→ فصل قال كثير من علمائنا كالداودي وابن صفرة وغيرهما | الجامع لأحكام القرآن - المقدمة المؤلف: القرطبي |
باب ذكر جمع القرآن وسبب كتب عثمان المصاحف وإحراقه ما سواها ← |
فصل في ذكر معنى حديث عمر وهشام |
قال ابن عطية : أباح الله تعالى لنبيه عليه السلام هذه الحروف السبعة وعارضه بها جبريل عليه السلام في عرضاته على الوجه الذي فيه الإعجاز وجودة الوصف ولم تقع الإباحة في قوله عليه السلام : {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} بأن يكون كل واحد من الصحابة إذا أراد أن يبدل اللفظة من بعض هذه اللغات جعلها من تلقاء نفسه ولو كان هذا لذهب إعجاز القرآن وكان معرضا أن يبدل هذا وهذا حتى يكون غير الذي نزل من عند الله وإنما وقعت الإباحة في الحروف السبعة للنبي ﷺ ليوسع بها على أمته فأقرأ مرة لأبي بما عارضه به جبريل ومرة لابن مسعود بما عارضه به أيضا وعلى هذا تجيء قراءة عمر بن الخطاب لسورة الفرقان وقراءة هشام بن حكيم لها وإلا فكيف يستقيم أن يقول النبي ﷺ في كل قراءة منهما وقد اختلفا : هكذا أقرأني جبريل هل ذلك إلا أنه أقرأه مرة بهذه ومرة بهذه وعلى هذا يحمل قول أنس حين قرأ { إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} فقيل له إنما نقرأ وأقوم قيلا فقال أنس وأصوب قيلا وأقوم قيلا وأهيأ واحد فإنما معنى هذا أنها مروية عن النبي ﷺ وإلا فلو كان هذا لأحد من الناس أن يضعه لبطل معنى قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب قال : سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها وكان رسول الله ﷺ أقرأنيها فكدت أن أعجل عليه ثم أمهلته حتى أنصرف ثم لببته بردائه فجئت به رسول الله ﷺ فقلت يا رسول الله : إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها فقال رسول الله ﷺ : "أرسله ، أقرأ " فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله ﷺ : "هكذا أنزلت" ثم قال لي "اقرأ" فقرأت فقال : "هكذا أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر".
قلت : وفي معنى حديث عمر هذا ما رواه مسلم عن أبي بن كعب قال : كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله ﷺ فقلت : " إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه فأمرهما النبي ﷺ فقرأ فحسن النبي ﷺ شانهما فسقط في نفسي من التكذيب". ولا إذا كنت في الجاهلية فلما رأى النبي ﷺ ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله تعالى فرقا فقال لي : " يا أبي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هون على أمتي فرد إلي الثانية اقرأه على حرفين فرددت إليه أن هون على أمتي فرد إلي الثالثة أقرأه على سبعة أحرف فلك بكل ردة رددتكها مسألة تسألينها فقلت اللهم اغفر لأمتي اللهم أغفر لأمتي وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق كلهم حتى إبراهيم عليه السلام ".
قول أبي رضي الله عنه : فسقط في نفسي معناه اعترتني حيرة ودهشة أي أصابته نزعة من الشيطان ليشوش عليه حاله ويكدر عليه وقته فإنه عظم عليه من اختلاف القراءات ما ليس عظيما في نفسه وإلا فأي شيء يلزم من المحال والتكذيب من اختلاف القراءات ولم يلزم ذلك والحمد لله في النسخ الذي هو أعظم فكيف بالقراءة! ولما رأى النبي ﷺ ما أصابه من ذلك الخاطر نبهه بأن ضربه في صدره فأعقب ذلك بأن انشرح صدره وتنور باطنه حتى آل به الكشف والشرح إلى حالة المعاينة ولما ظهر له قبح ذلك الخاطر خاف من الله تعالى وفاض بالعرق استحياء من الله تعالى فكان هذا الخاطر من قبيل ما قال فيه النبي ﷺ- حين سألوه : إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال : " وقد وجدتموه قالوا نعم قال ذلك صريح الإيمان". أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وسيأتي الكلام عليه في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.