وعلى جميع التقديرات تكون مأمورا بها مطلوبة للشارع لأن الفعل المأمور به إذا عبر عنه بلفظ مشتق من معنى أعم من ذلك الفعل فلا بد أن يكون ما منه الاشتقاق أمرا مطلوبا لا سيما إن ظهر لنا أن المعنى المشتق منه معنى مناسب للحكمة كما لو قيل للضيف أكرمه بمعنى أطعمه وللشيخ الكبير وقره بمعنى اخفض صوتك له أو نحوه وذلك لوجوه
أحدها أن الأمر إذا تعلق باسم مفعول مشتق من معنى كان ذلك المعنى علة
للحكم كما في قوله عز و جل فاقتلوا المشركين وقوله فأصلحوا بين أخويكم وقول النبي ﷺ عودوا المريض وأطعموا الجائع وفكوا العاني وهذا كثير معلوم
فإذا كان نفس الفعل المأمور به مشتقا من معنى أعم منه كان نفس الطلب والاقتضاء قد علق بذلك المعنى الأعم فيكون مطلوبا بطريق الأولى
الوجه الثاني أن جميع الأفعال مشتقة سواء كانت هي مشتقة من المصدر أو كان المصدر مشتقا منها أو كان كل واحد منهما مشتقا من الآخر بمعنى أن بينهما مناسبة في اللفظ والمعنى لا بمعنى أن أحدهما أصل والآخر فرع بمنزلة المعاني المتضايفة كالأبوة والبنوة أو كالأخوة من الجانبين ونحو ذلك
فعلى كل حال إذا أمر بفعل كان نفس مصدر الفعل أمرا مطلوبا للآمر مقصودا له كما في قوله واتقوا الله وأحسنوا إن الله يحب المحسنين وفي قوله آمنوا بالله ورسوله وفي قوله اعبدوا الله ربي وربكم وفي قوله فعليه توكلوا فإن نفس التقوى والإحسان والإيمان والعبادة والتوكل أمور مطلوبة مقصودة بل هي نفس المأمور به
ثم المأمور به أجناس لا يمكن أن تقع إلا معينة وبالتعيين تقترن بها أمور غير مقصودة الفعل للآمر لكن لا يمكن العبد إيقاع الفعل المأمور به إلا مع أمور معينة له فإنه إذا قال فتحرير رقبة فلا بد إذا أعتق العبد رقبة أن يقترن بهذا المطلق تعيين من سواد أو بياض أو طول أو قصر أو عربية أو عجمية أو غير ذلك من الصفات لكن المقصود هو المطلق المشترك من هذه المعينات
وكذلك إذا قيل اتقوا الله وخالفوا اليهود فان التقوى تارة تكون بفعل واجب من صلاة أو صيام وتارة تكون بترك محرم من كفر أو زنا أو نحو ذلك فخصوص ذلك الفعل إذا دخل في التقوى لم يمنع دخول غيره
فإذا رؤي رجل هم بزنا فقيل له اتق الله كان أمرا له بعموم التقوى داخلا فيه الأمر بخصوص ترك ذلك الزنا لأن سبب اللفظ العام لا بد أن يدخل فيه
كذلك إذا قيل إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم كان أمرا بعموم المخالفة داخلا فيه المخالفة بصبغ اللحية لأنه سبب اللفظ العام
وسببه أن الفعل فيه عموم وإطلاق لفظي ومعنوي فيجب الوفاء به
وخروجه على سبب توجب أن يكون داخلا فيه لا يمنع أن يكون غيره داخلا فيه
وإن قيل إن اللفظ العام يقصر على سببه لأن العموم ههنا من جهة المعنى فلا يقبل من التخصيص ما يقبله العموم اللفظي
فإن قيل الأمر بالمخالفة أمر بالحقيقة المطلقة وذلك لا عموم فيه بل يكفي فيه المخالفة في أمر ما وكذلك سائر ما يذكرونه فمن أين اقتضى ذلك المخالفة في غير ذلك الفعل المعين
قلت هذا سؤال قد يورده بعض المتكلمين في عامة الأفعال المأمور بها ويلبسون به على الفقهاء
وجوابه من وجهين
أحدهما أن التقوى والمخالفة ونحو ذلك من الأسماء والأفعال المطلقة قد يكون العموم فيها من جهة عموم الكل لأجزائه لا من جهة عموم الجنس لأنواعه
فإن العموم ثلاثة أقسام عموم الكل لأجزائه وهو ما لا يصدق فيه الاسم العام ولا أفراده على جزئه
والثاني عموم الجمع لأفراده وهو ما يصدق فيه أفراد الاسم العام على آحاده
والثالث عموم الجنس لأنواعه وأعيانه وهو ما يصدق فيه نفس الاسم العام على أفراده
فالأول عموم الكل لأجزائه في الأعيان والأفعال والصفات كما في قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم فإن اسم الوجه يعم الخد والجبين والجبهة ونحو ذلك وكل واحد من هذه الأجزاء ليس هو الوجه فإذا غسل بعض هذه الأجزاء لم يكن غاسلا للوجه لانتفاء المسمى بانتفاء جزئه
وكذلك في الصفات والأفعال إذا قيل صل فصلى ركعة وخرج بغير سلام أو قيل صم فصام بعض يوم لم يكن ممتثلا لانتفاء معنى الصلاة المطلقة والصوم المطلق
وكذلك إذا قيل أكرم هذا الرجل فأطعمه وضربه لم يكن ممتثلا لأن الإكرام المطلق يقتضي فعل ما يسره وترك ما يسوؤه كما قال النبي ﷺ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه فلو أطعمه بعض كفايته وتركه جائعا لم يكن مكرما له لانتفاء أجزاء الإكرام ولا يقال الإكرام حقيقة مطلقة وذلك يحصل باطعام أي شيء ولو لقمة
وكذلك إذا قال خالفوهم فالمخالفة المطلقة تنافي الموافقة في بعض الأشياء أو في أكثرها على طريق التساوي لأن المخالفة المطلقة ضد الموافقة المطلقة فيكون الأمر بأحدهما نهيا عن الآخر
ولا يقال إذا خالف في شيء ما فقد حصلت المخالفة كما لا يقال إذا وافقه في شيء ما فقد حصلت الموافقة
وسر ذلك الفرق بين مفهوم اللفظ المطلق وبين المفهوم المطلق من اللفظ فإن اللفظ يستعمل مطلقا ومقيدا فإذا أخذت المعنى المشترك بين جميع موارده مطلقها ومقيدها كان أعم من المعنى المفهوم منه عند إطلاقه وذلك المعنى المطلق يحصل بحصول بعض مسميات اللفظ في أي استعمال حصل من استعمالاته المطلقة أو المقيدة
وأما معناه في حال إطلاقه فلا يحصل بعض معانيه عند التقييد بل يقتضي أمورا كثيرة لا يقتضيها اللفظ المقيد فكثيرا ما يغلط الغالطون هنا
ألا ترى أن الفقهاء يفرقون بين الماء المطلق وبين المائية المطلقة الثابتة في المني والمتغيرات وسائر المائعات فأنت تقول عند التقييد أكرم الضيف بإعطائه هذا الدرهم فهذا إكرام مقيد فإذا قلت أكرم الضيف كنت آمرا بمفهوم اللفظ المطلق وذلك يقتضي أمورا لا تحصل بحصول إعطائه الدرهم فقط
وأما القسم الثاني من أقسام العموم فهو عموم الجنس لأفراده كما يعم قوله تعالى اقتلوا المشركين كل مشرك
والقسم الثالث من أقسام العموم عموم الجنس لأعيانه كما يعم قوله ﷺ لا يقتل مسلم بكافر جميع أنواع القتل المسلم والكافر إذا تبين هذا فالمخالفة المطلقة لا تحصل بالمخالفة في شيء ما إذا كانت الموافقة قد حصلت في أكثر منه وإنما تحصل بالمخالفة في جميع الأشياء أو في غالبها إذ المخالفة المطلقة ضد الموافقة المطلقة فلا يجتمعان بل الحكم للغالب
وهذا تحقيق جيد لكنه مبني على مقدمة وهي أن المفهوم من لفظ المخالفة عند الإطلاق يعم المخالفة في عامة الأمور الظاهرة
فإن خفي هذا الموضع المعين فخذ في الوجه الثاني وهو العموم المعنوي وهو أن المخالفة مشتقة فإنما أمر بها لمعنى كونها مخالفة كما تقدم تقريره وذلك ثابت في كل فرد من الأفراد المخالفة فيكون العموم ثابتا من جهة المعنى المعقول
وبهذين الطريقين يتقرر العموم في قوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار وغير ذلك من الأفعال وإن كان أكثر الناس إنما يفزعون إلى الطريق الثاني وقل منهم من يتفطن للطريق الأول وهذا أبلغ إذا صح
ثم نقول هب أن الإجزاء يحصل بأي يسمى مخالفة لكن الزيادة على القدر المجزئ مشروعة إذ كان الأمر مطلقا كما في قوله اركعوا واسجدوا ونحو ذلك من الأوامر المطلقة
الوجه الثالث في أصل التقرير أن العدول بالأمر عن لفظ الفعل الخاص به إلى لفظ أعم منه معنى كالعدول به عن لفظ أطعمه إلى لفظ أكرمه وعن لفظ فاصبغوا إلى لفظ فخالفوهم لا بد له من فائدة وإلا فمطابقة اللفظ للمعنى أولى من إطلاق اللفظ العام وإرادة الخاص وليست هنا فائدة تظهر إلا تعلق القصد بذلك المعنى العام المشتمل على هذا الخاص وهذا بين عند التأمل
الوجه الرابع أن العلم بالعام عاما يقتضي العلم بالخاص والقصد للمعنى العام عاما يوجب القصد للمعنى الخاص فإنك إذا علمت أن كل مسكر خمر وعلمت أن النبيذ مسكر كان علمك بذلك الأمر العام وبحصوله في الخاص موجبا لعلمك بوصف الخاص كذلك إذا كان قصدك طعاما مطلقا أو مالا مطلقا وعلمت وجود طعام معين أو مال معين في مكان حصل قصدك له إذ العلم والقصد يتطابقان في مثل هذا والكلام يبين مراد المتكلم ومقصوده
فإذا أمر بفعل باسم دال على معنى عام مريدا به فعلا خاصا كان ما ذكرناه من الترتيب الحكمي يقتضي أنه قاصد بالأولى لذلك المعنى العام وأنه إنما قصد ذلك الفعل الخاص لحصوله به
ففي قوله أكرمه طلبان طلب للإكرام المطلق وطلب لهذا الفعل الذي يحصل به المطلق وذلك لأن حصول المعين مقتض لحصول المطلق وهذا معنى صحيح إذا صادف فطنة من الإنسان وذكاء انتفع به في كثير من المواضع وعلم به طريق البيان والدلالة
بقي أن يقال هذا يدل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع وهذا صحيح لكن قصد الجنس قد يحصل الاكتفاء فيه بالمخالفة في بعض الأمور فما زاد على ذلك لا حاجة إليه
قلت إذا ثبت أن الجنس مقصود في الجملة كان ذلك حاصلا في كل فرد من أفراده ولو فرض أن الوجوب سقط بالبعض لم يرفع حكم الاستحباب عن الباقي
وأيضا فإن ذلك يقتضي النهي عن موافقتهم لأنه من قصد مخالفتهم بحيث أمرنا بإحداث فعل يقتضي مخالفتهم فيما لم تكن الموافقة فيه من فعلنا ولا قصدنا فكيف لا ينهانا عن أن نفعل فعلا فيه موافقتهم سواء قصدنا موافقتهم أو لم نقصدها
الوجه الخامس أنه رتب الحكم على الوصف بحرف الفاء فيدل هذا الترتيب على أنه علة له من غير وجه حيث قال إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم فإنه يقتضي أن علة الأمر بهذه المخالفة كونهم لا يصبغون فالتقدير اصبغوا لأنهم لا يصبغون وإذا كان علة الأمر بالفعل عدم فعلهم له دل على أن قصد المخالفة لهم ثابت بالشرع وهو المطلوب
يوضح ذلك أنه لو لم يكن لقصد مخالفتهم تأثير في الأمر بالصبغ لم يكن لذكرهم فائدة ولا حسن تعقيبه به
وهذا وإن دل على أن مخالفتهم أمر مقصود للشرع فذلك لا ينفي أن تكون في نفس الفعل الذي خولفوا فيه مصلحة مقصودة مع قطع النظر عن مخالفتهم فإن هنا شيئين
أحدهما أن نفس المخالفة لهم في الهدى الظاهر مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنور قلبه حتى رأى ما اتصف به المغضوب عليهم والضالون من مرض القلب الذي ضرره أشد من ضرر أمراض الأبدان
والثاني أن نفس ما هم عليه من الهدى والخلق قد يكون مضرا أو منقصا فينهى عنه ويؤمر بضده لما فيه من المنفعة والكمال وليس شيء من أمورهم إلا وهو إما مضر أو ناقص لأن ما بأيديهم من الأعمال المبتدعة والمنسوخة ونحوها مضرة وما بأيديهم مما لم ينسخ أصله فهو يقبل الزيادة والنقص
فمخالفتهم فيه بأن يشرع ما يحصله على وجه الكمال ولا يتصور أن يكون شيء من أمورهم كاملا قط
فإذا المخالفة فيها منفعة وصلاح لنا في كل أمورنا حتى ما هم عليه من إتقان أمور دنياهم قد يكون مضرا بآخرتنا أو بما هو أهم منه من أمر دنيانا فالمخالفة فيه صلاح لنا
وبالجملة فالكفر بمنزلة مرض القلب أو اشد ومتى كان القلب مريضا لم يصح شيء من الأعضاء صحة مطلقة وإنما الصلاح أن لا تشابه مريض القلب في شيء من أموره وإن خفي عليك مرض ذلك العضو لكن يكفيك أن فساد الأصل لا بد أن يؤثر في الفرع ومن انتبه لهذا قد يعلم بعض الحكمة التي أنزلها الله فإن من في قلبه مرض قد يرتاب في الأمر بنفس المخالفة لعدم استبانته لفائدته أو يتوهم أن هذا من جنس أمر الملوك والرؤساء القاصدين للعلو في الأرض ولعمري إن النبوة غاية الملك الذي يؤتيه الله من يشاء وينزعه ممن يشاء ولكن ملك النبوة هو غاية صلاح من أطاع الرسول من العباد في معاشه ومعاده
وحقيقة الأمر أن جميع أعمال الكافر وأموره لا بد فيها من خلل يمنعها أن تتم له منفعة بها ولو فرض صلاح شيء من أموره على التمام لاستحق بذلك ثواب الآخرة ولكن كل أموره إما فاسدة وإما ناقصة
فالحمد لله على نعمة الإسلام التي هي أعظم النعم وأم كل خير كما يحب ربنا ويرضى
فقد تبين أن نفس مخالفتهم أمر مقصود للشارع في الجملة ولهذا كان الإمام أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة رضي الله عنهم يعللون الأمر بالصبغ بعلة المخالفة
قال حنبل سمعت أبا عبد الله يقول ما أحب لأحد إلا أن يغير الشيب ولا يتشبه بأهل الكتاب لقول النبي ﷺ غيروا الشيب ولا تشبهوا بأهل الكتاب
وقال إسحاق بن إبراهيم سمعت أبا عبد الله يقول لأبي يا أبا هاشم اختضب ولو مرة واحدة فأحب لك أن تختضب ولا تشبه باليهود
وهذا اللفظ الذي احتج به أحمد قد رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود قال الترمذي حديث حسن صحيح
وقد رواه النسائي من حديث محمد بن كناسة عن هاشم بن عروة عن عثمان ابن عروة عن أبيه عن الزبير عن النبي ﷺ قال غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ورواه أيضا من حديث عروة عن عبد الله بن عمر لكن قال النسائي كلاهما ليس بمحفوظ
وقال الدارقطني المشهور عن عروة مرسلا
وهذا اللفظ أدل على الأمر بمخالفتهم والنهي عن مشابهتهم فإنه إذا نهى عن التشبه بهم في بقاء بياض الشيب الذي ليس من فعلنا فلأن ينهى عن إحداث التشبه بهم أولى ولهذا كان هذا التشبه بهم يكون محرما بخلاف الأول
وأيضا ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله ﷺ خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه
فأمر بمخالفة المشركين مطلقا ثم قال أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى وهذه الجملة الثانية بدل من الأولى فإن الإبدال يقع في الجمل كما يقع في المفردات كقوله تعالى يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم
فهذا الذبح والاستحياء هو سوم العذاب كذلك هنا هذا هو المخالفة للمشركين المأمور بها هنا لكن الأمر بها أولا
فلفظ مخالفة المشركين دليل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع وإن عينت هنا في هذا الفعل فإن تقديم المخالفة علة تقديم العام على الخاص كما يقال أكرم ضيفك أطعمه وحادثه فأمرك بالإكرام أولا دليل على أن إكرام الضيف مقصود ثم عينت الفعل الذي يكون إكرامه إكراما له في ذلك الوقت
والتقرير من هذا الحديث شبيه بالتقرير من قوله لا يصبغون فخالفوهم وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس
فعقب الأمر بالوصف المشتق المناسب وذلك دليل على أن مخالفة المجوس أمر مقصود للشارع وهو العلة في هذا الحكم أو علة أخرى أو بعض علة وإن كان الأظهر عند الإطلاق أنه علة تامة
ولهذا لما فهم السلف كراهة التشبه بالمجوس في هذا وغيره كرهوا أشياء غير منصوصة بعينها عن النبي ﷺ من هدى المجوس
وقال المروزي سألت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل عن حلق القفا فقال هو من فعل المجوس ومن تشبه بقوم فهو منهم
قال أيضا قيل لأبي عبد الله تكره للرجل أن يحلق قفاه أو وجهه فقال أما أنا فلا أحلق قفاي وقد روي فيه حديث مرسل عن قتادة في كراهيته وقال إن حلق القفا من فعل المجوس
قال وكان أبو عبد الله يحلق قفاه وقت الحجامة
وقال أحمد أيضا لا بأس أن يحلق قفاه قبل الحجامة وقد روى عنه ابن منصور قال سألت أحمد عن حلق القفا فقال لا أعلم فيه حديثا إلا ما يروى عن إبراهيم أنه كره قردايرقوس ذكر الخلال هذا وغيره
وذكر أيضا بإسناده عن الهيثم بن حميد قال حف القفا من شكل المجوس
وعن المعتمر بن سليمان التيمي قال كان أبي إذا جز شعره لم يحلق قفاه قيل له لم قال كان يكره أن يتشبه بالعجم
والسلف تارة يعللون الكراهة بالتشبه بأهل الكتاب وتارة بالتشبه بالأعاجم
وكلا العلتين منصوص في السنة مع أن الصادق ﷺ قد أخبر بوقوع المشابهة لهؤلاء وهؤلاء كما قدمنا بيانه
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم رواه أبو داود
وهذا مع أن نزع اليهود نعالهم مأخوذ عن موسى عليه السلام لما قيل له فاخلع نعليك
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب إكلة السحر
رواه مسلم في صحيحه
وهذا يدل على أن الفصل بين العبادتين أمر مقصود للشارع
وقد صرح بذلك فيما رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر لأن اليهود والنصارى يؤخرون
وهذا نص في أن ظهور الدين حاصل بتعجيل الفطر هو لأجل مخالفة اليهود والنصارى
وإذا كانت مخالفتهم سببا لظهور الدين فإنما المقصود بإرسال الرسل أن يظهر دين الله على الدين كله فتكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة
وهكذا روى أبو داود من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال لا تزال أمتي بخير أو قال على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم
ورواه ابن ماجة من حديث العباس ورواه الإمام أحمد من حديث السائب ابن بريد وقد جاء مفسرا تعليله لا يزالون بخير ما لم يؤخرواالمغرب إلى طلوع النجوم مضاهاة لليهود وما لم يؤخروا الفجر إلى محاق النجوم مضاهاة للنصرانية
وقال سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية حدثنا الصلت بن بهرام عن الحارث بن وهب عن عبد الرحمن الصنابحي قال قال رسول الله ﷺ لا تزال أمتي على مسكة ما لم ينتظروا بالمغرب اشتباك النجوم مضاهاة لليهودية ومالم ينتظروا بالفجر محاق النجوم مضاهاة للنصرانية وما لم يكلوا الجنائز إلى أهلها
وقال سعيد بن منصور حدثنا عبيد الله بن زياد بن لقيط عن أبيه عن ليلى امرأة بشر بن الخصاصية قالت أردت أن أصوم يومين مواصلة فنهاني عنه بشر وقال إن رسول الله ﷺ نهاني عن ذلك وقال إنما يفعل ذلك النصارى صوموا كما أمركم الله وأتموا الصوم كما أمركم الله ثم أتموا الصيام إلى الليل فإذا كان الليل فأفطروا وقد رواه أحمد في المسند
فعلل النهي عن الوصال بأنه صوم النصارى وهو كما قال رسول الله ﷺ ويشبه أن يكون من رهبانيتهم التي ابتدعوها
وعن حماد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يواكلوها ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي ﷺ النبي ﷺ فأنزل الله عز و جل ويسألونك عن المحيض إلى آخر الآية فقال رسول الله ﷺ اصنعوا كل شيء إلا النكاح فبلغ ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيءا إلا خالفنا فيه فجاء أسيد بن حصير وعباد بن بشر فقالا يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا أفلا نجامعهن فتغير وجه رسول الله ﷺ حتى ظننا أن قد وجد عليهما فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي ﷺ فأرسل في أثرهما فسقاهما فعرفنا أنه لم يجد عليهما رواه مسلم
فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه الله لنبيه من مخالفة اليهود بل على أنه خالفهم في عامة أمورهم حتى قالوا ما يريد أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه
ثم إن المخالفة كما سنبينها تارة تكون في أصل الحكم وتارة في وصفه
ومجانبة الحائض لم يخالفوا في أصلها بل خالفوا في وصفها حيث شرع الله مقاربة الحائض في غير محل الأذى فلما أراد بعض الصحابة أن يتعدى في المخالفة إلى ترك ما شرعه الله تغير وجه رسول الله ﷺ
وهذا الباب باب الطهارة كان على اليهود فيه أغلال عظيمة فابتدع النصارى ترك ذلك كله بلا شرع من الله حتى إنهم لا ينجسون شيئا فهدى الأمة الوسط بما شرعه لها إلى الوسط من ذلك وإن كان ما كان عليه اليهود كان أيضا مشروعا فاجتناب مالم يشرع الله اجتنابه مقاربة لليهود وملابسة ما شرع الله اجتنابه مقاربة للنصارى وخير الهدي هدي محمد ﷺ
وعن أبي أمامة عن عمرو بن عبسة قال كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة فإنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان قال فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارا فقعدت على راحلتي فقدمت عليه فإذا هو رسول الله ﷺ مستخفيا جرآء عليه قومه فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له ما أنت فقال أنا نبي فقلت وما نبي فقال أرسلني الله فقلت بأي شيء أرسلك قال أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شيء فقلت له فمن معك على هذا قال حر وعبد قال ومعه يومئذ أبو بكر وبلال فقلت إني متبعك قال إنك لن تستطيع ذلك يومك هذا ألا ترى حالي وحال الناس ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فائتني قال فذهبت إلى أهلي وقدم رسول الله ﷺ المدينة وكنت في أهلي فجعلت أستخبر الأخبار وأسأل الناس حتى قدم نفر من أهل يثرب أي من أهل المدينة فقلت ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة فقالوا الناس إليه سراع وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك فقدمت المدينة فدخلت عليه فقلت يا رسول الله أتعرفني قال نعم أنت الذي لقيتني بمكة قال فقلت يا نبي الله أخبرني عما علمك الله وأجهله أخبرني عن الصلاة قال صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ثم صل فإن الصلاة مشهودة محصورة حتى يستقل الظل بالرمح ثم أقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم فإذا أقبل الفي فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار وذكر الحديث رواه مسلم
فقد نهى النبي ﷺ عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت الغروب معللا ذلك النهي بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان وأنه حينئذ يسجد لها الكفار
ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله تعالى وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان ولا أن الكفار يسجدون لها ثم إنه ﷺ نهى عن الصلاة في هذا الوقت حسما لمادة المشابهة بكل طريق
ويظهر بعض فائدة ذلك بأن من الصابئة المشركين اليوم ممن يظهر الإسلام يعظم الكواكب ويزعم أنه يخاطبها بحوائجه ويسجد لها وينحر ويذبح وقد صنف بعض المنتسبين إلى الإسلام في مذهب المشركين من الصابئة والبراهمة كتبا في عبادة الكواكب توسلا بذلك زعموا إلى مقاصد دنيوية من الرئاسة وغيرها وهي من السحر الذي كان عليه الكنعانيون الذين كان ملوكهم النماردة الذين بعث الله الخليل صلوات الله وسلامه عليه بالحنيفية وإخلاص الدين كله لله إلى هؤلاء المشركين
فإذا كان في هذه الأزمنة من يفعل مثل هذا تحققت حكمة الشارع صلوات الله وسلامه عليه في النهي عن الصلاة في هذه الأوقات سدا للذريعة وكان في تنبيه على أن كل ما يفعله المشركون من العبادات ونحوها مما يكون كفرا أو معصية بالنية ينهى المؤمنون عن ظاهره وإن لم يقصدوا به قصد المشركين سدا للذريعة وحسما للمادة
ومن هذا الباب أنه ﷺ كان إذا صلى إلى عود أو عمود جعله إلى حاجبه الإيمن أو الأيسر ولم يصمد له صمدا
ولهذا نهى عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله في الجملة وإن لم يكن العابد يقصد ذلك ولهذا ينهى عن السجود لله بين يدي الرجل وإن لم يقصد الساجد ذلك لما فيه من مشابهة السجود لغير الله
فانظر كيف قطعت الشريعة المشابهة في الجهات وفي الأوقات وكما لا يصلى إلى القبلة التي يصلون إليها كذلك لا يصلى إلى ما يصلون له بل هذا أشد فسادا فإن القبلة شريعة من الشرائع قد تختلف باختلاف شرائع الأنبياء أما السجود لغير الله وعبادته فهو محرم في الدين الذي اتفقت عليه رسل الله كما قال سبحانه وتعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة تعبدون
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه رأى رجلا يتكئ على يده اليسرى وهو قاعد في الصلاة فقال له لا تجلس هكذا فإن هكذا يجلس الذين يعذبون وفي رواية تلك صلاة المغضوب عليهم وفي رواية نهى رسول الله ﷺ أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده روى هذا كله أبو داود
ففي هذا الحديث النهي عن هذه الجلسة معللا بأنها جلسة المعذبين وهذه مبالغة في مجانبة هديهم
وأيضا فقد روى البخاري عن مسروق عن عائشة أنها كانت تكره أن يجعل المصلي يده في خاصرته وتقول إن اليهود تفعله
ورواه أيضا من حديث أبي هريرة قال نهى عن التخصر في الصلاة وفي لفظ نهى أن يصلي الرجل متخصرا
قال وقال هشام وأبو هلال عن ابن سيرين عن أبي هريرة نهى النبي ﷺ وهكذا رواه مسلم في صحيحه نهى رسول الله ﷺ
وعن زياد بن صبيح قال صليت إلى جنب ابن عمر فوضعت يدي على خاصرتي فلما صلى قال هذا الصلب في الصلاة وكان رسول الله ﷺ ينهى عنه رواه أحمد وأبو داود والنسائي
وأيضا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال اشتكى رسول الله ﷺ فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره فالتفت إلينا فرآنا قياما فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودا فلما سلم قال إن كدتم آنفا تفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا ائتموا بأئمتكم إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا رواه مسلم وأبو داود من حديث الليث عن أبي الزبير عن جابر
ورواه أبو داود وغيره من حديث الأعمش عن أبي سفيان طلحة بن نافع القرشي عن جابر قال ركب رسول الله ﷺ فرسا بالمدينة فصرعه على جذم نخلة فانفكت قدمه فأتيناه نعوده فوجدناه في مشربة لعائشة يسبح جالسا قال فقمنا خلفه فسكت عنا ثم أتيناه مرة أخرى نعوده فصلى المكتوبة جالسا فقمنا خلفه فأشار إلينا فقعدنا قال فلما قضى الصلاة قال إذا صلى الإمام جالسا فصلوا جلوسا وإذا صلى الإمام قائما فصلوا قياما ولا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائها
وأظن في غير رواية أبي داود ولا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضا
ففي هذا الحديث أنه أمرهم بترك القيام الذي هو فرض في الصلاة وعلل ذلك بأن قيام المأمومين مع قعود الإمام يشبه فعل فارس والروم بعظمائهم في قيامهم وهم قعود
ومعلوم أن المأموم إنما نوى أن يقوى لله لا لإمامه
وهذا تشديد عظيم في النهي عن القيام للرجل القاعد ونهى أيضا عما يشبه ذلك وإن لم يقصد به ذلك ولهذا نهى عن السجود لله بين يدي الرجل وعن الصلاة إلى ما عبد من دون الله كالنار ونحوها
وفي هذا الحديث أيضا نهى عما يشبه فعل فارس والروم وإن كانت نيتنا غير نيتهم لقوله فلا تفعلوا
فهل بعد هذا في النهي عن مشابهتهم في مجرد الصورة غاية
ثم هذا الحديث سواء كان محكما في قعود الإمام أو منسوخا فإن الحجة منه قائمة لأن نسخ القعود لا يدل على فساد تلك العلة وإنما يقتضي أنه قد عارضها ما ترجح عليها مثل كون القيام فرضا في الصلاة فلا يسقط الفرض بمجرد المشابهة الصورية وهذا محل اجتهاد وأما المشابهة الصورية فإذا لم تسقط فرضا فإن تلك العلة التي علل بها رسول الله ﷺ تكون سليمة عن معارض أو عن نسخ لأن القيام في الصلاة ليس بمشابهة في الحقيقة فلا يكون محذورا فالحكم إذا علل بعلة ثم نسخ مع بقاء العلة فلا بد أن يكون غيرها ترجح عليها وقت النسخ أو ضعف تأثيرها أما أن تكون في نفسها باطلة فهذا محال
هذا كله لو كان الحكم هنا منسوخا فكيف والصحيح أن هذا الحديث محكم قد عمل به غير واحد من الصحابة بعد وفاة رسول الله ﷺ مع كونهم علموا بصلاته في مرضه الذي توفي فيه
وقد استفاض عنه ﷺ الأمر به استفاضة صحيحة صريحة يمتنع معها أن يكون حديث مرض موته ناسخا له على ما هو مقرر في غير هذا الموضع إما بجواز الأمرين إذ فعل القيام لا ينافي فعل القعود وإما بالفرق بين المبتدئ للصلاة قاعدا وبين الصلاة التي ابتدأها الإمام قائما لعدم دخول هذه الصلاة في قوله وإذا صلى قاعدا ولعدم المفسدة التي علل بها ولأن بناء فعل آخر الصلاة على أولها أولى من بنائها على صلاة الإمام ونحو ذلك من الأمور المذكورة في غير هذا الموضع
وأيضا فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال كان رسول الله ﷺ إذا اتبع جنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد فتعرض له حبر فقال هكذا نصنع يا محمد قال فجلس رسول الله ﷺ وقال خالفوهم
رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال الترمذي بشر بن رافع ليس بالقوي في الحديث
قلت قد اختلف العلماء في القيام للجنازة إذا مرت ومعها إذا شيعت وأحاديث الأمر بذلك كثيرة مستفيضة ومن اعتقد نسخها أو نسخ القيام للمارة فعمدته حديث علي وحديث عبادة هذا وإن كان القول بهما كليهما ممكنا لأن المشيع يقوم لها حتى توضع عن أعناق الرجال لا في اللحد فهذا الحديث إما أن يقال به جمعا بينه وبين غيره أو يكون ناسخا لغيره وقد علل بالمخالفة
ومن لا يقول به يضعفه وذلك لا يقدح في الاستشهاد والاعتضاد به على جنس المخالفة
وقد روى البخاري عن عبد الرحمن بن القاسم أن القاسم كان يمشي بين يدي الجنازة ولا يقوم لها ويخبر عن عائشة أنها قالت كان أهل الجاهلية يقومون لها يقولون إذا رأوها كنت في أهلك ما كنت مرتين
فقد استدل من كره القيام بأنه كان فعل الجاهلية
وليس الغرض هنا الكلام في عين هذه المسألة
وأيضا فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله ﷺ اللحد لنا والشق لغيرنا رواه أهل السنن الأربعة
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ اللحد لنا والشق لغيرنا رواه أحمد وابن ماجة وفي رواية لأحمد والشق لأهل الكتاب وهو مروي من طرق فيها لين لكن يعضد بعضها بعضا
وفيه التنبيه على مخالفتنا لأهل الكتاب حتى في وضع الميت في أسفل القبر
وأيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية متفق عليه
ودعوى الجاهلية ندب الميت وتكون دعوى الجاهلية في العصبية
ومنه قوله فيما رواه أحمد عن أبي بن كعب قال قال رسول الله ﷺ من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا
وأيضا عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر بالاحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة وقال النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب رواه مسلم
ذم في هذا الحديث من دعا بدعوى الجاهلية وأخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذما لمن لم يتركه
وهذا كله يقتضي أن ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم فهو مذموم في دين الإسلام وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم وهذا كقوله سبحانه وتعالى ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى فإن ذلك ذم للتبرج وذم لحال الجاهلية الأولى وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة
ومنه قوله لأبي ذر رضي الله عنه لما عير رجلا بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية فإنه ذم لذلك الخلق ولأخلاق الجاهلية التي لم يجيء بها الإسلام
ومنه قوله تعالى إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين فإن إضافة الحمية إلى الجاهلية يقتضي ذمها فما كان أخلاقهم وأفعالهم فهو كذلك
ومن هذا ما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن أبي يزيد أنه سمع ابن عباس قال ثلاث خلال من خلال الجاهلية الطعن في الانساب والنياحة ونسيت الثالثة قال سفيان ويقولون إنها الاستسقاء بالأنواء
وروى مسلم في صحيحه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت
فقوله هما بهم أي هاتان الخصلتان هما كفر قائم بالناس فنفس الخصلتين كفر حيث كانتا من أعمال الكفر وهما قائمتان بالناس
لكن ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصير بها كافرا الكفر المطلق حتى تقوم به حقيقة الكفر كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير بها مؤمنا حتى يقوم به أصل الإيمان وحقيقته وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله ﷺ ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة وبين كفر منكر في الإثبات
وفرق أيضا بين معنى الاسم المطلق إذا قيل كافر أو مؤمن وبين المعنى المطلق للاسم في جميع موارده كما في قوله لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض
فقوله يضرب بعضكم بعض تفسير للكفار في هذا الموضع وهؤلاء يسمون كفارا تسمية مقيدة ولا يدخلون في الاسم المطلق إذا قيل كافر أو مؤمن كما أن قوله تعالى من ماء دافق سمى المني ماء تسمية مقيدة ولم يدخل في الاسم المطلق حيث قال فلم تجدوا ماء فتيمموا
ومن هذا الباب ما خرجاه في الصحيحين عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال غزونا مع رسول الله ﷺ وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعاب فكسع أنصاريا فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا وقال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري ياللمهاجرين فخرج النبي ﷺ فقال ما بال دعوى الجاهلية ثم قال ما شأنهم فأخبروه بكسعة المهاجري للأنصاري قال فقال النبي ﷺ دعوها فانها منتنة وقال عبد الله بن أبي ابن سلول أو قد تداعوا علينا لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فقال عمر ألا نقتل يا رسول الله هذا الخبيث لعبد الله فقال النبي ﷺ لا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه ورواه مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال اقتتل غلامان غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار فنادى المهاجري يا للمهاجرين ونادى الأنصاري يا للأنصار فخرج رسول الله ﷺ فقال ما هذا أدعوى الجاهلية قالوا لا يا رسول الله إلا أن غلامين اقتتلا فكسع أحدهما الآخر فقال لا بأس لينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر وإن كان مظلوما فلينصره فهاذان الإسمان المهاجرون والأنصار اسمان شرعيان جاء بهما الكتاب والسنة وسماهما الله بهما كما سمانا المسلمين من قبل وفي هذا وانتساب الرجل إلى المهاجرين والأنصار انتساب حسن محمود عند الله وعند رسوله ليس من المباح الذي يقصد به التعريف فقط كالانتساب إلى القبائل والأمصار ولا من المكروه أو المحرم كالانتساب إلى ما يفضي إلى بدعة أو معصية أخرى
ثم مع هذا لما دعا كل واحد منهما طائفة منتصرا بها أنكر النبي ﷺ ذلك وسماها دعوى الجاهلية حتى قيل له إن الداعي بها إنما هما غلامان لم يصدر ذلك من الجماعة فأمر بمنع الظالم وإعانة المظلوم ليبين النبي ﷺ أن المحذور من ذلك إنما هو تعصب الرجل لطائفته مطلقا فعل أهل الجاهلية فأما نصرها بالحق من غير عدوان فحسن واجب أو مستحب
ومثل هذا ما روى أبو داود وابن ماجة عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله ما العصبية قال أن تعين قومك على الظلم
وعن سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي قال خطبنا رسول الله ﷺ فقال خيركم المدافع عن عشيرته مالم يأثم رواه أبو داود
وروى أبو داود أيضا عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية
وروى أبو داود أيضا عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي ردي فهو ينزع بذنبه
فإذا كان هذا التداعي في الأسماء وفي هذا الانتساب الذي يحبه الله ورسوله فكيف بالتعصب مطلقا والتداعي للنسب والإضافات التي ما هي إما مباحة أو مكروهة
وذلك أن الانتساب إلى الاسم الشرعي أحسن من الانتساب إلى غيره