→ ذكر نبوة يوشع وقيامه بأعباء بني إسرائيل بعد موسى وهارون عليهما السلام | البداية والنهاية - الجزء الأول المؤلف: ابن كثير |
وأما إلياس عليه السلام ← |
ذكر قصتي الخضر وإلياس عليهما السلام |
أما الخضر فقد تقدم أن موسى عليه السلام رحل إليه في طلب ما عنده من العلم اللدني. وقص الله من خبرهما في كتابه العزيز في سورة الكهف.
وذكرنا في تفسير ذلك هنالك، وأوردنا هنا ذكر الحديث
المصرح بذكر الخضر عليه السلام وأن الذي رحل إليه هو موسى بن عمران نبي بني إسرائيل عليه السلام الذي أنزلت عليه التوراة.
وقد اختلف في الخضر في اسمه ونسبه ونبوته وحياته إلى الآن - على أقوال - سأذكرها لك ههنا إن شاء الله وبحوله وقوته.
قال الحافظ ابن عساكر: يقال: إنه الخضر بن آدم عليه السلام لصلبه. ثم روى من طريق الدارقطني: حدثنا محمد بن الفتح القلانسي، حدثنا العباس بن عبد الله الرومي، حدثنا رواد بن الجراح، حدثنا مقاتل بن سليمان، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: الخضر بن آدم لصلبه، ونسيء له في أجله حتى يكذب الدجال، وهذا منقطع وغريب.
وقال أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان السجستاني: سمعت مشيختنا منهم أبو عبيدة وغيره قالوا: إن أطول بني آدم عمرًا الخضر، واسمه خضرون بن قابيل بن آدم. قال: وذكر ابن إسحاق: أن آدم عليه السلام لما حضرته الوفاة، أخبر بنيه أن الطوفان سيقع بالناس، وأوصاهم إذا كان ذلك أن يحملوا جسده معهم في السفينة، وأن يدفنوه معهم في مكان عينه لهم.
فلما كان الطوفان حملوه معهم، فلما هبطوا إلى الأرض أمر نوح بنيه أن يذهبوا ببدنه فيدفنوه حيث أوصى. فقالوا: إن الأرض ليس بها أنيس وعليها وحشة فحرضهم وحثهم على ذلك.
وقال: إن آدم دعا لمن يلي دفنه بطول العمر، فهابوا المسير إلى ذلك الموضع في ذلك الوقت، فلم يزل جسده عندهم حتى كان الخضر هو الذي تولى دفنه، وأنجز الله ما وعده فهو يحيى إلى ما شاء الله له أن يحيى.
وذكر ابن قتيبة في المعارف عن وهب بن منبه: أن اسم الخضر { بليا } ويقال: إيليا بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام، وقال إسماعيل بن أبي أويس: اسم الخضر فيما بلغنا والله أعلم: المعمر بن مالك بن عبد الله بن نصر بن لازد.
وقال غيره: هو: خضرون بن عمياييل بن اليفز بن العيص بن إسحق بن إبراهيم الخليل.
ويقال: هو أرميا بن خلقيا فالله أعلم.
وقيل: إنه كان ابن فرعون صاحب موسى ملك مصر، وهذا غريب جدا.
قال ابن الجوزي: رواه محمد بن أيوب، عن ابن لهيعة وهما ضعيفان.
وقيل: إنه ابن مالك، وهو أخو إلياس، قاله السدي كما سيأتي.
وقيل: إنه كان على مقدمة ذي القرنين.
وقيل: كان ابن بعض من آمن بإبراهيم الخليل وهاجر معه.
وقيل: كان نبيا في زمن بشتاسب بن لهراسب.
قال ابن جرير: والصحيح أنه كان متقدما في زمن أفريدون بن أثفيان حتى أدركه موسى عليهما السلام.
وروى الحافظ بن عساكر عن سعيد بن المسيب أنه قال: الخضر أمه رومية وأبوه فارسي.
وقد ورد ما يدل على أنه كان من بني إسرائيل في زمان فرعون أيضًا.
قال أبو زرعة في (دلائل النبوة): حدثنا صفوان بن صالح الدمشقي، حدثنا الوليد، حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن رسول الله ﷺ أنه ليله أسري به وجد رائحة طيبة فقال:
« يا جبريل ما هذه الرائحة الطيبة؟ ».
قال: هذه ريح قبر الماشطة وابنتها وزوجها.
وقال: وكان بدء ذلك أن الخضر كان من أشراف بني إسرائيل، وكان ممره براهب في صومعته، فتطلع عليه الراهب فعلمه الإسلام.
فلما بلغ الخضر زوجه أبوه امرأة فعلمها الإسلام، وأخذ عليها أن لا تعلم أحدًا وكان لا يقرب النساء، ثم طلقها ثم زوجه أبوه بأخرى فعلمها الإسلام، وأخذ عليها أن لا تعلم أحدا، ثم طلقها، فكتمت إحداهما وأفشت عليه الأخرى، فانطلق هاربا حتى أتى جزيرة في البحر فأقبل رجلان يحتطبان، فرأياه فكتم أحدهما وأفشى عليه الآخر.
قال: قد رأيت العزقيل ومن رآه معك، قال: فلان فسئل فكتم، وكان من دينهم أنه من كذب قتل، فقتل وكان قد تزوج الكاتم المرأة الكاتمة.
قال: فبينما هي تمشط بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها.
فقالت: نعس فرعون فأخبرت أباها وكان للمرأة ابنان وزوج، فأرسل إليهم فراود المرأة وزوجها أن يرجعا عن دينهما فأبيا، فقال: إني قاتلكما فقالا: إحسان منك إلينا إن أنت قتلتنا أن تجعلنا في قبر واحد فجعلهما في قبر واحد، فقال: وما وجدت ريحا أطيب منهما وقد دخلت الجنة.
وقد تقدمت قصة مائلة بنت فرعون وهذا المشط في أمر الخضر قد يكون مدرجا من كلام أبي بن كعب، أو عبد الله بن عباس، والله أعلم.
وقال بعضهم: كنيته أبو العباس. والأشبه والله أعلم أن الخضر لقب غلب عليه.
قال البخاري رحمه الله: حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني، حدثنا ابن المبارك، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال:
« إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء ».
تفرد به البخاري وكذلك رواه عبدالرزاق، عن معمر به.
ثم قال عبد الرزاق: الفروة: الحشيش الأبيض وما أشبهه، يعني: الهشيم اليابس.
وقال الخطابي: وقال أبو عمر: الفروة: الأرض البيضاء التي لا نبات فيها.
وقال غيره: هو الهشيم اليابس شبهه بالفروة، ومنه قيل: فروة الرأس وهي جلدته بما عليها من الشعر، كما قال الراعي:
ولقد ترى الحبشي حول بيوتنا * جذلًا إذا ما نال يوما ماكلا
صعلا أصك كأن فروة رأسه * بذرت فأنبت جانباه فلفلا
قال الخطابي: إنما سمي الخضر خضرا لحسنه وإشراق وجهه.
قلت: هذا لا ينافي ما ثبت في الصحيح فإن كان ولا بد من التعليل بأحدهما فما ثبت في الصحيح أولى وأقوى بل لا يلتفت إلى ما عداه.
وقد روى الحافظ ابن عساكر هذا الحديث أيضا من طريق إسماعيل بن حفص بن عمر الأيلي، حدثنا عثمان، وأبو جزي، وهمام بن يحيى، عن قتادة، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ قال:
« إنما سمي الخضر خضرًا لأنه صلى على فروة بيضاء فاهتزت خضراء ».
وهذا غريب من هذا الوجه.
وقال قبيصة، عن الثوري، عن منصور، عن مجاهد، قال: إنما سمي الخضر لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله.
وتقدم أن موسى ويوشع عليهما السلام لما رجعا يقصان الأثر وجداه على طنفسة خضراء على كبد البحر، وهو مسجى بثوب، قد جعل طرفاه من تحت رأسه وقدميه، فسلم عليه السلام.
فكشف عن وجهه فرد وقال: أني بأرضك السلام؟ من أنت؟
قال: أنا موسى.
قال: موسى نبي بني إسرائيل؟
قال: نعم. فكان من أمرهما ما قصه الله في كتابه عنهما.
وقد دل سياق القصة على نبوته من وجوه:
أحدهما: قوله تعالى: { فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا } [الكهف: 65] .
الثاني: قول موسى له: { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا } [الكهف: 66- 70] .
فلو كان وليا وليس بنبي لم يخاطبه موسى بهذه المخاطبة، ولم يرد على موسى هذا الرد، بل موسى إنما سأل صحبته لينال ما عنده من العلم الذي اختصه الله به دونه، فلو كان غير نبي لم يكن معصوما، ولم تكن لموسى، وهو نبي عظيم ورسول كريم واجب العصمة كبير رغبة ولا عظيم طلبة في علم ولي غير واجب العصمة.
ولما عزم على الذهاب إليه والتفتيش عليه، ولو أنه يمضي حقبا من الزمان قيل: ثمانين سنة، ثم لما اجتمع به تواضع له وعظمه واتبعه في صورة مستفيد منه، دل على أنه نبي مثله يوحى إليه كما يوحى إليه، وقد خص من العلوم اللدنية والأسرار النبوية، بما لم يطلع الله عليه موسى الكليم نبي بني إسرائيل الكريم.
وقد احتج بهذا المسلك بعينه الرماني على نبوة الخضر عليه السلام.
الثالث: أن الخضر أقدم على قتل ذلك الغلام وما ذاك إلا للوحي إليه من الملك العلام.
وهذا دليل مستقل على نبوته، وبرهان ظاهر على عصمته، لأن الولي لا يجوز له الإقدام على قتل النفوس، بمجرد ما يلقى في خلده لأن خاطره ليس بواجب العصمة إذ يجوز عليه الخطأ بالاتفاق.
ولما أقدم الخضر على قتل ذلك الغلام الذي لم يبلغ الحلم، علما منه بأنه إذا بلغ يكفر ويحمل أبويه عن الكفر لشدة محبتهما له فيتابعانه عليه ففي قتله مصلحة عظيمة تربو على بقاء مهجته، صيانة لأبويه عن الوقوع في الكفر وعقوبته، دل ذلك على نبوته وأنه مؤيد من الله بعصمته.
وقد رأيت الشيخ أبا الفرج ابن الجوزي طرق هذا المسلك بعينه في الاحتجاج على نبوة الخضر وصححه. وحكى الاحتجاج عليه الرماني أيضا.
الرابع: أنه لما فسر الخضر تأويل تلك الأفاعيل لموسى، ووضح له عن حقيقة أمره وجلى، قال بعد ذلك كله: { رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } [الكهف: 82] يعني: ما فعلته من تلقاء نفسي، بل أمر أمرت به وأوحى إلي فيه. فدلت هذه الوجوه على نبوته. ولا ينافي ذلك حصول ولايته، بل ولا رسالته كما قاله آخرون.
وأما كونه ملكًا من الملائكة فقول فغريب جدًا، وإذا ثبت نبوته كما ذكرناه لم يبق لمن قال بولايته، وإن الولي قد يطلع على حقيقة الأمور دون أرباب الشرع الظاهر، مستند يستندون إليه، ولا معتمد يعتمدون عليه.
وأما الخلاف في وجوده إلى زماننا هذا، فالجمهور على أنه باق إلى اليوم. قيل: لأنه دفن آدم بعد خروجهم من الطوفان، فنالته دعوة أبيه آدم بطول الحياة. وقيل: لأنه شرب من عين الحياة فحيى.
وذكروا أخبارًا استشهدوا بها على بقائه إلى الآن، وسنوردها مع غيرها إن شاء الله تعالى وبه الثقة. وهذه وصيته لموسى حين { قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } [الكهف: 78] روي في ذلك آثار منقطعة كثيرة.
قال البيهقي: أنبأنا أبو سعيد ابن أبي عمرو، حدثنا أبو عبد الله الصفار، حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، حدثنا جرير، حدثني أبو عبد الله الملطي قال: لما أراد موسى أن يفارق الخضر.
قال له موسى: أوصني.
قال: كن نفاعًا ولا تكن ضرارًا، كن بشاشًا ولا تكن غضبان، ارجع عن اللجاجة ولا تمش في غير حاجة.
وفي رواية من طريق أخرى زيادة: ولا تضحك إلا من عجب.
وقال وهب بن منبه: قال الخضر: يا موسى إن الناس معذبون في الدنيا على قدر همومهم بها.
وقال بشر بن الحارث الحافي: قال موسى للخضر: أوصني. فقال: يسر الله عليك طاعته.
وقد ورد في ذلك حديث مرفوع، رواه ابن عساكر من طريق ذكريا بن يحيى الوقاد، إلا أنه من الكذابين الكبار قال: قرىء على عبد الله بن وهب، وأنا أسمع: قال الثوري: قال مجالد: قال أبو الوداك: قال أبو سعيد الخدري: قال عمر بن الخطاب:
قال قال رسول الله ﷺ:
« قال أخي موسى يا رب - وذكر كلمته - فأتاه الخضر وهو فتى طيب الريح، حسن بياض الثياب، مشمرها، فقال: السلام عليك ورحمة الله يا موسى بن عمران، إن ربك يقرأ عليك السلام.
قال موسى: هو السلام وإليه السلام، والحمد لله رب العالمين، الذي لا أحصي نعمه، ولا أقدر على أداء شكره إلا بمعونته.
ثم قال موسى: أريد أن توصيني بوصية ينفعني الله بها بعدك.
فقال الخضر: يا طالب العلم إن القائل أقل ملامة من المستمع، فلا تمل جلساءك إذا حدثتهم، واعلم أن قلبك وعاء فانظر ماذا تحشو به وعاءك، واعزف عن الدنيا وانبذها وراءك، فإنها ليست لك بدار، ولا لك فيها محل قرار، وإنما جعلت بلغة للعباد والتزود منها ليوم المعاد، ورض نفسك على الصبر تخلص من الإثم.
يا موسى تفرغ للعلم إن كنت تريده، فإنما العلم لمن تفرغ له، ولا تكن مكثارًا للعلم مهذارًا، فإن كثرة المنطق تشين العلماء، وتبدي مساوي السخفاء، ولكن عليك بالاقتصاد، فإن ذلك من التوفيق والسداد، وأعرض عن الجهال وماطلهم، واحلم عن السفهاء، فإن ذلك فعل الحكماء، وزين العلماء.
إذا شتمك الجاهل فاسكت عنه حلمًا، وجانبه حزمًا، فإن ما بقي من جهله عليك وسبه إياك أكثر وأعظم، يا ابن عمران ولا ترى أنك أوتيت من العلم إلا قليلًا، فإن الاندلاث والتعسف من الاقتحام والتكلف.
يا ابن عمران: لا تفتحن بابًا لا تدري ما غلقه، ولا تغلقن بابًا لا تدري ما فتحه.
يا ابن عمران: من لا ينتهي من الدنيا نهمته، ولا تنقضي منها رغبته، ومن يحقر حاله، ويتهم الله فيما قضى له كيف يكون زاهدًا. هل يكف عن الشهوات من غلب عليه هواه؟ أو ينفعه طلب العلم والجهل قد حواه؟ لأن سعيه إلى آخرته وهو مقبل على دنياه.
يا موسى تعلم ما تعلمت لتعمل به، ولا تعلمه لتحدث به، فيكون عليك بواره، ولغيرك نوره.
يا موسى بن عمران: اجعل الزهد والتقوى لباسك، والعلم والذكر كلامك، واستكثر من الحسنات، فإنك مصيب السيئات، وزعزع بالخوف قلبك، فإن ذلك يرضى ربك، واعمل خيرًا فإنك لا بد عامل سوء، قد وعظت إن حفظت. قال: فتولى الخضر، وبقي موسى محزونًا مكروبًا يبكي.
لا يصح هذا الحديث، وأظنه من صنعة زكريا بن يحيى الوقاد المصري، كذبه غير واحد من الأئمة، والعجب أن الحافظ ابن عساكر سكت عنه.
وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: حدثنا سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، ثنا عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الحمصي، حدثنا محمد بن الفضل بن عمران الكندي، حدثنا بقية بن الوليد، عن محمد بن زياد، عن أبي أمامة أن رسول الله ﷺ قال لأصحابه:
« ألا أحدثكم عن الخضر؟ ».
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: « بينما هو ذات يوم يمشي في سوق بني إسرائيل أبصره رجل مكاتب.
فقال: تصدق عليّ بارك الله فيك.
فقال الخضر: آمنت بالله ما شاء الله من أمر يكون، ما عندي من شيء أعطيكه.
فقال المسكين: أسألك بوجه الله لما تصدقت علي، فإني نظرت إلى السماء في وجهك ورجوت البركة عندك.
فقال الخضر: آمنت بالله ما عندي من شيء أعطيكه إلا أن تأخذني فتبيعني.
فقال المسكين: وهل يستقيم هذا؟
قال: نعم الحق أقول لك، لقد سألتني بأمر عظيم، أما أني لا أخيبك بوجه ربي بعني.
قال: فقدمه إلى السوق فباعه بأربعمائة درهم، فمكث عند المشتري زمانًا لا يستعمله في شيء.
فقال له: إنك ابتعتني التماس خير عندي، فأوصني بعمل. قال: أكره أن أشق عليك إنك شيخ كبير ضعيف.
قال: ليس يشق علي.
قال: فانقل هذه الحجارة، وكان لا ينقلها دون ستة نفر في يوم، فخرج الرجل لبعض حاجاته ثم انصرف، وقد نقل الحجارة في ساعة.
فقال: أحسنت وأجملت وأطقت ما لم أرك تطيقه، ثم عرض للرجل سفر، فقال: إني أحسبك أمينًا فاخلفني في أهلي خلافة حسنة.
قال: فأوصني بعمل.
قال: إني أكره أن أشق عليك.
قال: ليس تشق علي.
قال: فاضرب من اللبن لبيتي، حتى أقدم عليك، فمضى الرجل لسفره فرجع، وقد شيد بناؤه فقال: أسألك بوجه الله ما سبيلك وما أمرك؟
فقال: سألتني بوجه الله، والسؤال بوجه الله أوقعني في العبودية، سأخبرك من أنا، أنا الخضر الذي سمعت به، سألني مسكين صدقة، فلم يكن عندي من شيء أعطيه، فسألني بوجه الله فأمكنته من رقبتي، فباعني وأخبرك أنه من سئل بوجه الله فرد سائله وهو بقدر، وقف يوم القيامة جلده لا لحم له ولا عظم، يتقعقع.
فقال الرجل: آمنت بالله، شققت عليك يا نبي الله، ولم أعلم.
فقال: لا بأس أحسنت وأبقيت.
فقال الرجل: بأبي وأمي يا نبي الله، احكم في أهلي ومالي بما أراك الله، أو أخيرك فأخلي سبيلك.
فقال: أحب أن تخلي سبيلي فأعبد ربي، فخلى سبيله.
فقال الخضر: الحمد لله الذي أوقعني في العبودية، ثم نجاني منها ».
وهذا حديث رفعه خطأ، والأشبه أن يكون موقوفًا وفي رجاله من لا يعرف، فالله أعلم.
وقد رواه ابن الجوزي في كتابه (عجالة المنتظر في شرح حال الخضر) من طريق عبدالوهاب بن الضحاك وهو متروك، عن بقية.
وقد روى الحافظ ابن عساكر بإسناده إلى السدي: أن الخضر وإلياس كانا أخوين.
وكان أبوهما ملكًا فقال إلياس لأبيه: إن أخي الخضر لا رغبة له في الملك، فلو أنك زوجته لعله يجيء منه ولد يكون الملك له.
فزوجه أبوه بامرأة حسناء بكر.
فقال لها الخضر: إنه لا حاجة لي في النساء فإن شئت أطلقت سراحك، وإن شئت أقمت معي تعبدين الله عز وجل وتكتمين علي سري؟
فقالت: نعم، وأقامت معه سنة، فلما مضت السنة دعاها الملك فقال: إنك شابة وابني شاب، فأين الولد؟
فقالت: إنما الولد من عند الله، إن شاء كان، وإن لم يشأ لم يكن. فأمره أبوه فطلقها وزوجه بأخرى ثيبا قد ولد لها، فلما زفت إليه قال لها كما قال للتي قبلها، فأجابت إلى الإقامة عنده.
فلما مضت السنة سألها الملك عن الولد فقالت: إن ابنك لا حاجة له بالنساء، فتطلبه أبوه فهرب، فأرسل وراءه فلم يقدروا عليه.
فيقال: إنه قتل المرأة الثانية لكونها أفشت سره، فهرب من أجل ذلك، وأطلق سراح الأخرى، فأقامت تعبد الله في بعض نواحي تلك المدينة، فمر بها رجل يومًا فسمعته يقول: بسم الله.
فقالت له: أنى لك هذا الاسم؟
فقال: إني من أصحاب الخضر، فتزوجته فولدت له أولادًا. ثم صار من أمرها أن صارت ماشطة بنت فرعون، فبينما هي يومًا تمشطها، إذ وقع المشط من يدها، فقالت: بسم الله.
فقالت ابنة فرعون: أبي؟
فقالت: لا، ربي وربك ورب أبيك، الله.
فأعلمت أباها، فأمر بنقرة من نحاس فأحميت، ثم أمر بها فألقيت فيه، فلما عاينت ذلك تقاعست أن تقع فيها، فقال لها ابن معها صغير: يا أمه اصبري فإنك على الحق فألقت نفسها في النار، فماتت رحمها الله.
وقد روى ابن عساكر، عن أبي داود الأعمى - نفيع وهو كذاب - وضاع عن أنس بن مالك، ومن طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف - وهو كذاب أيضًا - عن أبيه، عن جده: أن الخضر جاء ليلة فسمع النبي ﷺ وهو يدعو ويقول:
« اللهم أعني على ما ينجيني مما خوفتني، وارزقني شوق الصالحين إلى ما شوقتهم إليه ».
فبعث إليه رسول الله أنس بن مالك فسلم عليه، فرد عليه السلام وقال: قل له: إن الله فضلك على الأنبياء كما فضل شهر رمضان على سائر الشهور، وفضل أمتك على الأمم كما فضل يوم الجمعة على غيره.
الحديث، وهو مكذوب لا يصح سندًا ولا متنًا.
كيف لا يتمثل بين يدي رسول الله ﷺ ويجيء بنفسه مسلمًا ومتعلمًا. وهم يذكرون في حكاياتهم وما يسندونه عن بعض مشايخهم، أن الخضر يأتي إليهم ويسلم عليهم، ويعرف أسماءهم ومنازلهم ومحالهم، وهو مع هذا لا يعرف موسى بن عمران كليم الله، الذي اصطفاه الله في ذلك الزمان على من سواه، حتى يتعرف إليه بأنه موسى بني إسرائيل.
وقد قال الحافظ أبو الحسين بن المنادى بعد إيراده حديث أنس هذا: وأهل الحديث متفقون على أنه حديث منكر الإسناد، سقيم المتن، يتبين فيه أثر الصنعة.
فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي قائلًا: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو بكر بن بالويه، قال: حدثنا محمد بن بشر بن مطر، قال: حدثنا كامل بن طلحة، قال: حدثنا عباد بن عبدالصمد، عن أنس بن مالك قال:
لما قبض رسول الله ﷺ أحدق به أصحابه، فبكوا حوله، واجتمعوا فدخل رجل أشهب اللحية، جسيم صبيح، فتخطى رقابهم، فبكى، ثم التفت إلى أصحاب رسول الله ﷺ فقال:
إن في الله عزاء من كل مصيبة وعوضا من كل فائت، وخلفا من كل هالك، فإلى الله فأنيبوا وإليه فارغبوا، ونظر إليكم في البلاء، فانظروا فإن المصاب من لم يجبر وانصرف، فقال بعضهم لبعض: تعرفون الرجل؟ فقال أبو بكر وعلي
نعم: هو أخو رسول الله ﷺ الخضر عليه السلام.
وقد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا، عن كامل بن طلح به وفي متنه مخالفة لسياق البيهقي.
ثم قال البيهقي: عباد بن عبد الصمد ضعيف، وهذا منكر بمرة قلت: عباد بن عبد الصمد هذا هو: ابن معمر البصري روى عن أنس نسخة.
قال ابن حبان والعقيلي: أكثرها موضوع.
وقال البخاري: منكر الحديث.
وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث جدًا منكره.
وقال ابن عدي: عامة ما يرويه في فضائل علي وهو ضعيف غال في التشيع.
وقال الشافعي في (مسنده): أخبرنا القاسم بن عبد الله بن عمر، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين قال: لما توفي رسول الله ﷺ وجاءت التعزية سمعوا قائلا يقول: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب.
قال علي بن الحسين: أتدرون من هذا، هذا الخضر.
شيخ الشافعي القاسم العمري متروك.
قال أحمد بن حنبل: ويحيى بن معين يكذب.
زاد أحمد ويضع الحديث، ثم هو مرسل ومثله لا يعتمد عليه ههنا والله أعلم.
وقد روى من وجه آخر ضعيف عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن أبيه، عن علي ولا يصح. وقد روى عبد الله بن وهب عمن حدثه عن محمد بن عجلان، عن محمد بن المنكدر: أن عمر بن الخطاب بينما هو يصلي على جنازة إذ سمع هاتفًا وهو يقول: لا تسبقنا يرحمك الله، فانتظره حتى لحق بالصف، فذكر دعاءه للميت إن تعذبه فكثيرًا عصاك، وإن تغفر له ففقير إلى رحمتك.
ولما دفن قال: طوبى لك يا صاحب القبر، إن لم تكن عريفا أو جابيا أو خازنا أو كاتبا أو شرطيا.
فقال عمر: خذوا الرجل نسأله عن صلاته وكلامه عمن هو.
قال: فتوارى عنهم فنظروا فإذا أثر قدمه ذراع، فقال عمر: هذا والله الخضر الذي حدثنا عنه رسول الله ﷺ. وهذا الأثر فيه مبهم وفيه انقطاع ولا يصح مثله.
وروى الحافظ بن عساكر عن الثوري عن عبد الله بن محرز، عن يزيد بن الأصم، عن علي بن أبي طالب قال: دخلت الطواف في بعض الليل فإذا أنا برجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول: يا من لا يمنعه سمع من سمع، ويا من لا تغلطه المسائل، ويا من لا يبرمه إلحاح الملحين، ولا مسألة السائلين ارزقني برد عفوك وحلاوة رحمتك.
قال: فقلت: أعد علي ما قلت.
فقال لي: أو سمعته؟
قلت: نعم.
فقال لي: والذي نفس الخضر بيده.
قال: وكان هو الخضر لا يقولها عبد خلف صلاة مكتوبة إلا غفر الله له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر، وورق الشجر، وعدد النجوم لغفرها الله له.
وهذا ضعيف من جهة عبد الله بن المحرز فإنه متروك الحديث، ويزيد بن الأصم لم يدرك عليا؛ ومثل هذا لا يصح، والله أعلم.
وقد رواه أبو إسماعيل الترمذي: حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا صالح بن أبي الأسود، عن محفوظ بن عبد الله الحضرمي، عن محمد بن يحيى، قال: بينما علي بن أبي طالب يطوف بالكعبة إذا هو برجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول: يا من لا يشغله سمع عن سمع، ويا من لا يغلطه السائلون، ويا من لا يتبرم بإلحاح الملحين، ارزقني برد عفوك وحلاوة رحمتك.
قال: فقال له علي: يا عبد الله أعد دعاءك هذا.
قال: وقد سمعته؟
قال: نعم.
قال: فادع به في دبر كل صلاة، فوالذي نفس الخضر بيده لو كانت عليك من الذنوب عدد نجوم السماء، ومطرها، وحصباء الأرض، وترابها لغفر لك أسرع من طرفة عين. وهذا أيضا منقطع وفي إسناده من لا يعرف، والله أعلم.
وقد أورد ابن الجوزي من طريق أبي بكر بن أبي الدنيا: حدثنا يعقوب بن يوسف، حدثنا مالك بن إسماعيل فذكر نحوه.
ثم قال: وهذا إسناد مجهول منقطع وليس فيه ما يدل على أن الرجل الخضر.
وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر: أنبأنا أبو القاسم بن الحصين، أنبأنا أبو طالب محمد بن محمد، أنبأنا أبو إسحق المزكي، حدثنا محمد بن إسحق بن خزيمة، حدثنا محمد بن أحمد بن يزيد أملاه علينا بعبادان، أنبأنا عمرو بن عاصم، حدثنا الحسن بن زريق، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: ولا أعلمه إلا مرفوعا إلى النبي ﷺ، قال:
« يلتقي الخضر وإلياس كل عام في الموسم، فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه، ويتفرقان عن هؤلاء الكلمات: بسم الله ما شاء الله لا يسوق الخير إلا الله، ما شاء الله لا يصرف الشر إلا الله، ما شاء الله ما كان من نعمة فمن الله، ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله ».
وقال ابن عباس: من قالهن حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات، آمنه الله من الغرق والحق والسرق. قال: وأحسبه قال: ومن الشيطان، والسلطان، والحية، والعقرب.
قال الدارقطني في الأفراد: هذا حديث غريب من حديث ابن جريج لم يحدث به غير هذا الشيخ عنه، يعني الحسن بن زريق هذا.
وقد روى عنه محمد بن كثير العبدي أيضا، ومع هذا قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي: ليس بالمعروف.
وقال الحافظ أبو جعفر العقيلي: مجهول وحديثه غير محفوظ.
وقال أبو الحسن بن المنادي: هو حديث واه بالحسن بن زريق.
وقد روى ابن عساكر نحوه من طريق علي بن الحسن الجهضمي، وهو كذاب عن ضمرة بن حبيب المقدسي، عن أبيه، عن العلاء بن زياد القشيري، عن عبد الله بن الحسن عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب مرفوعًا قال: يجتمع كل يوم عرفة بعرفات جبريل، وميكائيل، وإسرافيل والخضر. وذكر حديثا طويلًا موضوعًا تركنا إيراده قصدا، ولله الحمد.
وروى ابن عساكر من طريق هشام بن خالد، عن الحسن بن يحيى الخشني، عن ابن أبي رواد، قال: إلياس والخضر يصومان شهر رمضان ببيت المقدس، ويحجان في كل سنة، ويشربان من ماء زمزم شربة واحدة تكفيهما إلى مثلها من قابل.
وروى ابن عساكر أن الوليد بن عبد الملك بن مروان، باني جامع دمشق، أحب أن يتعبد ليلة في المسجد، فأمر القوم أن يخلوه له ففعلوا، فلما كان من الليل جاء من باب الساعات فدخل الجامع، فإذا رجل قائم يصلي فيما بينه وبين باب الخضراء، فقال للقوم: ألم آمركم أن تخلوه؟
فقالوا: يا أمير المؤمنين، هذا الخضر يجيء كل ليلة يصلي ههنا.
وقال ابن عساكر أيضا: أنبأنا أبو القاسم بن إسماعيل بن أحمد، أنبأنا أبو بكر بن الطبري، أنبأنا أبو الحسين بن الفضل، أنبأنا عبد الله بن جعفر، حدثنا يعقوب - هو ابن سفيان الفسوي - حدثني محمد بن عبد العزيز حدثنا حمزة، عن السري بن يحيى، عن رباح بن عبيدة، قال: رأيت رجلا يماشي عمر بن عبد العزيز معتمدا على يديه، فقلت في نفسي:
إن هذا الرجل حافي، قال: فلما انصرف من الصلاة.
قلت: من الرجل الذي كان معتمدا على يدك آنفا؟
قال: وهل رأيته يا رباح؟
قلت: نعم.
قال: ما أحسبك إلا رجلًا صالحًا ذاك أخي الخضر بشرني أني سألي وأعدل.
قال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي: الرملي مجروح عند العلماء.
وقد قدح أبو الحسين بن المنادى في ضمرة والسرى ورباح، ثم أورد من طرق أخر، عن عمر بن عبد العزيز أنه اجتمع بالخضر وضعفها كلها.
وروى ابن عساكر أيضا: أنه اجتمع بإبراهيم التيمي، وبسفيان بن عيينة، وجماعة يطول ذكرهم.
وهذه الروايات والحكايات هي عمدة من ذهب إلى حياته إلى اليوم، وكل من الأحاديث المرفوعة ضعيفة جدًا لا يقوم بمثلها حجة في الدين، والحكايات لا يخلو أكثرها عن ضعف في الإسناد، وقصراها أنها صحيحة إلى من ليس بمعصوم من صحابي أو غيره، لأنه يجوز عليه الخطأ والله أعلم.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أبا سعيد قال: حدثنا رسول الله ﷺ يوما حديثًا طويلًا عن الدجال. وقال فيما يحدثنا:
« يأتي الدجال - وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة - فينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس، أو من خيرهم.
فيقول له: أشهد أنك أنت الدجال الذي حدثنا عنك رسول الله ﷺ بحديثه.
فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون في الأمر؟
فيقولون: لا.
فيقتله ثم يحييه، فيقول حين يحيى: والله ما كنت أشد بصيرة فيك مني الآن.
قال: فيريد قتله الثانية فلا يسلط عليه ».
قال معمر: بلغني أنه يجعل على حلقه صحيفة من نحاس، وبلغني أنه الخضر الذي يقتله الدجال ثم يحييه، وهذا الحديث مخرج في (الصحيحين) من حديث الزهري به.
وقال أبو اسحق إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه الراوي، عن مسلم: الصحيح أن يقال: إن هذا الرجل الخضر، وقول معمر، وغيره: بلغني ليس فيه حجة، وقد ورد في بعض ألفاظ الحديث، فيأتي بشاب ممتلىء شباب فيقتله، وقوله الذي حدثنا عنه رسول الله ﷺ لا يقتضي المشافهة بل يكفي التواتر.
وقد تصدى الشيخ أبو الفرج بن الجوزي - رحمه الله - في كتابه (عجالة المنتظر في شرح حالة الخضر) للأحاديث الواردة في ذلك من المرفوعات، فبين أنها موضوعات، ومن الآثار عن الصحابة والتابعين فمن بعدهم، فبين ضعف أسانيدها ببيان أحوالها، وجهالة رجالها، وقد أجاد في ذلك وأحسن الانتقاد.
وأما الذين ذهبوا إلى أنه قد مات، ومنهم: البخاري، وإبراهيم الحربي، وأبو الحسين بن المنادي، والشيخ أبو الفرج بن الجوزي، وقد انتصر لذلك، وألف فيه كتابًا سماه: (عجالة المنتظر في شرح حالة الخضر) فيحتج لهم بأشياء كثيرة، منها قوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ } [الأنبياء: 34] .
فالخضر إن كان بشرًا فقد دخل في هذا العموم لا محالة، ولا يجوز تخصيصه منه إلا بدليل صحيح. انتهى.
والأصل عدمه حتى يثبت.
ولم يذكر ما فيه دليل على التخصيص عن معصوم يجب قبوله. ومنها: أن الله تعالى قال: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } [آل عمران: 81] .
قال ابن عباس: ما بعث الله نبيًا إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه. وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق، لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به وينصرنه. ذكره البخاري عنه.
فالخضر إن كان نبيًا أو وليًا، فقد دخل في هذا الميثاق، فلو كان حيًا في زمن رسول الله ﷺ لكان أشرف أحواله، أن يكون بين يديه يؤمن بما أنزل الله عليه، وينصره أن يصل أحد من الأعداء إليه، لأنه إن كان وليًا فالصديق أفضل منه، وإن كان نبيًا فموسى أفضل منه.
وقد روى الإمام أحمد في (مسنده): حدثنا شريح بن النعمان، حدثنا هشيم، أنبأنا مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال:
« والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيًا ما وسعه إلا أن يتبعني ».
وهذا الذي يقطع به، ويعلم من الدين علم الضرورة.
وقد دلت عليه هذه الآية الكريمة أن الأنبياء كلهم لو فرض أنهم أحياء مكلفون في زمن رسول الله ﷺ، لكانوا كلهم أتباعًا له، وتحت أوامره، وفي عموم شرعه.
كما أنه صلوات الله وسلامه عليه، لما اجتمع معهم ليلة الإسراء، رفع فوقهم كلهم، ولما هبطوا معه إلى بيت المقدس، وحانت الصلاة، أمره جبريل عن أمر الله أن يؤمهم، فصلى بهم في محل ولايتهم، ودار إقامتهم، فدل على أنه الإمام الأعظم، والرسول الخاتم المبجل المقدم، صلوات الله وسلامه عليه، وعليهم أجمعين.
فإذا علم هذا - وهو معلوم عند كل مؤمن - علم أنه لو كان الخضر حيًا لكان من جملة أمة محمد ﷺ، وممن يقتدي بشرعه لا يسعه إلا ذلك.
هذا عيسى بن مريم عليه السلام، إذا نزل في آخر الزمان بحكم بهذه الشريعة المطهرة، لا يخرج منها ولا يحيد عنها، وهو أحد أولي العزم الخمسة المرسلين، وخاتم أنبياء بني إسرائيل، والمعلوم أن الخضر لم ينقل بسند صحيح ولا حسن تسكن النفس إليه، أنه اجتمع برسول الله ﷺ في يوم واحد، ولم يشهد معه قتالًا في مشهد من المشاهد.
وهذا يوم بدر يقول الصادق المصدوق، فيما دعا به لربه عز وجل، واستنصره، واستفتحه على من كفره:
« اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض ».
وتلك العصابة كان تحتها سادة المسلمين يومئذ، وسادة الملائكة حتى جبريل عليه السلام، كما قال حسان بن ثابت في قصيدة له في بيت يقال إنه أفخر بيت قالته العرب:
وثبير بدر إذ يرد وجوههم * جبريل تحت لوائنا ومحمد
فلو كان الخضر حيًا لكان وقوفه تحت هذه الراية أشرف مقاماته، وأعظم غزواته.
قال القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي: سئل بعض أصحابنا عن الخصر هل مات؟
فقال: نعم.
قال: وبلغني مثل هذا عن أبي طاهر بن الغباري.
قال: وكان يحتج بأنه لو كان حيًا لجاء إلى رسول الله ﷺ. نقله ابن الجوزي في العجالة.
فإن قيل: فهل يقال إنه كان حاضرًا في هذه المواطن كلها؟ ولكن لم يكن أحد يراه.
فالجواب: أن الأصل عدم هذا الاحتمال البعيد، الذي يلزم منه تخصيص العموميات بمجرد التوهمات.
ثم ما الحاصل له على هذا الاختفاء، وظهوره أعظم لأجره وأعلى في مرتبته، وأظهر لمعجزته؟
ثم لو كان باقيًا بعده لكان تبليغه عن رسول الله ﷺ الأحاديث النبوية، والآيات القرآنية، وإنكاره لما وقع من الأحاديث المكذوبة، والروايات المقلوبة، والآراء البدعية، والأهواء العصبية، وقتاله مع المسلمين في غزواتهم، وشهوده جمعه وجماعاتهم، ونفعه إياهم، ودفعه الضرر عنهم ممن سواهم، وتسديده العلماء والحكام، وتقريره الأدلة والأحكام، أفضل ما يقال عنه من كنونه في الأمصار، وجوبه الفيافي والأقطار.
واجتماعه بعباد لا يعرف أحوال كثير منهم، وجعله لهم كالنقيب المترجم عنهم. وهذا الذي ذكرناه لا يتوقف أحد فيه بعد التفهيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ومن ذلك ما ثبت في (الصحيحين) وغيرهما، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ، صلى ليلة العشاء ثم قال:
« أرأيتم ليلتكم هذه، فإنه إلى مائة سنة لا يبقى ممن هو على وجه الأرض اليوم أحد ».
وفي رواية: « عين تطرف » قال ابن عمر: فوهل الناس في مقالة رسول الله ﷺ هذه، وإنما أراد انخرام قرنه.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرزاق، أنبأنا معمر، عن الزهري، قال: أخبرني سالم بن عبد الله، وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، أن عبد الله بن عمر قال: صلى رسول الله ﷺ ذات ليلة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام، فقال:
« أرأيتم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن على ظهر الأرض أحد ». وأخرجه البخاري، ومسلم من حديث الزهري.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن سليمان التيمي، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ قبل موته بقليل، أو بشهر:
« ما من نفس منفوسة، أو ما منكم من نفس اليوم منفوسة يأتي عليها مائة سنة، وهي يومئذ حية ».
وقال أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي ﷺ أنه قال قبل أن يموت بشهر:
« يسألونني عن الساعة، وإنما علمها عند الله، أقسم بالله ما على الأرض نفس منفوسة اليوم، يأتي عليها مائة سنة ».
وهكذا رواه مسلم، من طريق أبي نضرة، وأبي الزبير، كل منهما عن جابر بن عبد الله به نحوه.
وقال الترمذي: حدثنا عباد، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ:
« ما على الأرض من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة ». وهذا أيضًا على شرط مسلم.
قال ابن الجوزي: فهذه الأحاديث الصحاح تقطع دابر دعوى حياة الخضر. قالوا: فالخضر إن لم يكن قد أدرك زمان رسول الله ﷺ، كما هو المظنون الذي يترقى في القوة إلى القطع، فلا إشكال.
وإن كان قد أدرك زمانه، فهذا الحديث يقتضي أنه لم يعش بعد مائة سنة، فيكون الآن مفقودًا لا موجودًا، لأنه داخل في هذا العموم، والأصل عدم المخصص له، حتى يثبت بدليل صحيح يجب قبوله، والله أعلم.
وقد حكى الحافظ أبو القاسم السهيلي في كتابه (التعريف والأعلام) عن البخاري، وشيخه أبي بكر ابن العربي أنه أدرك حياة النبي ﷺ، ولكن مات بعده، لهذا الحديث. وفي كون البخاري رحمه الله يقول بهذا، وأنه بقي إلى زمان النبي ﷺ نظر.
ورجح السهيلي بقاءه، وحكاه عن الأكثرين قال: وأما اجتماعهم مع النبي ﷺ وتعزيته لأهل البيت بعده، فمروى من طرق صحاح، ثم ذكر ما تقدم مما ضعفناه، ولم يورد أسانيدها، والله أعلم.