﷺ؛ فإرساله أعظم نعمة أنعم الله بها على عباده، يجمع الله لأمته بخاتم المرسلين، وإمام المتقين وسيد ولد آدم أجمعين، ما فرقه في غيرهم من الفضائل، وزادهم من فضله أنواع الفواضل بل أتاهم كفلين من رحمته كما قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

وفي الصحيحين عن ابن عمر وأبي موسى عن النبي ﷺ أنه قال: إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم، ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ فعملت اليهود إلى نصف النهار، ثم قال من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط، ثم قال من يعمل من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس ألا لكم الأجر مرتين. فغضبت اليهود والنصارى، فقالوا نحن أكثر عملا، وأقل عطاء، فقال الله تعالى: فهل ظلمتكم من حقكم شيئا، قالوا: لا، قال الله تعالى، فإنه فضلي أعطيه من شئت.

أما بعد: فإن الله تبارك وتعالى جعل محمدا ﷺ خاتم النبيين، وأكمل له ولأمته الدين، وبعثه على حين فترة من الرسل وظهور الكفر، وانطماس السبل، فأحيا به ما درس من معالم الإيمان، وقمع به أهل الشرك من عباد الأوثان، والنيران، والصلبان، وأذل به كفار أهل الكتاب أهل الشك والارتياب، وأقام به منار دينه الذي ارتضاه، وشاد به ذكر من اجتباه من عباده واصطفاه، وأظهر به ما كان مخفيا عند أهل الكتاب، وأبان به ما عدلوا فيه عن منهج الصواب، وحقق به صدق التوراة، والزبور، والإنجيل، وأماط به عنها ما ليس بحقها من باطل التحريف، والتبديل.

وكان من سنة الله تبارك وتعالى مواترة الرسل، وتعميم الخلق بهم، بحيث يبعث في كل أمة رسولا؛ ليقيم هداه، وحجته، كما قال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت.

وقال تعالى: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير.

وقال تعالى: ثم أرسلنا رسلنا تترى.

وقال تعالى: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما.

ولما أهبط آدم إلى الأرض، قال تعالى: قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.

وقال تعالى عن أهل النار: كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير.

وقال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا.

وقال تعالى: يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون.

فصل: دين الأنبياء واحد هو الإسلام

وكان دينه الذي ارتضاه الله لنفسه هو دين الإسلام: الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل، ولا يقبل من أحد دينا غيره لا من الأولين ولا من الآخرين.

وهو دين الأنبياء وأتباعهم، كما أخبر الله تعالى بذلك عن نوح ومن بعده إلى الحواريين.

قال تعالى: واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين.

وقال تعالى عن إبراهيم: ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون.

وقال تعالى عن يوسف الصديق: رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين.

وقال تعالى عن موسى: ياقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين.

وأخبر تعالى عن السحرة، أنهم قالوا لفرعون: وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين.

وقال تعالى عن بلقيس ملكة اليمن: رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين.

وقال تعالى عن أنبياء بني إسرائيل: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا.

وقال تعالى عن المسيح: فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون.

وقال تعالى: وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون.

فهذا دين الأولين والآخرين من الأنبياء وأتباعهم هو دين الإسلام، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وعبادته تعالى في كل زمان ومكان، بطاعة رسله عليهم السلام.

فلا يكون عابدا له من عبده بخلاف ما جاءت به رسله: كالذين قال فيهم: أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله.

فلا يكون مؤمنا به إلا من عبده بطاعة رسله، ولا يكون مؤمنا به، ولا عابدا له إلا من آمن بجميع رسله، وأطاع من أرسل إليه، فيطاع كل رسول إلى أن يأتي الذي بعده، فتكون الطاعة للرسول الثاني.

قال تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله.

ومن فرق بين رسله فآمن ببعض وكفر ببعض كان كافرا، كما قال تعالى: إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما.

فلما كان محمد ﷺ خاتم النبيين، ولم يكن بعده رسول، ولا من يجدد الدين لم يزل الله سبحانه وتعالى يقيم لتجديد الدين من الأسباب ما يكون مقتضيا لظهوره، كما وعد به في الكتاب، فيظهر به محاسن الإيمان ومحامده، ويعرف به مساوئ الكفر ومفاسده.

من أسباب ظهور الإيمان

أولا: ظهور المعارضين للحق

ومن أعظم أسباب ظهور الإيمان والدين، وبيان حقيقة أنباء المرسلين ظهور المعارضين لهم من أهل الإفك المبين.

كما قال تعالى: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم.

وقال تعالى: ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ياويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا.

وذلك أن الحق إذا جحد وعورض بالشبهات أقام الله تعالى له مما يحق به الحق، ويبطل به الباطل من الآيات البينات بما يظهره من أدلة الحق وبراهينه الواضحة، وفساد ما عارضه من الحجج الداحضة.

فالقرآن لما كذب به المشركون، واجتهدوا على إبطاله بكل طريق مع أنه تحداهم بالإتيان بمثله، ثم بالإتيان بعشر سور، ثم بالإتيان بسورة واحدة، كان ذلك مما دل ذوي الألباب على عجزهم عن المعارضة، مع شدة الاجتهاد، وقوة الأسباب، ولو اتبعوه من غير معارضة وإصرار على التبطيل، لم يظهر عجزهم عن معارضته التي بها يتم الدليل.

وكذلك السحرة لما عارضوا موسى "عليه السلام"، وأبطل الله ما جاءوا به، كان ذلك مما بين الله تبارك وتعالى به صدق ما جاء به موسى "عليه السلام"، وهذا من الفروق بين آيات الأنبياء وبراهينهم التي تسمى بالمعجزات، وبين ما قد يشتبه بها من خوارق السحرة، وما للشيطان من التصرفات، فإن بين هذين فروقا متعددة، منها ما ذكره الله تعالى في قوله: هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم.

ومنها ما بينه في آيات التحدي، من أن آيات الأنبياء عليهم السلام لا يمكن أن تعارض بالمثل فضلا عن الأقوى، ولا يمكن أحدا إبطالها بخلاف خوارق السحرة والشياطين؛ فإنه يمكن معارضتها بمثلها وأقوى منها ويمكن إبطالها.

ثانيا: معارضة أعداء الحق بدعاويهم الكاذبة

وكذلك سائر أعداء الأنبياء من المجرمين شياطين الإنس والجن، الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا إذا أظهروا من حججهم ما يحتجون به على دينهم المخالف لدين الرسول، ويموهون في ذلك بما يلفقونه من منقول ومعقول - كان ذلك من أسباب ظهور الإيمان الذي وعد بظهوره على الدين كله بالبيان والحجة والبرهان ثم بالسيف واليد والسنان.

قال الله تعالى: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز.

وذلك بما يقيمه الله تبارك وتعالى من الآيات والدلائل التي يظهر بها الحق من الباطل، والخالي من العاطل، والهدى من الضلال، والصدق من المحال، والغي من الرشاد، والصلاح من الفساد، والخطأ من السداد، وهذا كالمحنة للرجال التي تميز بين الخبيث والطيب. قال تعالى: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب.

وقال تعالى: الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون.

والفتنة هي الامتحان والاختبار، كما قال موسى "عليه السلام": إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء.

أي امتحانك واختبارك تضل بها من خالف الرسل وتهدي بها من اتبعهم.

والفتنة للإنسان كفتنة الذهب إذا أدخل كير الامتحان، فإنها تميز جيده من رديئه، فالحق كالذهب الخالص، كلما امتحن ازداد جودة، والباطل كالمغشوش المضيء، إذا امتحن ظهر فساده.

فالدين الحق كلما نظر فيه الناظر، وناظر عنه المناظر، ظهرت له البراهين، وقوي به اليقين، وازداد به إيمان المؤمنين، وأشرق نوره في صدور العالمين.

والدين الباطل إذا جادل عنه المجادل، ورام أن يقيم عوده المائل، أقام الله تبارك وتعالى من يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، وتبين أن صاحبه الأحمق كاذب مائق، وظهر فيه من القبح والفساد، والحلول، والاتحاد، والتناقض والإلحاد، والكفر، والضلال، والجهل والمحال، ما يظهر به لعموم الرجال أن أهله من أضل الضلال، حتى يظهر فيه من الفساد ما لم يكن يعرفه أكثر العباد، ويتنبه بذلك من سنة الرقاد من كان لا يميز الغي من الرشاد، ويحيا بالعلم والإيمان من كان ميت القلب لا يعرف معروف الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولا ينكر منكر المغضوب عليهم والضالين، فإن ما ذم الله به اليهود والنصارى في كتابه مثل تكذيب الحق المخالف للهوى، والاستكبار عن قبوله، وحسد أهله، والبغي عليهم، واتباع سبيل الغي، والبخل، والجبن، وقسوة القلوب، ووصف الله سبحانه وتعالى بمثل عيوب المخلوقين، ونقائصهم، وجحد ما وصف به نفسه من صفات الكمال المختصة به التي لا يماثله فيها مخلوق، وبمثل الغلو في الأنبياء والصالحين والإشراك في العبادة لرب العالمين، والقول بالحلول والاتحاد الذي يجعل العبد المخلوق هو رب العباد، والخروج في أعمال الدين عن شرائع الأنبياء والمرسلين، والعمل بمجرد هوى القلب وذوقه ووجده في الدين من غير اتباع العلم الذي أنزله الله في كتابه المبين، واتخاذ أكابر العلماء، والعباد أربابا يتبعون فيما يبتدعونه من الدين المخالف للأنبياء عليهم السلام كما قال تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.

ومخالفة صريح المعقول وصحيح المنقول، بما يظن أنه من التنزلات الإلهية، والفتوحات القدسية، مع كونه من وساوس اللعين، حتى يكون صاحبها ممن قال الله فيه: وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير.

وقال تعالى: ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل.

إلى غير ذلك من أنواع البدع والضلالات، التي ذم الله بها أهل الكتابين، فإنها مما حذر الله منه هذه الأمة الأخيار، وجعل ما حل بها عبرة لأولي الأبصار.

ثالثا: التحذير من اتباع بدع اليهود والنصارى

وقد أخبر النبي ﷺ أنه لا بد من وقوعها في بعض هذه الأمة، وإن كان قد أخبر ﷺ أنه لا يزال في أمته أمة قائمة على الحق، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة، وأن أمته لا تجتمع على ضلالة، ولا يغلبها من سواها من الأمم، بل لا تزال منصورة متبعة لنبيها المهدي المنصور.

لكن لا بد أن يكون فيها من يتتبع سنن اليهود والنصارى والروم والمجوس، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا في جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى، قال: فمن؟.

وفي الصحيحين أيضا، عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي ﷺ أنه قال: لتأخذ أمتي مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر، وذراعا بذراع، قالوا: يا رسول الله، فارس والروم، قال: فمن الناس إلا أولئك.

وفي المظهرين للإسلام منافقون، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار تحت اليهود والنصارى؛ فلهذا كان ما ذم الله به اليهود والنصارى قد يوجد في المنافقين المنتسبين للإسلام الذين يظهرون الإيمان بجميع ما جاء به الرسول، ويبطنون خلاف ذلك كالملاحدة الباطنية، فضلا عمن يظهر الإلحاد منهم.

ويوجد بعض ذلك في أهل البدع، ممن هو مقر بعموم رسالة النبي ﷺ، باطنا وظاهرا، لكن اشتبه عليه بعض ما اشتبه على هؤلاء، فاتبع المتشابه، وترك المحكم كالخوارج وغيرهم من أهل الأهواء.

وللنصارى في صفات الله سبحانه وتعالى، واتحاده بالمخلوقات ضلال شاركهم فيه كثير من هؤلاء، بل من الملاحدة من هو أعظم ضلالا من النصارى.

والحلول والاتحاد نوعان: عام، وخاص.

فالعام: كالذين يقولون إن الله بذاته حال في كل مكان، أو إن وجوده عين وجود المخلوقات.

والخاص: كالذين يقولون بالحلول والاتحاد في بعض أهل البيت، كعلي، وغيره، مثل النصيرية، وأمثالهم، أو بعض من ينتسب إلى أهل البيت كالحاكم، وغيره، مثل الدرزية وأمثالهم، أو بعض من يعتقد فيه المشيخة، كالحلاجية، وأمثالهم.

فمن قال: إن الله سبحانه وتعالى حل، أو اتحد بأحد من الصحابة، أو القرابة، أو المشايخ، فهو من هذا الوجه أكفر من النصارى الذين قالوا بالاتحاد والحلول في المسيح، فإن المسيح "عليه السلام" أفضل من هؤلاء كلهم.

ومن قال بالحلول والاتحاد العام، فضلاله أعم من ضلال النصارى، وكذلك من قال بقدم أرواح بني آدم، أو أعمالهم، أو كلامهم، أو أصواتهم، أو مداد مصاحفهم، أو نحو ذلك، ففي قوله شعبة من قول النصارى.

فبمعرفة حقيقة دين النصارى وبطلانه يعرف به بطلان ما يشبه أقوالهم من أقوال أهل الإلحاد والبدع.

فإذا جاء نور الإيمان والقرآن أزهق الله به ما خالفه، كما قال تعالى: وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا.

وأبان الله سبحانه وتعالى من فضائل الحق ومحاسنه ما كان به محقوقا.

سبب تأليف الكتاب

وكان من أسباب نصر الدين وظهوره، أن كتابا ورد من قبرص فيه الاحتجاج لدين النصارى، بما يحتج به علماء دينهم وفضلاء ملتهم، قديما، وحديثا من الحجج السمعية، والعقلية، فاقتضى ذلك أن نذكر من الجواب ما يحصل به فصل الخطاب، وبيان الخطإ من الصواب؛ لينتفع بذلك أولو الألباب، ويظهر ما بعث الله به رسله من الميزان، والكتاب.

وأنا أذكر ما ذكروه بألفاظهم بأعيانها فصلا فصلا، وأتبع كل فصل بما يناسبه من الجواب فرعا وأصلا، وعقدا وحلا.

وما ذكروه في هذا الكتاب هو عمدتهم التي يعتمد عليها علماؤهم في مثل هذا الزمان، وقبل هذا الزمان، وإن كان قد يزيد بعضهم على بعض بحسب الأحوال؛ فإن هذه الرسالة وجدناهم يعتمدون عليها قبل ذلك، ويتناقلها علماؤهم بينهم، والنسخ بها موجودة قديمة، وهي مضافة إلى بولص الراهب أسقف صيدا الأنطاكي، كتبها إلى بعض أصدقائه، وله مصنفات في نصر النصرانية، وذكر أنه لما سافر إلى بلاد الروم والقسطنطينية وبلاد الملافطة وبعض أعمال الإفرنج ورومية، واجتمع بأجلاء أهل تلك الناحية، وفاوض أفاضلهم، وعلماءهم، وقد عظم هذه الرسالة، وسماها (الكتاب المنطيقي الدولة خاني المبرهن عن الاعتقاد الصحيح، والرأي المستقيم).

مجمل ما جاء برسالة بولس من دعاوى

ومضمون ذلك ستة فصول:

الفصل الأول: دعواهم أن محمدا ﷺ لم يبعث إليهم بل إلى أهل الجاهلية من العرب، ودعواهم أن في القرآن ما يدل على ذلك، والعقل يدل على ذلك.

الفصل الثاني: دعواهم أن محمدا ﷺ أثنى في القرآن على دينهم الذي هم عليه، ومدحه بما أوجب لهم أن يثبتوا عليه.

الفصل الثالث: دعواهم أن نبوات الأنبياء المتقدمين، كالتوراة والزبور والإنجيل، وغير ذلك من النبوات تشهد لدينهم الذي هم عليه من الأقانيم، والتثليث، والاتحاد، وغير ذلك، بأنه حق وصواب، فيجب التمسك به، ولا يجوز العدول عنه إذا لم يعارضه شرع يرفعه، ولا عقل يدفعه.

والفصل الرابع: فيه تقرير ذلك بالمعقول، وأن ما هم عليه من التثليث ثابت بالنظر المعقول، والشرع المنقول، موافق للأصول.

والفصل الخامس: دعواهم أنهم موحدون، والاعتذار عما يقولونه من ألفاظ يظهر منها تعدد الآلهة، كألفاظ الأقانيم؛ فإن ذلك من جنس ما عند المسلمين من النصوص التي يظهر منها التشبيه والتجسيم.

والفصل السادس: أن المسيح "عليه السلام" جاء بعد موسى "عليه السلام" بغاية الكمال، فلا حاجة بعد النهاية إلى شرع يزيد على الغاية، بل يكون ما بعد ذلك شرعا غير مقبول.

نهج المؤلف في رد دعاويهم الباطلة

ونحن ولله الحمد والمنة نبين أن كل ما احتجوا به من حجة سمعية من القرآن، أو من الكتب المتقدمة على القرآن، أو عقلية، فلا حجة لهم في شيء منها، بل الكتب كلها مع القرآن والعقل حجة عليهم، لا لهم، بل عامة ما يحتجون به من نصوص الأنبياء، ومن المعقول فهو نفسه حجة عليهم، ويظهر منه فساد قولهم مع ما يفسده من سائر النصوص النبوية، والموازين التي هي مقاييس عقلية.

وهكذا يوجد عامة ما يحتج به أهل البدع من كتب الله عز وجل ففي تلك النصوص ما يتبين أنه لا حجة لهم فيها، بل هي بعينها حجة عليهم، كما ذكر أمثال ذلك في الرد على أهل البدع والأهواء، وغيرهم من أهل القبلة.

وإنما عامة ما عند القوم ألفاظ متشابهة، تمسكوا بما ظنوها تدل عليه، وعدلوا عن الألفاظ المحكمة الصريحة المبينة، مع ما يقترن بذلك من الأهواء.

وهذه حال أهل الباطن، كما قال تعالى: إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى.

فهم في جهل وظلم، كما قال تعالى: وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما.

فالمؤمنون الذين تاب الله عليهم من الجهل والظلم هم أتباع الأنبياء عليهم السلام، فإن الأنبياء بعثوا بالعلم والعدل، كما قال تعالى: والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.

فبين سبحانه وتعالى أنه ليس ضالا جاهلا، ولا غاويا متبعا هواه، ولا ينطق عن هواه، إنما نطقه وحي أوحاه الله سبحانه وتعالى.

وقال تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا.

فالهدى يتضمن العلم النافع، ودين الحق يتضمن العمل الصالح، ومبناه على العدل، كما قال تعالى: وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط.

وأصل العدل العدل في حق الله تعالى، وهو عبادته وحده لا شريك له؛ فإن الشرك ظلم عظيم، كما قال لقمان لابنه: يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم.

وفي الصحيحين: عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، لما نزلت الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الآية، شق ذلك على أصحاب رسول الله ﷺ، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله ﷺ: ليس هو كما تظنون إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح إن الشرك لظلم عظيم؟.

ولما كان أتباع الأنبياء هم أهل العلم والعدل، كان كلام أهل الإسلام والسنة مع الكفار، وأهل البدع بالعلم والعدل لا بالظن، وما تهوى الأنفس؛ ولهذا قال النبي ﷺ: القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار. رواه أبو داود وغيره.

فإذا كان من يقضي بين الناس في الأموال والدماء والأعراض، إذا لم يكن عالما عادلا، كان في النار، فكيف بمن يحكم في الملل، والأديان، وأصول الإيمان، والمعارف الإلهية، والمعالم الكلية بلا علم، ولا عدل؟ كحال أهل البدع، والأهواء، الذين يتمسكون بالمتشابه المشكوك، ويدعون المحكم الصريح من نصوص الأنبياء ويتمسكون بالقدر المشترك المتشابه في المقاييس والآراء، ويعرضون عما بينهما من الفروق المانعة من الإلحاق والاستواء، كحال الكفار، وسائر أهل البدع والأهواء الذين يمثلون المخلوق بالخالق، والخالق بالمخلوق، ويضربون لله المثل بالقول الهزء.

ما كفرت به النصارى

وذلك أن دين النصارى الباطل إنما هو دين مبتدع، ابتدعوه بعد المسيح "عليه السلام"، وغيروا به دين المسيح، فضل منهم من عدل عن شريعة المسيح إلى ما ابتدعوه.

ثم لما بعث الله محمدا ﷺ كفروا به فصار كفرهم وضلالهم من هذين الوجهين: تبديل دين الرسول الأول، وتكذيب الرسول الثاني.

كما كان كفر اليهود بتبديلهم أحكام التوراة قبل مبعث المسيح، ثم تكذيبهم المسيح "عليه السلام".

ونبين إن شاء الله أن ما عليه النصارى من التثليث والاتحاد، لم يدل عليه شيء من كتب الله: لا الإنجيل ولا غيره، بل دلت على نقيض ذلك، ولا دل على ذلك عقل بل العقل الصريح مع نصوص الأنبياء تدل على نقيض ذلك، بل وكذلك عامة شرائع دينهم محدثة مبتدعة، لم يشرعها المسيح "عليه السلام".

ثم التكذيب لمحمد ﷺ هو كفرهم المعلوم لكل مسلم، مثل كفر اليهود بالمسيح "عليه السلام" وأبلغ.

وهم يبالغون في تكفير اليهود بأعظم مما يستحقه اليهود من التكفير، إذ كان اليهود يزعمون أن المسيح ساحر كذاب، بل يقولون: إنه ولد غية، كما أخبر الله عنهم بقوله:

وقولهم على مريم بهتانا عظيما.

والنصارى يدعون أن الله الذي خلق الأولين والآخرين، وأنه ديان يوم الدين، فكانت الأمتان فيه على غاية التناقض والتعادي والتقابل؛ ولهذا كل أمة تذم الأخرى بأكثر مما تستحقه، كما قال تعالى: وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.

ذكر محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، رضي الله عنهما أنه قال لما قدم وفد نجران من النصارى على رسول الله ﷺ أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله ﷺ، فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شيء، وكفر بعيسى والإنجيل جميعا، فقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء، وجحد نبوة موسى، وكفر بالتوراة، فأنزل الله ذلك في قولهما وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب. قال: كل يتلو في كتابه تصديق ما كفر: أي تكفر اليهود بعيسى، وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى "عليه السلام"، وفي الإنجيل بإجابة عيسى بتصديق موسى، وبما جاء به من التوراة من عند الله وكل يكفر بما في يدي صاحبه.

قال قتادة وقالت اليهود ليست النصارى على شيء قال: بلى قد كان أوائل النصارى على شيء ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا.

وقالت النصارى ليست اليهود على شيء قال: بلى قد كانت أوائل اليهود على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا.

تكفير اليهود للنصارى والنصارى لليهود

فاليهود كذبوا بدين النصارى، وقالوا ليسوا على شيء، والنصارى كذبوا بجميع ما تميز به اليهود عنهم، حتى في شرائع التوراة التي لم ينسخها المسيح، بل أمرهم بالعمل بها، وكذبوا بكثير من الذين تميزوا به عنهم، حتى كذبوا بما جاء به عيسى "عليه السلام" من الحق.

لكن النصارى - وإن بالغوا في تكفير اليهود ومعاداتهم على الحد الواجب عما ابتدعوه من الغلو والضلال - فلا ريب أن اليهود لما كذبوا المسيح صاروا كفارا، كما قال تعالى للمسيح: إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا.

وقال تعالى: قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين.

وكفر النصارى بتكذيب محمد ﷺ، وبمخالفة المسلمين أعظم من كفر اليهود بمجرد تكذيب المسيح، فإن المسيح لم ينسخ من شرع التوراة إلا قليلا، وسائر شرعه إحالة على التوراة، ولكن عامة دين النصارى أحدثوه بعد المسيح، فلم يكن في مجرد تكذيب اليهود له من مخالفة شرع الله الذي جاء بكتاب مستقل من عند الله لم يحل شيئا من شرعه على شرع غيره.

قال الله تعالى: أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون.

والقرآن أصل كالتوراة وإن كان أعظم منها؛ ولهذا علماء النصارى يقرنون بين موسى ومحمد ﷺ، كما قال النجاشي ملك النصارى لما سمع القرآن: إن هذا والذي جاء به

موسى ليخرج من مشكاة واحدة.

وكذلك قال ورقة بن نوفل، وهو من أحبار نصارى العرب، لما سمع كلام النبي ﷺ، فقال له: إنه يأتيك الناموس الذي يأتي موسى، يا ليتني فيها جذعا، حين يخرجك

قومك، فقال النبي ﷺ: أومخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت أحد بمثل ما أتيت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.

ولهذا يقرن سبحانه بين التوراة والقرآن، في مثل قوله فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا ويعني التوراة والقرآن، وفي القراءة الأخرى (قالوا ساحران) أي محمد وموسى.

وقالوا إنا بكل كافرون قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين.

فلم ينزل كتاب من عند الله أهدى من التوراة والقرآن.

ثم قال تعالى: فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين.

وهؤلاء النصارى، ذكر كاتب كتابهم في كتابه: أنه لما سأله سائل أن يفحص له فحصا بينا عما يعتقده النصارى المسيحيون المختلفة ألسنتهم المتفرقة في أربع زوايا العالم، من المشرق إلى المغرب، ومن الجنوب الى الشمال، والقاطنون بجزائر البحر، والمقيمون بالبر المتصل إلى مغيب الشمس، وإن الأسقف دميان الملك الرومي اجتمع بمن اجتمع به من أجلائهم ورؤسائهم، وفاوض من فاوض من أفاضلهم، وعلمائهم، فيما علمه من رأي القوم الذين رآهم بجزائر البحر قبل دخوله إلى قبرص، وخاطبهم في دينهم وما يعتقدونه ويحتجون به عن أنفسهم، قال الكاتب على لسان الأسقف: إنهم يقولون إنا سمعنا أن قد ظهر إنسان من العرب اسمه محمد يقول إنه رسول الله، وأتى بكتاب، فذكر أنه منزل عليه من الله، فلم نزل إلى أن حصل الكتاب عندنا، قال فقلت لهم إذا كنتم قد سمعتم بهذا الكتاب، وهذا الإنسان واجتهدتم على تحصيل هذا الكتاب الذي أتى به عندكم، فلأي حال لم تتبعوه ولا سيما وفي الكتاب يقول: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.

أجابوا قائلين: لأحوال شتى، قال: فقلت وما هي؟ قالوا: منها أن الكتاب عربي، وليس بلساننا حسب ما جاء فيه، يقول: إنا أنزلناه قرآنا عربيا.

وقال: بلسان عربي مبين. وقال في سورة الشعراء: ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين.

وقال في سورة البقرة: كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون. وقال في سورة آل عمران: لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته. وقال تعالى في سورة القصص: لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون.

وقال في سورة السجدة: لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون.

وقال في سورة يس: لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون.

قالوا: فلما رأينا هذا علمنا أنه لم يأت إلينا، بل إلى جاهلية العرب، الذين قال إنه لم يأتهم رسول ولا نذير من قبله، وإنه لا يلزمنا اتباعه؛ لأننا نحن قد أتانا رسل من قبله، خاطبونا بألسنتنا، وأنذرونا بديننا الذي نحن متمسكون به يومنا هذا، وسلموا إلينا التوراة والإنجيل بلغاتنا، على ما يشهد لهم هذا الكتاب الذي أتى به هذا الرجل حيث يقول في سورة إبراهيم: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم.

وقال في سورة النحل: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا.

وقال في سورة الروم: ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات.

فقد صح في هذا الكتاب أنه لم يأت إلا في الجاهلية من العرب، وأما قوله: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.

فيريد بحسب مقتضى العدل قومه الذين أتاهم بلغتهم، لا غيرهم ممن لم يأتهم بما جاء فيه.

ونعلم أن الله عدل، وليس من عدله أن يطالب يوم القيامة أمة باتباع إنسان لم يأت إليهم، ولا وقفوا له على كتاب بلسانهم، ولا من جهة داع من قبله.

هذه ألفاظهم بأعيانها في الفصل الأول، وهذا الفصل لم يتعرضوا فيه لا لتصديقه ولا لتكذيبه، بل زعموا أن في نفس هذا الكتاب أنه لم يقل إنه مرسل إليهم، بل إلى جاهلية العرب، وإن العقل أيضا يمنع أن يرسل إليهم.

فنحن نبدأ بالجواب عن هذا، ونبين أنه ﷺ أخبر أنه مرسل إليهم، وإلى جميع الإنس والجن، وأنه لم يقل قط أنه لم يرسل إليهم، ولا في كتابه ما يدل على ذلك.

وأن ما احتجوا به من الآيات التي غلطوا في معرفة معناها، فتركوا النصوص الكثيرة الصريحة في كتابه، التي تبين أنه مرسل إليهم، من جنس ما فعلوه في التوراة والإنجيل والزبور وكلام الأنبياء، حيث تركوا النصوص الكثيرة الصريحة، وتمسكوا بقليل من المتشابه الذي لم يفهموا معناه.

ومعلوم أن الكلام في صدق مدعي الرسالة وكذبه متقدم على الكلام في عموم رسالته وخصوصها، وإن كان قد يعلم أحدهما قبل الآخر لكن هؤلاء القوم ادعوا خصوص رسالته، وذكروا أن القرآن يدل على ذلك. فنجيب عما ذكروه على حسب ترتيبهم فصلا فصلا فنقول وبالله التوفيق:

الكلام فيمن خاطب الخلق بأنه رسول الله إليهم، كما فعل محمد ﷺ وغيره ممن قال إنه رسول الله، كإبراهيم وموسى، ونحوهما من الرسل الصادقين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وآل كل من الصالحين، وكمسيلمة الكذاب والأسود العنسي، ونحوهما من المتنبئين الكذابين، ينبني على أصلين:

أحدهما: أن نعرف ما يقوله في خبره وأمره فنعرف ما يخبر به ويأمر به، وهل قال إنه رسول الله إلى جميع الناس، أو قال إنه لم يرسل إلا إلى طائفة معينة لا إلى غيرها؟

والثاني: أن يعرف هل هو صادق أو كاذب؟

وبهذين الأصلين يتم الإيمان المفصل وهو معرفة صدق الرسول ومعرفة ما جاء به.

وأما الإيمان المجمل، فيحصل بالأول، وهو معرفة صدقه فيما جاء به، كإيماننا بالرسل المتقدمة، وقد نعلم صدقه أو كذبه

وهؤلاء بدءوا في كتابهم هذا بما ذكره الرسول، مما زعموا أنه حجة لهم على عدم وجوب اتباعه، وعلى مدح دينهم الذي هم اليوم عليه بعد النسخ، والتبديل، ثم ذكروا حججا مستقلة على صحة دينهم ثم ذكروا ما يقدح فيه وفي دينه؛ فلهذا قدمنا الجواب عما احتجوا به من القرآن، كما قدموه في كتابهم.

فصل

ودلائل صدق النبي الصادق، وكذب المتنبي الكذاب كثيرة جدا، فإن من ادعى النبوة وكان صادقا، فهو من أفضل خلق الله وأكملهم في العلم والدين؛ فإنه لا أحد أفضل من رسل الله وأنبيائه صلوات الله عليهم وسلامه، وإن كان بعضهم أفضل من بعض كما قال تعالى: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض.

وقال تعالى: ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض.

وإن كان المدعي للنبوة كاذبا فهو من أكفر خلق الله، وشرهم، كما قال تعالى: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله.

وقال تعالى: فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين.

وقال تعالى: ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين.

فالكذب أصل للشر، وأعظمه الكذب على الله عز وجل، والصدق أصل للخير، وأعظمه الصدق على الله تبارك وتعالى.

وفي الصحيحين: عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، عن النبي ﷺ أنه قال: عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا.

ولما كان هذا من أعلى الدرجات، وهذا من أسفل الدركات، كان بينهما من الفروق، والدلائل، والبراهين التي تدل على صدق أحدها وكذب الآخر ما يظهر لكل من عرف حالهما. ولهذا كانت دلائل الأنبياء وأعلامهم الدالة على صدقهم كثيرة متنوعة، كما أن دلائل كذب المتنبئين كثيرة متنوعة، كما قد بسط في موضع آخر.

فصل: توضيح الدعوى والرد عليها

إذا عرف هذا، فهؤلاء القوم في هذا المقام ادعوا أن محمدا ﷺ لم يرسل إليهم، بل إلى أهل الجاهلية من العرب فهذه الدعوى على وجهين:

إما أن يقولوا: إنه بنفسه لم يدع أنه أرسل إليهم، ولكن أمته ادعوا له ذلك.

وإما أن يقولوا: إنه ادعى أنه أرسل إليهم وهو كاذب في هذه الدعوى، وكلامهم في صدر هذا الكتاب يقتضي الوجه الأول.

وفي آخره قد يقال: إنهم أشاروا إلى الوجه الثاني، لكنهم في الحقيقة لم ينكروا رسالته إلى العرب، وإنما أنكروا رسالته إليهم.

وأما رسالته إلى العرب فلم يصرحوا بتصديقه فيها ولا بتكذيبه، وإن كان ظاهر لفظهم يقتضي الإقرار برسالته إلى العرب، بل صدقوا بما وافق قولهم وكذبوا بما خالف قولهم.

ونحن نبين أنه لا يصح احتجاجهم بشيء مما جاء به النبي ﷺ ثم نتكلم على الوجهين جميعا، ونبين أنه لا يصح احتجاجهم بشيء من القرآن على صحة دينهم، بوجه من

الوجوه، ونبين أن القرآن، لا حجة فيه لهم، ولا فيه تناقض.

وكذلك كتب الأنبياء المتقدمين، التي يحتجون بها هي حجة عليهم ليس في شيء منها حجة لهم، ولو لم يبعث محمد ﷺ، فكيف والكتاب الذي جاء به محمد ﷺ موافق لسائر كلام الأنبياء عليهم السلام في إبطال دينهم، وقولهم في التثليث، والاتحاد، وغير ذلك، مع العقل الصريح. فهم احتجوا في كتابهم هذا بالقرآن، وبما جاءت به الأنبياء قبل محمد ﷺ مع العقل.

ونحن نبين أنه لا حجة لهم فيما جاء به محمد ﷺ، ولا فيما جاءت به الأنبياء قبله، ولا في العقل بل ما جاء به محمد، وما جاءت به الأنبياء قبله مع صريح العقل كلها براهين قطعية على فساد دينهم، ولكن نذكر قبل ذلك أن احتجاجهم بما جاء عن النبي ﷺ لا يصح بوجه من الوجوه، وأنه لا يجوز أن يحتج بمجرد المنقول عن محمد ﷺ من يكذبه في كلمة واحدة مما جاء به.

وكذلك سائر الأنبياء عليهم السلام، بخلاف الاحتجاج بكلام غير الأنبياء، فإن ذلك يمكن موافقة بعضه دون بعض، وأما ما أخبرت به الأنبياء عليهم السلام، أو من قال إنه نبي،

فلا يمكن الاحتجاج ببعضه، دون بعض سواء قدر صدقهم، أو كذبهم.

فيقال لهم على كل تقدير، سواء أقروا بنبوته إلى العرب، أو غيرهم، أو كذبوه في قوله إنه رسول الله، أو سكتوا عن هذا وهذا، أو صدقوه في البعض دون البعض.

إن احتجاجكم على صحة ما تخالفون فيه المسلمين، مما جاء به محمد ﷺ، لا يصح بوجه من الوجوه؛ فاحتجاجكم على أنه لم يرسل إليكم، أو على صحة دينكم بشيء من القرآن حجة داحضة على كل تقدير.

مع أنا سنبين - إن شاء الله تعالى - أن الكتب الإلهية كلها مع المعقول، لا حجة لكم في شيء منها، بل كلها حجة عليكم.

وهذا بخلاف المسلمين، فإنه يصح احتجاجهم على أهل الكتاب اليهود والنصارى بما جاءت به الأنبياء قبل محمد ﷺ، وأهل الكتاب لا يصح احتجاجهم بما جاء به محمد ﷺ، وذلك أن المسلمين مقرون بنبوة موسى، وعيسى وداود، وسليمان، وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام، وعندهم يجب الإيمان بكل كتاب أنزله الله، وبكل نبي أرسله الله، وهذا أصل دين المسلمين، فمن كفر بنبي واحد، أو كتاب واحد، فهو عندهم كافر، بل من سب نبيا من الأنبياء، فهو عندهم كافر مباح الدم كما قال تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم.

وقال تعالى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.

وقال تعالى: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين.

والكتاب اسم جنس لكل كتاب أنزله الله، يتناول التوراة والإنجيل، كما يتناول القرآن، كقوله تعالى: وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم.

وقوله تعالى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله.

وفي القراءة الأخرى (وكتابه)، كقوله تعالى: وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم.

وقوله تعالى: الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون.

فذكر أن هذا الكتاب الذي أنزل عليه هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، والذين يؤمنون بما أنزل إليه، وما أنزل من قبله، وبالآخرة هم يوقنون، ثم أخبر أن هؤلاء هم المفلحون، فحصر الفلاح في هؤلاء، فلا يكون مفلحا إلا من كان من هؤلاء.

وقوله تعالى والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. هو صفة للمذكورين ليس هؤلاء صنفا آخر، فإن عطف الشيء على الشيء قد يكون لتغاير الصفات، وإن كانت الذات واحدة هذا هو الصحيح هنا، وإن كان قد قيل إن الصنف الثاني مؤمنو أهل الكتاب،

والأول هم المسلمون، فهذا ضعيف، وأفسد منه قول هؤلاء النصارى: إن الكتاب المراد به الإنجيل، كما سيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى.

والعطف لتغاير الصفات، كقوله تعالى: سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى.

وهو سبحانه الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، والذي أخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى.

وقوله تعالى: قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون. إلى آخر الآيات

وكذلك قوله: والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك.

هم الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، ومما رزقناهم ينفقون، وهم الذين على هدى من ربهم، وهم المفلحون.

ولكن فصل إيمانهم بعد أن أجمله؛ لئلا يظن ظان أن مجرد دعوى الإيمان بالغيب ينفع، وإن لم يؤمن بما أنزل إلى محمد ﷺ، وما أنزل إلى من قبله، فلو قال أحد من الناس: أنا أؤمن بالغيب، وهو مع ذلك لا يؤمن ببعض ما أنزل على محمد ﷺ، أو ببعض ما أنزل على من قبله، لم يكن مؤمنا، حتى يؤمن بجميع ما أنزل إليه، وما أنزل إلى من قبله، ولو كانوا صنفا آخر لكان المفلحون قسمين: قسما يؤمنون بالغيب، ولا يؤمنون بما أنزل إليه، وما أنزل إلى من قبله، وقسما يؤمنون بما أنزل إليه، وما أنزل إلى من قبله، ولا يؤمنون بالغيب، وهذا باطل عند جميع الأمم المؤمنين واليهود والنصارى، فإن الإيمان بما أنزل إليه وإلى من قبله يتضمن الإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب لا يتم إلا بالإيمان بجميع ما أنزله الله تبارك وتعالى.

ما يثبت به الاحتجاج على المسلمين

والمسلمون لا يستجيز أحد منهم التكذيب بشيء مما أنزل على من قبل محمد ﷺ، لكن الاحتجاج بذلك عليهم يحتاج إلى ثلاث مقدمات:

إحداها: ثبوت ذلك على الأنبياء عليهم السلام.

والثانية: صحة الترجمة إلى اللسان العربي، أو اللسان الذي يخاطب به كالرومي، والسرياني، فإن لسان موسى، وداود والمسيح، وغيرهم من أنبياء بني إسرائيل، كانت عبرانية، ومن قال إن لسان المسيح كان سريانيا، أو روميا فقد غلط.

والثالثة: تفسير ذلك الكلام ومعرفة معناه.

فلهذا كان المسلمون لا يردون شيئا من الحجج بتكذيب أحد من الأنبياء في شيء قاله ولكن قد يكذبون الناقل عنهم، أو يفسرون المنقول عنهم بما أرادوه، أو بمعنى آخر على وجه الغلط.

وإن كان بعض المسلمين قد يغلط في تكذيب بعض النقل، أو تأويل بعض المنقول عنهم، فهو كما يغلط من يغلط منهم، ومن سائر أهل الملل في التكذيب على وجه الغلط ببعض ما ينقل عمن يقر بنبوته، أو في تأويل المنقول عنه.

وهذا بخلاف تكذيب نفس النبي، فإنه كفر صريح، بخلاف أهل الكتاب، فإنه لا يتم مرادهم إلا بتكذيبهم ببعض ما أنزل الله، ومتى كذب بكلمة واحدة مما أخبر به من قال إنه رسول الله بطل احتجاجه بسائر كلامه، فكانت حجتهم التي يحتجون بها داحضة، وذلك أن الذي يقول إنه رسول الله، إما أن يكون صادقا في قوله: إني رسول الله، وفي جميع ما يخبر به عن الله، وإما أن يكون كاذبا، ولو في كلمة واحدة عن الله.

فإن كان صادقا في ذلك امتنع أن يكذب على الله في شيء مما يبلغه عن الله، فإن من كذب على الله، ولو في كلمة واحدة كان ممن افترى على الله الكذب، ولم يكن رسولا من رسل الله، ومن افترى على الله الكذب تبين أنه من المتنبئين الكذابين.

ومثل هذا لا يجوز أن يحتج بخبره عن الله، فإنه قد علم أن الله لم يرسله، وإذا قال هو قولا، وكان صدقا، كان كما يقوله غيره يقبل، لا لأنه بلغه عن الله ولا لأنه رسول عن الله، بل كما يقبل من المشركين وسائر الكفار ما يقولونه من الحق، فإن عباد الأوثان إذا قالوا عن الله ما هو حق مثل إقرار مشركي العرب بأن الله خلق السماوات والأرض لم نكذبهم في ذلك، وإن كانوا كفارا، وكذلك إذا قال الكافر إن الله حي قادر خالق، لم نكذبه في هذا القول.

فمن كذب على الله في كلمة واحدة، قال إن الله أنزلها عليه، ولم يكن الله أنزلها عليه، فهو من الكذابين الذين لا يجوز أن يحتج بشيء من أقوالهم التي يقولون إنهم يبلغونها عن الله تبارك وتعالى، وما قالوه غير ذلك فهم فيه كسائر الناس، بل كأمثالهم من الكذابين إن عرف صحة ذلك القول من جهة غيرهم قبل لقيام الدليل على صحته، لا لكونهم قالوه، وإن لم يعرف صحته من جهة غيرهم، لم يكن في قولهم له مع ثبوت كذبهم على الله حجة.

وحينئذ، فهؤلاء إن أقروا برسالة محمد ﷺ، وأنه صادق فيما بلغه عن الله من الكتاب والحكمة، وجب عليهم الإيمان بكل ما ثبت عنه من الكتاب والحكمة، كما يجب الإيمان بكل ما جاءت به الرسل.

وإن كذبوه في كلمة واحدة، أو شكوا في صدقه فيها، امتنع مع ذلك أن يقروا بأنه رسول الله، وإذا لم يقروا بأنه رسول الله، كان احتجاجهم بما قاله كاحتجاجهم بسائر ما يقوله من ليس من الأنبياء، بل من الكذابين، أو من المشكوك في صدقهم.

ومعلوم أن من عرف كذبه على الله فيما يقول: إنه يبلغه عن الله أو شك في صدقه، لا يعلم أنه رسول الله، ولا أنه صادق في كل ما يقوله، ويبلغه عن الله، وإذا لم يعلم ذلك منه لم يعرف أن الله أنزل إليه شيئا، بل إذا عرف كذبه عرف أن الله لم ينزل إليه شيئا ولا أرسله، كما عرف كذب مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وطليحة الأسدي، وكما عرف كذب ماني، وأمثاله، وغيرهم من المتنبئين الكذابين.

وإذا شك في صدقه في كلمة واحدة، بل جوز أن يكون كذبها عمدا، أو خطأ لم يجز تصديقه مع ذلك في سائر ما يبلغه عن الله؛ لأن تصديقه فيما يخبر به عن الله، إنما يكون إذا كان رسولا صادقا لا يكذب عمدا ولا خطأ، فإن كل من أرسله الله لا بد أن يكون صادقا في كل ما يبلغه عن الله، لا يكذب فيه عمدا ولا خطأ.

صدق الرسول وعصمته من الكذب

وهذا أمر اتفق عليه الناس كلهم المسلمون واليهود والنصارى وغيرهم، اتفقوا على أن الرسول لا بد أن يكون صادقا معصوما فيما يبلغه عن الله، لا يكذب على الله خطأ ولا عمدا، فإن مقصود الرسالة لا يحصل بدون ذلك، كما قال موسى "عليه السلام" لفرعون: يا فرعون إني رسول من رب العالمين حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق.

وفي القراءة المشهورة:[1] يخبر أنه جدير وحري وثابت ومستقر على أن لا يقول على الله إلا الحق، وعلى القراءة الأخرى أخبر أنه واجب عليه أن لا يقول على الله إلا الحق.

وقال تعالى: ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين.

وقال تعالى: أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته.

وقال تعالى: وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين.

وقال تعالى: وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي.

وهذا لبسطه موضع آخر.

وإنما المقصود هنا: أن احتجاجهم بكلمة واحدة مما جاء به محمد ﷺ، لا يصح بوجه من الوجوه، فإنه إن كان رسولا صادقا في كل ما يخبر به عن الله عز وجل، فقد علم كل واحد أنه جاء بما يخالف دين النصارى، فيلزم إذا كان رسولا صادقا أن يكون دين النصارى باطلا، وإن قالوا في كلمة واحدة مما جاء به أنها باطلة، لزم أن لا يكون عندهم رسولا صادقا مبلغا عن الله وحينئذ، فسواء قالوا: هو ملك عادل، أو هو عالم من العلماء، أو هو رجل صالح من الصالحين، أو جعلوه قديسا عظيما من أعظم القديسين، فمهما عظموه به ومدحوه به لما رأوه من محاسنه الباهرة وفضائله الظاهرة وشريعته الطاهرة، متى كذبوه في كلمة واحدة مما جاء به أو شكوا فيها كانوا مكذبين له في قوله: إنه رسول الله، وأنه بلغ هذا القرآن عن الله، ومن كان كاذبا في قوله: إنه رسول الله لم يكن من الأنبياء والمرسلين، ومن لم يكن منهم لم يكن قوله حجة ألبتة، لكن له أسوة أمثاله.

فإن عرف صحة ما يقوله بدليل منفصل، قبل القول؛ لأنه عرف صدقه من غير جهته، لا لأنه قاله، وإن لم يعرف صحة القول لم يقبل

فتبين أنه إن لم يقر المقر لمن ذكر أنه رسول الله بأنه صادق في كل ما يبلغه عن الله معصوم عن استقرار الكذب خطأ أو عمدا لم يصح احتجاجهم بقوله.

وهذا الأصل يبطل قول عقلاء أهل الكتاب، وهو لقول جهالهم أعظم إبطالا، فإن كثيرا من عقلاء أهل الكتاب، وأكثرهم يعظمون محمدا ﷺ، لما دعا إليه من توحيد الله تعالى، ولما نهى عنه من عبادة الأوثان، ولما صدق التوارة والإنجيل، والمرسلين قبله، ولما ظهر من عظمة القرآن الذي جاء به، ومحاسن الشريعة التي جاء بها، وفضائل أمته التي آمنت به، ولما ظهر عنه وعنهم من الآيات، والبراهين، والمعجزات، والكرامات، لكن يقولون مع ذلك: إنه بعث إلى غيرنا، وإنه ملك عادل، له سياسة عادلة، وإنه مع ذلك حصل علوما من علومأهل الكتاب وغيرهم، ووضع لهم ناموسا بعلمه ورتبه، كما وضع أكابرهم لهم القوانين، والنواميس التي بأيديهم

ومهما قالوه من هذا، فإنهم لا يصيرون به مؤمنين به، ولا يسوغ لهم بمجرد ذلك الاحتجاج بشيء مما قاله؛ لأنه قد عرف بالنقل المتواتر الذي يعلمه جميع الأمم من جميع الطوائف أنه قال: إنه رسول الله إلى جميع الناس، وأن الله أنزل عليه القرآن، فإن كان صادقا في ذلك، فمن كذبه في كلمة واحدة، فقد كذب رسول الله، ومن كذب رسول الله، فهو كافر، وإن لم يكن صادقا في ذلك، لم يكن رسولا لله، بل كان كاذبا، ومن كان كاذبا على الله، يقول: الله أرسلني بذلك، ولم يرسله به، لا يجوز أن يحتج بشيء من أقواله.

الرد على أهل الكتاب في قولهم بالإرسال الكوني

وأما من كان من جهلاء أهل الكتاب الذين يقولون: إنه كان ملكا مسلطا عليهم، وإنه رسول غضب، أرسله الله إرسالا كونيا؛ لينتقم به منهم كما أرسل بختنصر، وسنحاريب على بني إسرائيل، وكما أرسل جنكس خان، وغيره من الملوك الكافرين والظالمين مما ينتقم به ممن عصاه، فهؤلاء أعظم تكذيبا له، وكفرا به من أولئك، فإن هؤلاء الملوك لم يقل أحد منهم إن الله أنزل عليه كتابا، ولا أن هذا الكلام الذي أبلغه إليكم هو كلام الله، ولا أن الله أمركم أن تصدقوني فيما أخبرتكم به، وتطيعوني فيما أمرتكم به، ومن لم يصدقني باطنا وظاهرا، فإن الله يعذبه في الدنيا والآخرة، بل هؤلاء أرسلهم إرسالا كونيا قدره وقضاه، كما يرسل الريح بالعذاب، وكما يرسل الشياطين قال تعالى: أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا.

وقال تعالى: وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا.

وهذا بخلاف قوله: إنا أرسلنا نوحا إلى قومه.

وقوله تعالى: إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا.

وقوله تعالى: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.

فإن هذا يعني به الإرسال الديني، الذي يحبه تعالى، ويرضاه الذي هدى به من اتبعهم، وأدخله في رحمته، وعاقب من عصاهم، وجعله من المستوجبين للعذاب، وهو الإرسال الذي أوجب الله به طاعة من أرسله، كما قال تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله.

وقال تعالى: من يطع الرسول فقد أطاع الله.

وهذه الرسالة التي أقام بها الحجة على الخلق، كما قال تعالى: رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.

وقال تعالى: الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس.

وهذا كما اصطفى روح القدس جبريل "عليه السلام"، لنزوله بالقرآن على من اصطفاه من البشر، وهو محمد ﷺ.

قال تعالى: قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين.

وقال تعالى: وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين.

وقال تعالى: وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين.

فأخبر أنه نزل به جبريل، وسماه الروح الأمين، وسماه روح القدس، وقد ذكره أيضا في قوله: إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين.

ثم قال: وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين.

فهذا الرسول جبريل "عليه السلام"، وقال تعالى: إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين.

فهذا الرسول محمد ﷺ.

وأما الإرسال الكوني الذي قدره وقضاه، مثل إرسال الرياح وإرسال الشياطين، فذلك نوع آخر. قال تعالى: أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا.

وقال تعالى: وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته.

والله تعالى له الخلق والأمر، فلفظ الإرسال، والبعث، والإرادة، والأمر، والإذن، والكتاب، والتحريم، والقضاء، والكلام ينقسم إلى: خلقي، وأمري، وكوني، وديني، وقد ذكرنا الإرسال.

وأما البعث، فقال تعالى: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.

وقال في الكوني: فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد.

وقال تعالى: فبعث الله غرابا يبحث في الأرض.

وأما الإرادة، فقال تعالى في الكونية: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا.

وقال نوح "عليه السلام": ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم.

وقال تعالى في الإرادة الدينية: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.

وقال تعالى: يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا.

وقال تعالى: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم.

وقال تعالى: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا.

وقال تعالى في الأمر الكوني: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.

وكذلك في أظهر القولين قوله تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول.

وأما الأمر الديني مثل قوله: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها.

وأما الإذن الكوني مثل قوله في السحرة: وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله.

والديني مثل قوله: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.

والكتاب الكوني مثل قوله: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي.

وقوله: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.

والديني مثل قوله: كتب الله عليهم.

وقوله: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم.

وقوله: كتب عليكم القصاص.

والقضاء الكوني كقوله: فقضاهن سبع سماوات.

والديني: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا. أي: أمر.

والتحريم الكوني مثل قوله: وحرمنا عليه المراضع من قبل.

وقوله: فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض.

وقوله: وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون.

والديني مثل قوله: حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير.

وقوله: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم.

والكلمات الكونية، مثل قول النبي، ﷺ: أعوذ بكلمات الله التامات، التي لا يجاوزهن بر، ولا فاجر. ومنه قوله تعالى: وصدقت بكلمات ربها وكتبه.

والدينية: مثل قول النبي ﷺ: اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله. ومنه قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله.

وهذا مبسوط في موضع آخر.

تفرق أهل الكتاب في النبي صلى الله عليه وسلم

والمقصود هنا أنه تفرق أهل الكتاب في النبي ﷺ، كل يقول فيه قولا هو نظير تفرق سائر الكفار، فإن الكفار بالأنبياء من عاداتهم أن تقول كل طائفة فيه قولا يناقض قول الطائفة الأخرى، وكذلك قولهم في الكتاب الذي أنزل عليه، وأقوالهم كلها أقوال مختلفة باطلة، وهذا هو الاختلاف المذموم الذي ذكره الله تعالى في قوله: ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك.

وفي قوله: إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك.

وقوله تعالى: وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد.

وقوله: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.

وقوله تعالى: ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.

ومثال أقوال الكفار في الأنبياء ما ذكره تعالى في قوله تعالى: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا.

فبين سبحانه أن الكفار ضربوا له أمثالا كلها باطلة، ضلوا فيها عن الحق، فلا يستطيعون مع الضلال سبيلا إلى الحق، وضرب الأمثال له يتضمن تمثيله بأناس آخرين، وجعله في تلك الأنواع التي ليس هو منها، ولا مماثلا لأفرادها، مثل قولهم: إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون.

مثلوه بالكاذب المستعين بمن يعينه على ما يفتريه، ومثلوه بمن يستكتب أساطير الأولين من غيره، فتقرأ عليه طرفي النهار، وهو يتعلم من أولئك ما يقوله، ومثلوه بالمسحور، وكذلك قوله تعالى: وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحوراانظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا.

وقال تعالى: ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين وقل إني أنا النذير المبين كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون.

قال كثيرا من السلف: الذين جعلوا القرآن عضين: هم الذين عضهوه، فقالوا سحر، وشعر وكهانة، ونحو ذلك، كما قال تعالى: فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين وإنه لتذكرة للمتقين وإنا لنعلم أن منكم مكذبين وإنه لحسرة على الكافرين وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم.

وقال: فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين.

وقال تعالى: وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وإنه لفي زبر الأولين أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون فيقولوا هل نحن منظرون أفبعذابنا يستعجلون أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ذكرى وما كنا ظالمين.

ثم قال تعالى: وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

وقال تعالى: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون.

وقال تعالى: أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين.

وقال تعالى: أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون.

وقال تعالى: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين.

وقال تعالى: ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين.

وقد أخبر تعالى أن هذه سنة الكفار في الأنبياء قبله كما قال: كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون.

وقال تعالى: ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك.

وقال تعالى: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون.

وقد أخبر سبحانه أن الكفار قالوا عن موسى "عليه السلام" أنه ساحر، وأنه مجنون، فقال فرعون: قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون.

وقوله: وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك.

وقال: إنه لكبيركم الذي علمكم السحر.

وكذلك قالوا عن المسيح ابن مريم، كما قال تعالى: وإذ قال عيسى ابن مريم يابني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين.

وذكر تعالى عن اليهود أنهم قالوا على مريم بهتانا عظيما، فقول اليهود في المسيح من جنس أقوال الكفار في الأنبياء، وكذلك قول كفار أهل الكتاب في خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم تسليما.

الرد على دعوى قصر الرسالة على العرب بالتفصيل

فإذا علم هذا فنقول بعد ذلك لمن قال إنه رسول أرسل إلى العرب الجاهلية دون أهل الكتاب:

إنه من المعلوم بالضرورة لكل من علم أحواله بالنقل المتواتر الذي هو أعظم تواترا مما ينقل عن موسى وعيسى وغيرهما، وبالقرآن المتواتر عنه، وسنته المتواترة عنه، وسنة خلفائه الراشدين من بعده، أنه ﷺ ذكر أنه أرسل إلى أهل الكتاب اليهود والنصارى، كما ذكر أنه أرسل إلى الأميين، بل ذكر أنه أرسل إلى جميع بني آدم عربهم، وعجمهم من الروم، والفرس والترك، والهند، والبربر، والحبشة، وسائر الأمم، بل أنه أرسل إلى الثقلين الجن والإنس جميعا.

وهذا كله من الأمور الظاهرة المتواترة عنه، التي اتفق على نقلها عنه أصحابه مع كثرتهم، وتفرق ديارهم وأحوالهم، وقد صحبه عشرات ألوف، لا يحصي عددهم على الحقيقة إلا الله تعالى، ونقل ذلك عنهم التابعون، وهم أضعاف الصحابة عددا، ثم ذلك منقول قرنا بعد قرن إلى زمننا مع كثرة المسلمين، وانتشارهم في مشارق الأرض ومغاربها، كما أخبر بذلك قبل أن يكون، فقال في الحديث الصحيح زويت لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها، وكان كما أخبر، فبلغ ملك أمته طرفي العمارة شرقا وغربا، وانتشرت دعوته في وسط الأرض، كالإقليم الثالث والرابع والخامس؛ لأنهم أكمل عقولا، وأخلاقا، وأعدل أمزجة، بخلاف طرفي الجنوب والشمال، فإن هؤلاء نقصت عقولهم وأخلاقهم، وانحرفت أمزجتهم.

أما طرف الجنوب، فإنه لقوة الحرارة احترقت أخلاطهم، فاسودت ألوانهم، وتجعدت شعورهم.

وأما أهل طرف الشمال فلقوة البرد لم تنضج أخلاطهم، بل صارت فجة، فأفرطوا في سبوطة الشعر والبياض البارد الذي لا يستحسن.

ولهذا لما ظهر الإسلام غلب أهله على وسط المعمورة، وهم أعدل بني آدم وأكملهم، والنصارى الذين تربوا تحت ذمة المسلمين أكمل من غيرهم من النصارى عقولا وأخلاقا، وأما النصارى المحاربون للمسلمين الخارجون عن ذمتهم من أهل الجنوب والشمال، فهم أنقص عقولا وأخلاقا، ولما فيهم من نقص العقول والأخلاق ظهرت فيهم النصرانية دون الإسلام.

دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وغيرهم

والمقصود أن محمدا ﷺ هو نفسه دعا أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلى الإيمان به، وبما جاء به، كما دعا من لا كتاب له من العرب وسائر الأمم.

وهو الذي أخبر عن الله تبارك وتعالى بكفر من لم يؤمن به من أهل الكتاب وغيرهم، وبأنهم يصلون جهنم، وساءت مصيرا، وهو الذي أمر بجهادهم، ودعاهم بنفسه ونوابه، وحينئذ فقولهم في الكتاب لم يأت إلينا بل إلى الجاهلية من العرب سواء أرادوا أن الله بعثه إلى العرب، ولم يبعثه إلينا، أو أرادوا أنه ادعى أنه أرسل إلى العرب لا إلينا؛ فإنه قد علم جميع الطوائف أن محمدا دعا اليهود والنصارى إلى الإيمان به، وذكر أن الله أرسله إليهم وأمره بجهاد من لم يؤمن به منهم فإذا قيل مع هذا أنه قال: لم أبعث إلا إلى العرب، كان كاذبا كذبا ظاهرا عليه سواء صدقه الإنسان أو كذبه، فإن المقصود هنا أنه نفسه دعا جميع أهل الأرض إلى الإيمان به، فدعا أهل الكتاب كما دعا الأميين.

أما اليهود: فإنهم كانوا جيرانه في الحجاز بالمدينة، وما حولها، وخيبر، فإن المهاجرين والأنصار كلهم آمنوا به من غير سيف ولا قتال، بل لما ظهر لهم من براهين نبوته، ودلائل صدقه آمنوا به، وقد حصل من الأذى في الله لمن آمن بالله ما هو معروف في السيرة، وقد آمن به في حياته كثير من اليهود والنصارى بعضهم بمكة وبعضهم بالمدينة وكثير منهم كانوا بغير مكة والمدينة، فلما قدم المدينة عاهد من لم يؤمن به من اليهود، ثم نقضوا العهد، فأجلى بعضهم، وقتل بعضهم؛ لمحاربتهم لله ورسوله.

وقد قاتلهم مرة بعد مرة قاتل بني النضير، وأنزل الله تعالى فيهم سورة الحشر، وقاتل قريظة عام الأحزاب، وذكرهم الله في سورة الأحزاب، وقاتل قبلهم بني قينقاع، وبعد هؤلاء غزا خيبر هو وأهل بيعة الرضوان، الذين بايعوه تحت الشجرة، وكانوا ألفا وأربعمائة، ففتح الله عليهم خيبر، وأقر اليهود فيها فلاحين، وأنزل الله تعالى سورة الفتح يذكر فيها ذلك فكيف يقال: إنه لم يذكر أنه أرسل إلا إلى مشركي العرب وهذه حال اليهود معه؟

قدوم الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على عموم رسالته

وأما النصارى فإن أهل نجران التي باليمن كانوا نصارى، فقدم عليه وفدهم ستون راكبا وناظرهم في مسجده، وأنزل الله فيهم صدر سورة آل عمران، ولما ظهرت حجته عليهم، وتبين لهم أنه رسول الله إليهم، أمره الله إن لم يجيبوه أن يدعوهم إلى المباهلة فقال تعالى: فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين.

فلما دعاهم إلى المباهلة طالبوا أن يمهلهم حتى يشتوروا

فاشتوروا، فقال بعضهم لبعض: تعلمون أنه نبي، وأنه ما باهل قوم نبيا إلا نزل بهم العذاب.

فاستعفوا من المباهلة، فصالحوه، وأقروا له بالجزية عن يد وهم صاغرون، لما خافوا من دعائه عليهم، لعلمهم أنه نبي، فدخلوا تحت حكمه، كما يدخل أهل الذمة الذين في بلاد المسلمين تحت حكم الله ورسوله، وأدوا إليه الجزية عن يد وهم صاغرون، وهم أول من أدى الجزية من النصارى.

واستعمل عليهم وعلى من أسلم منهم عمرو بن حزم الأنصاري، وكتب له كتابا مشهورا، يذكر فيه شرائع الدين، فكانوا في ذمة المسلمين تحت حكم الله ورسوله ونائب رسوله عمرو بن حزم الأنصاري، رضي الله عنه، وقصتهم مشهورة متواترة، نقلها أهل السير، وأهل الحديث، وأهل الفقه، وأصل حديثهم معروف في الصحاح، والسنن، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.

ووفد نجران لما قدموا أنزل الله تبارك وتعالى بسبب ما جرى صدر سورة آل عمران، وذكر تعالى فرض الحج بقوله: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا.

وهذا نزل إما سنة تسع وإما سنة عشر، كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء، منهم: القاضي أبو يعلى، وغيره.

قالوا وجوب الحج ثبت بقوله ولله على الناس حج البيت.

وروي أنه نزل في سنة عشر، وروي أنه نزل في سنة تسع، وهذا قول جمهور العلماء.

قالوا إن فرض الحج، إنما ثبت بهذه الآية، وقال بعضهم بل ثبت ذلك بقوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله.

وهذه الآية نزلت سنة ست عام الحديبية، لما صد المشركون رسول الله ﷺ عن البيت، وصالحهم ذلك العام، وبايع المسلمين تحت الشجرة، وأنزل الله فيها سورة الفتح، ثم رجع إلى المدينة، وفتح الله عليهم خيبر سنة سبع، وفيها قدم عليه جعفر بن أبي طالب مع وفد الحبشة، ثم أرسل جعفرا وزيدا وعبد الله بن رواحة لغزو النصارى لمؤتة، ثم فتح مكة سنة ثمان في رمضان، ثم في أثناء سنة تسع غزا النصارى إلى تبوك، وفيها حج أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأمر أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.

وأردفه بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لنبذ العهود، وأنزل الله آية السيف المطلقة بجهاد المشركين وجهاد أهل الكتاب، فقال تعالى: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم.

وهذه الأشهر عند جمهور العلماء هي المذكورة في قوله تعالى: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين.

فإن المشركين كانوا على نوعين: نوعا لهم عهد مطلق غير مؤقت، وهو عقد جائز غير لازم، ونوعا لهم عهد مؤقت، فأمر الله رسوله أن ينبذ إلى المشركين أهل العهد المطلق؛ لأن هذا العهد جائز غير لازم، وأمره أن يسيرهم أربعة أشهر، ومن كان له عهد مؤقت فهو عهد لازم، فأمره الله أن يوفي له إذا كان مؤقتا، وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن الهدنة لا تجوز إلا مؤقتة، وذهب بعضهم إلى أنه يجوز للإمام أن يفسخ الهدنة مع قيامهم بالواجب، والصواب هو القول الثالث، وهو أنها تجوز مطلقة ومؤقتة.

فأما المطلقة فجائزة غير لازمة، يخير بين إمضائها وبين نقضها. والمؤقتة لازمة.

قال تعالى: براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمونكيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين.

والمقصود هنا ذكر قدوم وفد نجران النصارى: السيد والعاقب ومن معهما.

قال أبو الفرج بن الجوزي: ثم دخلت سنة عشر من الهجرة

فمن الحوادث فيها أن رسول الله ﷺ بعث خالد بن الوليد إلى بني الحارث بن كعب فروى ابن إسحاق قال: بعث رسول الله ﷺ خالدا في ربيع الآخر أو جمادى الأول في سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم، وذكر القصة، ثم قال: وفيها قدم وفد الأزد وفيها قدم وفد غسان وفيها قدم وفد زبيد، وفيها قدم وفد عبد القيس، قال ابن إسحاق: قدم على رسول الله ﷺ الجارود بن عمرو في وفد عبد القيس، وكان نصرانيا فأسلموا، وفيها قدم وفد كندة فأسلموا، وفيها قدم وفد بني حنيفة، وفيها قدم وفد بجيلة، قال: وفيها قدم العاقب والسيد من نجران، فكتب لهم رسول الله ﷺ كتاب صلح.

وذكر محمد بن سعد في الطبقات قدومهم في الوفود فقال: ذكر بعث النبي ﷺ خالد بن الوليد في شهر ربيع الأول سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب ذكره بإسناده، أنبأنا محمد بن عمر، حدثني إبراهيم بن موسى المخزومي، عن عبد الله بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث، عن أبيه، ثم ذكر قدوم نصارى نجران من طريق علي بن محمد، فقال: أنا علي بن محمد وهو المدائني، عن أبي معشر، عن يزيد بن رومان، ومحمد بن كعب قال: وأنا علي بن مجاهد، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، وعكرمة بن خالد، وعاصم بن عمر بن قتادة، أنا يزيد بن عايض بن جعدبة، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، وعن غيرهم من أهل العلم يزيد بعضهم على بعض قالوا: ووفد فلان وفلان في رجال من خثعم إلى رسول الله ﷺ بعدما هدم جرير بن عبد الله رضي الله عنه ذا الخلصة، وقتل من قتل من خثعم، فقالوا: آمنا بالله ورسوله فاكتب لنا كتابا. وذكروا القصة، وقدوم وفود متعددة.

قالوا: وقدم وفد نجران وكتب رسول الله ﷺ إلى أهل نجران، فخرج إليه أربعة عشر من أشرافهم نصارى وفيهم ثلاثة نفر يتولون أمورهم: العاقب، واسمه عبد المسيح رجل من كندة وهو أميرهم وصاحب مشورتهم والذي يصدرون عن رأيه، وأبو الحارث أسقفهم وإمامهم، وصاحب مدراسهم، والسيد وهو صاحب رحلتهم فدخلوا المسجد وعليهم ثياب الحبرة، وأردية مكفوفة بالحرير، فقاموا يصلون في المسجد نحو المشرق، فقال رسول الله ﷺ: دعوهم، ثم أتوا النبي ﷺ فأعرض عنهم فلم يكلمهم، فقال لهم عثمان: ذلك من أجل زيكم هذا فانصرفوا يومهم ذلك، ثم غدوا عليه بزي الرهبان فسلموا عليه فرد عليهم ودعاهم إلى الإسلام فأبوا وكثر الكلام، والحجاج بينهم وتلا عليهم القرآن، وقال رسول الله ﷺ، إن أنكرتم ما أقول فهلم أباهلكم. فانصرفوا على ذلك، فغدا عبد المسيح ورجلان من ذوي رأيهم على رسول الله ﷺ، فقالوا: قد بدا لنا أن لا نباهلك، فاحكم علينا بما أحببت نعطك ونصالحك. فصالحهم على ألفي حلة في رجب، وألف في صفر، أو قيمة كل حلة من الأواقي، وعلى عارية ثلاثين درعا وثلاثين رمحا، وثلاثين بعيرا، وثلاثين فرسا إن كان باليمن كيد. ولنجران وحاشيتهم جوار الله وذمة محمد رسول الله ﷺ على أنفسهم، وملتهم، وأرضهم، وأموالهم، وغائبهم، وشاهدهم، وبيعهم، لا يغير أسقف من سقيفاه، ولا راهب من رهبانيته، ولا واقف من وقفانيته، وأشهد على ذلك شهودا منهم أبو سفيان بن حرب، والأقرع بن حابس، والمغيرة بن شعبة، فرجعوا إلى بلادهم، فلم يلبث السيد والعاقب إلا يسيرا حتى رجعا إلى النبي ﷺ فأسلما وأنزلهما دار أبي أيوب الأنصاري، وأقام أهل نجران على ما كتب لهم به النبي ﷺ، حتى قبضه الله صلوات الله عليه ورحمته ورضوانه.

ثم ولي أبو بكر الصديق رضي الله عنه فكتب بالوصاة بهم عند وفاته، ثم أصابوا ربا فأخرجهم عمر بن الخطاب من أرضهم، وكتب لهم هذا ما كتب عمر أمير المؤمنين لنجران، أنه من سار منهم أنه آمن بأمان الله، لا يضرهم أحد من المسلمين، ووفى لهم بما كتب لهم رسول الله ﷺ وأبو بكر: أما بعد، فمن وقعوا به من أمراء الشام وأمراء العراق فليوسعهم من جريب الأرض فما اعتملوا من ذلك فهو لهم صدقة، وعقبة لهم فكان أرضهم لا سبيل عليهم فيه لأحد ولا مغرم.

أما بعد فمن حضرهم من رجل مسلم فلينصرهم على من ظلمهم؛ فإنهم أقوام لهم الذمة، وجزيتهم عنهم متروكة أربعة وعشرين شهرا بعد أن يقدموا، ولا يكلفوا إلا من ضيعتهم التي اعتملوا غير مظلومين ولا معنوف عليهم. شهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومعيقيب بن أبي فاطمة، فوقع ناس منهم العراق، فنزلوا النجرانية التي بناحية الكوفة.

وما ذكره ابن سعد، عن علي بن محمد المدائني، عن أشياخه في حديث وفد نجران، فهو يوافق ما ذكره ابن إسحاق، فإن قوله أربعة عشر من أشرافهم يوافق قول ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر قال:

قدم على رسول الله ﷺ وفد نجران ستون راكبا فيهم أربعة عشر من أشرافهم في الأربعة عشر ثلاثة نفر، إليهم يئول أمرهم العاقب أمير القوم، وذو رأيهم، وصاحب مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه واسمه عبد المسيح والسيد ثمالهم، وصاحب رحلهم ونجعتهم، واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أخو بني بكر بن وائل أسقفهم، وحبرهم، وإمامهم وصاحب مدراسهم، وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه، ومولوه، وأخدموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا له الكرامات لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، فلما وجهوا إلى رسول الله ﷺ من نجران جلس أبو حارثة على بغلة له موجها وإلى جنبه أخ له يقال له كرز بن علقمة، فعثرت بغلة أبي حارثة، فقال كرز: تعس الأبعد، يريد رسول الله ﷺ، فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست، فقال، لم يا أخي؟ قال والله إنه للنبي الذي كنا ننتظره، فقال له كرز: فما منعك منه وأنت تعلم هذا؟ قال: ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا، ومولونا، وأكرمونا، وقد أبوا إلا خلافه، فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى فأضمر عليها منه أخوه كرز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك وهو كان يحدث عنه هذا الحديث فيما بلغني.

قال ابن هشام: وبلغني أن رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتابا عندهم فكلما مات رئيس منهم فأفضت الرياسة إلى غيره، ختم على تلك الكتب خاتما مع الخواتم التي قبله ولم يكسرها، فخرج الرئيس الذي كان على عهد رسول الله ﷺ يمشي، فعثر فقال ابنه: تعس الأبعد، يريد رسول الله ﷺ، فقال له أبوه: لا تفعل؛ فإنه نبي واسمه في الوضائع، يعني الكتب.

فلما مات لم تكن لابنه همة إلا أن شد فكسر الخواتم، فوجد فيها ذكر النبي ﷺ، فأسلم فحسن إسلامه، وحج وهو يقول:

إليك تغدو قلقا وضينها معترضا في بطنها جنينها

مخالفا لدين النصارى دينها

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال: قدموا على رسول الله ﷺ المدينة، فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر عليهم ثياب الحبرات جبب، وأردية في جمال رجال بني الحارث بن كعب، قال: يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي ﷺ يومئذ: ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم، وقد حانت صلاتهم، فقاموا في مسجد رسول الله ﷺ فقال: دعوهم، فصلوا إلى المشرق. قال ابن إسحاق: وكان تسمية الأربعة عشر الذين يئول إليهم أمرهم: العاقب وهو عبد المسيح، والسيد وهو الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل، وأوس، والحارث، وزيد، وقيس، ويزيد، ونبيه، وخويلد، وعمر، وخالد، وعبد الله، ويحنس في ستين راكبا، فكلم رسول الله ﷺ منهم أبو حارثة بن علقمة، والعاقب عبد المسيح، والأيهم السيد، وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلافهم من أمرهم يقولون هو الله، ويقولون هو ولد الله، ويقولون هو ثالث ثلاثة، وكذلك قول النصرانية.

فهم يحتجون في قولهم: هو الله، بأنه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طائرا، وذلك كله بأمر الله وليجعله آية الناس.

ويحتجون في قولهم: إنه ولد الله، فإنهم يقولون لم يكن له أب يعلم، وقد تكلم في المهد، وهذا شيء لم يصنعه أحد من ولد آدم.

ويحتجون في قولهم: ثالث ثلاثة، بقول الله: فعلمنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا، فيقولون: لو كان واحدا ما قال إلا فعلت، وقضيت، وأمرت، وخلقت، ولكنه هو عيسى ومريم ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن فلما كلمه الحبران، قال لهما رسول الله ﷺ: أسلما، قالا: قد أسلمنا. قال: إنكما لم تسلما فأسلما، قالا: بلى، قد أسلمنا قبلك. قال: كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعواكما لله ولدا، وعبادتكما للصليب، وأكلكما للخنزير، قالا: فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله ﷺ عنهما، فلم يجبهما فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلافهم في أمرهم كله صدرا من سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية.

وذكر نزول الآيات بسببهم غير واحد مثلما ذكره محمد بن جرير الطبري في تفسيره، قال: حدثنا المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا ابن أبي جعفر - يعني - عبد الله بن أبي جعفر الرازي، عن أبيه، عن الربيع في قوله تعالى: الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم. قال: إن النصارى أتوا رسول الله ﷺ، فخاصموه في عيسى ابن مريم، وقالوا له: من أبوه؟ وقالوا على الله الكذب والبهتان - لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، فقال لهم النبي ﷺ: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟، قالوا: نعم. قال: ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟، قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه؟، قالوا: بلى. قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟، قالوا: بلى. قال: فهل يعلم عيسى من ذلك شيئا إلا ما علم؟، قالوا: لا. قال: فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء قال: ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث؟، قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذي كما يتغذى الصبي، ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟، قالوا: بلى. قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟. قال: فعرفوا ثم أبوا إلا الجحود فأنزل الله الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم.

وقد ثبت في الصحاح حديث وفد نجران ففي البخاري ومسلم عن حذيفة، وأخرجه مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: لما نزلت هذه الآية: فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم؛ دعا رسول الله ﷺ عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فقال: اللهم هؤلاء أهلي.

وفي البخاري عن حذيفة بن اليمان: قال جاء السيد والعاقب صاحبا نجران إلى رسول الله ﷺ يريدان أن يلاعناه، فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل فوالله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنما نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلا أمينا، ولا تبعث معنا إلا أمينا، قال: لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين.

قال فاستشرف لها أصحاب رسول الله ﷺ فقال: قم يا أبا عبيدة ابن الجراح، فلما قام قال رسول الله ﷺ: هذا أمين هذه الأمة.

وفي سنن أبي داود وغيره، قال أبو داود: أخبرنا مصرف بن عمرو اليامي، حدثنا يونس يعني ابن بكير، حدثنا أسباط بن نصر الهمداني عن إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي عن ابن عباس، قال صالح رسول الله ﷺ أهل نجران على ألفي حلة،

النصف في صفر، والنصف في رجب، يؤدونها إلى المسلمين؛ وعارية ثلاثين درعا، وثلاثين فرسا، وثلاثين بعيرا، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها، والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمين كيد ذات غدر، على أن لا يهدم لهم بيعة، ولا يخرج لهم قس، ولا يفتنون عن دينهم ما لم يحدثوا حدثا، أو يأكلوا الربا.

قال إسماعيل: فقد أكلوا الربا. قال أبو داود: إذا نقضوا بعض ما شرط عليهم فقد أحدثوا.

وما ذكره أبو داود وأهل السير من مصالحته لأهل نجران على الجزية المذكورة معروف عند أهل العلم، وقد ذكر ذلك أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال ذكره من طريقين:

قال أبو عبيد رحمه الله: حدثنا أبو أيوب الدمشقي، قال: حدثني سعدان بن يحيى، عن عبد الله بن أبي حميد، عن أبي المليح الهذلي: أن رسول الله ﷺ صالح أهل نجران، فكتب لهم كتابا: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما كتب محمد النبي ﷺ لأهل نجران، إذ كان له حكمه عليهم أن في كل سوداء وبيضاء وصفراء وحمراء أو ثمرة ورقيق وأفضل عليهم وترك ذلك لهم ألفي حلة، في كل صفر ألف حلة، وفي كل رجب ألف حلة، كل حلة أوقية ما زاد الخراج أو نقص فعلى الأواقي فليحسب، وما قضوا من ركاب أو خيل أو دروع أخذ منهم بالحساب، وعلى أهل نجران مقرى رسلي عشرين ليلة فما دونها وعليهم عارية ثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا وثلاثين درعا إذا كان كيد باليمن ذو مغدرة، وما هلك مما أعاروا رسلي فهو ضامن على رسلي حتى يؤدوه إليهم ولنجران وحاشيتها ذمة الله وذمة رسوله على دمائهم وأموالهم وملتهم وبيعهم ورهبانهم وأساقفهم وشاهدهم وغائبهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، وعلى أن لا يغيروا أسقفا من سقيفاه، ولا واقها من وقيهاه، ولا راهبا من رهابنه، وعلى أن لا يخسروا، ولا يعشروا، ولا يطأ أرضهم جيش، ومن ملك منهم حقا فالنصف بينهم بنجران، على أن لا يأكلوا الربا، فمن أكل الربا من ذي قبل فذمتي منهم بريئة وعليهم الجهد والنصح فيما استقبلوا غير مظلومين ولا معنوف عليهم، شهد عثمان بن عفان ومعيقيب.

قال أبو عبيد: الواقة ولي العهد في لغة بلحارث بن كعب يقول: إذا مات هذا الأسقف قام الآخر مكانه.

قال أبو عبيد: قال أبو أيوب وحدثني عيسى بن يونس، عن عبد الله بن أبي حميد، عن أبي المليح، عن النبي ﷺ مثل ذلك، وزاد في حديثه قال: فلما توفي رسول الله ﷺ أتوا أبا بكر، فوفى لهم بذلك، وكتب لهم كتابا نحوا من كتاب رسول الله ﷺ، فلما ولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصابوا الربا في زمانه، فأجلاهم عمر، وكتب لهم: أما بعد فمن وقعوا به من أمراء الشام أو العراق فليوسعهم من جريب الأرض، وما اعتملوا من شيء فهو لهم لوجه الله وعقبى من أرضهم، قال فأتوا العراق فاتخذوا النجرانية. قال أبو عبيد: وهي قرية بالكوفة.

وكتب عثمان إلى الوليد بن عقبة: أما بعد، فإن العاقب والأسقف وسراة أهل نجران أتوني بكتاب رسول الله ﷺ وأروني شرط عمر رضي الله عنه، وقد سألت عثمان بن حنيف فأنبأني أنه قد كان بحث على ذلك، فوجده صار للدهاقين ليردعهم عن أرضهم، وإني قد وضعت عنهم من جزيتهم مائتي حلة لوجه الله وعقبى لهم من أرضهم، وإني أوصيك بهم فإنهم قوم لهم ذمة.

قال أبو عبيد: وحدثنا عثمان بن صالح، عن عبد الله بن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، أن رسول الله ﷺ كتب لأهل نجران: من محمد النبي رسول الله ﷺ، ثم ذكر نحو هذه النسخة، وليس في حديثه قصة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفي آخره شهد أبو سفيان بن حرب وغيلان بن عمرو ومالك بن عوف من بني نضر، والأقرع بن حابس الحنظلي، والمغيرة بن شعبة.

قال أبو عبيد: حدثني سعيد بن عفير، عن يحيى بن أيوب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن ابن شهاب، قال: أول من أعطى الجزية أهل نجران وكانوا نصارى.

فإن قيل: قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا.

وقد ثبت في الصحيحين، أن النبي ﷺ قد كتب إلى هرقل مع دحية الكلبي مدة هدنته للمشركين، وكان أبو سفيان إذ ذاك لم يسلم، وقد حضر عند هرقل، وسأله هرقل عن النبي ﷺ، وأبو سفيان أسلم عام الفتح، فدل ذلك على أن هذا الكتاب كان قبل الفتح، ونزول آية الجزية كان بعد الفتح سنة تسع، فدل ذلك على أن هذه الآية نزلت قبل آية الجزية، وقبل آية المباهلة، وآية المباهلة قد علم يقينا أنها نزلت في قصة قدوم وفد نجران والمفسرون وأهل السير ذكروا أن آل عمران نزلت بسبب مناظرة أهل نجران، وقد ذكرناه من نقل أهل الحديث بالإسناد المتصل.

ونقل أهل المغازي والسير أن وفد نجران صالحهم على الجزية وهم أول من أداها، فعلم أن قدومهم كان بعد نزول آية الجزية، وآية الجزية نزلت بعد فتح مكة، فعلم أن قدوم وفد نجران كان بعد آية السيف التي هي آية الجزية.

قال الزهري: أهل نجران أول من أدى الجزية.

وقوله تعالى: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم. بعدها آيات نزلت قبل ذلك كقوله: يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون.

فيكون هذا مما تقدم نزوله وتلك مما تأخر نزوله، وجمع بينهما للمناسبة كما في نظائره، فإن الآيات كانت إذا نزلت يأمر النبي ﷺ أن يضعها في مواضع تناسبها، وإن كان ذلك مما تقدم، ومما يبين ذلك أن هذه الآية وهي قوله تعالى قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم لفظها يعم اليهود والنصارى. وكذلك ذكر أهل العلم أنها دعاء لطائفتين، وأن النبي ﷺ دعا بها اليهود، فدل ذلك على أن نزولها متقدم، فإن دعاءه لليهود كان قبل نزول آية الجزية، ولهذا لم يضرب الجزية على أهل خيبر وغيرهم من يهود الحجاز، ولكن لما بعث معاذا إلى اليمن وكان كثيرا من أهلها يهود أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافرا، وهذا كان متأخرا بعد غزوة تبوك، وتوفي النبي ﷺ ومعاذ باليمن، قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار، حدثنا الوليد، حدثنا الضحاك بن عبد الرحمن بن أبي حوشب وغيره، أن عمر بن عبد العزيز

كتب إلى أليون طاغية الروم، قال: فيما أنزل الله على محمد ﷺ: قل يا أهل الكتاب يعني اليهود والنصارى تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم.

وروي بإسناده عن ابن جريج في قوله تعالى: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم.

قال: بلغني أن النبي ﷺ دعا يهود أهل الكتاب فأبوا عليه فجاهدهم، وكذلك سائر الآيات التي فيها خطاب للطائفتين كقوله تعالى: يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين.

ومما ينبغي أن يعلم، أن أهل نجران كان منهم نصارى أهل ذمة وكان منهم مسلمون - وهم الأكثرون - والنبي ﷺ بعث أبا عبيدة لهؤلاء وهؤلاء، واستعمل عمرو بن حزم على هؤلاء وهؤلاء، كما أخرجا في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: إن لكل أمة أمينا، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح.

وعن أنس أيضا: أن أهل اليمن قدموا على رسول الله ﷺ، فقالوا ابعث معنا رجلا أمينا، يعلمنا السنة والإسلام، فأخذ بيد أبي عبيدة بن الجراح، فقال: هذا أمين هذه الأمة.

وفي الصحيحين: عن حذيفة بن اليمان، قال: جاء أهل نجران إلى رسول الله ﷺ، فقالوا: يا رسول الله ابعث إلينا رجلا أمينا، فقال: لأبعثن إليكم رجلا أمينا حق أمين حق أمين.

قال: فاستشرف لها الناس، قال: فبعث أبا عبيدة بن الجراح.

وللبخاري عن حذيفة قال: جاء السيد والعاقب صاحبا نجران إلى رسول الله ﷺ يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبيا فلاعنا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا، فقال: لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين، فاستشرف لها أصحاب رسول الله ﷺ، فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام قال رسول الله ﷺ: هذا أمين هذه الأمة.

وكذلك استعمل النبي ﷺ عليهم عمرو بن حزم، وكتب له الكتاب المشهور الذي فيه الفرائض والسنن، وقد رواه النسائي بطوله، وروى الناس بعضه مفرقا.

ومحمد بن سعد لم يذكر بعد وفد نجران إلا وفد جيشان، فدل على أن قدومهم كان متأخرا، ومحمد بن إسحاق ذكر قدومهم في أوائل السيرة مع قصة اليهود؛ ليجمع بين خبر اليهود والنصارى، وذكر في سنة عشر فتح نجران، وإرسال النبي ﷺ خالد بن الوليد، وإرسال خالد ذكروا أنه كان متأخرا قبل وفاته ﷺ بأربعة أشهر، وأنه قدم وفد منهم بالإسلام، وهذا إنما كان بعد قدوم وفد النصارى؛ فإنه قد ذكر ابن سعد أن العاقب والسيد أسلما بعد ذلك، والعهد بالجزية إنما كان مع النصارى، وآية الجزية هي قوله تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

وهذه آية السيف مع أهل الكتاب، وقد ذكر فيها قتالهم إذا لم يؤمنوا حتى يعطوا الجزية، والنبي ﷺ لم يأخذ من أحد الجزية إلا بعد هذه الآية، بل وقالوا: إن أهل نجران أول من أخذت منهم الجزية، كما ذكر ذلك أهل العلم كالزهري وغيره، فإنه باتفاق أهل العلم لم يضرب النبي ﷺ على أحد قبل نزول هذه الآية جزية لا من الأميين ولا من أهل الكتاب، ولهذا لم يضربها على يهود قينقاع والنضير وقريظة ولا ضربها على أهل خيبر؛ فإنها فتحت سنة سبع قبل نزول آية الجزية، وأقرهم فلاحين، وهادنهم هدنة مطلقة قال فيها: نقركم ما أقركم الله.

فإذا كان أول ما أخذها من وفد نجران علم أن قدومهم عليه ومناظرته لهم ومحاجته إياهم، وطلبه المباهلة معهم كانت بعد آية السيف التي فيها قتالهم.

وعلم بذلك أن ما ذكره الله تعالى من مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا، محكم لم ينسخه شيء، وكذلك ما ذكره تعالى من مجادلة الخلق مطلقا بقوله: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن.

فإن من الناس من يقول: آيات المجادلة والمحاجة للكفار منسوخات بآية السيف؛ لاعتقاده أن الأمر بالقتال المشروع ينافي المجادلة المشروعة وهذا غلط، فإن النسخ إنما يكون إذا كان الحكم الناسخ مناقضا للحكم المنسوخ، كمناقضة الأمر باستقبال المسجد الحرام في الصلاة للأمر باستقبال بيت المقدس بالشام، ومناقضة الأمر بصيام رمضان للمقيم للتخيير بين الصيام وبين إطعام كل يوم مسكينا، ومناقضة نهيه عن تعدي الحدود التي فرضها للورثة للأمر بالوصية للوالدين والأقربين، ومناقضة قوله لهم كفوا أيديكم عن القتال لقوله: قاتلوهم كما قال تعالى: ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية.

فأمره لهم بالقتال ناسخ لأمره لهم بكف أيديهم عنهم، فأما قوله تعالى: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن.

وقوله: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم.

فهذا لا يناقضه الأمر بجهاد من أمر بجهاده منهم، ولكن الأمر بالقتال يناقض النهي عنه والاقتصار على المجادلة.

الجمع بين مجادلة أهل الكتاب وقتالهم

فأما مع إمكان الجمع بين الجدال المأمور به والقتال المأمور به، فلا منافاة بينهما، وإذا لم يتنافيا بل أمكن الجمع لم يجز الحكم بالنسخ، ومعلوم أن كلا منهما ينفع حيث لا ينفع الآخر، وأن استعمالهما جميعا أبلغ في إظهار الهدى ودين الحق، ومما يبين ذلك وجوه:

أحدها: أن من كان من أهل الذمة والعهد والمستأمن منهم لا يجاهد بالقتال، فهو داخل فيمن أمر الله بدعوته ومجادلته بالتي هي أحسن، وليس هو داخلا فيمن أمر الله بقتاله.

الثاني: أنه قال: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا.

فالظالم لم يؤمر بجداله بالتي هي أحسن، فمن كان ظالما مستحقا للقتال غير طالب للعلم والدين فهو من هؤلاء الظالمين الذين لا يجادلون بالتي هي أحسن، بخلاف من طلب العلم والدين، ولم يظهر منه ظلم، سواء كان قصده الاسترشاد، أو كان يظن أنه على حق يقصد نصر ما يظنه حقا، ومن كان قصده العناد يعلم أنه على باطل ويجادل عليه فهذا لم يؤمر بمجادلته بالتي هي أحسن، لكن قد نجادله بطرق أخرى نبين فيها عناده وظلمه وجهله جزاء له بموجب عمله.

الثالث: أنه سبحانه قال: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه.

فهذا مستجير مستأمن وهو من أهل الحرب أمر الله بإجارته حتى تقوم حجة الله عليه، ثم يبلغه مأمنه، وهذا في سورة (براءة) التي فيها نقض العهود، وفيها آية السيف، وذكر هذه الآية في ضمن الأمر بنقض العهود؛ ليبين سبحانه أنه مثل هذا يجب أمانه؛ حتى تقوم عليه الحجة، لا تجوز محاربته كمحاربة من لم يطلب أن يبلغ حجة الله عليه.

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ثم أبلغه مأمنه إن لم يوافقه ما نقص عليه ونخبر به فأبلغه مأمنه، قال: وليس هذا بمنسوخ.

وقال مجاهد: من جاءك واستمع ما أنزل إليك فهو آمن حتى يأتيك.

وقال عطاء في الرجل من أهل الشرك يأتي المسلمين بغير عهد، قال: تخيره إما أن تقره، وإما أن تبلغه مأمنه.

وقوله تعالى: فأجره حتى يسمع كلام الله.

قد علم أن المراد أنه يسمعه سمعا يتمكن معه من فهم معناه، إذ المقصود لا يقوم بمجرد سمع لفظ لا يتمكن معه من فهم المعنى، فلو كان غير عربي وجب أن يترجم له ما يقوم به عليه الحجة - ولو كان عربيا - وفي القرآن ألفاظ غريبة ليست لغته، وجب أن يبين له معناها، ولو سمع اللفظ كما يسمعه كثير من الناس، ولم يفقه المعنى وطلب منا أن نفسره له ونبين له معناه، فعلينا ذلك.

وإن سألنا عن سؤال يقدح في القرآن أجبناه عنه، كما كان النبي ﷺ إذا أورد عليه بعض المشركين أو أهل الكتاب أو المسلمين سؤالا يوردونه على القرآن، فإنه كان يجيبه عنه كما أجاب ابن الزبعري لما قاس المسيح على آلهة المشركين، وظن أن العلة في الأصل بمجرد كونهم معبودين، وأن ذلك يقتضي كل معبود غير الله، فإنه يعذب في الآخرة، فجعل المسيح مثلا لآلهة المشركين قاسهم عليه قياس الفرع على الأصل.

قال تعالى: ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون.

فبين سبحانه الفرق المانع من الإلحاق بقوله تعالى: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون.

وبين أن هؤلاء القائسين ما قاسوه إلا جدلا محضا لا يوجب علما؛ لأن الفرق حاصل بين الفرع والأصل، فإن الأصنام إذا جعلوا حصبا لجهنم كان ذلك إهانة وخزيا لعابديها من غير تعذيب من لا يستحق التعذيب، بخلاف ما إذا عذب عباد الله الصالحون بذنب غيرهم، فإن هذا لا يفعله الله تعالى، لا سيما عند جماهير المسلمين وسائر أهل الملل سلفهم وخلفهم الذين يقولون إن الله لا يخلق ويأمر إلا لحكمة، ولا يظلم أحدا فينقصه شيئا من حسناته، ولا يحمل عليه سيئات غيره، بل ولا يعذب أحدا إلا بعد إرسال رسول إليه، كما قال تعالى:

ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما.

وقال تعالى: فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا.

وقال تعالى: هل تجزون إلا ما كنتم تعملون.

وقال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا.

ومن قال من المسلمين وغيرهم من أهل الملل: إنه يجوز منه تعالى فعل كل شيء، وأن الظلم هو الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، فهؤلاء يقولون: إنما يعلم ما يفعله وما لا يفعله بدلالة خبر الصادق أو بالعادة، وإن كان الجمهور يستدلون بخبر الصادق وبغيره على ما يمتنع من الله.

وقد أخبر الله تعالى أن عباده الصالحين في الجنة، لا يعذبهم في النار، بل يتقبل عنهم أحسن ما عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة، فضلا أن يعاقبهم بذنب غيرهم مع كراهية لفعلهم، ونهيهم عن ذلك، ومن زعم أن لفظ (ما) كانت تتناول المسيح وأخر بيان العام أو أجاب بأن لفظ (ما) لا يتناول إلا ما لا يعقل، فالقولان ضعيفان كما قد بسط في موضعه.

وإنما المشركون عارضوا النص الصحيح بقياس فاسد، فبين الله تعالى فساد القياس وذكر الفرق بين الأصل والفرع.

وكذلك لما أورد بعض النصارى على قوله تعالى: يا أخت هارون ظنا منه أن هارون هذا هو هارون أخو موسى بن عمران، وأن عمران هذا هو عمران أبو مريم أم المسيح، فسئل النبي ﷺ عن ذلك، أجاب بأن هارون هذا ليس هو ذاك، ولكنهم كانوا يسمون بأسماء الأنبياء والصالحين.

وبعض جهال النصارى يقدح في القرآن بمثل هذا ولا يعلم هذا المفرط في جهله أن آحاد الناس يعلمون أن بين موسى وعيسى مدة طويلة جدا يمتنع معها أن يكون موسى وهارون خالي المسيح، وأن هذا مما لا يخفى على أقل أتباع محمد ﷺ، فضلا عن أن يخفى على محمد ﷺ.

وهذا السؤال مما أورده أهل نجران، كما ثبت عن المغيرة بن شعبة، قال: بعثني رسول الله ﷺ إلى أهل نجران فقالوا: ألستم تقرءون ياأخت هارون، وقد علمتم ما بين موسى وعيسى، فلم أدر ما أجيبهم، فرجعت إلى رسول الله ﷺ، فأخبرته، فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم؟.

وهذا السؤال الذي هو سؤال الطاعن في القرآن لما أورده أهل نجران الكفار على رسول الله ﷺ ولم يجبهم عنه أجاب عنه النبي ﷺ، ولم يقل لهم: ليس لكم عندي إلا السيف، ولا قال: قد نقضتم العهد إن كانوا قد عاهدوه، وقد عرف أن أهل نجران لم يرسل إليهم رسولا إلا والجهاد مأمور به.

وكان المسلمون يوردون الأسئلة عليه، كما أورد عليه عمر عام الحديبية، لما صالح المشركين ولم يدخل مكة فقال له: ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به، قال: بلى، أقلت لك أنك تأتيه في هذا العام؟، قال: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به.

وكذلك أجابه أبو بكر ولم يكن سمع جواب النبي ﷺ له، معلوم أنه ليس في ظاهر اللفظ توقيت ذلك بعام، ولكن السائل ظن ما لا يدل اللفظ عليه.

وكذلك لما قال: من نوقش الحساب عذب، قالت له عائشة: ألم يقل الله: فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا. فقال: ذلك العرض، ومن نوقش الحساب عذب.

ومعلوم أن الحساب اليسير لا يتناول من نوقش، وقد زادها بيانا، فأخبر أنه العرض لا المقابلة المتضمنة للمناقشة.

وكذلك لما قال: إنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة، قالت له حفصة: ألم يقل الله: وإن منكم إلا واردها. فأجابها بأنه قال: ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا.

فبين ﷺ أن هؤلاء هم الذين يدخلون جهنم، وهذا الدخول هو الذي نفاه عن أهل الحديبية، وأما الورود فهو مرور الناس على الصراط، كما فسره في الحديث الصحيح: حديث جابر بن عبد الله، وهذا المرور لا يطلق عليه اسم الدخول الذي يجزي به العصاة، وينفي عن المتقين، ومثل هذا كثير.

وأما ما في القرآن من ذكر أقوال الكفار وحججهم وجوابها، فهذا كثير جدا، فإنه يجادلهم تارة في التوحيد، وتارة في النبوات، وتارة في المعاد، وتارة في الشرائع بأحسن الحجج وأكملها، كما قال تعالى: وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا.

وقد أخبر الله تبارك وتعالى عن أولي العزم من الرسل بمجادلة الكفار فقال تعالى: قالوا يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا.

وقال عن الخليل: وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني. إلى قوله: وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء.

وأمر الله تعالى محمدا ﷺ بالمجادلة بالتي هي أحسن، وذم سبحانه من جادل بغير علم، أو في الحق بعدما تبين، ومن جادل بالباطل: ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

وقال تعالى: يجادلونك في الحق بعدما تبين.

وقال تعالى: وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب.

وهذا هو الجدال المذكور في قوله: ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا.

وإذا كان النبي ﷺ يحاج الكفار بعد نزول الأمر بالقتال، وقد أمره الله تعالى أن يجير المستجير حتى يسمع كلام الله ثم يبلغه مأمنه، والمراد بذلك: تبليغ رسالات الله، وإقامة الحجة عليه، وذلك قد لا يتم إلا بتفسيره له الذي تقوم به الحجة، ويجاب به عن المعارضة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

علم بطلان قول من ظن أن الأمر بالجهاد ناسخ الأمر بالمجادلة مطلقا.

الوجه الرابع: إن القائل إذا قال: إن آية مجادلة الكفار - أو غيرها مما يدعي نسخه - منسوخة بآية السيف قيل له: ما تعني بآية السيف؟ أتعني آية بعينها، أم تعني كل آية فيها الأمر بالجهاد؟

فإن أراد الأول، كان جوابه من وجهين:

أحدهما: أن الآيات التي فيها ذكر الجهاد متعددة، فلا يجوز تخصيص بعضها.

وإن قال: أريد قوله تعالى: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم.

قيل له: هذه في قتال المشركين وقد قال بعدها في قتال أهل الكتاب:

قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

فلو لم تكن آية السيف إلا واحدة لم تكن هذه أولى من هذه، وإن قال: كل آية فيها ذكر الجهاد.

قيل له الجهاد شرع على مراتب، فأول ما أنزل الله تعالى فيه الإذن بقوله: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير.

فقد ذكر غير واحد من العلماء أن هذه أول آية نزلت في الجهاد، ثم بعد ذلك نزل وجوبه بقوله: كتب عليكم القتال.

ولم يؤمروا بقتال من طلب مسالمتهم، بل قال: فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا.

وكذلك من هادنهم لم يكونوا مأمورين بقتاله، وإن كانت الهدنة عقدا جائزا غير لازم.

ثم أنزل في (براءة) الأمر بنبذ العهود، وأمرهم بقتال المشركين كافة، وأمرهم بقتال أهل الكتاب إذا لم يسلموا حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ولم يبح لهم ترك قتالهم وإن سالموهم وهادنوهم هدنة مطلقة مع إمكان جهادهم.

فإن قال: آية السيف التي نسخت المجادلة هي آية الإذن. قيل: فآية الإذن نزلت في أول مقدمه المدينة قبل أن يبعث شيئا من السرايا، وقد جادل بعد هذا الكفار.

وكذلك إن قيل: آيات فرض القتال. قيل: فقوله كتب عليكم القتال. نزلت في أول الأمر قبل بدر، ولا ريب أن الجهاد كان واجبا يوم أحد والخندق وفتح خيبر ومكة، وقد ذكر الله آيات فرض الجهاد في هؤلاء المغازي كما ذكر ذلك في سورة آل عمران والأحزاب. وإن قيل: بل الجدال إنما نسخ لما أمر بجهاد من سالم ومن لم يسالم، قيل: هذا باطل، فإن الجدال إن كان منافيا للجهاد، فهو مناف لإباحته ولإيجابه ولو للمسالم، وإن لم يناف الجهاد لم يناف إيجاب الجهاد للمسالمين، كما لم يناف إيجاب جهاد غيرهم. فإن المسالم قد لا يجادل ولا يجالد، وقد يجادل ولا يجالد، كما أن غيره قد يجالد ويجادل وقد يفعل أحدهما.

فإن كان إيجابه لجهاد المحارب المبتدئ بالقتال لا ينافي مجادلته، فلأن يكون جهاد من لا يبدأ القتال لا ينافي مجادلته أولى وأحرى، فإن من كان أبعد عن القتال كانت مجادلته أقل منافاة للقتال ممن يكون أعظم قتالا. يبين هذا:

الوجه الخامس: وهو أن يقال: المنسوخ هو الاقتصار على الجدال، فكان النبي ﷺ في أول الأمر مأمورا أن يجاهد الكفار بلسانه لا بيده، فيدعوهم ويعظهم ويجادلهم بالتي هي أحسن ويجاهدهم بالقرآن جهادا كبيرا، قال تعالى في سورة الفرقان وهي مكية: ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا.

وكان مأمورا بالكف عن قتالهم لعجزه وعجز المسلمين عن ذلك، ثم لما هاجر إلى المدينة وصار له بها أعوان أذن له في الجهاد، ثم لما قووا كتب عليهم القتال ولم يكتب عليهم قتال من سالمهم؛ لأنهم لم يكونوا يطيقون قتال جميع الكفار.

فلما فتح الله مكة وانقطع قتال قريش ملوك العرب، ووفدت إليه وفود العرب بالإسلام أمره الله تعالى بقتال الكفار كلهم إلا من كان له عهد مؤقت، وأمره بنبذ العهود المطلقة، فكان الذي رفعه ونسخه ترك القتال.

وأما مجاهدة الكفار باللسان، فما زال مشروعا من أول الأمر إلى آخره،

فإنه إذا شرع جهادهم باليد، فباللسان أولى، وقد قال النبي ﷺ: جاهدوا المشركين بأيديكم وألسنتكم وأموالكم.

وكان ينصب لحسان منبرا في مسجده يجاهد فيه المشركين بلسانه جهاد هجو، وهذا كان بعد نزول آيات القتال، وأين منفعة الهجو من منفعة إقامة الدلائل والبراهين على صحة الإسلام، وإبطال حجج الكفار من المشركين وأهل الكتاب؟

الوجه السادس: أنه من المعلوم أن القتال إنما شرع للضرورة، ولو أن الناس آمنوا بالبرهان والآيات لما احتيج إلى القتال، فبيان آيات الإسلام وبراهينه واجب مطلقا وجوبا أصليا.

وأما الجهاد: فمشروع للضرورة، فكيف يكون هذا مانعا من ذلك؟

فإن قيل: الإسلام قد ظهرت أعلامه وآياته فلم يبق حاجة إلى إظهار آياته، وإنما يحتاج إلى السيف. قيل: معلوم أن الله وعد بإظهاره على الدين كله ظهور علم وبيان وظهور سيف وسنان، فقال تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.

وقد فسر العلماء ظهوره بهذا وهذا، ولفظ الظهور يتناولهما، فإن ظهور الهدى بالعلم والبيان، وظهور الدين باليد والعمل، والله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله.

ومعلوم أن ظهور الإسلام بالعلم والبيان قبل ظهوره باليد والقتال؛ فإن النبي ﷺ مكث بمكة ثلاث عشرة سنة يظهر الإسلام بالعلم والبيان والآيات والبراهين، فآمنت به المهاجرون والأنصار طوعا واختيارا بغير سيف لما بان لهم من الآيات البينات والبراهين والمعجزات، ثم أظهره بالسيف، فإذا وجب علينا جهاد الكفار بالسيف ابتداء ودفعا، فلأن يجب علينا بيان الإسلام وإعلامه ابتداء ودفعا لمن يطعن فيه بطريق الأولى والأحرى.

فإن وجوب هذا قبل وجوب ذاك ومنفعته قبل منفعته، ومعلوم أنه يحتاج كل وقت إلى السيف، فكذلك هو محتاج إلى العلم والبيان، وإظهاره بالعلم والبيان من جنس إظهاره بالسيف وهو ظهور مجمل علا به على كل دين مع أن كثيرا من الكفار لم يقهره سيفه فكذلك كثير من الناس لم يظهر لهم آياته وبراهينه، بل قد يقدحون فيه ويقيمون الحجج على بطلانه، لا سيما والمقهور بالسيف فيهم منافقون كثيرون، فهؤلاء جهادهم بالعلم والبيان دون السيف والسنان، يؤكد هذا:

الوجه السابع: وهو أن القتال لا يكون إلا لظالم، فإن من قاتل المسلمين لم يكن إلا ظالما معتديا، ومن قامت عليه الحجة فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، واتبع غير سبيل المؤمنين لم يكن إلا ظالما.

وأما المجادلة فقد تكون لظالم: إما طاعن في الدين بالظلم، وإما من قامت عليه الحجة الظاهرة فامتنع من قبولها، وقد تكون لمسترشد طالب حق لم يبلغه.

وإما من بلغه بعض أعلام نبوة محمد ﷺ ودلائل نبوته، ولكن عورض ذلك عنده بشبهات تنافي ذلك، فاحتاج إلى جواب تلك المعارضات.

وإما طالب لمعرفة دلائل النبوة على الوجه الذي يعلم به ذلك.

فإذا كان القتال الذي لا يكون إلا لدفع ظلم المقاتل مشروعا.

فالمجادلة التي تكون لدفع ظلمه ولانتفاعه وانتفاع غيره مشروعة بطريق الأولى.

قال مجاهد: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم. قال: الذين ظلموا من قاتلك ولم يعطك الجزية. وفي لفظ آخر عنه قال: الذين ظلموا: منهم أهل الحرب من لا عهد لهم؛ المجادلة لهم بالسيف. وفي رواية عنه قال: لا تقاتل إلا من قاتلك ولم يعطك الجزية. وفي رواية عنه قال: من أدى منهم الجزية فلا تقولوا له إلا خيرا. وعن مجاهد: إلا بالتي هي أحسن، فإن قالوا شرا فقولوا خيرا، فهذا مجاهد لا يجعلها منسوخة وهي قول أكثر المفسرين.

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، قال: ليست منسوخة، ولكن عن قتادة قال: نسختها فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، ولا مجادلة أشد من السيف.

والأول أصح؛ لأن هؤلاء من الذين ظلموا فلا نسخ.

ومما يعجب منه أن بعض المنكرين لمجادلة الكفار بناء على ظهور دلائل النبوة نجده هو ومن يعظمه من شيوخه الذين يعتمد في أصول الدين على نظرهم ومناظرتهم ويزعمون أنهم قرروا دلائل النبوة قد أوردوا من الشبهات والشكوك والمطاعن على دلائل النبوة ما يبلغ نحو ثمانين سؤالا وأجابوا عنه بأجوبة لا تصلح أن تكون جوابا في المسائل الظنية، بل هي إلى تقرير شبه الطاعنين أقرب منها إلى تقرير أصول الدين.

وهم كما مثلهم الغزالي وغيره بمن يضرب شجرة ضربا يزلزلها به، وهو يزعم أنه يريد أن يثبتها، وكثير من أئمة هؤلاء مضطرب في الإيمان بالنبوة اضطرابا ليس هذا موضع بسطه، وهم مع ذلك يدعون أنه قد ظهر عند أهل الكتاب ما لم يظهر عند شيوخ هؤلاء النظار وينهون عن إظهار آيات الله وبراهينه التي هي غاية مطالب مشايخهم وهم لم يعطوها حقها إما عجزا وإما تفريطا.

الوجه الثامن: أن كثيرا من أهل الكتاب يزعم أن محمدا ﷺ وأمته إنما أقاموا دينهم بالسيف لا بالهدى والعلم والآيات، فإذا طلبوا العلم والمناظرة، فقيل: لهم ليس لكم جواب إلا السيف، كان هذا مما يقرر ظنهم الكاذب، وكان هذا من أعظم ما يحتجون به عند أنفسهم على فساد الإسلام، وأنه ليس دين رسول من عند الله، وإنما هو دين ملك أقامه بالسيف.

الوجه التاسع: أنه من المعلوم أن السيف لا سيما سيف المسلمين وأهل الكتاب هو تابع للعلم والحجة، بل وسيف المشركين هو تابع لآرائهم واعتقادهم، والسيف من جنس العمل، والعمل - أبدا - تابع للعلم والرأي.

وحينئذ فبيان دين الإسلام بالعلم وبيان أن ما خالفه ضلال وجهل هو تثبيت لأصل دين الإسلام، واجتناب لأصل غيره من الأديان التي يقاتل عليها أهلها، ومتى ظهر صحته وفساد غيره كان الناس أحد رجلين: إما رجل تبين له الحق فاتبعه، فهذا هو المقصود الأعظم من إرسال الرسل، وإما رجل لم يتبعه، فهذا قامت عليه الحجة، إما لكونه لم ينظر في أعلام الإسلام، أو نظر وعلم فاتبع هواه أو قصر.

وإذا قامت عليه الحجة كان أرضى لله ولرسوله وأنصر لسيف الإسلام وأذل لسيف الكفار، وإذا قدر أن فيهم من يعجز عن فهم الحجة، فهذا إذا لم يكن معذورا مع عدم قيامها، فهو مع قيامها أولى أن لا يعذر، وإن كان معذورا مع قيامها فهو مع عدمها أعذر، فعلى التقديرين قيام الحجة أنصر وأعذر، وقد قال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا.

وقال تعالى: لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.

وقال تعالى: فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا وقال النبي ﷺ: ما أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين.

فصل: من أدلة عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم

إسلام النجاشي

وكان قبل قصة نجران قد آمن به كثير من اليهود والنصارى رؤساؤهم وغير رؤسائهم لما تبين لهم أنه رسول الله إليهم، كما آمن به النجاشي ملك الحبشة، وكان نصرانيا هو وقومه، وكان إيمانه به في أول أمر النبي ﷺ لما كان أصحابه مستضعفين بمكة، وكان الكفار يظلمونهم ويؤذونهم ويعاقبونهم على الإيمان بالله ورسوله، فهاجر منهم طائفة مثل عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود وجعفر بن أبي طالب، وغيرهم من الرجال والنساء إليه، وكان ملكا عادلا، فأرسل الكفار خلفهم رسلا بهدايا ليردهم إليهم، فامتنع من عدله أن يسلمهم إليهم حتى يسمع كلامهم، فلما سمع كلامهم وما أخبروه به من أمر النبي ﷺ آمن بالنبي ﷺ وآواهم.

ولما سمع القرآن قال: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، ولما سألهم عن قولهم في المسيح "عليه السلام" قالوا: نشهد أنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول التي لم يمسها رجل، فقال النجاشي لجعفر بن أبي طالب: والله ما زاد عيسى ابن مريم على ما قلت هذا العود، فنخرت أصحابه، فقال: وإن نخرتم، وإن نخرتم، وبعث ابنه وطائفة من أصحابه إلى النبي ﷺ مع جعفر بن أبي طالب، وقدم جعفر على النبي ﷺ عام خيبر، وقد ذكر قصتهم جماعة من العلماء والحفاظ كأحمد بن حنبل في المسند وابن سعد في الطبقات وأبي نعيم في الحلية وغيرهم، وذكرها أهل التفسير والحديث والفقه وهي متواترة عند العلماء.

قال أحمد: حدثني يعقوب بن إبراهيم بن سعيد، عن أبيه، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج النبي ﷺ ورضي الله عنها، قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار (النجاشي) أمنا على ديننا، وعبدنا الله، لا نؤذى، ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم، فجمعوا له أدما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، وأمروهما أمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدموا إلى النجاشي هداياه، ثم اسألوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم، قالت: فخرجا، فقدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم قالا لكل بطريق منهم: إنه قد صبأ إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم لنردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فتشيروا عليه أن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم، ثم إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي، فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك، إنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلا بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.

قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامنا.

فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك، قومهم أعلا بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم. قالت: فغضب النجاشي، ثم قال لا ها الله أيم الله إذا لا أسلمهم إليهما، ولا أكاد قوما جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني.

قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله ﷺ فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا ﷺ، كائن في ذلك ما هو كائن. فلما جاءوه زاد أبو نعيم وقد دعى النجاشي أساقفته ومعهم مصاحفهم حوله، فلما جاءوه فسألهم، فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟

قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال: أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، نخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. قالت: فعدد عليه أمور الإسلام، قال: فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان عن عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.

قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟

قالت: فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي: فاقرأه علي. فقرأ عليه صدرا من سورة مريم:

كهيعص ذكر رحمة ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا يايحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون

قالت أم سلمة رضي الله عنها: فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلي عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، ثم قال لعبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص: انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكما أبدا ولا أكاد.

قالت أم سلمة: فلما خرج من عنده قال: عمرو بن العاص والله لآتينه غدا أعيبهم عنده، ثم أستأصل به خضراءهم.

قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة - وكان أتقى الرجلين فينا - لا تفعل؛ فإن لهم أرحاما، وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد.

قالت: ثم غدا عليه الغد، فقال له: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه.

قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه.

قالت: ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم، فقال بعضهم لبعض: ما تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله فيه ما قاله الله، وما جاء به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن، فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم، فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.

قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عودا، ثم قال: ما عدى عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي - والسيوم: الآمنون - من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، فما أحب أن لي دبرا ذهبا وأني آذيت رجلا منكم - والدبر بلسان الحبشة: الجبل - ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لنا بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه.

قالت: فخرجا من عنده مقبوحين، مردود عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.

قالت: فوالله إنا على ذلك إذ نزل به. يعني: من ينازعه في ملكه.

قالت: فوالله ما علمنا حزنا قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك تخوفنا أن يظهر ذلك على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه.

وروى عبد الله بن عامر بن الزبير، عن أبيه، قال: لما نزل بالنجاشي عدوه من أرضه جاء المهاجرون، فقالوا: إنا نحن نخرج إليهم، فنقاتل معك، وترى جزاءنا، ونجزيك بما صنعت بنا، فقال: ذو ينصره الله خير من الذي ينصره الناس، يقول: الذي ينصره الله خير من الذي ينصره الناس، فأبى ذلك عليهم.

رجعنا إلى حديث أم سلمة قالت: وسار النجاشي وبينهما عرض النيل قالت: فقال أصحاب رسول الله ﷺ: من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟

قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا.

قالت: وكان من أحدث القوم سنا، قالت: فنفخنا له قربة فجعلها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم ثم انطلق حتى حضرهم.

قالت: ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده.

قالت: فوالله إنا لعلى ذلك متوقعين لما هو كائن إذ طلع الزبير يسعى ويلوح بثوبه ويقول: ألا أبشروا، قد ظهر النجاشي، وقد أهلك الله عدوه.

فوالله ما علمت فرحنا فرحة مثلها قط.

قالت: فرجع النجاشي، وقد أهلك الله عدوه، ومكن له في بلاده، واستوثق عليه أمر الحبشة، فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله ﷺ.

وقد روى جمل هذه القصة أبو داود في سننه من حديث أبي موسى.

وفي الصحيحين من حديث أبي موسى، قال: بلغنا مخرج رسول الله ﷺ ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهما في اثنين وخمسين رجلا من قومي، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده، قال جعفر: إن رسول الله ﷺ بعثنا وأمرنا - يعني بالإقامة - فأقيموا معنا. قال: فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا. قال: فوافقنا رسول الله ﷺ حين فتح خيبر فأسهم لنا منها، وما قسم لأحد غائب عن فتح خيبر غيرنا إلا لمن شهد معنا أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه قسم لهم معهم.

قال: فلما رأى ناس من الناس يقولون لنا - يعني أهل السفينة - سبقناكم لهجرة، قال: ودخلت أسماء بنت عميس - وهي ممن قدم معنا - على حفصة زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر إليه، فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، فقال عمر: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ قالت أسماء: نعم، فقال عمر: سبقناكم بالهجرة، نحن أحق برسول الله ﷺ، فغضبت وقالت: يا عمر كلا والله كنتم مع رسول الله ﷺ يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله تبارك وتعالى وفي رسول الله ﷺ، وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله ﷺ، ونحن كنا نؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك لرسول الله ﷺ وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد على ذلك.

فلما جاء النبي ﷺ، قالت: يا رسول الله إن عمر قال كذا وكذا، قال رسول الله ﷺ: فماذا قلت له؟ قالت: قلت كذا وكذا، قال: ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان.

قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتونني أرسالا يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال رسول الله ﷺ.

قال أبو بردة: قالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني أخرجاه في الصحيحين البخاري ومسلم.

وأخرجا في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي ﷺ نعى لهم النجاشي صاحب الحبشة في اليوم الذي مات فيه،

قال: استغفروا لأخيكم.

وعنه رضي الله عنه، قال: نعى النبي ﷺ النجاشي يوم توفي، وقال: استغفروا لأخيكم، ثم خرج بالناس إلى المصلى، فصفوا وراءه، وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات. أخرجاه.

وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: إن رسول الله ﷺ صلى على أصحمة النجاشي فكبر عليه أربعا. أخرجاه في الصحيحين.

فصل: إسلام من أسلم من نصارى العرب

وكان أول ما أنزل الله تعالى عليه ﷺ الوحي، عرضت خديجة امرأته أمره على عالم كبير من علماء النصارى يقال له ورقة بن نوفل، وكان من العرب المتنصرة، فقال: هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى بن عمران، يا ليتني أكون فيها جذعا حين يخرجك قومك. يعني: ليتني أكون شابا فإنه كان شيخا كبيرا، قد كف بصره، فقال له النبي ﷺ: أومخرجي هم قال: نعم، لم يأت أحد بمثل ما أتيت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. رواه أصحاب الصحيح.

وقدم إليه بمكة طائفة من أهل الكتاب من النصارى، فآمنوا به، فآذاهم المشركون، فصبروا واحتملوا أذاهم، فأنزل الله فيهم:

الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.

وروى البيهقي في كتاب دلائل النبوة وأعلام الرسالة، فقال: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أنبأنا، أبو العباس محمد بن يعقوب أنبأنا أحمد بن عبد الجبار أنبأنا يونس عن ابن إسحاق، قال: ثم قدم على رسول الله ﷺ عشرون رجلا - وهو بمكة أو قريب من ذلك - من النصارى حين ظهر خبره في الحبشة فوجدوه في المجلس فكلموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مساءلتهم رسول الله ﷺ إلى الله، وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا له، وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش، فقالوا: خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم فتأتونهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم، ما نعلم ركبا أحمق منكم. أو كما قال لهم، فقالوا: سلام عليكم لا نجاهلكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا نألوا لأنفسنا إلا خيرا، ويقال - والله أعلم - إن فيهم نزلت هؤلاء الآيات: الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون إلى قوله: لا نبتغي الجاهلين.

إرساله الرسل إلى جميع الطوائف

ولما كان بعد عام الحديبية ومهادنة قريش أرسل ﷺ رسله إلى جميع الطوائف، فأرسل إلى النصارى: نصارى الشام ومصر، فأرسل إلى هرقل ملك الروم، وقد قيل إن هرقل هذا هو الذي زادت النصارى له في صومهم عشرة أيام لما اقتتلت الروم والفرس، وقتل اليهود بعد أن كان قد أمنهم، فطلبت منه النصارى قتلهم وضمنوا له أن يكفروا خطيئته بما زادوه في الصوم، وكانت الفرس مجوسا، والروم نصارى، وكانت المجوس الفرس غلبت النصارى أولا وكان هذا في أوائل مبعث النبي ﷺ وهو بمكة وأتباعه قليل، ففرح المشركون بانتصار الفرس؛ لأنهم أقرب إليهم، فدخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على رسول الله ﷺ، وأخبره بانتصار الفرس على الروم، فأنزل الله تعالى: الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.

وكان هذا مما أخبر به النبي ﷺ قبل أن يكون، فكان كما أخبر، ولما ذكر أبو بكر الصديق رضي الله عنه كذبوه فراهنهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه كما ذكر هذا المفسرون والمحدثون

قال سنيد في تفسيره - وهو شيخ البخاري - حدثنا حجاج عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة بن الزبير، عن نيار بن مكرم الأسلمي، أنه قال: لما أنزل الله على رسوله ﷺ الم غلبت الروم - إلى قوله - وهو العزيز الرحيم خرج أبو بكر وهو يقرؤها بمكة رافعا بها صوته: الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين.

فقال له رءوس أهل مكة: ما هذا يا ابن أبي قحافة لعله مما يأتي به صاحبك، قال: لا والله، ولكنه كلام الله وقوله تبارك وتعالى، قالوا: فذلك بيننا وبينك إن ظهرت الروم على فارس في بضع سنين، فراهنهم أبو بكر، ففتح الله للروم على فارس دون التسع فأسلم عند ذلك خلق كثير من المشركين.

قال ابن مكرم: وإنما كانت قريش تستفتح يومئذ بالفرس؛ لأنهم وإياهم أهل تكذيب بالبعث وأهل أصنام، وإنما كان المؤمنون يستفتحون يومئذ بالروم؛ لأنهم وإياهم أهل نبوة وتصديق بالبعث فأنزل الله تعالى:

ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء.

وهذا الحديث رواه الترمذي في جامعه فقال: حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا إسماعيل بن أويس، قال: حدثني ابن أبي الزناد، عن أبي الزناد، عن عروة بن الزبير، عن نيار بن مكرم الأسلمي، قال: لما نزلت: الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين. فكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم لأنهم وإياهم أهل كتاب.

وذلك قوله تعالى: ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم.

وكانت قريش تحب ظهور فارس؛ لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه يصيح في نواحي مكة: الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد.

قال ناس من قريش لأبي بكر: فذلك بيننا وبينكم زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟ فارتهن أبو بكر والمشركون، فظهرت الروم على فارس في بضع سنين، وأسلم عند ذلك ناس كثير من المشركين.

قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد - يعني غريبا من هذا الوجه - وإلا فهو مشهور متواتر عن أهل التفسير والمغازي والحديث والفقه، والقصة متواترة عند الناس.

وقال أبو جعفر بن جرير في تفسيره: عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: كان المسلمون يحبون أن تغلب الروم على فارس؛ لأنهم أهل كتاب وكان المشركون يحبون أن تغلب أهل فارس؛ لأنهم أهل أوثان، قال فذكروا ذلك لأبي بكر فذكره أبو بكر للنبي ﷺ فأنزل الله: الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون.

فذكره أبو بكر للمشركين، فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلا، فإن غلبوا كان لك كذا وكذا، وإن غلبوا كان لنا كذا وكذا، فجعلوا بينهم أجلا خمس سنين، فذكر ذلك أبو بكر للنبي ﷺ فقال له: هلا احتطت، أفلا جعلته دون العشرة؟ قال سعيد بن جبير: والبضع: ما دون العشر. قال فغلبت الروم، ثم غلبت فذلك قوله الم غلبت الروم.

وهذا أيضا أخرجه الترمذي: حدثنا الحسين بن حريث، حدثنا معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق الفزاري عن سفيان عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، إنما نعرفه من حديث سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي عمرة.

ورواه أيضا من حديث الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، وقال هذا حديث غريب من هذا الوجه.

ورواه أيضا من حديث الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

وذهبت طائفة من العلماء إلى أن الخبر جاء بظهور الروم على فارس يوم بدر، وذهب آخرون أنه يوم الحديبية، وهذا هو الصحيح، وهرقل كان قد مشى شكرا لله من حمص إلى بيت المقدس لما نصره على الفرس، فوافاه كتاب النبي ﷺ يدعوه إلى الإسلام عقب نصر الله للروم على فارس، ففرح النبي ﷺ ومن معه من المؤمنين.

قال علماء السير: فلما انتصرت الروم، وخرج هرقل ملك الروم من منزله من حمص ماشيا على قدميه إلى بيت المقدس متشكرا لله عز وجل حين رد عليه ما رد ليصلي فيه، فلما انتهى إلى بيت المقدس وصلى فيه قدم عليه حينئذ كتاب رسول الله ﷺ مع دحية الكلبي يدعوه إلى الإسلام.

قال ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله بن عباس، قال: حدثني أبو سفيان، قال: كنا قوما تجارا، وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله ﷺ قد حصرتنا حتى هلكت أموالنا، فلما كانت الهدنة بيننا وبين رسول الله ﷺ - يعني التي عقدت يوم الحديبية - فلما عقدت الهدنة أمنا، فخرجت في نفر من قريش تاجرا إلى الشام، وكان وجه متجرنا فقدمتها حين ظهر هرقل على من كان عارضه من فارس، فأخرجهم منها، وانتزع له صليبه الأعظم، وقد كانوا سلبوه إياه، فلما بلغه ذلك منهم وبلغه أن صليبه قد استنقذ له، وكانت حمص منزله فخرج منها على قدميه متشكرا لله عز وجل حين رد عليه ما رد؛ ليصلي في بيت المقدس، وبسط له الطريق بالبسط ويلقى عليها الرياحين، فلما انتهى إلى إيلياء وقضى فيها صلاته ومعه بطارقته وأساقفته، قال: وقدم عليه كتاب رسول الله ﷺ مع دحية بن خليفة الكلبي فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فأسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين يعني الأكارين.

قال ابن إسحاق، وقال ابن شهاب: حدثني أسقف النصارى في زمان عبد الملك بن مروان، زعم لي أنه أدرك ذلك من أمر رسول الله ﷺ، وأمر هرقل وعقله، قال: لما قدم عليه كتاب رسول الله ﷺ مع دحية أخذه فجعله على خاصرته، ثم كتب إلى رجل برومية كان يقرأ من العبرانية ما يقرأ يذكر له أمره ويصف له شأنه ويخبره ما جاء منه، قال: فكتب إليه صاحب رومية أنه النبي الذي ننتظره لا شك فيه فاتبعه وصدقه، فأمر هرقل ببطارقة الروم، فجمعوا له في دسكرة ملكه، وأمر بها فأشرجت عليهم أبوابها، ثم اطلع عليهم من علية، وخافهم على نفسه، وقال: يا معشر الروم إني قد جمعتكم لخير، إنه قد أتاني كتاب هذا الرجل يدعوني إلى دينه، وإنه - والله - للرجل الذي كنا ننتظره ونجده في كتبنا، فهلم فلنتبعه، لنصدقه فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا، فنخروا نخرة رجل واحد ثم ابتدروا أبواب الدسكرة ليخرجوا منها، فوجدوها قد أغلقت دونهم فقال: كروهم علي، وخافهم على نفسه، فكروا عليه، وقال: يا معشر الروم، إنما قلت لكم هذه المقالة التي قلت لكم؛ لأنظر كيف صلابتكم على دينكم لهذا الأمر الذي حدث، فقد رأيت منكم الذي أسر به، فوقعوا سجودا، وأمر بأبواب الدسكرة ففتحت لهم فانطلقوا.

وهذا حديث مشهور، من حديث محمد بن إسحاق، وهو ذو علم وبصيرة بهذا الشأن، حفظ ما لا يحفظه غيره، قال ابن إسحاق: وأخذ هرقل كتاب رسول الله ﷺ، فجعله في قصبة من ذهب، وأمسكها عنده تعظيما له. وهذه القصة مشهورة ذكرها أصحاب الصحاح.

ففي البخاري ومسلم والسياق للبخاري، عن الزهري، قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن عبد الله بن عباس أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله ﷺ هادن فيها أبا سفيان بن حرب وكفار قريش، فأتوه وهو بإيليا، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم بالترجمان، فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبا، فقال: أدنوه وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: إني سائل هذا الرجل عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه، قال أبو سفيان: فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي الكذب لكذبت عليه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول أحد منكم قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. فقال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد منهم أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت. نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه. قال: بماذا يأمركم؟ قلت: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. فقال للترجمان: قل له سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في أنساب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله فذكرت أن لا. فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يتأسى بقول قيل قبله. وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فقلت لو كان في آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل. وسألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك: أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشته القلوب، لا يسخطه أحد. وسألتك: هل يغدر فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك: بم يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.

ثم دعى بكتاب رسول الله ﷺ الذي بعث به مع دحية الكلبي إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.

قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه ليخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام.

وكان ابن الناطور صاحب إيلياء أسقفا على نصارى أهل الشام يحدث أن هرقل حين قدم إيليا أصبح يوما خبيث النفس، فقال له بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك. قال ابن الناطور: وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم أن ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟، قالوا: ليس يختتن إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيهم من اليهود، فبينا هم على أمرهم، أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن رسول الله ﷺ، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب قال: هم مختتنون، فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر، ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية وكان هرقل نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي ﷺ وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع عليهم فقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتتابعوا هذا النبي، فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم ويئس من الإيمان منهم قال: ردوهم علي، وقال: إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عليه، فكان هذا آخر شأن هرقل.

قلت: وكان هرقل من أجل ملوك النصارى في ذلك الوقت، وقد أخبر غير واحد أن هذا الكتاب إلى الآن باق عند ذرية هرقل في أرفع صوان وأعز مكان يتوارثونه كابرا عن كابر، وأخبر غير واحد أن هذا الكتاب باق إلى الآن عند الفنش صاحب قشتالة، وبلاد الأندلس يفتخرون به، وهذا أمر مشهور معروف.

وقد روى سنيد وهو شيخ البخاري في تفسيره، قال: حدثنا هشام، قال: أخبرنا حصين عن عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: لما كتب رسول الله ﷺ إلى هرقل، فقرأ كتابه، وجمع الروم فأبوا عليه، قال: فلما كان يوم الأحد لم يحضر أسقفهم الكبير وتمارض، فأرسل إليه فأبى، ثم أرسل إليه فأبى ثلاث مرات، فركب إليه فقال له: أليس قد عرفت أنه رسول الله ﷺ؟ قال: بلى، قال: أليس قد رأيت ما ركبوا مني فأنت أطوع فيهم مني فتعال فادعهم، قال: وتأذن لي في ذلك، قال: نعم، قال: اذهب هو ذا أجيء، قال: فجاء بسواده إلى كنيستهم العظمى، فلما رأوه خروا له سجدا الملك وغيره، فقام في المذبح فقال: يا أبناء الموتى، هذا النبي الذي بشر به عيسى، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فنخروا ووثبوا إليه فعضوه بأفواههم حتى قتلوه، قال: وجعلوا يخرجون أضلاعه بالكلبتين حتى مات.

فصل

وأرسل النبي ﷺ رسولا أيضا إلى ملك مصر المقوقس ملك النصارى في ذلك الوقت بالإسكندرية، وكان رسوله إليه حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، قال حاطب: قدمت على المقوقس - واسمه جريح بن مينا - بكتاب رسول الله ﷺ، فقلت له: إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى فانتقم به ثم انتقم منه فاعتبر بغيرك ولا يعتبر بك. قال: هات. قلت: إن لك دينا لن تدعه إلا لما هو خير منه وهو الإسلام الكافي بعد ما سواه، إن هذا النبي دعا الناس إلى الله فكان أشدهم عليه قريش وأعداهم له اليهود وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل من أدرك نبيا فهو من أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه فأنت ممن أدركت هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا نأمرك به. ثم ناوله كتاب رسول الله ﷺ، فلما قرأه قال: خيرا، قد نظرت في هذا فوجدته لا يأمر بمزهود فيه ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آلة النبوة. ثم جعل الكتاب في حق من عاج وختم عليه ودفعه إلى خازنه، وكتب جوابه إلى رسول الله ﷺ: فقد علمت أن نبيا قد بقي، وقد أكرمت رسولك. وأهدى للنبي ﷺ جاريتين وبغلة تسمى الدلدل، فقبل النبي ﷺ هديته واصطفى الجارية الواحدة واسمها مارية القبطية لنفسه، فولدت منه إبراهيم وأعطى الأخرى لحسان بن ثابت، فولدت منه عبد الرحمن، وعاشت البغلة إلى زمن معاوية، فقال النبي ﷺ: ضن الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه.

قال محمد بن سعد: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن أبيه، قال: لما رجع رسول الله ﷺ من الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس القبطي صاحب الإسكندرية وكتب إليه معه كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، فلما قرأ الكتاب قال له: خيرا، وأخذ الكتاب، وكان مختوما فجعله في حق من عاج وختم عليه ودفعه إلى خازنه، وكتب إلى النبي ﷺ جواب كتابه، ولم يسلم، وأهدى إلى النبي ﷺ ما تقدم ذكره.

فكل من الملكين عظم أمر رسول الله ﷺ، وتواضع له ولكتابه، واعترف بأنه الرسول المنتظر الذي بشرت به الأنبياء عليهم السلام.

وقد كان المقوقس يعرف أنه حق بما يسمع من صفاته من أهل الكتاب، ولكن ضن بملكه ولم يؤمن، وكان قد خرج إليه المغيرة قبل إسلام المغيرة فحدثه بذلك.

قال محمد بن عمر الواقدي: حدثني محمد بن سعد الثقفي، وعبد الرحمن بن عبد العزيز، وعبد الملك بن عيسى، وعبد الله بن عبد الرحمن ومحمد بن يعقوب بن عتبة، عن أبيه وغيرهم، كل قد حدثني من هذا الحديث بطائفة منه، قال: قال المغيرة بن شعبة في خروجه إلى المقوقس مع بني مالك، وأنهم لما دخلوا على المقوقس، قال: كيف خلصتم إلي من طائفتكم ومحمد وأصحابه بيني وبينكم؟ قالوا: لصقنا بالبحر وقد خفناه على ذلك. قال: فكيف صنعتم فيما دعاكم إليه؟ قالوا: ما تبعه منا رجل واحد. قال: ولم ذاك؟ قالوا: جاءنا بدين مجدد لا تدين به الآباء ولا يدين به الملك، ونحن على ما كان عليه آباؤنا. قال: فكيف صنع قومه؟ قالوا: تبعه أحداثهم، وقد لاقاه من خلفه من قومه وغيرهم من العرب في مواطن مرة تكون عليهم الدائرة ومرة تكون له. قال: ألا تخبروني إلى ماذا يدعو إليه؟ قالوا: يدعونا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونخلع ما كان يعبد الآباء، ويدعو إلى الصلاة والزكاة. قال: وما الصلاة والزكاة ألها وقت يعرف وعدد تنتهي إليه؟ قالوا: يصلون في اليوم والليلة خمس صلوات كلها لمواقيت وعدد قد سموه له ويؤدون من كل مال بلغ عشرين مثقالا نصف مثقال، وأخبروه بصدقة الأموال كلها. قال: أفرأيتم إذا أخذها أين يضعها؟ قالوا: يردها على فقرائهم، ويأمر بصلة الرحم ووفاء العهد، وتحريم الزنا والخمر، ولا يأكل مما ذبح لغير الله، فقال المقوقس: هذا نبي مرسل إلى الناس، ولو أصاب القبط والروم اتبعوه، وقد أمرهم بذلك عيسى ابن مريم، وهذا الذي تصفون منه بعث به الأنبياء من قبله، وستكون له العاقبة حتى لا ينازعه أحد ويظهر دينه إلى منتهى الخف والحافر ومنقطع البحور، ويوشك قومه أن يدافعوه بالراح، قالوا: فلو دخل الناس كلهم معه ما دخلنا. قال المغيرة: فأنغض المقوقس رأسه، وقال: أنتم في اللعب، ثم قال: كيف نسبه في قومه؟ قلنا: هو أوسطهم نسبا. قال: كذلك والمسيح الأنبياء تبعث في نسب قومها. ثم قال: فكيف حديثه؟ قال: قلنا: ما يسمى إلا الأمين من صدقه. قال: انظروا في أمركم أترونه يصدق فيما بينكم وبينه ويكذب على الله؟ قال: فمن تبعه؟ قلنا: الأحداث. قال: هم والمسيح أتباع الأنبياء قبله. قال فما فعلت يهود يثرب فهم أهل التوراة؟ قلنا: خالفوه، فأوقع بهم فقتلهم وسباهم وتفرقوا في كل وجه. قال: هم قوم حسدة حسدوه، أما إنهم يعرفون من أمره مثل ما نعرف؟ قال المغيرة: فقمنا من عنده، وقد سمعنا كلاما ذللنا لمحمد ﷺ وخضعنا له، وقلنا: ملوك العجم يصدقونه ويخافونه في بعد أرحامهم منه، ونحن أقرباؤه وجيرانه ولم ندخل معه وقد جاءنا داعيا إلى منازلنا، قال المغيرة: فرجعت إلى منزلنا فأقمت بالإسكندرية لا أدع كنيسة إلا دخلتها، وسألت أساقفتها من قبطها ورومها عما يجدون من صفة محمد ﷺ وكان أسقف من القبط هو رأس كنيسة يوحنا كانوا يأتونه بمرضاهم فيدعو لهم لم أر قط أشد اجتهادا منه، فأتيته فقلت: هل بقي أحد من الأنبياء؟ قال: نعم، هو آخر الأنبياء ليس بينه وبين عيسى ابن مريم أحد، وهو نبي مرسل وقد أمرنا عيسى باتباعه، وهو النبي الأمي العربي اسمه أحمد، ليس بالطويل ولا بالقصير، في عينيه حمرة، وليس بالأبيض ولا بالآدم، يعفي شعره ويلبس ما غلظ من الثياب ويجتزي بما لقي من الطعام، سيفه على عاتقه ولا يبالي من لاقى، يباشر القتال بنفسه ومعه أصحابه يفدونه بأنفسهم، هم له أشد حبا من أولادهم وآبائهم، يخرج من أرض حرم، ويأتي إلى حرم، يهاجر إلى أرض سباخ ونخل، يدين بدين إبراهيم "عليه السلام". قال المغيرة: فقلت له: زدني في صفته، قال: يأتزر على وسطه، ويغسل أطرافه، ويخص بما لا تخص به الأنبياء قبله؛ كان النبي يبعث إلى قومه ويبعث هو إلى الناس كافة، وجعلت له الأرض مسجدا وطهورا، أينما أدركته الصلاة تيمم وصلى، ومن كان قبله مشددا عليهم لا يصلون إلا في الكنائس والبيع. قال المغيرة بن شعبة: فوعيت ذلك كله من قوله وقول غيره وما سمعت من ذلك.

فذكر الواقدي حديثا طويلا في رجوعه وإسلامه، وما أخبر به من صفات النبي ﷺ، وكان ذلك يعجب النبي ﷺ ويحب أن يسمعه أصحابه. قال المغيرة: فكنت أحدثهم بذلك وهذا أمر معروف عند علماء أهل الكتاب وعظمائهم.

وقد أخرج أبو حاتم في صحيحه، عن عمرو بن العاص، أنه قال: خرج جيش من المسلمين - أنا أميرهم - حتى نزلنا الإسكندرية، فقال عظيم من عظمائهم: أخرجوا إلي رجلا يكلمني وأكلمه، فقلت: لا يخرج إليه غيري، قال: فخرجت إليه ومعي ترجماني ومعه ترجمانه، فقال: ما أنتم؟ فقلت: نحن العرب، ونحن أهل الشوك، ونحن أهل بيت الله الحرام، كنا أضيق الناس أرضا، وأجهدهم عيشا، نأكل الميتة والدم، ويغير بعضنا على بعض، حتى خرج فينا رجل ليس بأعظمنا يومئذ، ولا بأكثرنا مالا، فقال أنا رسول الله إليكم، فأمرنا بما لا نعرف، ونهانا عما كنا عليه، وكان عليه آباؤنا، فكذبناه ورددنا عليه مقالته، حتى خرج إليه قوم غيرنا فقاتلنا وظهر علينا وغلبنا، وتناول من يليه من العرب فقاتلهم حتى ظهر عليهم، ولو يعلم من ورائي من العرب ما أنتم فيه من العيش لم يبق أحد إلا جاءكم حتى يشرككم فيما أنتم فيه من العيش. فضحك، ثم قال: إن رسولكم قد صدق، قد جاءتنا رسلنا بمثل الذي جاء به رسولكم، فإن أنتم أخذتم بأمر نبيكم لم يقاتلكم أحد إلا غلبتموه، ولن يشارككم أحد إلا ظهرتم عليه، وإن فعلتم مثل الذي فعلنا وتركتم أمر نبيكم لم تكونوا أكثر عددا منا ولا أشد منا قوة.

فصل: قتاله صلى الله عليه وسلم النصارى

ثم بعد الإرسال إلى الملوك، أخذ ﷺ في غزو النصارى، فأرسل أولا زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة في جيش، فقاتلوا النصارى بمؤتة من أرض الكرك، وقال لأصحابه: أميركم زيد، فإن قتل فجعفر، فإن قتل فعبد الله بن رواحة، فقتل الثلاثة، وأخبر النبي ﷺ بقتل الثلاثة في اليوم الذي قتلوا فيه، وأخبر أنه أخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله على يديه، ثم إنه بعد هذا غزا النصارى بنفسه، وأمر جميع المسلمين أن يخرجوا معه في الغزاة، ولم يأذن في التخلف عنه لأحد، وغزا في عشرات ألوف غزوة تبوك، فقدم تبوك وأقام بها عشرين ليلة؛ ليغزو النصارى عربهم ورومهم وغيرهم، وأقام ينتظرهم ليقاتلهم، فسمعوا به وأحجموا عن قتاله ولم يقدموا عليه.

وأنزل الله تعالى في ذلك أكثر سورة (براءة)، وذم تعالى الذين تخلفوا عن جهاد النصارى ذما عظيما.

والذين لم يروا جهادهم طاعة جعلهم منافقين كافرين، لا يغفر الله لهم إذا لم يتوبوا، وقال لنبيه ﷺ: سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم.

وقال تعالى: ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره.

فإذا كان هذاحكم الله ورسوله فيمن تخلف عن جهادهم إذ لم يره طاعة ولا رآه واجبا، فكيف حكمه فيهم أنفسهم؟ حتى قال تعالى: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره.

ثم عند موته ﷺ أمرنا بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب.

ففي صحيح مسلم: أن عمر بن الخطاب، قال: سمعت النبي ﷺ يقول: لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لاأدع إلا مسلما.

وروى الإمام أحمد، وأبو عبيد، عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، قال: آخر ما تكلم به رسول الله ﷺ، قال: أخرجوا يهود أهل الحجاز ونصارى أهل نجران من جزيرة العرب.

وقام خلفاؤه رضي الله عنهم بعده بدينه ﷺ، فأرسل أبو بكر الصديق الجيوش؛ لغزو النصارى بالشام، وجرت بين المسلمين وبينهم عدة غزوات، ومات أبو بكر وهم محاصرو دمشق ثم ولي عمر بن الخطاب ففتح عامة الشام ومصر والعراق وبعض خراسان في خلافته، وقدم إلى الشام في خلافته وسلم إليه النصارى بيت المقدس لما رأوه من صفته عندهم.

قال أبو عبد الله محمد بن عائذ في كتاب الفتوح، قال: قال عطاء الخراساني: لما نزل المسلمون بيت المقدس، قال لهم رؤساؤهم: إنا قد أجمعنا لمصالحتكم، وقد عرفتم منزل بيت المقدس وإنه المسجد الذي أسري بنبيكم إليه، ونحن نحب أن يفتحها ملككم - وكان الخليفة عمر بن الخطاب - فبعث المسلمون وفدا، وبعث الروم أيضا وفدا مع المسلمين حتى أتوا المدينة، فجعلوا يسألون عن أمير المؤمنين، فقال الروم لترجمانهم: من يسألون؟ قالوا: عن أمير المؤمنين، فاشتد عجبهم، وقالوا: هذا الذي غلب فارس والروم، وأخذ كنوز كسرى وقيصر، وليس له مكان يعرف به! بهذا غلب الأمم، فوجدوه قد ألقى نفسه حين أصابه الحر نائما، فازدادوا تعجبا، فلما قرأ كتاب أبي عبيدة أقبل حتى نزل بيت المقدس وفيها اثنا عشر ألفا من الروم وخمسون ألفا من أهل الأرض، فصالحهم، وكان من جملة المصالحة أن لا يدخل عليهم من اليهود أحد، ثم دخل المسجد فوجد زبالة عظيمة على الصخرة، فأمر بكنس الزبالة، وتنظيف المسجد وأمر ببنائه وجعل مصلاه في مقدمه، ثم رجع إلى المدينة، وقصته مشهورة في كتاب الفتوحات، ثم قدم مرة ثانية إلى أرض الشام لما تم فتحه فشارط بوضع الخراج وفرض الأموال، وشارط أهل الذمة على شروط المسلمين فأتم بها المسلمون بعده.

وقد ذكرها أهل السير وغيرهم، فروى سفيان الثوري، عن مسروق، عن عبد الرحمن بن غنم، قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى الشام، وشرط عليهم فيه أن لا يحدثوا في مدينتهم ولا حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب، ولا يجددوا ما خرب، ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم، ولا يئووا جاسوسا، ولا يكتموا غشا للمسلمين، ولا يعلموا أولادهم القرآن ولا يظهروا شركا، ولا يمنعوا ذوي قرابتهم من الإسلام إن أرادوه، وأن يوقروا المسلمين، وأن يقوموا لهم إذا أرادوا الجلوس، ولا يتشبهوا بالمسلمين بشيء من لباسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا يتسموا بأسماء المسلمين، ولا يكتنوا بكناهم، ولا يركبوا سرجا، ولا يتقلدوا سيفا، ولا يتخذوا شيئا من سلاح، ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربية، ولا يبيعوا الخمور، وأن يجذوا مقادم رءوسهم، وأن يلزموا زيهم حيث ما كانوا، وأن يشدوا الزنانير، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربا خفيفا، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين، ولا يخرجوا شعانين، ولا يرفعوا مع موتاهم أصواتهم، ولا يظهروا النيران معهم، ولا يشتروا من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين، فإن خالفوا في شيء مما شرطوه، فلا ذمة لهم وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق. أخرجه أبو داود في سننه.

وقال أبو عبيد في كتاب الأموال: حدثنا النضر بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن خليفة بن قيس، قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر فأكتب إلى أهل الأمصار في أهل الكتاب: أن يجزوا نواصيهم، وأن يربطوا الكستيجات في أوساطهم؛ ليعرف زيهم من زي أهل الكتاب.

وحدثنا أبو المنذر، ومصعب بن المقدام كلاهما عن سفيان عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن أسلم، قال: كتب عمر إلى أمراء الأجناد أن يختموا رقاب أهل الذمة.

قال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن أسلم: أن عمر أمر في أهل الذمة أن يجزوا نواصيهم، وأن يركبوا على الأكف، وأن يركبوا عرضا لا يركبوا كما يركب المسلمون، وأن يوثقوا المناطق.

قال أبو عبيد: يعني الزنانير.

وكما كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أهل الذمة هذه الشروط والتزموها، أوصى بهم نوابه ومن يأتي بعده من الخلفاء وغيرهم، وهذا هو العدل الذي أمر الله به ورسوله.

ففي صحيح البخاري، عن عمر بن الخطاب، أنه قال في خطبته عند وفاته: وأوصي الخليفة من بعدي بذمة الله وذمة رسوله ﷺ أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من وراءهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم.

وهذا امتثال لقول النبي ﷺ: ألا من ظلم معاهدا، أو انتقصه من حقه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة. رواه أبو داود.

فكان هذا في النصارى الذين أدوا إليه الجزية.

وعمر بن الخطاب لما فتح الشام وأدوا إليه الجزية عن يد وهم صاغرون، أسلم منهم خلق كثير لا يحصي عددهم إلا الله تبارك وتعالى، فإن العامة والفلاحين وغيرهم كان عامتهم نصارى، ولم يكن في المسلمين من يعمل فلاحة، ولم يكن للمسلمين في دمشق مسجد يصلون فيه إلا مسجد واحد لقلتهم، ثم صار أكثر أهل الشام وغيرهم مسلمين طوعا لا كرها، فإن إكراه أهل الذمة على الإسلام غير جائز، كما قال تعالى: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

قال أبو عبيد في كتاب الأموال، عن ابن الزبير، قال: كتب النبي ﷺ إلى أهل اليمن: أنه من أسلم من يهودي أو نصراني فإنه من المؤمنين، له ما لهم وعليه ما عليهم، ومن كان على يهودية أو نصرانية فإنه لا يفتن عنها وعليه الجزية.

فصل: إرسال الكتب والرسل إلى ملوك الفرس

وقاتل عمر بن الخطاب الفرس المجوس، وفتح أرضهم، وظهر تصديق خبر رسول الله ﷺ حيث قال: إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل. أخرجاه في الصحيحين.

وهذا بعد أن بعث رسول الله ﷺ رسوله إلى المجوس، وكتب كتابا إلى كسرى ملك الفرس، كما كتب إلى ملوك النصارى، كما تقدم عن قيصر والمقوقس، ولكن ملوك النصارى تأدبوا معه وخضعوا له، فبقي ملكهم. وأما ملك الفرس فمزق كتابه، فدعا عليهم فقال: اللهم مزق ملكهم كل ممزق، فلم يبق لهم ملك.

قال ابن عباس: بعث رسول الله ﷺ عبد الله بن حذافة بكتابه إلى كسرى، فدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه يعني كسرى مزقه، فدعا عليهم رسول الله ﷺ أن يمزقوا كل ممزق.

وقال ابن إسحاق كتب رسول الله ﷺ إلى كسرى وقيصر، فأما كسرى فلما قرأ الكتاب مزقه، وأما قيصر لما قرأ الكتاب طواه ووضعه عنده، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال: أما هؤلاء يعني كسرى فيمزقون، وأما هؤلاء فستكون لهم بقية.

قال ابن إسحاق: بعث رسول الله ﷺ عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي إلى كسرى بن هرمز ملك الفرس، وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، فإني أدعوك بدعاية الله، فإني رسول الله إلى الناس كافة؛ لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم، وإن أبيت فإن إثم المجوس عليك.

فلما قرأ كتاب رسول الله ﷺ شققه، وقال: يكتب إلي بهذا الكتاب وهو عبدي؟

قلت: وسبب قول كسرى هذا استعلائه: أن الحبشة كانوا قد ملكوا اليمن، وملكهم سار إلى مكة بالفيل؛ ليخرب البيت، وكانوا نصارى، فأرسل الله عليهم من ناحية البحر طيرا أبابيل، وهي جماعات في تفرقة تحمل حجارة من طين، فألقتها على الحبشة النصارى فأهلكتهم، وكان هذا آية عظيمة خضعت بها الأمم للبيت وجيران البيت.

وعلم العقلاء أن هذا لم يكن نصرا من الله لمشركي العرب؛ فإن دين النصارى خير من دينهم، وإنما كان نصرا للبيت وللأمة المسلمة التي تعظمه، وللنبي المبعوث من البيت، وكان ذلك عام مولد النبي ﷺ، فأنزل الله في ذلك: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول.

ثم إن سيف بن ذي يزن ذهب إلى كسرى، وطلب منه جيشا يغزو به الحبشة، فأرسل معه عسكرا من الفرس والمجوس، فأخرجوا الحبشة من اليمن، وصارت اليمن بيد العرب، وبها نائب كسرى، وسيف بن ذي يزن هذا ممن بشر بالنبي ﷺ قبل ظهوره، وأخبر بذلك جده عبد المطلب لما وفد عليه.

فلما كانت اليمن مطيعة لكسرى، لهذا أرسل إلى نائبه على اليمن أن يأتيه بالنبي ﷺ؛ لأن عسكر اليمن في العادة يقهر أهل مكة والمدينة.

قال ابن إسحاق: فبلغني أن رسول الله ﷺ قال: مزق الله ملكه حين بلغه أنه شقق كتابه.

ثم كتب كسرى إلى باذان - وهو على اليمن - أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز من عندك رجلين جلدين فليأتياني به، قال: فبعث باذان قهرمانه، وهو بابويه، وقال غيره: فيروز الديلمي، وكان حاسبا كاتبا، وبعث معه برجل من الفرس، وكتب معهما إلى رسول الله ﷺ يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى، وقال لبابويه: ويلك، انظر ما الرجل وكلمه وائتني بخبره.

قال: فخرجا حتى قدما إلى الطائف فسألا عن النبي ﷺ، فقالوا: هو بالمدينة واستبشروا يعني الكفار، وقالوا: قد نصب له كسرى كفيتم الرجل، فخرجا حتى قدما المدينة على رسول الله ﷺ فكلمه بابويه، وقال: إن شاهنشاه ملك الملوك كسرى كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك فانطلق معي، فإن فعلت كتب معك إلى ملك الملوك بكتاب ينفعك ويكف عنك به، وإن أبيت فهو من قد علمت وهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك.

وكانا قد دخلا على رسول الله ﷺ وقد حلقا لحاهما، وأبقيا شواربهما فكره النظر إليهما رسول الله ﷺ، وقال لهما: ويلكما من أمركما بهذا؟، قالا: أمرنا بهذا ربنا - يعنيان كسرى - فقال لهما رسول الله ﷺ لكن ربي عز وجل أمرني بإعفاء لحيتي وبقص شاربي ثم قال لهما ارجعا حتى تأتياني الغد.

قال: وجاء الخبر من السماء: أن الله عز وجل سلط على كسرى ابنه شيرويه، فقتله في شهر كذا، في ليلة كذا، في ساعة كذا، فلما أتيا رسول الله ﷺ، قال لهما: إن ربي قتل ربكما ليلة كذا، في شهر كذا، بعدما مضى من الليل كذا، سلط عليه ابنه شيرويه فقتله، فقالا له: هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا منك ما هو أيسر من هذا فنكتب بهذا عنك ونخبر الملك به؟ قال:نعم أخبراه ذلك عني، وقولا له إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى، وينتهي إلى منتهى الخف والحافر، وقولا له: إنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك وملكتك على قومك من الأبناء. وأعطى رفيقه منطقة من ذهب وفضة كان أهداها له بعض الملوك، فخرجا من عنده حتى قدما على باذان وأخبراه الخبر.

فقال: والله ما هذا بكلام ملك، وإني لأرى الرجل نبيا كما يقول، ولننظرن ما قد قال، فلئن كان ما قد قال حقا ما بقي فيه كلام إنه لنبي مرسل، وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا، فلم يلبث باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه: أما بعد، فإنني قد قتلت كسرى ولم أقتله إلا غضبا لفارس لما كان قد استحل قتل أشرافهم وتجهيزهم في بعوثهم، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك، وانظر الرجل الذي كان كسرى كتب إليك فيه فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه.

فلما انتهى كتاب شيرويه إلى باذان قال: إن هذا الرجل لرسول الله، وأسلم لله، وأسلمت أبناء فارس من كان منهم باليمن.

وقال أبو معشر: حدثني المقبري قال: جاء فيروز الديلمي إلى رسول الله ﷺ، فقال: إن كسرى كتب إلى باذان: بلغني أن في أرضك رجلا تنبأ فاربطه وابعث به إلي، فقال له

رسول الله ﷺ: إن ربي غضب على ربك فقتله، فدمه بنحره سخن الساعة فخرج من عنده فسمع الخبر فأسلم وحسن إسلامه، وكان رجلا صالحا له في الإسلام آثار جميلة منها قتل الأسود العنسي الكذاب الذي ادعى النبوة في عهد النبي ﷺ، وكان الأسود جبارا استدعى بأبي مسلم الخولاني، فقال له: أتشهد أني رسول الله؟ فقال أبو مسلم: ما أسمع. فقال له: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. فردد ذلك عليه مرارا، فأمر بنار عظيمة فأضرمت، ثم أمر بإلقاء أبي مسلم فيها فلم تضره، فأخمدها الله تعالى حين ألقي فيها، فقيل له: أخرج هذا عنك من أرضك؛ لئلا يفسد عليك أتباعك فأخرجه.

فقدم أبو مسلم المدينة، وقد توفي رسول الله ﷺ، واستخلف أبو بكر، فأناخ راحلته بباب المسجد، ثم دخل المسجد فقام يصلي إلى سارية، فبصر به عمر، فقام إليه فقال: ممن الرجل؟ قال: من أهل اليمن. قال: ما فعل الذي حرقه الكذاب؟ قال: ذلك عبد الله بن ثوب. قال: نشدتك بالله أنت هو؟ قال: اللهم نعم. فاعتنقه، ثم بكى، ثم ذهب به حتى أجلسه بينه وبين أبي بكر، فقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد ﷺ من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الرحمن.

ثم خرج فيروز الديلمي على الأسود العنسي فقتله، وجاء الخبر إلى رسول الله ﷺ بقتله وهو في مرض موته، فخرج فأخبر أصحابه. وقال: قتل الأسود العنسي الليلة رجل صالح من قوم صالحين. وقصته مشهورة، وكذلك قصة مسيلمة الكذاب ونحوهما من المتنبئين الكذابين.

ولما فتح خلفاء النبي ﷺ عمر وعثمان العراق وخراسان ضربوا الجزية على المجوس، كما ضربوها على النصارى بعد أن دعوهم إلى الإسلام، كما دعاهم رسول الله ﷺ، وكما ضرب النبي ﷺ الجزية على اليهود والنصارى والمجوس بعد أن دعاهم إلى الله عز وجل، فإنه ﷺ بعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي صاحب هجر - وهي قرية بالبحرين - بكتابه ﷺ يدعوه إلى الإسلام، قال العلاء: فلما دخلت عليه قلت: يا منذر، إنك عظيم العقل في الدنيا، فلا تصغرن عن الآخرة، إن هذه المجوسية شر دين، ليس فيها تكرم العرب، ولا علم أهل الكتاب، ينكحون ما يستحى من نكاحه، ويأكلون ما يتكرم عن أكله، ويعبدون في الدنيا نارا تأكلهم يوم القيامة، ولست بعديم عقل ولا رأي، فانظر هل ينبغي لمن لا يكذب أن تصدقه، ولمن لا يخون أن تأمنه، ولمن لا يخلف أن تتثق به، فإن كان هذا هكذا فهذا هو النبي ﷺ الأمي الذي - والله - لا يستطيع ذو عقل أن يقول ليت ما أمر به نهى عنه، أو ما نهى عنه أمر به، أو ليته زاد في عفوه أو نقص من عقابه، إن ذلك منه على أمنية أهل العقل وفكر أهل البصر.

فقال المنذر: قد نظرت في هذا الذي في يدي فوجدته للدنيا دون الآخرة، ونظرت في دينكم فوجدته للآخرة والدنيا، فما يمنعني من قبول دين فيه أمنية الحياة وراحة الممات، ولقد عجبت أمس ممن يقبله، وعجبت اليوم ممن يرده، وإن من إعظام من جاء به أن يعظم رسوله، وسأنظر، ثم أسلم المنذر، وكتب إلى النبي ﷺ بالإسلام والتصديق.

وقال عمرو بن عوف: بعث رسول الله ﷺ أبا عبيدة إلى البحرين، فأتى بجزيتها، وكان رسول الله ﷺ هو صالح أهل البحرين، وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الصبح مع النبي ﷺ، فلما صلى بهم الفجر انصرف، فتعرضوا له فتبسم رسول الله ﷺ حين رآهم، وقال: أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء قالوا: أجل يا رسول الله. قال: أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم. أخرجاه في الصحيحين.

وأخرج البخاري، عن بجالة بن عبدة، أنه قال: أتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة: فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس. ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس، حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله ﷺ أخذها من مجوس هجر.

وقال ابن شهاب: أخذ رسول الله ﷺ الجزية من مجوس هجر، وأخذ عمر بن الخطاب الجزية من مجوس فارس، وأخذها عثمان بن عفان من البربر.

قال ابن شهاب: أول من أعطى الجزية من أهل الكتاب أهل نجران فيما بلغنا وكانوا نصارى، وقبل رسول الله ﷺ الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوسا، ثم أدى أهل أيلة وأهل أذرح إلى رسول الله ﷺ الجزية في غزوة تبوك، وبعث خالد بن الوليد إلى أهل دومة الجندل، فأسروا رئيسهم أكيدر، فبايعوه على الجزية.

قال أبو عبيد: الجزية مأخوذة من أهل الكتاب بالتنزيل، ومن المجوس والبربر وغيرهم بالسنة.

فصل: أدلة الكتاب والسنة على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم

وأخرج مسلم عن أنس: أن النبي ﷺ كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله عز وجل - وليس بالنجاشي الذي نعاه لأصحابه في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف وصلى عليه - بل النجاشي آخر تملك بعده.

وأخرج مسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الناس كافة، وختم بي النبيون.

وقال ﷺ: كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة.

وقال تعالى: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض.

وقال تعالى: وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا.

وفي القرآن من دعوة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ومن دعوة المشركين وعباد الأوثان، وجميع الإنس والجن ما لا يحصى إلا بكلفة،

وهذا كله معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فكيف يقال: إنه لم يذكر أنه بعث إلا إلى العرب خاصة، وهذه دعوته ورسله وجهاده لليهود والنصارى والمجوس بعد المشركين، وهذه سيرته ﷺ فيهم؟

وأيضا فالكتاب المتواتر عنه وهو القرآن يذكر فيه دعاءه لأهل الكتاب إلى الإيمان به في مواضع كثيرة جدا، بل يذكر الله تبارك وتعالى فيه كفر من كفر من اليهود والنصارى، ويأمر فيه بقتالهم كقوله تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير.

وقوله في هذه السورة أيضا: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.

وقال تعالى في سورة النساء: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا.

وقال تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

وقال تعالى: وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

فصل: ابتداع اليهود والنصارى في دينهم

فهذه الدلائل وأضعافها مما تبين أنه نفسه ﷺ أخبر أنه رسول الله إلى النصارى وغيرهم من أهل الكتاب، وأنه دعاهم وجاهدهم وأمر بدعوتهم وجهادهم، وليس هذا مما فعلته أمته بعده بدعة ابتدعوها، كما فعلت النصارى بعد المسيح "عليه السلام"، فإن المسلمين لا يجوزون لأحد بعد محمد ﷺ أن يغيروا شيئا من شريعته، فلا يحلل ما حرم ولا يحرم ما حلل، ولا يوجب ما أسقط ولا يسقط ما أوجب، بل الحلال عندهم ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرم الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، بخلاف النصارى الذين ابتدعوا بعد المسيح بدعا لم يشرعها المسيح "عليه السلام"، ولا نطق بها شيء من الأناجيل ولا كتب الأنبياء المتقدمة وزعموا أن ما شرعه أكابرهم من الدين فإن المسيح يمضيه لهم، وهذا موضع تنازع فيه الملل الثلاث المسلمون واليهود والنصارى، كما تنازعوا في المسيح "عليه السلام" وغير ذلك.

فاليهود: لا يجوزون لله سبحانه وتعالى أن ينسخ شيئا شرعه.

والنصارى: يجوزون لأكابرهم أن ينسخوا شرع الله بآرائهم.

وأما المسلمون: فعندهم أن الله له الخلق والأمر، لا شرع إلا ما شرع الله على ألسنة رسله، وله أن ينسخ ما شاء كما نسخ المسيح ما كان شرعه للأنبياء قبله.

فالنصارى تضع لهم عقائدهم وشرائعهم أكابرهم بعد المسيح، كما وضع لهم الثلاثمائة وثمانية عشر الذين كانوا في زمن قسطنطين الملك الأمانة التي اتفقوا عليها، ولعنوا من خالفها من الأريوسية وغيرهم، وفيها أمور لم ينزل الله بها كتابا، بل تخالف ما أنزله الله من الكتب مع مخالفتها للعقل الصريح فقالوا فيها: نؤمن بإله واحد، أب ضابط الكل، خالق السماوات والأرض، كل ما يرى وما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور إله حق من إله حق مولود غير مخلوق مساوي الأب في الجوهر الذي به كان كل شيء، الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس ومن مريم العذراء، وتأنس وصلب على عهد بيلاطس البنطي وتألم وقبر، وقام في اليوم الثالث كما في الكتب، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين الأب، وأيضا فسيأتي بمجده ليدين الأحياء والأموات الذي لا فناء لملكه، وبروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب مع الأب والابن مسجود له وبمجد الناطق في الأنبياء، وبكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية، واعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا، ونترجى قيامة الموتى، وحياة الدهر الآتي آمين.

ووضعوا لهم من القوانين والناموس ما لم يوجد في كتب الأنبياء ولا تدل عليه، بل يوجد بعضه في كتب الأنبياء وزاد أكابرهم أشياء من عندهم لا توجد في كتب الأنبياء، وغيروا كثيرا مما شرعه الأنبياء، فما عند النصارى من القوانين والنواميس التي هي شرائع دينهم وبعضه عن الحواريين، وكثير منه من ابتداع أكابرهم مع مخالفته لشرع الأنبياء، فدينهم من جنس دين اليهود، قد لبسوا الحق بالباطل.

وكان المسيح "عليه السلام" بعث بدين الله الذي بعث به الأنبياء قبله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة كل ما سواه، وأحل لهم بعض ما حرم الله في التوراة، فنسخ بعض شرع التوراة.

وكان الروم واليونان وغيرهم مشركين يعبدون الهياكل العلوية والأصنام الأرضية فبعث المسيح "عليه السلام" رسله يدعونهم إلى دين الله تعالى، فذهب بعضهم في حياته في الأرض، وبعضهم بعد رفعه إلى السماء، فدعوهم إلى دين الله تعالى، فدخل من دخل في دين الله، وأقاموا على ذلك مدة ثم زين الشيطان لمن زين له أن يغير دين المسيح فابتدعوا دينا مركبا من دين الله ورسله: دين المسيح "عليه السلام"، ومن دين المشركين.

وكان المشركون يعبدون الأصنام المجسدة التي لها ظل، وهذا كان دين الروم واليونان، وهو دين الفلاسفة أهل مقدونية وأثينة، كأرسطو وأمثاله من الفلاسفة المشائين وغيرهم، وكان أرسطو قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة، وهو وزير الإسكندر بن فيلبس اليوناني المقدوني التي تؤرخ له التاريخ الرومي من اليهود والنصارى، وهذا كان مشركا يعبد هو وقومه الأصنام، ولم يكن يسمى ذا القرنين، ولا هو ذا القرنين المذكور في القرآن، ولا وصل هذا المقدوني إلى أرض الترك ولا بنى السد، وإنما وصل إلى بلاد الفرس.

ومن ظن أن أرسطو كان وزير ذي القرنين المذكور في القرآن فقد غلط غلطا تبين أنه ليس بعارف بأديان هؤلاء القوم ولا بأزمانهم.

فلما ظهر دين المسيح "عليه السلام" بعد أرسطو بنحو ثلاثمائة سنة في بلاد الروم واليونان، كانوا على التوحيد إلى أن ظهرت فيهم البدع، فصوروا الصور المرقومة في الحيطان، جعلوا هذه الصور عوضا عن تلك الصور.

وكان أولئك يسجدون للشمس والقمر والكواكب، فصار هؤلاء يسجدون إليها إلى جهة الشرق التي تظهر منها الشمس والقمر والكواكب، وجعلوا السجود إليها بدلا عن السجود لها؛ ولهذا جاء خاتم الرسل صلوات الله عليه وسلامه الذي ختم الله به الرسالة وأظهر به من كمال التوحيد ما لم يظهر بمن قبله، فأمر ﷺ أن لا يتحرى أحد بصلاته طلوع الشمس ولا غروبها؛ لأن المشركين يسجدون لها تلك الساعة، فإذا صلى الموحدون لله عز وجل في تلك الساعة، صار في ذلك نوع مشابهة لهم فيتخذ ذريعة إلى السجود لها، وكان من أعظم أسباب عبادة الأصنام تصوير الصور وتعظيم القبور.

ففي صحيح مسلم وغيره: عن أبي الهياج الأسدي: قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ، فأمرني أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته، ولا تمثالا إلا طمسته.

وفي الصحيحين: أنه ﷺ قال في مرض موته: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما فعلوا.

وفي الصحيحين: أنه قال قبل موته بخمس ليال: إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، وإني أنهاكم عن ذلك.

ولما ذكروا الكنيسة بأرض الحبشة وذكروا من حسنها وتصاوير فيها فقال: إن أولئك كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة.

ونهى أن يستقبل الرجل القبر في الصلاة؛ حتى لا يتشبه بالمشركين الذين يسجدون للقبور، ففي الصحيح أنه قال: لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها. إلى أمثال ذلك مما فيه تجريد التوحيد لله رب العالمين الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله

فأين هذا ممن يصور صور المخلوقين في الكنائس ويعظمها ويستشفع بمن صورت على صورته؟ وهل كان أصل عبادة الأصنام في بني آدم من عهد نوح "عليه السلام" إلا هذا؟ والصلاة إلى الشمس والقمر والكواكب والسجود إليها ذريعة إلى السجود لها، ولم يأمر أحد من الأنبياء باتخاذ الصور والاستشفاع بأصحابها، ولا بالسجود إلى الشمس والقمر والكواكب، وإن كان يذكر عن بعض الأنبياء تصوير صورة لمصلحة، فإن هذا من الأمور التي قد تتنوع فيها الشرائع، بخلاف السجود لها والاستشفاع بأصحابها، فإن هذا لم يشرعه نبي من الأنبياء، ولا أمر قط أحد من الأنبياء أن يدعى غير الله عز وجل لا عند قبره، ولا في مغيبه، ولا يشفع به في مغيبه بعد موته، بخلاف الاستشفاع بالنبي ﷺ في حياته ويوم القيامة، وبالتوسل به بدعائه، والإيمان به، فهذا من شرع الأنبياء عليهم السلام، ولهذا قال تعالى: واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون.

وقال تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون.

وقال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة.

وقال تعالى: ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون.

وقال تعالى: تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار.

وذلك أن المشركين من جميع الأمم لم يكن أحد منهم يقول إن للمخلوقات خالقين منفصلين متماثلين في الصفات، فإن هذا لم يقله طائفة معروفة من بني آدم، ولكن الثنوية من المجوس ونحوهم يقولون: إن العالم صادر عن أصلين: النور والظلمة، والنور عندهم هو إله الخير المحمود، والظلمة هي الإله الشرير المذموم.

وبعضهم يقول: إن الظلمة هي الشيطان، وهذا ليجعلوا ما في العالم من الشر صادرا عن الظلمة.

ومنهم من قال: إن الظلمة قديمة أزلية مع أنها مذمومة عندهم ليست مماثلة للنور.

ومنهم من قال: بل هي حادثة، وأن النور فكر فكرة رديئة، فحدثت الظلمة عن تلك الفكرة الرديئة.

فقال لهم أهل التوحيد: أنتم بزعمكم كرهتم أن تضيفوا إلى الرب سبحانه وتعالى خلق ما في العالم من الشر وجعلتموه خالقا لأصل الشر، وهؤلاء مع إثباتهم اثنين وتسمية الناس لهم بالثنوية فهم لا يقولون: إن الشرير مماثل للخير.

وكذلك الدهرية دهرية الفلاسفة وغيرهم، منهم من ينكر الصانع للعالم، كالقول الذي أظهره فرعون لعنه الله، ومنهم من يقر بعلة يتحرك الفلك للتشبه بها كأرسطو وأتباعه، ومنهم من يقول بالموجب بالذات المستلزم للفلك كابن سينا.

والسهروردي المقتول بحلب وأمثالهما من متفلسفة الملل.

وأما مشركو العرب وأمثالهم فكانوا مقرين بالصانع، وبأنه خلق السماوات والأرض، فكانت عقيدة مشركي العرب خيرا من عقيدة هؤلاء الفلاسفة الدهرية إذ كانوا مقرين بأن هذه السماوات مخلوقة لله حادثة بعد أن لم تكن، وهذا مذهب جماهير أهل الأرض ومن أهل الملل الثلاثة: المسلمون، واليهود، والنصارى، ومن المجوس، والمشركين، وهؤلاء الدهرية من الفلاسفة وغيرهم يزعمون أن السماوات أزلية قديمة لم تزل، وكان مشركو العرب يقرون بأن الله قادر يفعل بمشيئته ويجيب دعاء الداعي إذا دعاه، وهؤلاء المتفلسفة الدهرية عندهم أن الله لا يفعل شيئا بمشيئته ولا يجيب دعاء الداعي، بل ولا يعلم الجزئيات ولا يعرف هذا الداعي من هذا الداعي ولا يعرف إبراهيم من موسى من محمد وغيرهم بأعيانهم من رسله، بل منهم من ينكر علمه مطلقا كأرسطو وأتباعه، ومنهم من يقول: إنما يعلم الكليات كابن سينا وأمثاله.

ومعلوم أن كل موجود في الخارج فهو جزء معين، فإن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئا من الموجودات المعينة لا الأفلاك ولا الأملاك ولا غير ذلك من الموجودات بأعيانها، والدعاء عندهم: هو تصوف النفس القوية في هيولي العالم كما ذكر ذلك ابن سينا وأمثاله، وزعموا أن اللوح المحفوظ هو النفس الفلكية، وأن حوادث الأرض كلها إنما تحدث عن حركة الفلك، كما قد بسط الرد عليهم في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا أن المشركين لم يكونوا يثبتون مع الله إلها آخر مساويا له في الصفات والأفعال، بل ولا كانوا يقولون: إن الكواكب والشمس والقمر خلقت العالم، ولا أن الأصنام تخلق شيئا من العالم، ومن ظن أن قوم إبراهيم الخليل كانوا يعتقدون أن النجم أو الشمس أو القمر رب العالمين، أو أن الخليل "عليه السلام" لما قال هذا ربي أراد به رب العالمين فقد غلط غلطا بينا، بل قوم إبراهيم كانوا مقرين بالصانع، وكانوا يشركون بعبادته كأمثالهم من المشركين.

قال تعالى عن الخليل: واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين واجعل لي لسان صدق في الآخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لأبي إنه كان من الضالين ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين وما أضلنا إلا المجرمون.

فأخبر تعالى عن الخليل أنه عدو لكل ما يعبدونه إلا لرب العالمين، وأخبر أنهم يقولون يوم القيامة: تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين.

كما قال تعالى في الموضع الآخر: وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين.

وقال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين.

ولم يقل: من المعطلين، فإن قومه كانوا يشركون، ولم يكونوا معطلين كفرعون اللعين، فلم يكونوا جاحدين للصانع، بل عدلوا به، وجعلوا له أندادا في العبادة والمحبة والدعاء، وهذا كما قال تعالى: الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.

وقال تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله.

وقال تعالى: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر.

وقال تعالى: فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين.

وقال: لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا.

وقال تعالى فيما حكاه عن قوم نوح: وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا.

قال ابن عباس وغيره من العلماء: هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوها.

وهكذا عند النصارى عن المسيح "عليه السلام" في كتاب سر بطرس الذي يسمى بشمعون، وسمعان، والصفا، وبطرس، والأربعة لمسمى واحد، عندهم عنه كتاب عن المسيح فيه أسرار العلوم، وهذا فيه عندهم عن المسيح،

فالذي تفعله النصارى أصل عبادة الأوثان، وهكذا قال عالمهم الكبير - الذي يسمونه فم الذهب وهو من أكبر علمائهم - لما ذكر تولد الذنوب الكبار عن الصغار. قال: وهكذا هجمت عبادة الأصنام فيما سلف لما أكرم الناس أشخاصا يعظم بعضهم بعضا فوق المقدار الذي ينبغي، الأحياء منهم والأموات.

وقد قال تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا.

قال طائفة من العلماء: كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء كالعزير والمسيح وغيرهما، فبين الله تبارك وتعالى أن هؤلاء عباده كما أنتم عباده، يرجون رحمته كما ترجون رحمته، ويخافون عذابه كما تخافون عذابه، ويتقربون إليه كما تتقربون إليه، وقال تعالى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون.

فبين تعالى أن من يتخذ الملائكة والنبيين أربابا فهو كافر مع اعتقاده أنهم مخلوقون، فإنه لم يقل أحد قط: أن جميع الملائكة والنبيين مشاركون لله سبحانه في خلق العالم، وقد قال تعالى: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون.

قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: تسألهم من خلق السماوات والأرض؟ يقولون: الله، وهم يعبدون غيره، وقد قال تعالى: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله.

في غير موضع، فأخبر تعالى عن المشركين أنهم كانوا يقرون بأن خالق العالم واحد مع اتخاذهم آلهة يعبدونهم من دونه سبحانه يتخذونهم شفعاء إليه ويتقربون بهم إليه.

فصل

وكذلك تعظيمهم للصليب، واستحلالهم لحم الخنزير، وتعبدهم بالرهبانية، وامتناعهم من الختان، وتركهم طهارة الحدث والخبث، فلا يوجبون غسل جنابة ولا وضوءا، ولا يوجبون اجتناب شيء من الخبائث في صلاتهم لا عذرة ولا بولا ولا غير ذلك من الخبائث إلى غير ذلك.

كلها شرائع أحدثوها وابتدعوها بعد المسيح "عليه السلام"، ودان بها أئمتهم وجمهورهم، ولعنوا من خالفهم فيها، حتى صار المتمسك فيهم بدين المسيح المحض مغلوبا مقموعا قبل أن يبعث الله محمدا ﷺ، وأكثر ما هم عليه من الشرائع والدين لا يوجد منصوصا عن المسيح "عليه السلام".

اجتماع المسلمين بإجماعهم وتفرق النصارى بابتداعهم

وأما المسلمون: فكل ما أجمعوا عليه إجماعا ظاهرا يعرفه العامة والخاصة فهو منقول عن نبيهم ﷺ، لم يحدث ذلك أحد لا باجتهاده ولا بغير اجتهاده، بل ما قطعنا بإجماع أمة محمد ﷺ فإنه يوجد مأخوذا عن نبيهم.

وأما ما يظن فيه إجماعهم ولا يقطع به:

فمنه ما يكون ذلك الظن خطأ، ويكون بينهم فيه نزاع، ثم قد يكون نص الرسول ﷺ مع هذا القول، وقد يكون مع هذا القول.

ومنه ما يكون ظن الإجماع عليه صوابا، ويكون فيه عن النبي ﷺ أثر خفيت دلالته أو معرفته على بعض الناس.

وذلك أن الله تبارك وتعالى أكمل الدين بمحمد ﷺ خاتم النبيين، وبينه، وبلغه البلاغ المبين، فلا تحتاج أمته إلى أحد بعده يغير شيئا من دينه، وإنما تحتاج إلى معرفة دينه الذي بعث به فقط، وأمته لا تجتمع على ضلالة، بل لا يزال في أمته طائفة قائمة بالحق، حتى تقوم الساعة، فإن الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فأظهره بالحجة والبيان، وأظهره باليد والسنان، ولا يزال في أمته أمة ظاهرة بهذا وهذا حتى تقوم الساعة.

والمقصود هنا: أن ما اجتمعت عليه الأمة إجماعا ظاهرا تعرفه العامة والخاصة، فهو منقول عن نبيهم ﷺ، ونحن لا نشهد بالعصمة إلا لمجموع الأمة، وأما كثير من طوائف الأمة ففيهم بدع مخالفة للرسول، وبعضها من جنس بدع اليهود والنصارى، وفيهم فجور ومعاصي، لكن رسول الله ﷺ بريء من ذلك، كما قال تعالى له: فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون.

وقال تعالى: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء.

وقال ﷺ: من رغب عن سنتي فليس مني وذلك مثل إجماعهم على أن محمدا ﷺ أرسل إلى جميع الأمم أهل الكتاب وغير أهل الكتاب، فإن هذا تلقوه عن نبيهم ﷺ، وهو منقول عندهم نقلا متواترا يعلمونه بالضرورة.

وكذلك إجماعهم على استقبال الكعبة البيت الحرام في صلاتهم، فإن هذا الإجماع منهم على ذلك مستند إلى النقل المتواتر عن نبيهم وهو مذكور في كتابهم.

وكذلك الإجماع على وجوب الصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، وحج البيت العتيق الذي بناه إبراهيم خليل الرحمن، ودعا الناس إلى حجه وحجته الأنبياء، حتى حجه موسى بن عمران ويونس بن متى وغيرهما، وإجماعهم على وجوب الاغتسال من الجنابة وتحريم الخبائث وإيجاب الطهارة للصلاة، فإن هذا كله مما تلقوه عن نبيهم، وهو منقول عنه ﷺ نقلا متواترا وهو مذكور في القرآن.

وأما النصارى، فليست الصلوات التي يصلونها منقولة عن المسيح "عليه السلام" ولا الصوم الذي يصومونه منقولا عن المسيح، بل جعل أولهم الصوم أربعين يوما، ثم زادوا فيه عشرة أيام، ونقلوه إلى الربيع، وليس هذا منقولا عندهم عن المسيح "عليه السلام".

وكذلك حجهم للقمامة، وبيت لحم، وكنيسة صيدنايا ليس شيء من ذلك منقولا عن المسيح "عليه السلام"، بل وكذلك عامة أعيادهم مثل عيد القلندس، وعيد الميلاد، وعيد الغطاس - وهو القداس - وعيد الخميس وعيد الصليب الذي جعلوه في وقت ظهور الصليب، لما أظهرته هيلانة الحرانية الفندقانية أم قسطنطين بعد المسيح "عليه السلام" بمائتين من السنين، وعيد الخميس والجمعة والسبت التي في آخر صومهم، وغير ذلك من أعيادهم التي رتبوها على أحوال المسيح والأعياد التي ابتدعوها لكبرائهم، فإن ذلك كله من بدعهم التي ابتدعوها بلا كتاب نزل من الله تعالى، بل هم يبنون الكنائس على اسم بعض من يعظمونه، كما في السنن عن النبي ﷺ: أنهم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة وهذا بخلاف المساجد التي تبنى لله عز وجل كما قال تعالى: وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا.

وقال: في بيوت أذن الله أن ترفع.

وقال تعالى: قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين.

وقال تعالى: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين.

والنصارى كأشباههم من المشركين يخشون غير الله، ويدعون غير الله.

فصل

والمقصود هنا: أن الذي يدين به المسلمون من أن محمدا ﷺ رسول إلى الثقلين: الإنس والجن، أهل الكتاب وغيرهم، وأن من لم يؤمن به فهو كافر مستحق لعذاب الله مستحق للجهاد، وهو مما أجمع أهل الإيمان بالله ورسوله عليه؛ لأن الرسول ﷺ هو الذي جاء بذلك، وذكره الله في كتابه، وبينه الرسول أيضا في الحكمة المنزلة عليه من غير الكتاب، فإنه تعالى أنزل عليه الكتاب والحكمة، ولم يبتدع المسلمون شيئا من ذلك من تلقاء أنفسهم، كما ابتدعت النصارى كثيرا من دينهم بل أكثر دينهم.

وبدلوا دين المسيح وغيروه؛ ولهذا كان كفر النصارى لما بعث محمد ﷺ مثل كفر اليهود لما بعث المسيح "عليه السلام"، فإن اليهود كانوا قد بدلوا شرع التوراة قبل مجيء المسيح، فكفروا بذلك، ولما بعث المسيح إليهم كذبوه فصاروا كفارا بتبديل معاني الكتاب الأول وأحكامه، وبتكذيب الكتاب الثاني.

وكذلك النصارى كانوا بدلوا دين المسيح قبل أن يبعث محمد ﷺ، فابتدعوا من التثليث والاتحاد وتغيير شرائع الإنجيل أشياء لم يبعث بها المسيح "عليه السلام"، بل تخالف ما بعث به، وافترقوا في ذلك فرقا متعددة، وكفر فيها بعضهم بعضا، فلما بعث محمد ﷺ كذبوه، فصاروا كفارا بتبديل معاني الكتاب الأول وأحكامه، وتكذيب الكتاب الثاني، كما يقول علماء المسلمين: إن دينهم مبدل منسوخ، وإن كان قليل من النصارى كانوا عند مبعث محمد ﷺ متمسكين بدين المسيح، كما كان الذين لم يبدلوا دين المسيح كله على الحق، فهذا كما أن من كان متبعا شرع التوراة عند مبعث المسيح كان متمسكا بالحق كسائر من اتبع موسى، فلما بعث المسيح صار كل من لم يؤمن به كافرا، وكذلك لما بعث محمد ﷺ صار كل من لم يؤمن به كافرا.

والمقصود في هذا المقام: بيان ما بعث به محمد ﷺ من عموم رسالته، وأنه نفسه الذي أخبر أن الله تعالى أرسله إلى أهل الكتاب وغيرهم، وأنه نفسه ﷺ دعا أهل الكتاب، وجاهدهم وأمر بجهادهم، فمن قال بعد هذا من أهل الكتاب اليهود والنصارى: أنه لم يبعث إلينا، بمعنى أنه لم يقل إنه مبعوث إلينا، كان مكابرا جاحدا للضرورة مفتريا على الرسول فرية ظاهرة تعرفها الخاصة والعامة.

وكان جحده لهذا كما لو جحد أنه جاء بالقرآن، أو شرع الصلوات الخمس، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام؛ وجحد محمد ﷺ، وما تواتر عنه أعظم من جحد أتباع الحواريين المسيح "عليه السلام"، وإرساله لهم إلى الأمم، ومجيئه بالإنجيل، وجحد مجيء موسى "عليه السلام" بالتوراة، وجحد أنه كان يسبت؛ فإن النقل عن محمد ﷺ مدته قريبة، والناقلون عنه أضعاف أضعاف من نقل دين المسيح عنه، وأضعاف أضعاف أضعاف من اتصل به نقل دين موسى "عليه السلام"، فإن أمة محمد ﷺ ما زالوا كثيرين منتشرين في مشارق الأرض ومغاربها، وما زال فيهم من هو ظاهر بالدين منصور على الأعداء، بخلاف بني إسرائيل، فإنهم زال ملكهم في أثناء الأمر لما خرب بيت المقدس الخراب الأول بعد داود "عليه السلام" ونقص عدد من نقل دينهم حتى قد قيل إنه لم يبق من يحفظ التوراة إلا واحد.

والمسيح "عليه السلام" لم ينقل دينه عنه إلا عدد قليل لكن النصارى يزعمون أنهم رسل الله معصمون مثل: إبراهيم وموسى، وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله تعالى إذا وصلنا إليه، إذ المقصود هنا بيان من زعم أن محمدا ﷺ كان يقول: إنه لم يبعث إلا إلى مشركي العرب، فإنه في غاية الجهل والضلال أو غاية المكابرة والمعاندة، فإن هذا أعظم جهلا وعنادا ممن ينكر أنه كان يأمر بالطهارة والغسل من الجنابة، ويحرم الخمر والخنزير، وأعظم جهلا وعنادا ممن ينكر ما تواتر من أمر المسيح، وموسى عليهما السلام، وقد ظهر بهذا بطلان قولهم: علمنا أنه لم يأت إلينا بل إلى جاهلية العرب.

فصل: شبهات النصارى على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وردها

فإذا عرف هذا فاحتجاج هؤلاء بالآيات التي ظنوا دلالتها على أن نبوته خاصة بالعرب، تدل على أنهم ليسوا ممن يجوز لهم الاستدلال بكلام أحد على مقصوده ومراده، وأنهم ممن قيل فيه فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا.

فليسوا أهلا أن يحتجوا بالتوراة والإنجيل والزبور على مراد الأنبياء وسائر الكلام المنقول عن الأنبياء على مراد الأنبياء عليهم السلام - بل ولا يحتجون بكلام الأطباء والفلاسفة والنحاة وعلم أهل الحساب والهيئة على مقاصدهم.

فإن الناس كلهم متفقون على أن لغة العرب من أفصح لغات الآدميين وأوضحها، ومتفقون على أن القرآن في أعلى درجات البيان والبلاغة والفصاحة، وفي القرآن من الدلالات الكثيرة على مقصود الرسول ﷺ التي يذكر فيها: أن الله تعالى أرسله إلى أهل الكتاب وغيرهم ما لا يحصى إلا بكلفة، ثم مع ذلك من النقول المتواترة عن سيرته ﷺ في دعائه لأهل الكتاب، وأمره لهم بالإيمان به، وجهاده لهم إذا كفروا به ما لا يخفى على من له أدنى خبرة بسيرته ﷺ، وهذا أمر قد امتلأ العالم به، وسمعه القاصي والداني، فإذا كان الناس المؤمن به وغير المؤمن به يعلمون أنه كان يقول: إنه رسول الله إلى أهل الكتاب، وغيرهم، وأن ظهور مقصوده بذلك مما يعلمه بالاضطرار الخاصة والعامة، ثم شرعوا يظنون أنه كان يقول: إني لم أبعث إلا إلى العرب، واستمر على ذلك حتى مات دل على فساد نظرتهم وعقلهم، أو على عنادهم ومكابرتهم، وكان الواجب إذ لم يكن له معرفة معاني هذه الآيات التي استدلوا بها على خصوص رسالته أن يعتقدوا أحد أمرين:

إما أن لها معاني توافق ما كان يقوله، أو أنها من المنسوخ فقد علمت الخاصة والعامة: أن محمدا ﷺ كان يصلي بعد هجرته إلى بيت المقدس نحو سنة ونصف، ثم أمر بالصلاة إلى الكعبة البيت الحرام، والنصارى يوافقون على أن شرائع الأنبياء فيها ناسخ ومنسوخ، مع أن ما ذكروه من الآيات ليس منسوخا، ولكن المقصود: أن المعلوم من حال الرسول ﷺ علما ضروريا يقينيا متواترا لا يجوز دفعه، فإن العلم بأنه كان يقول: إنه رسول الله ﷺ إلى جميع الخلق معلوم لكل من عرف أخباره ﷺ سواء صدقه أو كذبه، والعلم بأنه كان يقول إنه رسول الله إلى جميع الناس ممكن قبل أن يعلم أنه نبي أو ليس بنبي، كما أن العلم بنبوته وصدقه ممكن قبل أن يعلم عموم رسالته، فليس العلم بأحدهما موقوفا على الآخر، ولهذا كان كثير ممن يكذبه يعلم أنه كان يقول إنه رسول الله إلى جميع الخلق، وطائفة ممن تقر بنبوته وصدقه لا تقر بأنه رسول إلى جميع الخلق.

والمقصود هنا: الكلام مع هؤلاء بأن العلم بعموم دعوته لجميع الخلق أهل الكتاب وغيرهم هو متواتر معلوم بالاضطرار كالعلم بنفس مبعثه ودعائه الخلق إلى الإيمان به وطاعته وكالعلم بهجرته من مكة إلى المدينة، ومجيئه بهذا القرآن، والصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، وحج البيت العتيق، وإيجاب الصدق والعدل، وتحريم الظلم والفواحش، وغير ذلك مما جاء به محمد ﷺ.

وإن قيل: بل في القرآن ما يقتضي أن رسالته خاصة، وفيه ما يقتضي أن رسالته عامة وهذا تناقض.

قيل: هذا باطل، ويعلم بطلانه قبل العلم بنبوته؛ فإنه من المعلوم لكل أحد آمن به، أو كذبه أنه كان من أعظم الناس عقلا وسياسة وخبرة، وكان مقصوده دعوة الخلق إلى طاعته واتباعه، وكان يقرأ القرآن على جميع الناس، ويأمر بتبليغه إلى جميع الأمم، وكان من طلب منه أن يؤمنه حتى يقرأ عليه القرآن من الكفار وجب عليه أن يجيبه ولو كان مشركا، فكيف إذا كان كتابيا؟ كما قال تعالى: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون.

وكان قد أظهر أنه مبعوث إلى أهل الكتاب وسائر الخلق، وأنه رسول إلى الثقلين: الجن والإنس، فيمتنع مع هذا أن يظهر ما يدل على أنه لم يبعث إليهم، فإن هذا لا يفعله من له أدنى عقل لمناقضته لمراده، فكيف يفعله من اتفقت عقلاء الأمم على أنه أعقل الخلق وأحسنهم سياسة وشريعة؟

وأيضا فكان أصحابه والمقاتلون معه بعد ذلك ينفرون عنه، وقد كان عادتهم أن يستشكلوا ما هو دون هذا، وهذا لم يستشكله أحد، ثم بعد هذا فلو قدر أن في القرآن ما يدل على أنه لم يبعث إلا إلى العرب، وفيه ما يدل على أنه بعث إلى سائر الخلق، كان هذا دليلا على أنه أرسل إلى غيرهم بعد أن لم يرسل إلا إليهم، وأن الله عم بدعوته بعد أن كانت خاصة، فلا مناقضة بين هذا وهذا، فكيف وليس في القرآن آية واحدة تدل على اختصاص رسالته بالعرب؟ وإنما فيه إثبات رسالته إليهم، كما أن فيه إثبات رسالته إلى قريش، وليس هذا مناقضا لهذا، وفيه إثبات رسالته إلى أهل الكتاب كقوله تعالى: يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا.

كما فيه إثبات رسالته إلى بني إسرائيل كقوله: يا بني إسرائيل.

وليس هذا التخصص لليهود منافيا لذلك التعميم، وفي رسالته خطاب لليهود تارة وللنصارى تارة، وليس خطابه لإحدى الطائفتين ودعوته لها مناقضا لخطابه للأخرى ودعوته لها، وفي كتابه خطاب للذين آمنوا من أمته في دعوته لهم إلى شرائع دينه، وليس في ذلك مناقضة بأن يخاطب أهل الكتاب ويدعوهم، وفي كتابه أمر بقتال أهل الكتاب النصارى، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

قال تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

ثم لم يكن هذا مانعا أن يأمر بقتال غيرهم من اليهود والمجوس؛ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، بل هذا الحكم ثابت في المجوس بسنته واتفاق أمته.

وإن قيل: إنهم ليسوا من أهل الكتاب، فهذا كله مما يعلم بالاضطرار من دينه قبل العلم بنبوته، فكيف ونحن نتكلم على تقدير نبوته، والنبي لا يتناقض قوله؟ وإذا كان العلم بعموم دعوته ورسالته معلوما بالاضطرار قبل العلم بنبوته، وبعد العلم بنبوته، فالعلم الضروري اليقيني لا يعارضه شيء، ولكن هذا شأن الذين في قلوبهم زيغ من أهل البدع: النصارى وغيرهم يتبعون المتشابه ويدعون المحكم، وبسبب مناظرة النصارى للنبي ﷺ بالمتشابه، وعدولهم عن المحكم أنزل الله تبارك وتعالى فيهم: هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب.

فالتأويل: يراد به تفسير القرآن، ومعرفة معانيه، وهذا يعلمه الراسخون، ويراد به ما استأثر الرب سبحانه وتعالى بعلمه من معرفة كنهه وكنه ما وعد به ووقت الساعة، ونحو ذلك مما لا يعلمه إلا الله.

والضلال يذكرون آيات تشتبه عليهم معرفة معانيها، فيتبعون تأويلها ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها، وليسوا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويلها مع أن هؤلاء الآيات من أوضح الآيات.

وهذا الذي سلكوه في القرآن هو نظير ما سلكوه في الكتب المتقدمة وكلام الأنبياء من التوراة والإنجيل والزبور وغيرها، فإن فيها من النصوص الكثيرة الصريحة بتوحيد الله وعبودية المسيح ما لا يحصى إلا بكلفة، وفيها كلمات قليلة فيها اشتباه، فتمسكوا بالقليل المتشابه الخفي المشكل من الكتب المتقدمة وتركوا الكثير المحكم المبين الواضح، فهم سلكوا في القرآن ما سلكوه في الكتب المتقدمة، لكن تلك الكتب يقرون بنبوة أصحابها ومحمد ﷺ هم فيه مضطربون متناقضون، فأي قول قالوه فيه ظهر فساده وكذبهم فيه إذا لم يؤمنوا بجميع ما أنزل إليه.

الرد على النصارى في دعواهم أن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم متناقض

وإن قالوا: كلامه متناقض ونحن نحتج بما يوافق قولنا، إذ مقصودنا بيان تناقضه.

قيل لهم عن هذا أجوبة:

أحدها: أنه في الكتب المتقدمة مما يظن أنه متعارض أضعاف ما في القرآن وأقرب إلى التناقض، فإذا كانت تلك الكتب متفقة لا تناقض فيها، وإنما يظن تناقضها من يجهل معانيها ومراد الرسل فيكون كما قيل:

وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم

فكيف القرآن الذي هو أفضل الكتب؟

الثاني: أنهم متمسكون بالمتشابه في تلك الكتب، ومخالفون المحكم منها كما فعلوه بالقرآن وأبلغ.

الثالث: أنه إذا كان ما جاء به متناقضا لم يكن رسول الله، فإن ما جاء به من عند الله لا يكون مختلفا متناقضا، وإنما يتناقض ما جاء من عند غير الله، قال تعالى: أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.

فكل كتاب ليس من عند الله لا بد أن يكون فيه تناقض، وما كان من عند الله لا يتناقض، وحينئذ فإن كان متناقضا لم يجز لهم الاحتجاج بشيء منه؛ فإنه ليس من عند الله، وإن لم يكن متناقضا ثبت أن ما فيه من عموم رسالته، وأنه رسول إليهم، فليس فيه شيء يناقضه، فإن ما جاء من عند الله لا يتناقض.

الرابع: أنا نبين أن ما فيه من عموم رسالته لا ينافي ما فيه من أنه أرسل إلى العرب، كما أن ما فيه من إنذار عشيرته الأقربين، وأمر قريش لا ينافي ما فيه من دعوة سائر العرب؛ فإن تخصيص بعض العام بالذكر إذا كان له سبب يقتضي التخصيص لم يدل على أن ما سوى المذكور مخالفة، وهذا الذي يسمى مفهوم المخالفة ودليل الخطاب.

والناس كلهم متفقون على أن التخصيص بالذكر متى كان له سبب يوجب الذكر غير الاختصاص بالحكم لم يكن للاسم اللقب مفهوم، بل ولا للصفة كقوله تعالى: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق.

فإنه نهاهم عن ذلك؛ لأنه هو الذي كانوا يفعلونه، وقد حرم في موضع آخر قتل النفس بغير الحق، سواء كان ولدا، أو غيره، ولم يكن ذلك مناقضا لتخصيص الولد بالذكر.

الخامس: أنه في ذلك أسوة بالمسيح "عليه السلام" فإن المسيح خص أولا بالدعوة، ثم عم، كما قيل في الإنجيل: ما بعثت وأرسلت إلا لبني إسرائيل. وقال أيضا في الإنجيل: ما بعثت إلا لهذا الشعب الخبيث. ثم عم، فقال لتلامذته حين أرسلهم كما في الإنجيل: كما بعثني أبي أبعث بكم، فمن قبلكم فقد قبلني. وقال: أرسلني أبي، وأنا أرسلكم. وقال: كما أفعل أنا بكم، كذلك افعلوا أنتم بعباد الله فسيروا في البلاد، وعمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس، ولا يكون لأحدكم ثوبان، ولا يحمل معه فضة ولا ذهبا ولا عصا ولا حرابة ونحو ذلك مما هو في الأناجيل التي بين أيديهم من تخصيص الدعوة ثم تعميمها، وهو صادق في ذلك كله، فكيف يسوغ لهم إنكار ما في الإنجيل عن المسيح نظيره؟ ثم يقال في بيان الحال: إن الله تعالى بعث محمدا ﷺ، كما بعث المسيح وغيره، وإن كانت رسالته أكمل وأشمل كما نذكر في موضعه، فأمره بتبليغ رسالته بحسب الإمكان إلى طائفة بعد طائفة، وأمر بتبليغ الأقرب منه مكانا ونسبا، ثم بتبليغ طائفة بعد طائفة؛ حتى تبلغ النذارة إلى جميع أهل الأرض، كما قال تعالى: وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ.

أي من بلغه القرآن فكل من بلغه القرآن فقد أنذره محمد ﷺ.

ونبين هنا أن النذارة ليست مختصة بمن شافههم بالخطاب، بل ينذرهم به وينذر من بلغهم القرآن، فأمره الله تبارك وتعالى أولا بإنذار عشيرته الأقربين وهو قريش، فقال تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين.

ولما أنزل الله عليه هذه الآية انطلق ﷺ إلى مكان عال فعلا عليه، ثم جعل ينادي: يا بني عبد مناف إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه، فجعل يهتف يا صباحاه يا صباحاه.

وهذه القصة رواها ابن عباس وأبو هريرة وعائشة وغيرهم في الصحيحين وغيرهما من كتب السنن والمسانيد والتفسير.

قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية: وأنذر عشيرتك الأقربين. ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله ﷺ حتى صعد الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فاجتمعوا إليه فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، ما جربنا عليك كذبا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.

وقال أبو هريرة: لما نزلت هذه الآية: وأنذر عشيرتك الأقربين. دعا رسول الله ﷺ قريشا، فاجتمعوا، فعم وخص، فقال: يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها.

وقالت عائشة رضي الله عنها لما نزلت هذه الآية: وأنذر عشيرتك الأقربين. قام رسول الله ﷺ على الصفا، فقال: يا فاطمة بنت محمد، يا صفية عمة رسول الله، يا عباس عم رسول الله لا أملك لكم من الله شيئا.

وقال ابن إسحاق: لما نزلت هذه الآية جعل النبي ﷺ ينادي: يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، يا بني زهرة حتى عدد الأفخاذ من قريش، ثم قال: إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وإني لا أملك لكم من الله شيئا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله، فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟ تبا لك سائر اليوم، فأنزل الله: تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد.

ودعا قريشا إلى الله، وأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، وأنزل تعالى: لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.

وقد أنزل الله عليه في غير موضع أمر جميع الخلق بعبادته، كقوله تعالى: يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون.

وقوله: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون.

وقريش هم قومه الذين كذبه جمهورهم أولا، كما قال تعالى: وكذب به قومك وهو الحق.

كما أن جمهور بني إسرائيل وهم قوم المسيح كذبوه أولا.

ثم أمره الله تعالى أن يدعو سائر العرب، فكان يخرج بنفسه ومعه أبو بكر صديقه إلى قبائل العرب قبيلة قبيلة، وكانت العرب لم تزل تحج البيت من عهد إبراهيم الخليل "عليه السلام"، فكان ﷺ يأتيهم في منازلهم بمنى، وعكاظ، ومجنة، وذي المجاز، فلا يجد أحدا إلا دعاه إلى الله، ويقول: يا أيها الناس، إني رسول الله آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما يعبد من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوني وتمنعوني؛ حتى أبين عن الله ما بعثني به، يا أيها الناس إن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي فمن يمنعني أن أبلغ كلام ربي إلا رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي، يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب، وتذل لكم بها العجم فيقولون: يا محمد أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا؟ إن أمرك هذا لعجب.

وما زال رسول الله ﷺ يعلن دعوته، ويظهر رسالته، ويدعو الخلق إليها، وهم يؤذونه ويجادلونه ويكلمونه، ويردون عليه بأقبح الرد، وهو صابر على أذاهم، ويقول: اللهم لك الحمد لو شئت لم يكونوا هكذا.

فلما اشتد عليه أمر قريش خرج إلى الطائف وهي مدينة معروفة شرقي مكة بينهما نحو ليلتين ومعه زيد بن حارثة، ومكث بها عشرة أيام لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه في منزله وكلمه ودعاه إلى التوحيد، فلم يجبه أحد منهم، وخافوه على أحداثهم، وأغروا به سفهاءهم فجعلوا يرمونه بالحجارة إذا مشى حتى أن رجليه لتدميان، وزيد مولاه يقيه بنفسه حتى ألجئوا إلى ظل كرمة في حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة فرجع عنه ما كان تبعه من سفهائهم، فدعا، فقال: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.

فلما رأى ابنا ربيعة ما صنع به رثيا له، وقالا لغلام لهما يقال له عداس - وكان نصرانيا -: خذ قطفا من عنب، ثم اجعله في طبق، ثم اذهب إلى ذلك الرجل يأكله، ففعل عداس وأقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله ﷺ، فلما وضع رسول الله ﷺ يده، قال: بسم الله، ثم أكل فنظر عداس إلى وجهه، ثم قال له: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، فقال له رسول الله ﷺ: من أي البلاد أنت؟ وما دينك؟ فقال عداس: أنا نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى، فقال له رسول الله ﷺ: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ والله لقد خرجت من نينوى، وما فيها عشرة يعرفون متى، من أين عرفت أنت متى وأنت أمي وفي أمة أمية؟ فقال رسول الله ﷺ: هو أخي كان نبيا وأنا نبي، فأكب عداس على رسول الله ﷺ يقبل رأسه ويديه ورجليه، فلما رجع عداس فقالا: ويلك يا عداس، مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه ورجليه، فقال: يا سيدي، ما في الأرض خير من هذا الرجل، لقد خبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي.

ثم انصرف رسول الله ﷺ من الطائف راجعا إلى مكة وهو محزون، إذ لم يستجب له رجل واحد ولا امرأة، فقال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم يا رسول الله وقد فعلوا وفعلوا، فقال: يا زيد، إن الله عز وجل جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه.

ثم ذكر ابن إسحاق دخوله إلى مكة، وكان رسول الله ﷺ لما لقي من أهل مكة والطائف ما لقي ودعا بالدعاء المتقدم نزل عليه جبريل ومعه ملك الجبال - كما في صحيح البخاري - أن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي ﷺ: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت، فإذا فيها جبريل فناداني: إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال قد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي ﷺ: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له.

وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة: أنه قيل للنبي ﷺ: ادع الله على المشركين، فقال: إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة.

وفي الصحيحين: عن خباب بن الأرت، أنه قال: لما اشتد البلاء علينا من المشركين أتينا النبي ﷺ فقلنا: ألا تدعو الله لنا؟ ألا تستنصر الله لنا؟ فقال: لقد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، ثم يجاء بالمنشار فيجعل فوق رأسه حتى يجعل فرقتين، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم وعصب، ما يصرفه عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله ولكنكم تستعجلون.

وذكر ما لقي النبي ﷺ من قومه من الأذى والاستهزاء والإغراء وهو صابر محتسب، مظهر لأمر الله بتبليغ رسالته، لا تأخذه في الله لومة لائم، مواجه لقومه بما يكرهون من عيب دينهم وآلهتهم، وتضليل آبائهم، وتسفيه أحلامهم، وإظهار عداوته، وقتاله إياهم ما بلغ مبلغ القطع.

قال عكرمة، عن ابن عباس: ولما رجع النبي ﷺ إلى مكة فلما حضر الموسم حج نفر من الأنصار، فانتهى النبي ﷺ إلى فريق منهم، فقرأ عليهم القرآن، ودعاهم إلى الله، وأخبرهم بالذي آتاه الله فأيقنوا واطمأنت قلوبهم إلى دعوته، وعرفوا ما كانوا يسمعون من أهل الكتاب من ذكرهم إياه بصفته، وما يدعوهم إليه فصدقوه وآمنوا به، وكان من أسباب الخير الذي ساق الله للأنصار إلى ما كانوا يسمعون من الأخبار في صفته، فلما رجعوا إلى قومهم جعلوا يدعونهم سرا، ويخبرونهم بأقوال رسول الله ﷺ، والذي بعثه الله به من النور والهدى والقرآن، فأسلموا حتى قل أن يوجد دار من دورهم إلا أسلم فيها ناس لا محالة.

وقد ذكر الله ذلك في القرآن، وأخبر أن أهل الكتاب كانوا يخبرون العرب به ويستفتحون به عليهم، فكان أهل الكتاب مقرين بنبوته مخبرين بها مبشرين بها قبل أن يبعث، فقال تعالى فيما يخاطب به أهل الكتاب:

ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين.

فقد أخبر تعالى أن أهل الكتاب كانوا يستفتحون على العرب بمحمد ﷺ قبل أن يبعث - أي يستنصرون به - وكانوا هم والعرب يقتتلون فيغلبهم العرب، فيقولون: سوف يبعث النبي الأمي من ولد إسماعيل فنتبعه ونقتلكم معه شر قتلة، وكانوا ينعتونه بنعوته.

وأخبارهم بذلك كثيرة متواترة، وكما قال تعالى: فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين.

وأخبر بما كانت عليه اليهود من أنه كلما جاءهم رسول الله بما لا تهوى أنفسهم كذبوا بعضهم وقتلوا بعضهم، وأخبر أنهم باءوا بغضب على غضب؛ فإنهم ما زالوا يفعلون ما يغضب الله عليهم، فإما أن يراد بالتثنية تأكيد غضب الله عليهم، وإما أن يراد به مرتان، والغضب الأول: تكذيبهم المسيح والإنجيل، والغصب الثاني: لمحمد والقرآن.

فصل: معجزات محمد صلى الله عليه وسلم

وكان يأتيهم بالآيات الدالة على نبوته ﷺ، ومعجزاته تزيد على ألف معجزة، مثل انشقاق القمر وغيره من الآيات، ومثل القرآن المعجز، ومثل أخبار أهل الكتاب قبله وبشارة

الأنبياء به، ومثل أخبار الكهان والهواتف به، ومثل قصة الفيل التي جعلها الله آية عام مولده، وما جرى عام مولده من العجائب الدالة على نبوته، ومثل امتلاء السماء ورميها بالشهب التي ترجم بها الشياطين بخلاف ما كانت العادة عليه قبل مبعثه وبعد مبعثه، ومثل إخباره بالغيوب التي لا يعلمها أحد إلا بتعليم الله عز وجل من غير أن يعلمه إياها بشر. فأخبرهم بالماضي مثل قصة آدم ونوح وإبراهيم وموسى والمسيح وهود وشعيب وصالح وغيرهم، وبالمستقبلات.

وكان قومه يعلمون أنه لم يتعلم من أهل الكتاب، ولا غيرهم، ولم يكن بمكة أحد من علماء أهل الكتاب ممن يتعلم هو منه، بل ولا كان يجتمع بأحد منهم يعرف اللسان العربي، ولا كان هو يحسن لسانا غير العربي، ولا كان يكتب كتابا، ولا يقرأ كتابا مكتوبا.

ولا سافر قبل نبوته إلا سفرتين: سفرة وهو صغير مع عمه أبي طالب لم يفارقه، ولا اجتمع بأحد من أهل الكتاب ولا غيرهم، وسفرة أخرى وهو كبير مع ركب من قريش لم يفارقهم، ولا اجتمع بأحد من أهل الكتاب.

وأخبر من كان معه بأخبار أهل الكتاب بنبوته مثل إخبار بحيرى الراهب بنبوته، وما ظهر منه مما دلهم على نبوته، ولهذا تزوجت به خديجة قبل نبوته لما أخبرت به من أحواله.

وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر، ولكن المقصود هنا: التنبيه بأن محمدا ﷺ له معجزات كثيرة، مثل نبع الماء من بين أصابعه غير مرة، ومثل تكثير الطعام القليل حتى أكل منه الخلق العظيم، وتكثير الماء القليل حتى شرب منه الخلق الكثير.

وهذا ما جرى غير مرة له ولأمته من الآيات ما يطول وصفه، فكان بعض أتباعه يحيي الله له الموتى من الناس والدواب، وبعض أتباعه يمشي بالعسكر الكثير على البحر حتى يعبروا إلى الناحية الأخرى، ومنهم من ألقي في النار، فصارت عليه بردا وسلاما، وأمثال ذلك كثير.

ولكن المقصود هنا ذكر بعض ما في القرآن من أنه كان يخبرهم بالأمور الماضية خبرا مفصلا لا يعلمه أحد إلا أن يكون نبيا، أو من أخبره نبي وقومه يعلمون أنه لم يخبره بذلك أحد من البشر، وهذا مما قامت به الحجة عليهم، وهم مع قوة عداوتهم له وحصرهم على ما يطعنون به عليه لم يمكنهم أن يطعنوا طعنا يقبل منهم، وكان علم سائر الأمم بأن قومه المعادين له المجتهدين في الطعن عليه لم يمكنهم أن يقولوا: إن هذه الغيوب علمها إياه بشر، فوجب على جميع الخلق أن هذا لم يعلمه إياها بشر؛ ولهذا قال تعالى: تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا.

فأخبر أنه لم يكن يعلم ذلك هو ولا قومه، وقومه تقر بذلك، ولم يتعلم من أحد غير قومه؛ ولهذا زعم بعضهم أنه تعلم من بشر ظهر كذبه لكل أحد، كما قال تعالى: فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين.

فكان بمكة رجل أعجمي مملوك لبعض قريش، فادعى بعض الناس أن محمدا كان يتعلم من ذلك الأعجمي، فبين الله أن هذا كذب ظاهر، فإن ذلك رجل أعجمي لا يمكنه أن يتكلم بكلمة من هذا القرآن العربي، ومحمد ﷺ عربي لا يعرف شيئا من ألسنة العجم، فمن كلمه بغير العربية لا يفقه كلامه، فلا ذلك الرجل يحسن التكلم بالعربية، ولا محمد ﷺ يفهم كلاما بغير العربية، فلهذا قال تعالى: لسان الذي يلحدون إليه. أي: يميلون إليه ويضيفون إليه أنه علم محمدا ﷺ: أعجمي وهذا لسان عربي مبين.

وكذلك قال بعض الناس عن القرآن: إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون.

قال تعالى: فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما.

فبين سبحانه أن قول هذا من الكذب الظاهر المعلوم لأعدائه فضلا عن أوليائه، فإنهم يعلمون أنه ليس عنده أحد يعينه على ذلك، وليس في قومه، ولا في بلده من يحسن ذلك ليعينه عليه؛ فلهذا قال تعالى: فقد جاءوا ظلما وزورا.

فإن جميع أهل بلده وقومه المعادين له يعلمون أن هذا ظلم له وزور، ولهذا لم يقل هذا أحد من عقلائهم المعروفين، وكذلك قولهم: أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا، فإن قومه المكذبين له يعلمون أنه ليس عنده من يملي عليه كتابا، وقد بين ما يظهر كذبهم بقوله قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض.

فإن في القرآن من الأسرار ما لا يعلمه بشر إلا بإعلام الله إياه، فإن الله يعلم السر في السماوات والأرض، ثم لما تبين بطلان قولهم هذا، ذكر ما قدحوا به في نبوته فقال تعالى: وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا.

فهذا كلام المعارضين له الذين أنكروا أكله ومشيه في الأسواق التي يباع فيها ما يؤكل وما يلبس، وقالوا: هلا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا، أو يستغني عن ذلك بكنز ينفق منه أو جنة يأكل منها؟ وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا.

قال تعالى: انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا.

يقول مثلوك بالكاذب والمسحور والناقل عن غيره، وكل من هذه الأقوال يظهر كذبه لكل من عرفك؛ ولهذا قال تعالى: فضلوا فلا يستطيعون سبيلا والضال: الجاهل العادل عن الطريق، فلا يستطيع الطريق الموصلة إلى المقصود، بل ظهر عجزهم وانقطاعهم في المناظرة.

وقال تعالى: وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى.

فإنه أتاهم بجلية ما في الصحف الأولى، كالتوراة والإنجيل مع علمهم بأنه لم يأخذ عن أهل الكتاب شيئا، فإذا أخبرهم بالغيوب التي لا يعلمها إلا نبي أو من أخبره نبي، وهم يعلمون أنه لم يعلم ذلك بخبر أحد من الأنبياء تبين لهم أنه نبي، وتبين ذلك لسائر الأمم؛ فإنه إذا كان قومه المعادون وغير المعادين له مقرين بأنه لم يجتمع بأحد يعلمه ذلك، صار هذا منقولا بالتواتر، وكان مما أقر به مخالفوه مع حرصهم على الطعن لو أمكن.

فهذه الأخبار بالغيوب المتقدمة قامت بها الحجة على قومه وعلى جميع من بلغه خبر ذلك، وقد أخبر بالغيوب المستقبلة وهذه تقوم بها الحجة على من عرف تصديق ذلك الخبر كما قال تعالى: غلبت الروم في أدنى الأرض.

ثم قال: الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء.

وقال تعالى: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا.

فأخبر أنهم لن يفعلوا ذلك في المستقبل، وكان كما أخبر.

وقال تعالى: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

فأخبر أنه لا يقدر الإنس والجن إلى يوم القيامة أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وهذا الخبر قد مضى له أكثر من سبعمائة سنة، ولم يقدر أحد من الإنس والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وقال عن الكفار وهو بمكة: سيهزم الجمع ويولون الدبر.

وظهر تصديق ذلك يوم بدر وغيره، وبعد ذلك بسنين كثيرة.

وقال تعالى: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا.

وكان الأمر كما وعده وظهر تصديق ذلك بعد سنين كثيرة، وكذلك قوله: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا.

فأظهر الله ما بعثه به بالآيات والبرهان واليد والسنان.

وقال تعالى: قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد.

فكان كما أخبرهم غلبوا في الدنيا كما شاهده الناس، وهذا يصدق الخبر الأخير وهو أنهم يحشرون إلى جهنم وبئس المهاد.

وقد أيده تأييدا لا يؤيد به إلا الأنبياء، بل لم يؤيد أحد من الأنبياء كما أيد به، كما أنه بعث بأفضل الكتب إلى أفضل الأمم بأفضل الشرائع، وجعله سيد ولد آدم ﷺ فلا يعرف قط أحد ادعى النبوة وهو كاذب إلا قطع الله دابره وأذله وأظهر كذبه وفجوره.

وكل من أيده الله من المدعين للنبوة لم يكن إلا صادقا كما أيد نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى وداود وسليمان، بل وأيد شعيبا وهودا وصالحا، فإن سنة الله أن ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وهذا هو الواقع، فمن كان لا يعلم ما يفعله الله إلا بالعادة فهذه عادة الله وسنته يعرف بها ما يصنع، ومن كان يعلم ذلك بمقتضى حكمته فإنه يعلم أنه لا يؤيد من ادعى النبوة وكذب عليه تأييدا لا يمكن أحدا معارضته، وهكذا أخبرت الأنبياء قبله أن الكذاب لا يتم الله أمره ولا ينصره ولا يؤيده فصار هذا معلوما من هذه الجهات؛ ولهذا أمر سبحانه أن نعتبر بما فعله في الأمم الماضية من جعل العاقبة للأنبياء وأتباعهم، وانتقامه ممن كذبهم وعصاهم.

قال تعالى: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

وقال تعالى: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون.

وقال تعالى: كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب.

وقال تعالى: ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.

وقال تعالى: أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون.

وقال تعالى: ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب.

وقال تعالى: أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب.

وقال تعالى: أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون.

وقال تعالى: كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب.

وقال تعالى: وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون.

فأخبر بأن المكذبين له سيأتيهم في المستقبل أخبار القرآن الذي استهزءوا به، وبين أن ما أخبرهم به حق بوقوع الخبر مطابقا للخبر، وكان الأمر كذلك ومثله قوله: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد.

أخبر أنه سيريهم في أنفسهم وفي الآفاق ما يبين أن القرآن حق بأن يروا ما أخبر به كما أخبر به، ثم قال: أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد.

فإنه قد يشهد للقرآن بأنه حق بالآيات البينات والبراهين الدالة على صدقه التي تتبين بشهادة الرب تعالى بأنه حق، فلا يحتاج مع الشهادة الحاضرة إلى انتظار الآيات المستقبلة.

وقال تعالى: اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغن النذر.

أخبر باقتراب الساعة وانشقاق القمر، وانشقاق القمر قد عاينوه وشاهدوه وتواترت به الأخبار، وكان النبي ﷺ يقرأ هذه السورة في المجامع الكبار مثل الجمع والأعياد؛ ليسمع الناس ما فيها من آيات النبوة ودلائلها والاعتبار، وكل الناس يقر ذلك ولا ينكره، فعلم أن انشقاق القمر كان معلوما عند الناس عامة. ثم ذكر حال الأنبياء ومكذبيهم، فقال: كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ولقد تركناها آية فهل من مدكر.

فأخبر أنه أبقى السفن آية على قدرة الرب وعلى ما جرى لنوح مع قومه، ثم قال: فكيف كان عذابي لمن كذب ونذري؟ وكذلك ذكر قصة عاد وثمود ولوط وغيرهم، يقول في عقب كل قصة: فكيف كان عذابي ونذر؟ ونذره وإنذاره وهو ما بلغته عنه الرسل من الإنذار، وكيف كانت عقوبته للمنذرين.

والإنذار: هو الإعلام بالمخوف، فتبين بذلك صدق ما أخبرت به الرسل من الإنذار وشدة عذابه لمن كذب رسله، وذكر قصة فرعون فقال: ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر.

وذكر في قصة محمد ﷺ مع الناس أنواعا من ذلك فقال: قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.

وقال تعالى: هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب.

ومثل هذا كثير في القرآن من ذكر دلائل النبوة وأعلام الرسالة ليس هذا موضع بسطه، وإنما المقصود هنا التنبيه على جنس ذلك. وما يذكره بعض أهل الكتاب أو غيرهم من أنه نصر فرعون ونمرود وسنحاريب وجنكسان وغيرهم من الملوك الكافرين جوابه ظاهر، فإن هؤلاء لم يدع أحد منهم النبوة، وأن الله أمره أن يدعو إلى عبادة الله وطاعته، ومن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، بخلاف من ادعى أن الله أرسله بذلك؛ فإنه لا يكون إلا رسولا صادقا ينصره الله ويؤيده وينصر أتباعه، ويجعل العاقبة لهم، أو يكون كذابا فينتقم الله منه، ويقطع دابره، ويتبين أن ما جاءه به ليست من الآيات والبراهين التي لا تقبل المعارضة، بل هي من جنس مخارق السحرة والكهان والكذابين التي تقبل المعارضة، فإن معجزات الأنبياء من خواصها أنه لا يقدر أحد أن يعارضها ويأتي بمثلها، بخلاف غيرها فإن معارضتها ممكنة فيبطل دلالتها.

والمسيح الدجال يدعي الإلهية، ويأتي بخوارق، ولكن نفس دعواه الإلهية دعوى ممتنعة في نفسها، ويرسل الله عليه المسيح ابن مريم فيقتله ويظهر كذبه، ومعه ما يدل على كذبه من وجوه:

منها: أنه مكتوب بين عينيه كافر.

ومنها: أنه أعور، والله ليس بأعور.

ومنها: أن أحدا لن يرى ربه حتى يموت، ويريد أن يقتل الذي قتله أولا فيعجز عن قتله.

فمعه من الدلائل الدالة على كذبه ما يبين أن ما معه ليس آية على صدقه، بخلاف معجزات الأنبياء، فإنه لا يمكن أحد من الإنس والجن أن يأتي بنظيرها ولا يبطلها مثل قلب العصا حية لموسى، وإخراج ناقة لصالح من الأرض، وإحياء الموتى للمسيح، وانشقاق القمر وإنزال القرآن وغير ذلك لمحمد ﷺ، فإن المشركين لما سألوا النبي ﷺ آية واقترحوا عليه انشقاق القمر فأراهم ذلك.

وقد أخبر الله تعالى بذلك في القرآن، فقال تعالى: اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغن النذر فتول عنهم يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر.

ثم ذكر تعالى ما جرى قبله للمكذبين فذكر قصة قوم نوح وهود وصالح ولوط ثم فرعون، وهذه السورة كان النبي ﷺ يقرأ بها في أعظم اجتماعات الناس عنده وهي الأعياد، والناس كلهم يسمعون ما يذكره من انشقاق القمر، وقول المكذبين أنه سحر والناس كلهم المؤمن به والمنافق والكافر يقرون على هذا لم يقل أحد منهم أن القمر لم ينشق ولا أنكره أحد.

وفي صحيح مسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سأل أبا واقد الليثي ما يقرأ به رسول الله ﷺ في الأضحى والفطر، فقال: كان يقرأ فيهما بـ ق والقرآن المجيد و اقتربت الساعة وانشق القمر.

ومعلوم بالضرورة في مطرد العادة أنه لو لم يكن انشق لأسرع الناس المؤمنون به إلى تكذيب ذلك فضلا عن أعدائه من الكفار والمنافقين، لا سيما وهو يقرأ عليهم ذلك في أعظم مجامعهم.

وأيضا فمعلوم أن محمدا ﷺ كان من أحرص الخلق على تصديق الناس له واتباعهم إياه، مع أنه كان أخبر الناس بسياسة الخلق، فلو لم يكن القمر انشق لما كان يخبر بهذا، ويقرأه على جميع الخلق ويستدل به، ويجعله آية له، فإن من يكون من أقل الناس خبرة بالسياسة لا يتعمد إلى ما يعلم جميع الناس أنه كاذب به فيجعله من أعظم آياته الدالة على صدقه، ويقرأه على الناس في أعظم المجاميع.

وقال: اقتربت الساعة وانشق القمر بصيغة الفعل الماضي، ولم يقل قامت الساعة، ولا ستقوم، بل قال: اقتربت أي دنت وقربت، و وانشق القمر الذي هو دليل على نبوة محمد وعلى إمكان انحراق الفلك الذي هو قيام القيامة، وهو سبحانه قرن بين خبره باقتراب الساعة وخبره بانشقاق القمر، فإن مبعث محمد ﷺ هو من أشراط الساعة وهو دليل على قربها، كما قال ﷺ في الحديث الصحيح: بعثت أنا والساعة كهاتين، وجمع بين أصبعيه السبابة والوسطى. وقد قال تعالى: فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها.

وعلم الساعة أخفاها الله عن جميع خلقه، كما يذكر ذلك عن المسيح في الإنجيل، أنه لما سئل عنها فقال: إنها لا يعلمها أحد من الناس ولا الملائكة ولا الابن، وإنما يعلمها الأب وحده. وهذا مما يدل على أنه ليس هو رب العالم، وكذلك محمد ﷺ أخبر بذلك لما سئل عنها. قال تعالى: يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض.

أي: خفيت على أهل السماوات والأرض: لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وفي الصحيح، عن النبي ﷺ، أنه قال: تسألوني عن الساعة، وإنما علمها عند الله، فانشقاق القمر كان آية على شيئين: على صدق الرسول، وعلى مجيء الساعة وإمكان انشقاق الفلك؛ فإن المنكرين لقيام القيامة الكبرى قيام الناس من قبورهم لرب العالمين، وانشقاق السماوات وانفطارها سواء أقروا بالقيامة الصغرى، وأن الأرواح بعد الموت تنعم أو تعذب، كما هو قول الفلاسفة اللاإلهيين، أو أنكروا المعاد مطلقا، كما أنكر ذلك من أنكره من مشركي العرب والفلاسفة الطبيعيين، وغيرهم ينكرون انشقاق السماوات ويزعم هؤلاء الدهرية أن الأفلاك لا يجوز عليها الانشقاق، كما ذكر ذلك أرسطو وأتباعه وزعموا أن الانشقاق يقتضي حركة مستقيمة وهي ممتنعة بزعمهم في الفلك المحدد إذ لا خلاء وراءه عندهم، وهذا لو دل فإنما يدل على ذلك في الفلك الأطلس لا فيما دونه، فكيف وهو باطل؟ فإن الحركة المستقيمة هناك بمنزلة جعل الأفلاك ابتداء في هذه الأحياز التي هي فيها - سواء سمي خلاء أو لم يسم - كما هو مذكور في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا أنه تعالى أخبر بانشقاق القمر مع اقتراب الساعة؛ لأنه دليل على إمكان انشقاق الأفلاك، وانفطارها الذي هو قيام الساعة الكبرى، وهو آية على نبوة محمد ﷺ الذي هو من أشراط الساعة، والله تعالى في كتابه يجمع بين ذكر القيامة الكبرى والصغرى، كما في سورة الواقعة ذكر في أولها القيامة الكبرى، وفي آخرها القيامة الصغرى، وذلك كثير في سور القرآن مثل سورة ق، وسورة القيامة، وسورة التكاثر، وسورة الفجر، وغير ذلك.

وقد استفاضت الأحاديث بانشقاق القمر، ففي الصحيحين، عن ابن مسعود أنه قال: انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله ﷺ: اشهدوا، وفي لفظ ونحن معه بمنى، فقال كفار قريش سحركم ابن أبي كبشة، فقال رجل منهم: إن محمدا إن كان سحر القمر فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر الأرض كلها، فاسألوا من يأتيكم من بلد آخر، هل رأوا هذا؟ فأتوا فسألوهم فأخبروهم أنهم رأوا مثل ذلك.

وعن أنس بن مالك أنه قال: سأل أهل مكة النبي ﷺ أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر فرقتين حتى رأوا حراء بينهما فنزلت: اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر.

وهذا حديث صحيح مستفيض، رواه ابن مسعود وأنس بن مالك وابن عباس، وهو أيضا معروف عن حذيفة، قال أبو الفرج بن الجوزي والروايات في الصحيح بانشقاق القمر عن ابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأنس رضي الله عنهم.

ولما زعموا أن هذا القرآن هو ألفه، قال الله تعالى: أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين.

ثم تحداهم بعشر سور فقال تعالى: أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون.

ثم تحداهم بسورة واحدة فقال: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا.

وقال تعالى أيضا: أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله.

فعجز جميع الخلق أن يعارضوا ما جاء به ثم سجل على جميع الخلق العجز إلى يوم القيامة بقوله:

قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

فأخبر من ذلك الزمان أن الإنس والجن إذا اجتمعوا لا يقدرون على معارضة القرآن بمثله، فعجز لفظه ومعناه ومعارفه وعلومه أكمل معجزة وأعظم شأنا، والأمر كذلك فإنه لم يقدر أحد من العرب وغيرهم مع قوة عداوتهم وحرصهم على إبطال أمره بكل طريق وقدرتهم على أنواع الكلام أن يأتوا بمثله، وأنزل الله إذ ذاك آيات بين فيها أنه رسول إليهم، ولم يذكر فيها أنه لم يرسل إلى غيرهم. فقال تعالى في سورة القصص: ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين.

وقال في سورة السجدة: أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون.

وقال في سورة يس: يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون.

ذكر تعالى في هذه الآيات الثلاث نعمته على هؤلاء، وحجته عليهم بإرساله، وذكر بعض حكمته في إرساله وذلك لا يقتضي أنه لم يرسل إلا لهذا، بل مثل هذا كثير معروف في لسان العرب وغيرهم.

قال تعالى: والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون.

ومعلوم أن في هذه الدواب منافع غير الركوب، وقال تعالى: يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون.

فقد أخبر أنه ينزل الملائكة بالوحي على الأنبياء؛ لينذروا يوم القيامة، وذلك لا يمنع أن يكونوا نزلوا بالبشارة للمؤمنين والأمر والنهي بالشرائع.

وقال تعالى: الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما.

فأخبر تعالى أنه خلق العالم العلوي والسفلي؛ ليعلم العباد قدرته وعلمه، ومع هذا ففي خلق ذلك له من الحكمة أمور أخرى غير علم العباد، ومثل ذلك قوله تعالى: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم.

ومعلوم أن في جعل الكعبة قياما للناس والهدي والقلائد حكما ومنافع أخرى.

وقال تعالى: ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.

ومعلوم أن في ملك الله حكما أخرى غير جزاء المحسن والمسيء، وكذلك قوله: وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون.

وقال تعالى: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح. إلى قوله: رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.

ومعلوم أن في إرسال الرسل سعادة من آمن بهم، وغيرها حكم أخرى غير دفع حجة الخلق على الله، وكذلك قوله تعالى: كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم.

ومعلوم أن في تسخيرها حكما ومنافع غير التكبير. وقوله: ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم.

وقال تعالى: وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار.

ومعلوم أن لله حكما في خلق الشمس والقمر، والليل والنهار، غير انتفاع بني آدم، وكذلك قوله: هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه.

وقوله: وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا.

وفيها حكم أخرى.

وقال: وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.

وفي إنزال الكتاب من هدى من اهتدى به واتعاظه وغير ذلك مقاصد غير الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.

وقال تعالى: وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين.

ومعلوم أن في مبعث الخلق يوم القيامة مقاصد غير بيان المختلف في علم هؤلاء، ومما يبين ذلك أنه قال في الآية التي احتجوا بها: لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم.

ومعلوم أنه لم يبعث لمجرد الإنذار، بل وليبشر من آمن به، ولأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتحليل الطيبات، وتحريم الخبائث، وغير ذلك من مقاصد الرسل، كما قال تعالى: رسلا مبشرين ومنذرين.

وقوله: وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين. لا ينافي كونه لم يصفهم في موضع آخر إلا بالإنذار، وقد قال: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا.

وكان المسلمون مرة صلوا صلاة العيد بحضرة حصار النصارى فقام خطيبهم فخطب بهذه الآية، ولما قرأ قوله: ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أشار إلى جند الإيمان.

ولما قرأ قوله: وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا أشار إلى جند الصلبان.

وقال تعالى: وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط.

وفي إنزال الكتاب والميزان حكم أخرى من البشارة والإنذار وغير ذلك، وكذلك قوله: ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا.

وفي بعثهم حكم أخرى بدليل قوله: وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها.

وقال تعالى: فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم.

ومعلوم أن في ذلك مقاصد أخرى من هداية الخلق، وقيام الحجة على من بلغهم وغير ذلك، وقوله: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب.

وفيه حكم أخرى من قيام الحجة على الخلق وضلال من ضل به، ومثله قوله: هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب.

ومعلوم أن في ذلك مقاصد أخرى من البشارة والأمر والنهي وغير ذلك، وكذلك قوله: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله.

ومعلوم أن في جزاء المؤمنين مقاصد أخرى غير علم أهل الكتاب وما معه، وقال تعالى: وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها.

ومعلوم أن فيه حكما أخرى مثل تبشير من آمن به، والأمر والنهي، وإنذار غير هؤلاء من العرب.

وقال تعالى: إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين.

ومعلوم أن فيه حكمة أخرى غير الإنذار.

وقال تعالى: ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين.

ومعلوم أن فيه حكمة أخرى من إنذار الخلق كلهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتبشير المؤمنين، فقال تعالى: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظاليسأل الصادقين عن صدقهم.

ومعلوم أن في أخذ الميثاق حكما أخرى.

وقال تعالى: إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما.

وقوله: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.

وقوله: لنريه من آياتنا.

وكذلك قوله: وجعلنا الليل والنهار آيتين إلى قوله: لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب.

وكذلك قوله: هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب.

وفي ذلك كله حكم أخرى، وكذلك قوله: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا.

وإن كانت هذه لام العاقبة، فليست العاقبة منحصرة في ذلك، بل في ذلك من الإحسان إلى موسى وتربيته وغير ذلك حكم أخرى، ومثل قوله: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم.

وقال تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.

وفي إرساله حكم أخرى، وكذلك قوله: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله.

وفي إنزاله تبشير وإنذار وأمر ونهي ووعد ووعيد وكذلك قوله في عيسى ابن مريم: هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا.

وكذلك قوله: الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله.

وفيه حكم أخرى كما قال في الآية الأخرى: وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها.

وقال: وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون.

وقال تعالى: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك إلى قوله: ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون.

وكذلك قوله: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا.

وفي كونهم وسطا حكم أخرى.

وقوله: الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا.

وفيهما حكم أخرى، وكذلك قوله: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا.

وفي ذلك حكم أخرى من البشارة والأمر والنهي.

وقال تعالى: وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء.

وفي ذلك حكم أخرى، ومثل ذلك كثير في كلام الله عز وجل وغير كلام الله إذا ذكر حكمة للفعل لم يلزم أن لا تكون له حكمة أخرى، لكن لا بد لتخصيص تلك الحكمة بالذكر في ذلك الموضع من مناسبته، وهذا كالمناسبة في قوله: لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم.

فإن هؤلاء كانوا أول المنذرين، وأحقهم بالإنذار، فكان في تخصيصهم بالذكر فائدة لا أنه خصهم لانتفاء إنذار من سواهم.

وقال تعالى: نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين.

ومعلوم أنه نزل به ليكون بشيرا، وليأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويحل الطيبات، ويحرم الخبائث، ويضع الآصار والأغلال ﷺ.

فصل: رد احتجاجهم ببعض الآيات على خصوصية الرسالة

وأما احتجاجهم بقوله تعالى: كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا.

وقوله تعالى: لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته.

فهذا كقوله تعالى: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم.

وهذا في عمومه نزاع، فإنه إما أن يكون خطابا لجميع الناس، ويكون المراد إنا بعثنا إليكم رسولا من البشر، إذ كنتم لا تطيقون أن تأخذوا عن ملك من الملائكة، فمن الله عليكم بأن أرسل إليكم رسولا بشريا.

قال تعالى: وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون.

وإما أن يكون الخطاب للعرب، وعلى التقديرين فإن ما تضمن ذكر إنعامه على المخاطبين بإرساله رسولا من جنسهم، وليس في هذا ما يمنع أن يكون مرسلا إلى غيرهم، فإنه إن كان خطابا للإنس كلهم، فهو أيضا مرسل إلى الجن، وليس من جنسهم، فكيف يمتنع إذا كان خطابا للعرب بما امتن به عليهم؟ أن يكون قد امتن على غيرهم بذلك، فالعجم أقرب إلى العرب من الجن إلى الإنس، وقد أخبر في الكتاب العزيز أن الجن لما سمعوا القرآن آمنوا به.

قال تعالى: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا ياقومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ياقومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض.

وقال: قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا.

ونظير هذا قوله: وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون.

وقومه قريش، ولا يمنع أنه ذكر لسائر العرب بل لسائر الناس، كما قال تعالى: وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين.

وقال تعالى: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا.

وقال تعالى: قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين وقال تعالى: إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين.

وقال تعالى: وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا.

وهذا على أصح القولين، وأن المراد بقوله وإنه لذكر لك ولقومك أنه ذكر لهم يذكرونه فيهتدون به.

وقيل: أن المراد أنه شرف لهم وليس بشيء، فإن القرآن هو شرف لمن آمن به من قومه وغيرهم وليس شرفا لجميع قومه، بل من كذب به منهم كان أحق بالذم، كما قال تعالى: تبت يدا أبي لهب.

وقال تعالى: وكذب به قومك وهو الحق.

بخلاف كونه تذكرة وذكرى؛ فإنه تذكرة لهم ولغيرهم، كما قال تعالى: قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين.

فعم العالمين جميعهم، فقال: وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين.

فصل

هذا الكلام على الوجه الأول، وهو قول من يقول أنه لم يقل أنه أرسل إلا إلى العرب.

وأما الوجه الثاني: وهو أن نقول: هو ذكر أنه رسول إلى الناس كافة، كما نطق به القرآن في غير موضع، كقوله تعالى: وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا.

وقوله: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض.

وقد صرح فيه بدعوة أهل الكتاب وبدعوة الجن في غير موضع، فإذا سلموا أنه ذكر ذلك ولكن كذبوه في ذلك، فإما أن يقروا برسالته إلى العرب، أو لا يقروا.

فإن أقروا بأنه رسول أرسله الله، لم يمكن مع ذلك تكذيبه كما تقدم، بل يجب الإقرار برسالته إلى جميع الخلق كما أخبر بذلك، كما تقدم أن من ذكر أنه رسول الله لا يكون إلا من أفضل الخلق وأصدقهم، أو من شر الخلق وأكذبهم، فإنه إن كان صادقا فهو من أفضلهم وإن كان كاذبا فهو من شرهم، وإذا كان الله قد أرسله - ولو إلى قرية كما أرسل يونس بن متى إلى أهل نينوى - كان من أفضل الخلق، وكان صادقا لا يكذب على الله، ولا يقول عليه إلا الحق، ولو كذب على الله ولو في كلمة واحدة لكان من الكاذبين، لم يكن من رسل الله الصادقين، فإن الكاذب لا يكذب في كل شيء، بل في البعض، فمن كذب على الله في كلمة واحدة، فقد افترى على الله الكذب، وكان من القسم الكاذبين في دعوى الرسالة لا من الصادقين.

وأيضا فإن مقصود الرسالة تبليغ رسالات الله على وجهها، فإذا خلط الكذب بالصدق لم يحصل مقصود الرسالة.

وأيضا فإذا علم أنه كذب في بعضها لم يتميز ما صدق فيه مما كذب فيه إلا بدليل آخر غير رسالته، فلا يحصل المقصود برسالته.

ولهذا أجمع أهل الملل قاطبة على أن الرسل معصومون فيما يبلغونه عن الله تبارك وتعالى لم يقل أحد قط أن من أرسله الله يكذب عليه، وقد قال تعالى ما يبين أنه لا يقر كاذبا عليه، قال تعالى: ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين.

وقال تعالى: أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك.

ثم قال تعالى: ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته.

فقوله تعالى: ويمح الله الباطل ويحق الحق كلام مستأنف، ليس داخلا في جواب الشرط، فإنه لو كان معطوفا على جواب الشرط، لقال ويحق الحق بالكسر لالتقاء الساكنين، كما في قوله قم الليل.

فلما قال ويحق الحق بالضم دل على أنه جملة مستأنفة أخبر فيها أنه تعالى يمحو الباطل كباطل الكاذبين عليه، ويحق الحق كحق الصادقين عليه، فمحو الباطل نظير إحقاق الحق، ليس مما علق بالمشيئة، بل لا بد منه، بخلاف الختم على قلبه، فإنه معلق بالمشيئة، ولا يجوز أن يعلق بالمشيئة محو الباطل كتعليق الختم، بل يقذف بالحق على الباطل فيدمغه.

وقال تعالى في صيانته وإحكامه لما تبلغه رسله: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم.

وأيضا فإذا لم يكن أرسل إلا إلى العرب، وقد دعا اليهود والنصارى إلى الإيمان به، وكفرهم إذا لم يؤمنوا به، وجاهدهم، وقتل مقاتلهم، وسبى ذرياتهم، كان ذلك ظلما لا يفعله إلا من هو من أظلم الناس، ومن كان نبيا قد أرسله الله فهو منزه عن هذا وهذا.

فالإقرار برسالته إلى العرب دون غيرهم - مع ما ظهر من عموم دعوته للخلق كلهم - قول متناقض ظاهر الفساد، وكل ما دل عليه أنه رسول، فإنه يستلزم رسالته إلى جميع الخلق، وكل من اعترف بأنه رسول لزمه الاعتراف بأنه رسول إلى جميع الخلق، وإلا لزم أن يكون الله أرسل رسولا يفتري عليه الكذب، ويقول للناس: إن الله أمركم باتباعي، وأمرني بجهادكم إذا لم تفعلوا، وهو كاذب في ذلك، ومعلوم أن كل ما دل على أن الله أرسله فإنه يدل على أنه صادق في الرسالة وإلا فلا، فالرسول الكاذب لا يحصل به مقصود الرسالة، بل يكون من جملة المفترين على الله الكذب، وأولئك ليسوا من رسل الله، ولا يجوز تصديقهم في قولهم: إن الله أرسلهم.

هامش

  1. قراءة الجمهور عدا نافع بألف في "على"، وعند نافع: "علي" بتشديد الياء.