→ المقدمة | الجامع لأحكام القرآن - المقدمة المؤلف: القرطبي |
باب ذكر جمل من فضائل القرآن والترغيب فيه وفضل طالبه وقارئه ومستعمله والعامل به ← |
مقدمة المؤلف |
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
قال الشيخ الفقيه الإمام العالم العامل العلامة المحدث أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي ثم القرطبي رضي الله عنه :
الحمد لله المبتدىء بحمد نفسه قبل أن يحمده حامد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرب الصمد الواحد الحي القيوم الذي لا يموت ذو الجلال والإكرام والمواهب العظام والمتكلم بالقرآن والخالق للإنسان والمنعم عليه بالإيمان والمرسل رسوله بالبيان محمداً ﷺ ما اختلف المَلَوان وتعاقب الجديدان أرسله بكتابه المبين الفارق بين الشك واليقين الذي أعجزت الفصحاء معارضته وأعيت الألباء مناقضته وأخرست البلغاء مشاكلته فلا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا جعل أمثاله عبرا لمن تدبرها وأوامره هدى لمن استبصرها وشرح فيه واجبات الأحكام وفرق فيه بين الحلال والحرام وكرر فيه المواعظ والقصص للأفهام وضرب فيه الأمثال وقص فيه غيب الأخبار فقال تعالى : {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} . خاطب به أولياءه ففهموا وبين لهم فيه مراده فعلموا فقرأة القرآن حملة سر الله المكنون وحفظة علمه المخزون وخلفاء أنبيائه وأمناؤه وهم أهله وخاصته وخيرته وأصفياؤه .
قال رسول الله ﷺ : " إن لله أهلين منّا قالوا : يا رسول الله ، مَن هم ؟ قال : هم أهلُ القرآن أهلُ الله وخاصّته" أخرجه ابن ماجه في سننه وأبو بكر البزار في مسنده فما أحق من علم كتاب الله أن يزدجر بنواهيه ، ويتذكرّ ما شرح له فيه ويخشى الله ويتقيه ويراقبه ويستحييه فإنه قد حمل أعباء الرسل وصار شهيدا في القيامة على من خالف من أهل الملل قال الله تعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} . ألا وأن الحجة على من علمه فأغفله أو كد منها على من قصر عنه وجهله ومن أوتى علم القرآن فلم ينتفع وزجرته نواهيه فلم يرتدع وارتكب من المآثم قبيحا ومن الجرائم فضوحا كان القرآن حجة عليه وخصما لديه قال رسول الله ﷺ : "القرآن حجة لك أو عليك" خرّجه مسلم فالواجب على من خصه الله بحفظ كتابه أن يتلوه حق تلاوته ويتدبر حقائق عبارته ويتفهم عجائبه ويتبين غرائبه قال الله تعالى : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} . وقال الله تعالى : {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} .جعلنا الله ممن يرعاه حق رعايته ويتدبره حق تدبره ويقوم بقسطه ويوفي بشرطه ولا يلتمس الهدى في غيره وهدانا لأعلامه الظاهرة وأحكامه القاطعة الباهرة وجمع لنا به خير الدنيا والآخرة فإنه أهل التقوى وأهل المغفرة ثم جعل إلى رسول الله ﷺ بيان ما كان منه مجملا وتفسير ما كان منه مشكلا وتحقيق ما كان منه محتملا ليكون له مع تبليغ الرسالة ظهور الاختصاص به ومنزلة التفويض إليه قال الله تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} . ثم جعل إلى العلماء بعد رسول الله ﷺ استنباط ما نبه على معانيه وأشار إلى أصوله ليتوصلوا بالاجتهاد فيه إلى علم المراد فيمتازوا بذلك عن غيرهم ويختصوا بثواب اجتهادهم قال الله تعالى : {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} .
فصار الكتاب أصلا والسنة له بيانا واستنباط العلماء له إيضاحا وتبيانا فالحمد لله الذي جعل صدورنا أوعية كتابه وآذاننا موارد سنن نبيّه وهممنا مصروفة إلى تعلمهما والبحث عن معانيهما وغرائبهما طالبين بذلك رضا رب العالمين ومتدرجين به إلى علم الملة والدين. وبعد فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجميع علوم الشرع الذي استقل به السنة والفرض ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض رأيت أن أشتغل به مدى عمري ، وأستفرغ فيه منتي بأن أكتب فيه تعليقا وجيزا يتضمن نكتا من التفسير واللغات والإعراب والقراءات والرد على أهل الزيغ والضلالات وأحاديث كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات جامعا بين معانيهما ومبينا ما أشكل منهما بأقاويل السلف ومن تبعهم من الخلف وعملته تذكرة لنفسي وذخيرة ليوم رمسي وعملا صالحا بعد موتي قال الله تعالى : { يُنَبَّأُ الأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} . وقال تعالى : {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} . وقال رسول الله صلى وسلم : "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا في ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" .
وشرطي في هذا الكتاب : إضافة الأقوال إلى قائليها والأحاديث إلى مصنفيها فإنه يقال من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله وكثيرا ما يجيء الحديث في كتب الفقه والتفسير مبهما لا يعرف من أخرجه إلا من اطلع على كتب الحديث فبقي من لا خبرة له بذلك حائرا لا يعرف الصحيح من السقيم ومعرفة ذلك على جسيم فلا يقبل منه الاحتجاج به ولا الاستدلال حتى يضيفه إلى من خرجه من الأئمة الأعلام والثقات المشاهير من علماء الإسلام ونحن نشير إلى جمل من ذلك في هذا الكتاب والله الموفق للصواب وأضرب عن كثير من قصص المفسرين وأخبار المؤرخين إلا ما لابد منه ولا غنى عنه للتبيين واعتضت من ذلك تبيين آي الأحكام بمسائل تسفر عن معناها وترشد للطالب إلى مقتضاها فضمنت كل آية تتضمن حكما أو حكمين فما زاد مسائل نبين فيها ما تحتوي عليه النزول والتفسير الغريب والحكم فإن لم تتضمن حكما ذكرت ما فيها من التفسير والتأويل هكذا إلى آخر الكتاب وسميته بـ (الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان) جعله الله خالصا لوجهه وأن ينفعني به ووالدي ومن أراده بمنه إنه سميع الدعاء قريب مجيب ؛ آمين.