الرئيسيةبحث

البداية والنهاية/الجزء الأول/ذكر مهاجرة إبراهيم بابنه إسماعيل وأمه هاجر

ذكر مهاجرة إبراهيم بابنه إسماعيل وأمه هاجر

قال البخاري: قال عبد الله بن محمد - هو أبو بكر بن أبي شيبة - حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن أيوب السختياني، وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة، يزيد أحدهما على الآخر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:

أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم اسماعيل اتخذت منطقًا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر، وسقاء فيه ماء.

ثم قفى إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها.

فقالت له: الله أمرك بهذا؟

قال: نعم.

قالت: إذًا لا يضيعنا، ثم رجعت.

فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية، حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال: { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [إبراهيم: 37] .

وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يلتوي، أو قال: يتلبط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه.

ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا، فلم ترَ أحدًا، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف ذراعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى إذا جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا. ففعلت ذلك سبع مرات.

قال ابن عباس: قال النبي ﷺ:

« فلذلك سعى الناس بينهما ».

فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت: صه، تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت أيضًا، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء فجعلت تخوضه، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهي تفور بعد ما تغرف.

قال ابن عباس: قال النبي ﷺ:

« يرحم الله أم اسماعيل لو تركت زمزم ».

أو قال: « لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينًا معينًا »

فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة، فإن ههنا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله.

وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيت من جرهم، مقبلين من طريق كذا، فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرًا عائفًا.

فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على الماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريًا أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا، قال: وأم إسماعيل عند الماء.

فقالوا: تأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء.

قالوا: نعم.

قال عبد الله بن عباس: قال النبي ﷺ:

فألقى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الإنس، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته فقالت: خرج يبتغي لنا.

ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بشر في ضيق وشدة وشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك أقرئي عليه السلام وقولي له: يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئًا فقال: هل جاءكم من أحد؟

فقالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنّا في جهد وشدة.

قال: فهل أوصاك بشيء؟

قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول لك: غير عتبة بابك.

قال: ذاك أبي وأمرني أن أفارقك فالحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى.

ولبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا.

قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم.

فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله.

فقال: ما طعامكم؟

قالت: اللحم.

قال: فما شرابكم؟

قالت: الماء.

قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء.

قال النبي ﷺ: « ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم حب لدعا لهم فيه »

قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بعين مكة إلا لم يوافقاه. قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومريه يثبت عتبة بابه.

فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟

قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا، فأخبرته أنّا بخير.

قال: فأوصاك بشيء؟

قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك.

قال: ذاك أبي وأمرني أن أمسكك.

ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك، وإسماعيل يبري نبلًا له تحت دوحة، قريبًا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الولد بالوالد، والوالد بالولد.

ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك به ربك، قال: وتعينني، قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتًا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال:

فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [البقرة: 127] .

قال: وجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت، وهما يقولان: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }

ثم قال: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا أبو عامر عبد الله بن عمرو، حدثنا إبراهيم بن نافع، عن كثير بن كثير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:

لما كان من إبراهيم وأهله ما كان، خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ومعهم شنة فيها ماء، وذكر تمامه بنحو ما تقدم، وهذا الحديث من كلام ابن عباس، وموشح برفع بعضه، وفي بعضه غرابة وكأنه مما تلقاه ابن عباس عن الإسرائيليات.

وفيه أن إسماعيل كان رضيعًا إذ ذاك، وعند أهل التوراة أن إبراهيم أمره الله بأن يختن ولده إسماعيل، وكل من عنده من العبيد وغيرهم، فختنهم وذلك بعد مضي تسع وتسعين سنة من عمره، فيكون عمر إسماعيل يومئذ ثلاث عشرة سنة، وهذا امتثال لأمر الله عز وجل في أهله، فيدل على أنه فعله على وجه الوجوب، ولهذا كان الصحيح من أقوال العلماء أنه واجب على الرجال، كما هو مقرر في موضعه.

وقد ثبت في الحديث الذي رواه البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن القرشي، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال النبي ﷺ: « اختتن إبراهيم النبي عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم ».

تابعه عبد الرحمن بن إسحاق، عن أبي الزناد.

وتابعه عجلان، عن أبي هريرة.

ورواه محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

وهكذا رواه مسلم عن قتيبة به.

وفي بعض الألفاظ: اختتن إبراهيم بعد ما أتت عليه ثمانون سنة، واختتن بالقدوم، والقدوم هو: الآلة. وقيل: موضع، وهذا اللفظ لا ينافي الزيادة على الثمانين، والله أعلم لما سيأتي من الحديث عند ذكر وفاته عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال:

« اختتن إبراهيم وهو ابن مائة وعشرين سنة، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة ». رواه ابن حبان في (صحيحه).

وليس في هذا السياق ذكر قصة الذبيح، وأنه إسماعيل، ولم يذكر في قدمات إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث مرات، أولاهن: بعد أن تزوج إسماعيل بعد موت هاجر، وكيف تركهم من حين صغر الولد على ما ذكر إلى حين تزويجه، لا ينظر في حالهم.

وقد ذكر أن الأرض كانت تطوى له، وقيل: إنه كان يركب البراق إذا سار إليهم، فكيف يتخلف عن مطالعة حالهم، وهم في غاية الضرورة الشديدة والحاجة الأكيدة.

وكأن بعض هذا السياق متلقى من الإسرائيليات، ومطرز بشيء من المرفوعات، ولم يذكر فيه قصة الذبيح، وقد دللنا على أن الذبيح هو إسماعيل على الصحيح في سورة الصافات.

البداية والنهاية - الجزء الأول
مقدمة | فصل:ما سوى الله مخلوق | فصل: فيما ورد في صفة خلق العرش والكرسي | الكرسي | اللوح المحفوظ | ما ورد في خلق السموات والأرض وما بينهما | ما جاء في سبع أرضين | فصل في البحار والأنهار | فصل:ذكر ما خلق في الأرض من الجبال،والأشجار والثمار والسهول | ذكر ما يتعلق بخلق السموات وما فيهن من الآيات | المجرة وقوس قزح | باب ذكر خلق الملائكة وصفاتهم | فصل: الملائكة عليهم السلام بالنسبة إلى ما هيأهم الله له أقسام | فصل:اختلاف الناس في تفضيل الملائكة على البشر | باب خلق الجان وقصة الشيطان | باب خلق آدم عليه السلام | احتجاج آدم وموسى عليهما السلام | الأحاديث الواردة في خلق آدم | قصة قابيل وهابيل | وفاة آدم ووصيته إلى ابنه شيث | إدريس عليه السلام | قصة نوح عليه السلام | ذكر شيء من أخبار نوح عليه السلام | صومه عليه السلام | حجه عليه السلام | وصيته لولده | قصة هود عليه السلام | قصة صالح نبي ثمود عليه السلام | مرور النبي بوادي الحجر من أرض ثمود عام تبوك | قصة إبراهيم خليل الرحمن | ذكر مناظرة إبراهيم الخليل مع من ادعى الربوبية | هجرة الخليل إلى بلاد الشام | ذكر مولد إسماعيل عليه السلام من هاجر | ذكر مهاجرة إبراهيم بابنه إسماعيل وأمه هاجر | قصة الذبيح | مولد اسحاق | بناء البيت العتيق | ذكر ثناء الله ورسوله الكريم على عبده وخليله إبراهيم | قصره في الجنة | صفة إبراهيم عليه السلام | وفاة إبراهيم وما قيل في عمره | ذكر أولاد إبراهيم الخليل | قصة مدين قوم شعيب عليه السلام | باب ذرية إبراهيم | إسماعيل عليه السلام | إسحاق بن إبراهيم عليهما الصلاة والتسليم | ما وقع من الأمور العجيبة في حياة إسرائيل | قصة نبي الله أيوب | قصة ذي الكفل الذي زعم قوم أنه ابن أيوب | باب ذكر أمم أهلكوا بعامة | أصحاب الرس | قصة قوم يس وهم أصحاب القرية | قصة يونس | فضل يونس | قصة موسى الكليم | فصل | هلاك فرعون وجنوده | فصل فيما كان من أمر بني إسرائيل بعد هلاك فرعون | فصل في دخول بني إسرائيل التيه وما جرى لهم فيه من الأمور العجيبة | سؤال الرؤية | قصة عبادتهم العجل في غيبة موسى كليم الله عنهم | حديث آخر بمعنى ما ذكره ابن حبان | قصة بقرة بني إسرائيل | قصة موسى والخضر عليهما السلام | حديث الفتون | ذكر بناء قبة الزمان | قصة قارون مع موسى عليه السلام | باب ذكر فضائل موسى عليه السلام وشمائله وصفاته ووفائه | ذكر حجه عليه السلام إلى البيت العتيق و صفته | ذكر وفاته عليه السلام | ذكر نبوة يوشع وقيامه بأعباء بني إسرائيل بعد موسى وهارون عليهما السلام | ذكر قصتي الخضر وإلياس عليهما السلام | وأما إلياس عليه السلام