الرئيسيةبحث

اقتضاء الصراط المستقيم/2


وأما قوله فاستمتعوا بخلاقهم ففي تفسير عبد الرزاق عن معمر عن الحسن في قوله فاستمتعوا بخلاقهم قال بدينهم ويروى ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه

وروي عن أبي عباس بنصيبهم من الآخرة في الدنيا وقال آخرون بنصيبهم من الدنيا

قال أهل اللغة الخلاق هو النصيب والحظ كأنه ما خلق للانسان أي ما قدر له كما يقال القسم لما قسم له والنصيب لما نصب له أي أثبت ومنه قوله تعالى ماله في الآخرة من خلاق و وماله في الآخرة من خلاق أي من نصيب وقول النبي ﷺ إنما يلبس الحرير من لا خلاق له في الآخرة

والآية تعم ما ذكره العلماء جميعهم فإنه سبحانه قال كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فتلك القوة التي كانت فيهم كانوا يستطيعون أن يعموا بها للدنيا والآخرة وكذلك أموالهم وأولادهم وتلك القوة والأموال والأولاد هو الخلاق فاستمتعوا بقوتهم وأموالهم وأولادهم في الدنيا ونفس الأعمال التي عملوها بهذه القوة والأموال هي دينهم وتلك الأعمال لو أرادوا بها الله والدار الآخرة لكان لهم ثواب في الآخرة عليها فتمتعهم بها أخذ حظوظهم العاجلة بها فدخل في هذا من لم يعمل إلا لدنياه سواء كان جنس العمل من العبادات أو غيرها

ثم قال سبحانه فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا

وفي الذي وجهان أحسنهما أنها صفة المصدر أي كالخوض الذي خاضوه فيكون العائد محذوفا كما في قوله أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وهو كثير فاش في اللغة

والثاني أنه صفة الفاعل أي كالفريق أو الصنف أو الجيل الذي خاضوه كما لو قيل كالذين خاضوا

وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض لأن فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد الباطل والتكلم به أو يقع في العمل بخلاف الاعتقاد الحق والأول هو البدع ونحوها والثاني هو فسق الأعمال ونحوها

والأول من جهة الشبهات والثاني من جهة الشهوات

ولهذا كان السلف يقولون احذروا من الناس صنفين صاحب هوى قد فتنه هواه وصاحب دنيا أعمته دنياه

وكانوا يقولون احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون فهذا يشبه المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ولا يتبعونه وهذا يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم

ووصف بعضهم أحمد بن حنبل فقال رحمه الله عن الدنيا ما كان أصبره وبالماضين ما كان أشبهه أتته البدع فنفاها والدنيا فأباها

وقد وصف الله أئمة المتقين فقال وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون فبالصبر تترك الشهوات وباليقين تدفع الشبهات

ومنه قوله في سورة العصر وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وقوله واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار

ومنه الحديث المرسل عن النبي ﷺ إن الله يحب البصير الناقد عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات

فقوله سبحانه فاستمتعتم بخلاقكم إشارة إلى اتباع الشهوات وهو داء العصاة

وقوله وخضتم كالذي خاضوا إشارة إلى اتباع الشبهات وهو داء المبتدعة وأهل الأهواء والخصومات وكثيرا ما يجتمعان فقل من تجد في اعتقاده فسادا إلا وهو ظاهر في عمله وقد دلت الآية على أن الذين كانوا من قبل استمتعوا وخاضوا وهؤلاء فعلوا مثل أولئك

ثم قوله فاستمتعتم و خضتم خبر عن وقوع ذلك في الماضي وهو ذم لمن يفعله إلى يوم القيامة كسائر ما أخبر الله به عن أعمال وصفات الكفار والمنافقين عند مبعث عبده ورسوله محمد ﷺ فإنه ذم لمن يكون حاله حالهم إلى يوم القيامة

وقد يكون خبرا عن أمر دائم مستمر لأنه وإن كان بضمير الخطاب فهو كالضمير في نحو قوله اعبدوا واغسلوا واركعوا واسجدوا وآمنوا كما أن جميع الموجودين في وقت النبي ﷺ وبعده إلى يوم القيامة مخاطبون بهذا الكلام لأنه كلام الله وإنما الرسول مبلغ عن الله

وهذا مذهب عامة المسلمين وإن كان بعض من تكلم في أصول الفقه اعتمد أن ضمير الخطاب إنما يتناول الموجودين حين تبليغ الرسول وأن سائر الموجودين دخلوا إما بما علمناه بالاضطرار من استواء الحكم كما لو خاطب النبي ﷺ واحدا من الأمة وإما بالسنة وإما بالاجماع وإما بالقياس فيكون كل من حصل منه هذا الاستمتاع والخوض مخاطبا بقوله فاستمتعتم وخضتم وهذا أحسن القولين

وقد توعد الله سبحانه هؤلاء المستمتعين الخائضين بقوله أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون

وهذا هو المقصود هنا من هذه الآية وهو أن الله قد أخبر أن في هذه الأمة من استمتع بخلاقه كما استمتعت الأمم قبلهم وخاض كالذي خاضوا وذمهم على ذلك وتوعدهم على ذلك

ثم حضهم على الاعتبار بمن قبلهم فقال ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود الآية

وقد قدمنا أن طاعة الله ورسوله في وصف المؤمنين بإزاء ما وصف به هؤلاء من مشابهة القرون المتقدمة وذم من يفعل ذلك وأمره بجهاد الكفار والمنافقين بعد هذه الآية دليل على جهاد هؤلاء المستمتعين الخائضين

ثم هذا الذي دل عليه الكتاب مشابهة بعض هذه الأمة للقرون الماضية في الدنيا وفي الدين وذم من يفعل ذلك دلت عليه أيضا سنة رسول الله ﷺ وتأول هذه الآية على ذلك أصحابه رضي الله عنهم

فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لتأخذن كما أخذت الأمم من قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع حتى لو أن أحدا من أولئك دخل حجر ضب لدخلتموه قال أبو هريرة اقرؤا إن شئتم كالذين من قبلكمكانوا أشد منكم قوة الآية قالوا يا رسول الله كما صنعت فارس والروم وأهل الكتاب قال فهل الناس إلا هم

وعن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية أنه قال ما أشبه الليلة بالبارحة هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا

وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال المنافقون الذين منكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله ﷺ قلنا وكيف قال أولئك كانوا يخفون نفاقهم وهؤلاء أعلنوه

وأما السنة فجاءت بالإخبار بمشابهتهم في الدنيا وذم ذلك والنهي عن ذلك وكذلك في الدين

فأما الأول الذي هو الاستمتاع بالخلاق ففي الصحيحين عن عمرو بن عوف أن رسول الله ﷺ بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها وكان رسول الله ﷺ هو صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فواوا صلاة الفجر مع رسول الله ﷺ فلما صلى رسول الله ﷺ انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله ﷺ حين رآهم ثم قال أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين فقالوا أجل يا رسول الله فقال أبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم

فقد أخبر النبي ﷺ أنه لا يخاف على أمته فتنة الفقر وإنما يخاف بسط الدنيا وتنافسها وإهلاكها وهذا هو الاستمتاع بالخلاق المذكور في الآية

وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي ﷺ خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر فقال إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح الأرض وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها وفي رواية ولكني أخشى عليكم أن تنافسوا فيها وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم قال عقبة فكان آخر ما رأيت رسول الله ﷺ على المنبر

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله ﷺ قال إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم قال عبد الرحمن بن عوف نكون كما أمرنا الله عز و جل فقال رسول الله ﷺ تنافسون ثم تحاسدون ثم تدابرون أو تباغضون أو غير ذلك ثم تنطلقون إلى مساكن المهاجرين فتحملوا بعضهم على رقاب بعض

وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال جلس رسول الله ﷺ على المنبر وجلسنا حوله فقال إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح من زهرة الدنيا وزينتها فقال رجل أو يأتي الخير بالشر يا رسول الله فسكت عنه رسول الله ﷺ فقيل ما شأنك تكلم رسول الله ولا يكلمك وقال ورأينا أنه ينزل عليه فأفاق يمسح عنه الرحضاء وقال اين هذا السائل وكأنه حمده فقال إنه لا يأتي الخبر بالشر وفي رواية فقال أين السائل آنفا أو خير هو ثلاثا إن الخير لا يأتي إلا بالخير وإن مما

ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم إلا آكلة الخضر فإنها أكلت حتى إذا امتدت خاصرتها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت وإن هذا المال خضر حلو ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل أو كما قال رسول الله ﷺ وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع ويكون عليه شاهدا يوم القيامة

وروى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله سبحانه مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء

فحذر رسول الله ﷺ فتنة النساء معللا بأن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء

وهذا نظير ما سنذكره من حديث معاوية عنه ﷺ أنه قال إنما هلك بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم يعني وصل الشعر

وكثير من مشابهات أهل الكتاب في أعيادهم وغيرها إنما يدعو إليها النساء

وأما الخوض كالذي خاضوا فروينا من حديث الثوري وغيره عن عبد الرحمن بن زياد بن أنغم الأفريقي عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله ﷺ ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إذا كان منهم من أتى أمة علانية كان من أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا من هي يا رسول الله قال ما أنا عليه اليوم وأصحابي رواه أبو عيسى الترمذي وقال هذا حديث غريب مفسر لا نعرفه إلا من هذا الوجه

وهذا الافتراق مشهور عن النبي ﷺ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وسعد ومعاوية وعمرو بن عوف وغيرهم وإنما ذكرت حديث ابن عمرو لما فيه من المشابهة

فعن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قال تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح

وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال قال رسول الله ﷺ إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة يعني الأهواء كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة وقال إنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به محمد ﷺ لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به

هذا حديث محفوظ من حديث صفوان بن عمرو عن الأزهر بن عبد الله الحرازي وعن أبي عامر عبد الله بن يحيى عن معاوية ورواه عنه غير واحد منهم أبو اليمان وبقية وأبو المغيرة رواه أحمد وأبو داود في سننه وقد روى ابن ماجه هذا المعنى من حديث صفوان بن عمرو عن راشد بن سعد عن عوف بن مالك الأشجعي ويروى من وجوه أخر

فقد أخبر النبي ﷺ بافتراق أمته على ثلاث وسبعين فرقة واثنتان وسبعون لا ريب أنهم الذين خاضوا كخوض الذين من قبلهم

ثم هذا الاختلاف الذي أخبر به النبي ﷺ إما في الدين فقط وإما في الدين والدنيا ثم قد يؤول إلى الدنيا وقد يكون الاختلاف في الدنيا فقط

وهذا الاختلاف الذي دلت عليه هذه الأحاديث هو مما نهى الله عنه في قوله سبحانه ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم وقوله إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء وقوله وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله

وهو موافق لما رواه مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه أقبل مع رسول الله ﷺ في طائفة من أصحابه من العالية حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلا ثم انصرف إلينا فقال سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها

وروى أيضا في صحيحه عن ثوبان رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما روى منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا ورواه البرقاني في صحيحه وزاد وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى يعبد فئام من أمتي الأوثان وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى

وهذا المعنى محفوظ عن النبي ﷺ من غير وجه يشير إلى أن الفرقة والاختلاف لا بد من وقوعهما في الأمة وكان يحذر أمته منه لينجو من الوقوع فيه من شاء الله له السلامة كما روى النزال بن سبرة عن عبد الله بن مسعود قال سمعت رجلا قرأ آية سمعت النبي ﷺ يقرأ خلافها فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي ﷺ فذكرت ذلك له فعرفت في وجهه الكراهية وقال كلاكما محسن ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا رواه مسلم

نهى النبي ﷺ عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين مامع الآخر من الحق لأن كلا القارئين كان محسنا فيما قرأه وعلل ذلك بأن من كان قبلنا اختلفوا فهلكوا ولهذا قال حذيفة لعثمان أدرك هذه الأمة لا تختلف في الكتاب كما اختلفت فيه الأمم قبلهم لما رأى أهل الشأم وأهل العراق يختلفون في حروف القرآن الاختلاف الذي نهى عنه رسول الله ﷺ

فأفاد ذلك شيئين

أحدهما تحريم الاختلاف في مثل هذا

والثاني الاعتبار بمن كان قبلنا والحذر من مشابهتهم

واعلم أن أكثر الاختلاف بين الأمة الذي يورث الأهواء تجده من هذا الضرب وهو أن يكون كل واحد من المختلفين مصيبا فيما يثبته أو في بعضه مخطئا في نفي ما عليه الآخر كما أن القارئين كل منهما كان مصيبا في القراءة بالحرف الذي علمه مخطئا في نفي حرف غيره فإن أكثر الجهل إنما يقع في النفي الذي هو الجحود والتكذيب لا في الإثبات لأن إحاطة الإنسان بما يثبته أيسر من إحاطته بما ينفيه ولهذا نهيت هذه الأمة أن تضرب آيات الله بعضها ببعض لأن مضمون الضرب الإيمان بإحدى الآيتين والكفر بالأخرى إذا اعتقد أن بينهما تضادا إذ الضدان لا يجتمعان

ومثل ذلك ما رواه مسلم أيضا عن عبد الله بن رباح الأنصاري أن عبد الله ابن عمرو قال هجرت إلى رسول الله ﷺ يوما فسمعت أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج علينا رسول الله ﷺ يعرف في وجهه الغضب فقال إنما هلك من كان قبلكم من الأمم باختلافهم في الكتاب

فعلل غضبه ﷺ بأن الاختلاف في الكتاب هو كان سبب هلاك من قبلنا وذلك يوجب مجانبة طريقهم في هذا عينا وفي غيره نوعا

والاختلاف على ما ذكره الله في القرآن قسمان

أحدهما أنه يذم الطائفتين جميعا كما في قوله ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك فجعل أهل الرحمة مستثنين من الاختلاف وكذلك قوله ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد وكذلك قوله وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم وقوله ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وقوله إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء وكذلك وصف اختلاف النصارى بقوله فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ووصف اختلاف اليهود بقوله وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله وقال فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون

وكذلك النبي ﷺ لما وصف أن الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة قال كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة وفي الرواية الأخرى من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي

فبين أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين إلا فرقة واحدة وهم أهل السنة والجماعة

وهذا الاختلاف المذموم من الطرفين يكون سببه تارة فساد النية لما في النفوس من البغي والحسد وإرادة العلو في الأرض بالفساد ونحو ذلك فيجب لذلك ذم قول غيره أو فعله أو غلبته ليتميز عليه أو يحب قول من يوافقه في نسب أو مذهب أو بلد أو صداقة ونحو ذلك لما في قيام قوله من حصول الشرف والرئاسة له وما أكثر هذا في بني آدم وهذا ظلم

ويكون سببه تارة أخرى جهل المختلفين بحقيقة الأمر الذي يتنازعان فيه أو الجهل بالدليل الذي يرشد به أحدهما الآخر أو جهل أحدهما بما مع الآخر من الحق في الحكم أو في الدليل وإن كان عالما بما مع نفسه من الحق حكما ودليلا

والجهل والظلم هما أصل كل شر كما قال سبحانه وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا

أما أنواع الاختلاف فهي في الأصل قسمان اختلاف تنوع واختلاف تضاد

واختلاف التنوع على وجوه منه ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقا مشروعا كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة حتى زجرهم رسول الله ﷺ عن الاختلاف وقال كلاكما محسن

ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان والإقامة والاستفتاح

والتشهدات وصلاة الخوف وتكبيرات العيد وتكبيرات الجنازة إلى غير ذلك مما شرع جميعه وإن كان قد يقال إن بعض أنواعه أفضل

ثم نجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف ما أوجب اقتتال طوائف منهم كاختلافهم على شفع الإقامة وإيثارها ونحو ذلك وهذا عين المحرم ومن لم يبلغ هذا المبلغ فتجد كثيرا منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع والإعراض عن الآخر أو النهي عنه ما دخل به فيما نهى عنه النبي ﷺ

ومنه ما يكون كل من القولين هو في الواقع في معنى قول الآخر لكن العبارتان مختلفتان كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود والتعريفات وصيغ الأدلة والتعبير عن المسميات وتقسيم الأحكام وغير ذلك ثم الجهل أو الظلم هو الذي يحمل على حمد إحدى المقالتين وذم الأخرى

ومنه ما يكون المعنيان غيرين لكن لا يتنافيان فهذا قول صحيح وذلك قول صحيح وإن لم يكن معنى أحدهما هو معنى الآخر وهذا كثير في المنازعات جدا

ومنه ما يكون طريقتان مشروعتان ولكن قد سلك رجل أو قوم هذه الطريقة وآخرون قد سلكوا الأخرى وكلاهما حسن في الدين ثم الجهل أو الظلم يحمل على ذم أحدهما أو تفضيله بلا قصد صالح أو بلا علم أو بلا نية

وأما اختلاف التضاد فهو القولان المتنافيان إما في الأصول وإما في الفروع عند الجمهور الذين يقولون المصيب واحد وإلا فمن قال كل مجتهد مصيب فعنده هو من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد

فهذا الخطب فيه أشد لأن القولين يتنافيان لكن نجد كثيرا من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حق ما أو معه دليل يقتضي حقا ما فيرد الحق في هذا الأصل كله حتى يبقى هذا مبطلا في البعض كما كان الأول مبطلا في الأصل كما رأيته لكثير من أهل السنة في مسائل القدر والصفات والصحابة

وغيرهم وأما أهل البدعة فالأمر فيهم ظاهر وكما رأيته لكثير من الفقهاء أو لأكثر المتأخرين في مسائل الفقه وكذلك رأيت منه كثيرا بين بعض المتفقهة وبعض المتصوفة وبين فرق المتصوفة ونظائره كثيرة

ومن جعل الله له هداية ونورا رأى من هذا ما يتبين له به منفعة ما جاء في الكتاب والسنة من النهي عن هذا وأشباهه وإن كانت القلوب الصحيحه تنكر هذا ابتداء لكن نور على نور ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور

وهذا القسم الذي سميناه اختلاف التنوع كل واحد من المختلفين مصيب فيه بلا تردد لكن الذم واقع على من بغى على الآخر فيه وقد دل القرآن على حمد كل واحد من الطائفتين في مثل هذا إذا لم يحصل من أحداهما بغي كما في قوله ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وقد كان الصحابة في حصار بني النضير اختلفوا في قطع الأشجار والنخيل فقطع قوم وترك آخرون وكما في قوله وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما فخص سليمان بالفهم وأثنى عليهما بالعلم والحكم

وكما في إقرار النبي ﷺ يوم بني قريظة وقد كان أمر المنادي ينادي لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة من صلى العصر في وقتها ومن أخرها إلى أن وصل إلى بني قريظة وكما في قوله ﷺ إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد ولم يصب فله أجر ونظائره كثيرة

وإذا جعلت هذا قسما آخر صار الاختلاف ثلاثة اقسام

وأما القسم الثاني من الاختلاف المذكور في كتاب الله فهو ما حمد فيه إحدى الطائفتين وهم المؤمنون وذم فيه الأخرى كما في قوله تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا

فقوله ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر حمد لإحدى الطائفتين وهم المؤمنون وذم للآخرى

وكذلك قوله هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات الآية مع ما ثبت في الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه أنها نزلت في المقتتلين يوم بدر علي وحمزة وعبيدة بن الحرث والذين بارزوهم من قريش وهم عتبة وشيبة والوليد بن عتبة

وأكثر الاختلاف الذي يؤول إلى الأهواء بين الأمة من القسم الأول وكذلك آل إلى سفك الدماء واستباحة الأموال والعداوة والبغضاء لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق ولا تنصفها بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل والأخرى كذلك

وكذلك جعل الله مصدر الإختلاف البغي في قوله وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم لأن البغي مجاوزة الحد وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرة لهذه الأمة

وقريب من هذا الباب ما خرجاه في الصحيحين عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم

فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به معللا ذلك بأن سبب هلاك الأولين

إنما كان لكثرة السؤال ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية كما أخبرنا الله عن بني إسرائيل من مخالفتهم أمر موسى في الجهاد وغيره وفي كثرة سؤالهم عن صفات البقرة التي أمرهم بذبحها

لكن هذا الاختلاف على الأنبياء هو والله أعلم مخالفة للأنبياء كما يقال اختلف الناس على الأمير إذا خالفوه

والاختلاف الأول مخالفة بعضهم بعضا وإن كان الأمران متلازمين أو أن الاختلاف على الأنبياء هو الاختلاف فيما بينهم فإن اللفظ يحتمله

ثم الاختلاف كله قد يكون في التنزيل والحروف كما في حديث ابن مسعود وقد يكون في التأويل كما يحتمله حديث عبد الله بن عمرو فإن حديث عمرو ابن شعيب يدل على ذلك إن كانت هذه القصة

قال أحمد في المسند حدثنا إسماعيل حدثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن نفرا كانوا جلوسا بباب النبي ﷺ فقال بعضهم ألم يقل الله كذا وكذا وقال بعضهم ألم يقل الله كذا وكذا فسمع ذلك رسول الله ﷺ فخرج فكأنما فقيء في وجهه حب الرمان فقال أبهذا أمرتم أو بهذا بعثتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض إنما ضلت الأمم قبلكم بمثل هذا إنكم لستم مما ههنا في شيء انظروا الذي أمرتكم به فاعملوا به والذي نهيتكم عنه فانتهواعنه

وقال حدثنا يونس حدثنا حماد بن سلمة عن حميد ومطر الوراق وداود ابن أبي هند أن رسول الله ﷺ خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر فذكر الحديث

وقال أحمد حدثنا أنس بن عياض حدثنا أبو حازم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال لقد جلست أنا وأخي مجلسا ما أحب أن لي به حمر النعم أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من أصحاب رسول الله ﷺ جلوس

عند باب من أبوابه فكرهنا أن نفرق بينهم فجلسنا حجرة إذ ذكروا آية من القرآن فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم فخرج رسول الله ﷺ مغضبا قد احمر وجهه يرميهم بالتراب ويقول مهلا يا قوم بهذا أهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتب بعضها ببعض إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا وإنما نزل يصدق بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه

وقال أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب قال فقال لهم ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض بهذا هلك من كان قبلكم قال فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم أشهده ما غبطت نفسي بذلك المجلس إذا لم أشهده

هذا حديث محفوظ عن عمرو بن شعيب رواه عنه الناس ورواه ابن ماجه في سننه من حديث أبي معاوية كما سقناه

وقد كتب أحمد في رسالته إلى المتوكل هذا الحديث وجعل يقول لهم في مناظرته يوم الدار إنا قد نهينا أن نضرب كتاب الله بعضه ببعض

وهذا لعلمه رحمه الله بما في خلاف هذا الحديث من الفساد العظيم

وقد روى هذا المعنى الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال حديث حسن غريب قال وفي الباب عن عمر وعائشة وأنس

وهذا باب واسع لم نقصد له ههنا وإنما الغرض التنبيه على ما يخاف على الأمة من موافقة الأمم قبلها إذ الأمر في هذا الحديث كما قاله رسول الله ﷺ أصل هلاك بني آدم إنما كان التنازع في القدر وعنه نشأ مذهب المجوس القائلين بالأصلين النور والظلمة ومذهب الصابئة وغيرهم القائلين بقدم العالم ومذاهب كثير من مجوس هذه الأمة وغيرهم ومذاهب كثير ممن عطل الشرائع

فإن القوم تنازعوا في علة فعل الله سبحانه وتعالى لما فعله فأرادوا أن يثبتوا شيئا يستقيم لهم به تعليل فعله بمقتضى قياسه سبحانه على المخلوقات فوقعوا في غاية الضلال إما بأن زعموا أن فعله ما زال لازما له وإما بأن زعموا أن الفاعل اثنان وإما بأن زعموا بأنه يفعل البعض والخلق يفعلون البعض وإما بأن ما فعله لم يأمر بخلافه وما أمر به لم يقدر خلافه وذلك حين عارضوا بين فعله وأمره حتى أقر فريق بالقدر وكذبوا بالأمر وأقر فريق بالأمر وكذبوا بالقدر حين اعتقدوا جميعا أن اجتماعهما محال وكل منهما مبطل بالتكذيب بما صدق به الآخر

وأكثر ما يكون ذلك لوقوع المنازعة في الشيء قبل إحكامه وجمع حواشيه وأطرافه ولهذا قال ما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه

والغرض من ذكر هذه الأحاديث هو التنبيه من الحديث والسنة على مثل ما في القرآن من قوله تعالى وخضتم كالذي خاضوا

ومن ذلك ما روى الزهري عن سنان بن أبي سنان الدؤلي عن أبي واقد الليثي أنه قال خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى حنين ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينيطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله ﷺ الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم رواه مالك والنسائي والترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح ولفظه لتركبن سنة من كان قبلكم

وقد قدمت ما خرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن

وما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال لتأخذن أمتي مأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا فارس والروم قال فمن الناس إلا أولئك

وهذا كله خرج منه مخرج الخبر عن وقوع ذلك والذم لمن يفعله كما كان يخبر عما يفعله الناس بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمات

فعلم أن مشابهة هذه الأمة اليهود والنصارى وفارس والروم مما ذمه الله ورسوله وهو المطلوب

ولا يقال فإذا كان الكتاب والسنة قد دلا على وقوع ذلك فما فائدة النهي عنه لأن الكتاب والسنة أيضا قد دلا على أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة متمسكة بالحق الذي بعث الله به محمدا ﷺ إلى قيام الساعة وأنها لا تجتمع على ضلالة ففي النهي عن ذلك تكثير لهذه الطائفة المنصورة وتثبيتها وزيادة إيمانها فنسأل الله المجيب أن يجعلنا منها

وأيضا لو فرض أن الناس لا يترك أحد منهم هذه المشابهة المنكرة لكان في العلم بها معرفة القبيح والإيمان بذلك فإن نفس العلم والإيمان بما كرهه الله خير وإن لم يعمل به بل فائدة العلم والإيمان أعظم من فائدة مجرد العمل الذي لم يقترن به علم فإن الإنسان إذا عرف المعروف وأنكر المنكر كان خيرا من أن يكون ميت القلب لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا

ألا ترى أن النبي ﷺ قال من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان رواه مسلم

وفي لفظ ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل

وإنكار القلب هو الإيمان بأن هذا منكر وكراهته لذلك

فإذا حصل هذا كان في القلب إيمان وإذا فقد القلب معرفة هذا المعروف وإنكار هذا المنكر ارتفع هذا الإيمان من القلب

وأيضا فقد يستغفر الرجل من الذنب مع إصراره عليه أو يأتي بحسنات تمحوه أو تمحو بعضه وقد تقلل منه وقد تضعف همته في طلبه إذا علم أنه منكر

ثم لو فرض أنا علمنا أن الناس لا يتركون المنكر ولا يعترفون بأنه منكر لم يكن ذلك مانعا من إبلاغ الرسالة وبيان العلم بل ذلك لا يسقط وجوب الإبلاغ ولا وجوب الأمر والنهي في إحدى الروايتين عن أحمد وقول كثير من أهل العلم على أن هذا ليس موضع استقصاء ذلك ولله الحمد على ما أخبر به النبي ﷺ من أنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر الله

وليس هذا الكلام من خصائص هذه المسألة بل هو وارد في كل منكر قد أخبر الصادق بوقوعه

ومما يدل من القرآن على النهي عن مشابهة الكفار قوله سبحانه يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم قال قتادة وغيره كانت اليهود تقوله استهزاء فكره الله للمؤمنين أن يقولوا مثل قولهم وقال أيضا كانت اليهود تقول للنبي ﷺ راعنا سمعك يستهزؤن بذلك وكانت في اليهود قبيحة

وروى أحمد عن عطية العوفي قال كان يأتي ناس من اليهود فيقولون راعنا سمعك حتى قالها ناس من المسلمين فكره الله لهم ما قالت اليهود

وقال عطاء كانت لغة في الأنصار في الجاهلية وقال أبو العالية إن مشركي العرب كانوا إذا حدث بعضهم بعضا يقول أحدهم لصاحبه راعني سمعك فنهوا عن ذلك وكذلك قال الضحاك

فهذا كله يبين أن هذه الكلمة نهي المسلمون عن قولها لأن اليهود كانوا يقولونها وإن كانت من اليهود قبيحة ومن المسلمين لم تكن قبيحة لما كانت مشابهتهم فيها من مشابهة الكفار وطريقهم إلى بلوغ غرضهم

وقال سبحانه إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون

ومعلوم أن الكفار فرقوا دينهم وكانوا شيعا كما قال سبحانه ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وقال وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وقال ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وقال عن اليهود وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة

وقد قال تعالى لنبيه عليه الصلاة و السلام لست منهم في شيء وذلك يقتضي تبرؤه منهم في جميع الأشياء ومن تابع غيره في بعض أموره فهو منه في ذلك الأمر لأن قول القائل أنا من هذا وهذا مني أي أنا من نوعه وهو من نوعي لأن الشخصين لا يتحدان إلا بالنوع كما في قوله تعالى بعضكم من بعض وقوله عليه الصلاة و السلام لعلي أنت مني وأنا منك

فقول القائل لست من هذا في شيء أي لست مشاركا له في شيء بل أنا متبرئ من جميع أموره

وإذا كان الله قد برأ رسوله ﷺ من جميع أمورهم فمن كان

متبعا للرسول ﷺ حقيقة كان متبرئا منهم كتبرئه ﷺ منهم ومن كان موافقا لهم كان مخالفا للرسول بقدر موافقته لهم

فإن الشخصين المختلفين من كل وجه في دينهما كلما شابهت أحدهما خالفت الآخر

وقال سبحانه وتعالى لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين

وقد روى مسلم في صحيحه عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال لما نزلت على رسول الله ﷺ لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآيات اشتد ذلك على أصحاب رسول الله ﷺ فأتوا رسول الله ﷺ ثم بركوا على الركب فقالوا أي رسول الله كلفنا ما نطيق من الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد نزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول الله ﷺ أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى في إثرها آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال نعم ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا قال نعم ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به قال نعم واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين قال نعم

فحذرهم النبي ﷺ أن يتلقوا أمر الله بما تلقاه به أهل الكتابين وأمرهم بالسمع والطاعة فشكر الله لهم ذلك حتى رفع الله عنهم الآصار والأغلال التي كانت على من كان قبلهم

وقال الله في صفته ﷺ ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فأخبر الله سبحانه أن رسوله عليه الصلاة و السلام يضع الآصار والأغلال التي كانت على أهل الكتاب

ولما دعا المؤمنون بذلك أخبرهم الرسول أن الله قد استجاب دعاءهم

وهذا وإن كان رفعا للإيجاب والتحريم فإن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته قد صح ذلك عن النبي ﷺ وكذلك كان النبي عليه الصلاة و السلام يكره مشابهة أهل الكتابين في هذه الآصار والأغلال وزجر أصحابه عن التبتل وقال لا رهبانية في الإسلام وأمر بالسحور ونهى عن المواصلة وقال فيما يعيب أهل الكتابين ويحذرنا عن موافقتهم فتلك بقاياهم في الصوامع وهذا باب واسع جدا

وقال سبحانه وتعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم

وقال سبحانه ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم يعيب بذلك المنافقين الذين تولوا اليهود إلى قوله

لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو ابناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه إلى قوله أولئك حزب الله الا أن حزب الله هم المفلحون وقال تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياه بعض إلى قوله والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلى قوله والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم الآيات

فعقد الله سبحانه الموالاة بين المهاجرين والأنصار وبين من آمن من بعدهم وهاجر وجاهد إلى يوم القيامة والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه والجهاد باق إلى يوم القيامة

فكل شخص يمكن أن يقوم به هذان الوصفان إذ كان كثير من النفوس اللينة يميل إلى هجر السيئات دون الجهاد والنفوس القوية قد تميل إلى الجهاد دون هجر السيئات

وإنما عقد الله الموالاة لمن جمع بين الوصفين وهم أمة محمد ﷺ الذين آمنوا به إيمانا صادقا

وقال إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ونظائر هذا في غير موضع من القرآن يأمر سبحانه بموالاة المؤمنين حقا الذين هم حزبه وجنده ويخبر أن هؤلاء لا يوالون الكافرين ولا يوادونهم

والموالاة والموادة وإن كانت متعلقة بالقلب لكن المخالفة في الظاهر أهون على المؤمن من مقاطعة الكافرين ومباينتهم

ومشاركتهم في الظاهر إن لم تكن ذريعة أو سببا قريبا أو بعيدا إلى نوع ما من الموالاة والموادة فليس فيها مصلحة المقاطعة والمباينة مع أنها تدعو إلى نوع ما من المواصلة كما توجبه الطبيعة وتدل عليه العادة ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يستدلون بهذه الآيات على ترك الاستعانة بهم في الولايات

فروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قلت لعمر رضي الله عنه إن لي كاتبا نصرانيا قال مالك قاتلك الله أما سمعت الله يقول يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ألا اتخذت حنيفا قال قلت يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه قال لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله

ولما دل عليه معنى الكتاب وجاءت به سنة رسول الله ﷺ وسنة خلفائه الراشدين التي أجمع الفقهاء عليها بمخالفتهم وترك التشبه بهم

ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم أمر بمخالفتهم وذلك يقتضي أن يكون جنس مخالفتهم أمرا مقصودا للشارع لأنه إن كان الأمر بجنس المخالفة حصل المقصود وإن كان الأمر بالمخالفة في تغيير الشعر فقط فهو لأجل ما فيه من المخالفة فالمخالفة إما علة مفردة أو علة أخرى أو بعض علة