الرئيسيةبحث

اقتضاء الصراط المستقيم/1


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أكمل لنا ديننا وأتم علينا نعمته ورضي لنا الإسلام دينا وأمرنا أن نستهديه صراطه المستقيم صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم اليهود ولا الضالين النصارى

وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالدين القيم والملة الحنيفية وجعله على شريعة من الأمر أمره باتباعها وأمره بأن يقول هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما

وبعد فإني قد نهيت إما مبتدئا وإما مجيبا عن التشبه بالكفار في أعيادهم وأخبرت ببعض ما في ذلك من الأثر القديم والدلالة الشرعية وبينت بعض حكمة الشرع في مجانبة هدي الكفار من الكتابيين والأميين وما جاءت به الشريعة من مخالفة أهل الكتاب والأعاجم وإن كانت هذه قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة كثيرة الشعب وأصلا جامعا من أصولها كثير الفروع لكني نبهت على ذلك بما يسره الله تعالى وكتبت جوابا في ذلك لم يحضرني الساعة وحصل بسبب ذلك من الخير ما قدره الله سبحانه

ثم بلغني بأخرة أن من الناس من استغرب ذلك واستبعده لمخالفة عادة قد نشؤا عليها وتمسكوا في ذلك بعمومات وإطلاقات اعتمدوا عليها فاقتضاني بعض الأصحاب أن أعلق في ذلك ما يكون فيه إشارة إلى أصل هذه المسألة لكثرة فائدتها وعموم المنفعة بها ولما قد عم كثيرا من الناس من الابتلاء بذلك حتى صاروا في نوع جاهلية فكتبت ما حضرني الساعة مع أني لو استوفيت ما في ذلك من الدلائل وكلام العلماء واستقريت الآثار في ذلك لوجدت فيه أكثر مما كتبه

ولم أكن أظن أن من خاض في الفقه ورأى إيماآت الشرع ومقاصده وعلل الفقهاء ومسائلهم يشك في ذلك بل لم أكن أظن أن من وقر الإيمان في قلبه وخلص إليه حقيقة الإسلام وأنه دين الله الذي لا يقبل من أحد سواه إذا نبه على هذه النكتة إلا كانت حياة قلبه وصحة إيمانه توجب استيقاظه بأسرع تنبيه ولكن نعوذ بالله من رين القلوب وهوى النفوس اللذين يصدان عن معرفة الحق واتباعه

فصل في حال البشر قبل البعثة المحمدية

اعلم أن الله سبحانه وتعالى أرسل محمدا ﷺ إلى الخلق وقد مقت أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا أو أكثرهم قبل مبعثه والناس إذ ذاك أحد رجلين إما كتابي معتصم بكتاب إما مبدل وإما منسوخ أو بدين دارس بعضه مجهول وبعضه متروك وإما أمي من عربي وعجمي مقبل على عبادة ما استحسنه وظن أنه ينفعه من نجم أو وثن أو قبر أو تمثال أو غير ذلك والناس في جاهلية جهلاء من مقالات يظنونها علما وهي جهل وأعمال يحسبونها صلاحا وهي فساد

وغاية البارع منهم علما وعملا أن يحصل قليلا من العلم الموروث عن الأنبياء المتقدمين مشوب بأهواء المبدلين والمبتدعين قد اشتبه عليهم حقه بباطله أو يشتغل بعمل القليل منه مشروع وأكثره مبتدع لا يكاد يؤثر في صلاحه إلا قليلا أو أن يكدح بنظره كدح المتفلسفة فتذوب مهجته في الأمور الطبيعية والرياضية وإصلاح الأخلاق حتى يصل إن وصل بعد الجهد الذي لا يوصف إلى نزر قليل مضطرب لا يروي غليلا ولا يشفي عليلا ولا يغني من العلم الإلهي شيئا باطله أضعاف حقه إن حصل وأنى له ذلك مع كثرة الاختلاف بين أهله والاضطراب وتعذر الأدلة عليه والأسباب

فهدى الله الناس ببركة نبوة محمد ﷺ وبما جاء به من البينات والهدى هداية جلت عن وصف الواصفين وفاقت معرفة العارفين حتى حصل لأمته المؤمنين به عموما ولأولي العلم منهم خصوصا من العلم النافع والعمل الصالح والأخلاق العظيمة والسنن المستقيمة ما لو جمعت حكمة سائر الأمم علما وعملا الخالصة من كل شوب إلى الحكمة التي بعث بها لتفاوتتا تفاوتا يمنع معرفة قدر النسبة بينهما فلله الحمد كما يحب ربنا ويرضى

ودلائل هذا وشواهده ليس هذا موضعها

ثم إنه سبحانه بعثه بدين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم وفرض على الخلق أن يسألوه هدايته كل يوم مرارا في صلاتهم ووصفه بأنه صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين غير المغضوب عليهم ولا الضالين

قال عدي بن حاتم رضي الله عنه أتيت رسول الله ﷺ وهو جالس في المسجد فقال القوم هذا عدي بن حاتم وجئت بغير أمان ولا كتاب فلما دفعت إليه أخذ بيدي وقد قال قبل ذلك إني لأرجو أن يجعل الله يده في يدي قال فقام بي فلقيته امرأة وصبي معها فقالا إن لنا إليك حاجة فقام معهما حتى قضى حاجتهما ثم أخذ بيدي حتى أتى بي داره فألقت له الوليدة وسادة فجلس عليها وجلست بين يديه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ما يفرك أيفرك أن تقول لا إله إلا الله فهل تعلم من إله سوى الله قال قلت لا ثم تكلم ساعة ثم قال إنما يفرك أن تقول الله أكبر أو تعلم شيئا أكبر من الله قال قلت لا قال فإن اليهود مغضوب عليه والنصارى ضلال قال فقلت فإني حنيف مسلم قال فرأيت وجهه ينبسط فرحا وذكر حديثا طويلا رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب وقد دل كتاب الله على معنى هذا الحديث قال الله سبحانه قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت والضمير عائد إلى اليهود والخطاب معهم كما دل عليه سياق الكلام

وقال تعالى ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم وهم المنافقون الذين تولوا اليهود باتفاق أهل التفسير وسياق الآية يدل عليه

وقال تعالى ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وذكر في البقرة قوله تعالى وباءوا بغضب من الله وفيها أيضا فباءوا بغضب على غضب وهذا بيان أن اليهود مغضوب عليهم

وقال في النصارى لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة إلى قوله قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل وهذا خطاب للنصارى كما دل عليه السياق ولهذا نهاهم عن الغلو وهو مجاوزة الحد كما نهاهم عنه في قوله يا أهل الكتب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه

واليهود مقصرون عن الحق والنصارى غالون فيه

فأما وسم اليهود بالغضب والنصارى بالضلال فله أسباب ظاهرة وباطنة ليس هذا موضعها

وجماع ذلك أن كفر اليهود أصله من جهة عدم العمل بعلمهم فهم يعلمون الحق ولا يتبعونه قولا أو عملا أولا قولا ولا عملا وكفر النصارى من جهة عملهم بلا علم فهم يجتهدون في أصناف العبادات بلا شريعة من الله ويقولون على الله مالا يعلمون ولهذا كان السلف كسفيان بن عيينة وغيره يقولون من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى وليس هذا أيضا موضع شرح ذلك

ومع أن الله قد حذرنا سبيلهم فقضاؤه نافذ بما أخبر به رسوله مما سبق في علمه حيث قال فيما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن

وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون شبرا بشبر وذراعا بذراع فقيل يا رسول الله كفارس والروم قال ومن الناس إلا أولئك

فأخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى وهم أهل الكتاب ومضاهاة لفارس والروم وهم الأعاجم

وقد كان ﷺ ينهى عن التشبه بهؤلاء وهؤلاء وليس هذا إخبارا عن جميع الأمة بل قد تواتر عنه أنه قال لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة وأخبر ﷺ ان الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة و أن الله لا يزال يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم فيه بطاعته فعلم بخبره الصدق أن لا بد أن يكون في أمته قوم متمسكين بهديه الذي هو دين الإسلام محضا وقوم منحرفين إلى شعبة من شعب دين اليهود أو إلى شعبة من شعب دين النصارى وإن كان الرجل لا يكفر بهذا الانحراف بل وقد لا يفسق أيضا بل قد يكون الإنحراف كفرا وقد يكون فسقا وقد يكون سيئة وقد يكون خطأ

وهذا الانحراف أمر تتقاضاه الطباع ويزينه الشيطان فلذلك أمر العبد بدوام دعاء الله سبحانه بالهداية إلى الاستقامة التي لا يهودية فيها ولا نصرانية أصلا

وأنا أشير إلى بعض أمور أهل الكتاب والأعاجم التي ابتليت بها هذه الأمة ليجتنب المسلم الحنيف الانحراف عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم أو الضالين

قال الله سبحانه ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فذم اليهود على ما حسدوا المؤمنين على الهدى والعلم

وقد يبتلى بعض المنتسبين إلى العلم وغيرهم بنوع من الحسد لمن هداه الله لعلم نافع أو عمل صالح وهو خلق مذموم مطلقا وهو في هذا الموضع من أخلاق المغضوب عليهم

وقال الله سبحانه والله لا يحب كل مختال فخور الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله

فوصفهم بالبخل الذي هو البخل بالعلم والبخل بالمال وإن كان السياق يدل على أن البخل بالعلم هو المقصود الأكبر فلذلك وصفهم بكتمان العلم في غير آية مثل قوله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه الآية وقوله تعالى إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا الآية وقوله إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار الآية وقوله تعالى وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن

فوصف المغضوب عليهم بأنهم يكتمون العلم تارة بخلا به وتارة اعتياضا عن إظهاره بالدنيا وتارة خوفا أن يحتج عليهم بما أظهروه منه

وهذا قد ابتلى به طوائف من المنتسبين إلى العلم فإنهم تارة يكتمون العلم بخلا به وكراهة أن ينال غيرهم من الفضل ما نالوه وتارة اعتياضا عنه برياسة أو مال ويخاف من إظهاره انتقاص رياسته أو نقص ماله وتارة يكون قد خالف غيره في مسألة أو اعتزى إلى طائفة قد خولفت في مسألة فيكتم من العلم ما فيه حجة لمخالفه وإن لم يتيقن أن مخالفه مبطل

ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي وغيره أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم

وليس الغرض تفصيل ما يحب وما يحتسب بل الغرض التنبيه على مجامع يتفطن اللبيب بها لما ينفعه الله به

وقال تعالى وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق الآية بعد أن قال وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين

فوصف اليهود بأنهم كانوا يعرفون الحق قبل ظهور النبي الناطق به والداعي إليه فلما جاءهم النبي الناطق به من غير طائفة يهوونها لم ينقادوا له فإنهم لا يقبلون الحق إلا من الطائفة التي هم منتسبون إليها مع أنهم لا يتبعون ما لزمهم في اعتقادهم

وهذا يبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معينة في العلم أو الدين من المتفقهة أو المتصوفة أو غيرهم أو إلى رئيس معظم عندهم في الدين غير النبي ﷺ فإنهم لا يقبلون من الدين لا فقها ولا رواية إلاما جاءت به طائفتهم ثم إنهم لا يعلمون ما توجبه طائفتهم مع أن دين الإسلام يوجب اتباع الحق مطلقا رواية وفقها من غير تعيين شخص أو طائفة غير الرسول ﷺ

وقال تعالى في صفة المغضوب عليهم من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ووصفهم بأنهم يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب والتحريف قد فسر بتحريف التنزيل وبتحريف التأويل

فأما تحريف التأويل فكثير جدا وقد ابتليت به طوائف من هذه الأمة

وأما تحريف التنزيل فقد وقع فيه كثير من الناس يحرفون ألفاظ الرسول ويروون أحاديث بروايات منكرة وإن كان الجهابذة يدفعون ذلك وربما تطاول بعضهم إلى تحريف التنزيل وإن لم يمكنه ذلك كما قرأ بعضهم وكلم الله موسى تكليما

وأما تطاول بعضهم إلى السنة بما يظن أنه من عند الله فكوضع الوضاعين الأحاديث على رسول الله ﷺ أو إقامة ما يظن أنه حجة في الدين وليس بحجة

وهذا الضرب من نوع أخلاق اليهود وذمها في النصوص كثير لمن تدبر في كتاب الله وسنة رسوله ثم نظر بنور الإيمان إلى ما وقع في الأمة من الأحداث

وقال سبحانه عن النصارى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته

وقال لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم إلى غير ذلك من المواضع

ثم إن الغلو في الأنبياء والصالحين قد وقع في طوائف من ضلال المتعبدة والمتصوفة حتى خالط كثيرا منهم من مذاهب الحلول والاتحاد ما هو أقبح من قول النصارى أو مثله أو دونه

وقال تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم الآية وفسره النبي ﷺ لعدي بن حاتم رضي الله عنه بأنهم أحلوا الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم

وكثير من أتباع المتعبدة يطيع بعض المعظمين عنده في كل ما يأمره به وإن تضمن تحليل حرام أو تحريم حلال

وقال سبحانه عن الضالين ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله وقد ابتلى طوائف من المسلمين من الرهبانية المبتدعة بما الله به عليم

وقال الله سبحانه قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا فكان الضالون بل والمغضوب عليهم يبنون المساجد على قبور الأنبياء والصالحين وقد نهى النبي ﷺ أمته عن ذلك في غير موضع حتى في وقت مفارقته الدنيا بأبي هو وأمي ثم إن هذا قد ابتلي به كثير من هذه الأمة

ثم إن الضالين تجد عامة دينهم إنما يقوم بالأصوات المطربة والصور الجميلة فلا يهتمون في أمر دينهم بأكثر من تلحين الأصوات

ثم إنك تجد أن هذه الأمة قد ابتليت من اتخاذ السماع المطرب بسماع القصائد بالصور والأصوات الجميلة لإصلاح القلوب والأحوال ما فيه مضاهاة لبعض حال الضالين

وقال سبحانه وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء

فأخبر أن كل واحدة من الأمتين تجحد كل ما عليه الأخرى وأنت تجد كثيرا من المتفقهة إذا رأى المتصوفة والمتعبدة لا يراهم شيئا ولا يعدهم إلا جهالا ضلالا ولا يعتقد في طريقهم من العلم والهدى شيئا وترى كثيرا من المتصوفة والمتفقرة لا يرى الشريعة والعلم شيئا بل يرى أن التمسك بهما منقطع عن الله وأنه ليس عند أهلها شيء مما ينفع عند الله

والصواب أن ما جاء به الكتاب والسنة من هذا وهذا حق وما خالف الكتاب والسنة من هذا وهذا باطل

وأما مشابهة فارس والروم فقد دخل منه في هذه الأمة من الآثار الرومية قولا وعملا والآثار الفارسية قولا وعملا مالا خفاء فيه على مؤمن عليم بدين الإسلام وبما حدث فيه

وليس الغرض هنا تفصيل الأمور التي وقعت في الأمة مما تضارع طريق المغضوب عليهم أو الضالين وإن كان بعض ذلك قد يقع مغفورا لصاحبه إما لاجتهاد أخطأ فيه وإما لحسنات محت السيئات أو غير ذلك

وإنما الغرض أن تتبين ضرورة العبد وفاقته إلى هداية الصراط المستقيم وأن ينفتح لك باب إلى معرفة الانحراف لتحذره

ثم إن الصراط المستقيم هو أمور باطنة في القلب من اعتقادات وإرادات وغير ذلك وأمور ظاهرة من أقوال وأفعال قد تكون عبادات وقد تكون أيضا عادات في الطعام واللباس والنكاح والمسكن والاجتماع والافتراق والسفر والإقامة والركوب وغير ذلك

وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ولا بد ارتباط ومناسبة فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورا ظاهرة وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعورا وأحوالا

وقد بعث الله عبده ورسوله محمدا ﷺ بالحكمة التي هي سنته وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين وأمر بمخالفتهم في الهدى الظاهر وإن لم يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة لأمور منها أن المشاركة في الهدى الظاهر تورث تناسبا وتشاكلا بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال وهذا أمر محسوس فإن اللابس لثياب أهل العلم مثلا يجد من نفسه نوع انضمام إليهم واللابس لثياب الجند المقاتلة مثلا يجد في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم ويصير طبعه مقتضيا لذلك إلا أن يمنعه من ذلك مانع

ومنها أن المخالفة في الهدى الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال والانعطاف إلى أهل الهدى والرضوان وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين وكلما كان القلب أتم حياة وأعرف بالإسلام الذي هو الإسلام لست أعني مجرد التوسم به ظاهرا أو باطنا بمجرد الاعتقادات التقليدية من حيث الجملة كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطنا أو ظاهرا أتم وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد

ومنها أن مشاركتهم في الهدى الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التمييز ظاهرا بين المهديين المرضيين وبين المغضوب عليهم والضالين إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية

هذا إذا لم يكن ذلك الهدى الظاهر إلا مباحا محضا لو تجرد عن مشابهتهم فأما إن كان من موجبات كفرهم فإنه يكون شعبة من شعب الكفر فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع ضلالهم ومعاصيهم

فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له والله أعلم

فصل في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن التشبه بهم

لما كان الكلام في المسألة الخاصة قد يكون مندرجا في قاعدة عامة بدأنا بذكر بعض ما دل من الكتاب والسنة والإجماع على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن مشابهتهم في الجملة سواء كان ذلك عاما في جميع الأنواع المخالفة أو خاصا ببعضها وسواء كان أمر إيجاب أو أمر استحباب

ثم أتبعنا ذلك بما يدل على النهي عن مشابهتهم في أعيادهم خصوصا

وهنا نكتة قد نبهت عليها في هذا الكتاب وهي أن الأمر بموافقة قوم أو بمخالفتهم قد يكون لأن نفس قصد موافقتهم أو نفس موافقتهم مصلحة

وكذلك نفس قصد مخالفتهم أو نفس مخالفتهم مصلحة بمعنى أن ذلك الفعل يتضمن مصلحة للعبد أو مفسدة وإن كان ذلك الفعل الذي حصلت به الموافقة أو المخالفة لو تجرد عن الموافقة والمخالفة لم يكن فيه تلك المصلحة أو المفسدة ولهذا نحن ننتفع بنفس متابعتنا لرسول الله ﷺ والسابقين من المهاجرين والأنصار في أعمال لولا أنهم فعلوها لربما قد كان لا يكون لنا فيها مصلحة لما يورث ذلك من محبتهم وائتلاف قلوبنا بقلوبهم وإن كان ذلك يدعونا إلى موافقتهم في أمور أخرى إلى غير ذلك من الفوائد كذلك قد نتضرر بموافقتنا الكافرين في أعمال لولا أنهم يفعلونها لم نتضرر بفعلها

وقد يكون الأمر بالموافقة والمخالفة لأن ذلك الفعل الذي يوافق العبد فيه أو يخالف متضمن للمصلحة والمفسدة ولو لم يفعلوه لكن عبر عنه بالموافقة والمخالفة على سبيل الدلالة والتعريف فتكون موافقتهم دليلا على المفسدة ومخالفتهم دليلا على المصلحة

واعتبار الموافقة والمخالفة على هذا التقدير من باب قياس الدلالة وعلى الأول من باب قياس العلة وقد يجتمع الأمران أعني الحكمة الناشئة من نفس الفعل الذي وافقناهم أو خالفناهم فيه ومن نفس مشاركتهم فيه وهذا هو الغالب على الموافقة والمخالفة المأمور بهما والمنهي عنهما فلا بد من التفطن لهذا المعنى فان به يعرف معنى نهي الله لنا عن اتباعهم وموافقتهم مطلقا ومقيدا

واعلم أن دلالة الكتاب على خصوص الأعمال وتفاصيلها إنما يقع بطريق الإجمال والعموم أو الاستلزام وإنما السنة هي التي تفسر الكتاب وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه

فنحن نذكر من آيات الكتاب ما يدل على أصل هذه القاعدة في الجملة ثم نتبع ذلك الأحاديث المفسرة لمعاني ومقاصد الآيات بعدها

قال الله سبحانه ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين

أخبر سبحانه أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغيا من بعضهم على بعض ثم جعل محمدا ﷺ على شريعة من الأمر شرعها له وأمره باتباعها ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته وأهواءهم هي ما يهوونه وما عليه المشركون من هديهم الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل وتوابع ذلك فهم يهوونه وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين في بعض أمورهم ويسرون به ويودون أن لو بذلوا مالا عظيما ليحصل ذلك ولو فرض أن ليس الفعل من اتباع أهوائهم فلا ريب أن مخالفتهم في ذلك أحسم لمادة متابعتهم في أهوائهم وأعون على حصول مرضاة الله في تركها وأن موافقتهم في ذلك قد تكون ذريعة إلى موافقتهم في غيره فإن من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه

وأي الأمرين كان حصل المقصود في الجملة وإن كان الأول أظهر

ومن هذا الباب قوله سبحانه والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق

فالضمير في أهوائهم يعود والله أعلم إلى ما تقدم ذكره وهم الأحزاب الذين ينكرون بعض ما أنزل إليه فدخل في ذلك كل من أنكر شيئا من القرآن من يهودي أو نصراني أو غيرهما وقد قال ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم وتوابع دينهم اتباع لأهوائهم بل يحصل اتباع أهوائهم بما هو دون ذلك

ومن هذا أيضا قوله تعالى ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهوائهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير

فانظر كيف قال في الخبر ملتهم وفي النهي أهواءهم لأن القوم لا يرضون إلا باتباع الملة مطلقا والزجر وقع عن اتباع أهوائهم في قليل أو كثير ومن المعلوم أن متابعتهم في بعض ما هم عليه من الدين نوع متابعة لهم في بعض ما يهوونه أو مظنة لمتابعتهم فيما يهوونه كما تقدم

ومن هذا الباب قوله سبحانه ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وأن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم

قال غير واحد من السلف معناه لئلا يحتج اليهود عليكم بالموافقة في القبلة فيقولوا قد وافقونا في قبلتنا فيوشك أن يوافقونا في ديننا فقطع الله بمخالفتهم في القبلة هذه الحجة إذ الحجة اسم لكل ما يحتج به من حق

وباطل إلا الذين ظلموا منهم وهم قريش فإنهم يقولون عادوا إلى قبلتنا فيوشك أن يعودوا إلى ديننا

فبين سبحانه أن من حكمة نسخ القبلة وتغييرها مخالفة الكافرين في قبلتهم ليكون ذلك أقطع لما يطمعون فيه من الباطل ومعلوم أن هذا المعنى ثابت في كل مخالفة وموافقة فإن الكافر إذا اتبع في شيء من أمره كان له من الحجة مثل ما كان أو قريب مما كان لليهود من الحجة في القبلة

وقال سبحانه ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات البينات وهم اليهود والنصارى الذين افترقوا على أكثر من سبعين فرقة ولهذا نهى النبي ﷺ عن متابعتهم في نفس التفرق والاختلاف مع أنه ﷺ قد أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة مع أن قوله لا تكن مثل فلان قد يعم مماثلته بطريق اللفظ أو المعنى وإن لم يعم دل على أن جنس مخالفتهم وترك مشابهتهم أمر مشروع ودل على أنه كلما بعد الرجل عن مشابهتهم فيما لم يشرع لنا كان أبعد عن الوقوع في نفس المشابهة المنهي عنها وهذه مصلحة جليلة

وقال سبحانه لموسى وهرون فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون وقال سبحانه وقال موسى لأخيه هرون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين وقال تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم إلى غير ذلك من الآيات

وما هم عليه من الهدى والعمل هو من سبيل غير المؤمنين بل من سبيل المفسدين والذين لا يعلمون وما يقدر عدم اندراجه في العموم فالنهي ثابت عن جنسه فيكون مفارقة الجنس بالكلية أقرب إلى ترك المنهي عنه ومقاربته في مظنة وقوع المنهي عنه

قال سبحانه وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ومتابعتهم في هديهم هي من اتباع ما يهوونه أو مظنة لا تباع ما يهوونه وتركها معونة على ترك ذلك وحسم لمادة متابعتهم فيما يهوونه

واعلم أن في كتاب الله من النهي عن مشابهة الأمم الكافرة وقصصهم التي فيها عبرة لنا بترك ما فعلوه كثير مثل قوله لما ذكر ما فعله بأهل الكتاب من المثلات فاعتبروا يا أولي الأبصار وقوله لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب وأمثال ذلك

ومنه ما يدل على مقصودنا ومنه ما فيه إشارة وتتميم للمقصود

ثم متى كان المقصود بيان أن مخالفتهم في عامة أمورهم أصلح لنا فجميع الآيات دالة على ذلك وإن كان المقصود أن مخالفتهم واجبة علينا فهذا إنما يدل عليه بعض الإيات دون بعض

ونحن ذكرنا ما يدل على أن مخالفتهم مشروعة في الجملة إذا كان هذا هو المقصود هنا

وأما تمييز دلالة الوجوب أو الواجب عن غيرها وتمييز الواجب عن غيره فليس هو الغرض هنا

وسنذكر إن شاء الله أن مشابهتهم في أعيادهم من الأمور المحرمة فإنه هو المسألة المقصودة هنا بعينها وسائر المسائل سواها إنما جلبها إلى هنا تقرير القاعدة الكلية العظيمة المنفعة

قال الله عز و جل المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير

بين الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات أخلاق المنافقين وصفاتهم وأخلاق المؤمنين وصفاتهم وكلا الفريقين مظهر للإسلام ووعد المنافقين المظهرين للإسلام مع هذه الإخلاق والكافرين المظهرين للكفر نار جهنم وأمر نبيه بجهاد الطائفتين

ومنذ بعث الله عبده ورسوله محمدا ﷺ وهاجر إلى المدينة صار الناس ثلاثة أصناف مؤمن ومنافق وكافر فأما الكافر وهو المظهر للكفر فأمره بين وإنما الغرض هنا متعلق بصفات المنافقين المذكورة في الكتاب والسنة فإنها هي التي تخاف على أهل القبلة فوصف الله سبحانه المنافقين بأن بعضهم من بعض وقال في المؤمنين بعضهم أولياء بعض وذلك لأن المنافقين تشابهت قلوبهم وأعمالهم وهم مع ذلك تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى فليست قلوبهم متوادة متوالية إلا ما دام الغرض الذي يؤمونه مشتركا بينهم ثم يتخلى بعضهم عن بعض بخلاف المؤمن فإنه يحب المؤمن وينصره بظهر الغيب وإن تناءت بهم الديار وتباعد الزمان

ثم وصف الله سبحانه كل واحدة من الطائفتين بأعمالهم في أنفسهم وفي غيرهم وكلمات الله جوامع

وذلك أنه لما كانت أعمال المرء المتعلقة بدينه قسمين أحدهما أن يعمل ويترك والثاني أن يأمر غيره بالفعل والترك ثم فعله إما أن يختص هو بنفعه أو ينفع به غيره فصارت الأقسام ثلاثة ليس لها رابع

أحدها ما يقوم بالعامل ولا يتعلق بغيره كالصلاة مثلا

والثاني ما يعمله لنفع غيره كالزكاة

والثالث ما يأمر غيره أن يفعله فيكون الغير هو العامل وحظه هو الأمر به

فقال سبحانه في وصف المنافقين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف وبإزائه في وصف المؤمنين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر

والمعروف اسم جامع لكل ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح

والمنكر اسم جامع لكل ما كرهه الله ونهى عنه

ثم قال ويقبضون أيديهم قال مجاهد يقبضونها عن الإنفاق في سبيل الله وقال قتادة يقبضون أيديهم عن كل خير فمجاهد أشار إلى النفع بالمال وقتادة أشار إلى النفع بالمال والبدن وقبض اليد عبارة عن الإمساك كما في قوله تعالى ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط

وفي قوله وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وهي حقيقة عرفية ظاهرة من اللفظ أو هي مجاز مشهور

وبإزاء قبض أيديهم قوله في المؤمنين يؤتون الزكاة فإن الزكاة وإن كانت قد صارت حقيقة شرعية في الزكاة المفروضة فإنها اسم لكل نفع للخلق من نفع بدني أو مالي فالوجهان هنا كالوجهين في قبض اليد

ثم قال نسوا الله فنسيهم ونسيان الله ترك ذكره

وبإزاء ذلك قال في صفة المؤمنين يقيمون الصلاة فإن الصلاة أيضا تعم الصلاة المفروضة والتطوع وقد يدخل فيها كل ذكر الله إما لفظا وإما معنى قال ابن مسعود رضي الله عنه ما دمت تذكر الله فأنت في صلاة وإن كنت في السوق وقال معاذ بن جبل مدارسة العلم التسبيح

ثم ذكر ما وعد الله به المنافقين والكفار من اللعنة ومن النار والعذاب المقيم في الآخرة

وبإزائه ما وعد الله المؤمنين من الجنة والرضوان ومن الرحمة

ثم في ترتيب الكلمات وألفاظها أسرار كثيرة ليس هذا موضعها وإنما الغرض تمهيد قاعدة لما سنذكره إن شاء الله

وقد قيل إن قوله ولهم عذاب مقيم إشارة إلى ما هو لازم لهم في الدنيا والآخرة من الآلام النفسية غما وحزنا وقسوة ظلمة قلب وجهلا فإن للكفر والمعاصي من الآلام العاجلة الدائمة ما الله به عليم ولهذا تجد غالب هؤلاء لا يطيبون عيشهم إلا بما يزيل عقولهم ويلهي قلوبهم من تناول مسكر أو رؤية مله أو سماع مطرب ونحو ذلك

وبإزاء ذلك قوله في المؤمنين أولئك سيرحمهم الله فإن الله يعجل للمؤمنين من الرحمة في قلوبهم وغيرها بما يجدونه من حلاوة الإيمان ويذوقونه من طعمه وانشراح صدورهم للإسلام إلى غير ذلك من السرور بالإيمان والعلم النافع والعمل الصالح بما لا يمكن وصفه

ثم قال سبحانه في تمام خبر المنافقين كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا وهذه الكاف قد قيل إنها رفع خبر مبتدأ محذوف تقديره أنتم كالذين من قبلكم وقيل إنها نصب بفعل محذوف تقديره فعلتم كالذين من قبلكم كما قال النمر بن تولب ... كاليوم مطلوبا ولا طالبا ...

أي لم أر كاليوم والتشبيه على هذين القولين في أعمال الذين من قبل وقيل إن التشبيه في العذاب

ثم قيل العامل محذوف أي لعنهم وعذبهم كما لعن الذين من قبلكم وقيل هو أجود بل العامل ما تقدم أي وعد الله المنافقين كوعد الذين من قبلكم ولعنهم كلعن الذين من قبلكم ولهم عذاب مقيم كالذين من قبلكم فمحلها نصب ويجوز أن يكون رفعا أي عذاب كعذاب الذين من قبلكم

وحقيقة الامر على هذا القول أن الكاف تنازعها عاملان ناصبان أو ناصب ورافع من جنس قولهم أكرمت وأكرمني زيد والنحويون لهم فيما إذا لم يختلف العامل كقولك أكرمت وأعطيت زيدا قولان

أحدهما وهو قول سيبويه وأصحابه أن العامل في الاسم هو أحدهما وأن الآخر حذف معموله لأنه لا يرى اجتماع عاملين على معمول واحد

والثاني قول الفراء وغيره من الكوفيين أن الفعلين عملا في هذا الاسم وهو يرى أن العاملين يعملان في المعمول الواحد

وعلى هذا اختلافهم في نحو قوله عن اليمين وعن الشمال قعيد وأمثاله

فعلى قول الأولين يكون التقدير وعد الله المنافقين النار كوعد الذين من قبلكم ولهم عذاب مقيم كالذين من قبلكم أو كعذاب الذين من قبلكم ثم حذف اثنان من هذه المعمولات لدلالة الآخر عليهما وهم يستحسنون حذف الأولين

وعلى القول الثاني يمكن أن يقال الكاف المذكورة بعينها هي المتعلقة بقوله وعد وبقوله لعن وبقوله ولهم عذاب مقيم لأن الكاف لا يظهر فيها إعراب وهذا على القول بأن عمل الثلاثة النصب ظاهر

وإذا قيل إن الثالث يعمل الرفع فوجهه أن العمل واحد في اللفظ إذ التعلق تعلق معنوي لا لفظي

وإذا عرفت أن من الناس من يجعل التشبيه في العمل ومنهم من يجعل التشبيه في العذاب فالقولان متلازمان إذ المشابهة في الموجب تقتضي المشابهة في الموجب وبالعكس فلا خلاف معنوي بين القولين

وكذلك ما ذكرناه من اختلاف النحويين في وجوب الحذف وعدمه إنما هو اختلاف في تعليلات ومآخذ لا تقتضي اختلافا لا في إعراب ولا في معنى

فإذن الأحسن أن تتعلق الكاف بمجموع ما تقدم من العمل والجزاء فيكون التشبيه فيهما لفظيا

وعلى القولين الأولين يكون قد دل على أحدهما لفظا ودل على الآخر لزوما

وإن سلكت طريقة الكوفيين على هذا كان أبلغ وأحسن فإن لفظ الآية يكون قد دل على المشابهة في الأمرين من غير حذف وإلا فيضمر حالكم كحال الذين من قبلكم ونحو ذلك وهو قول من قدره أنتم كالذين من قبلكم ولا يسع هذا المكان بسطا أكثر من هذا فإن الغرض متعلق بغيره

وهذه المشابهة في هؤلاء بإزاء ما وصف الله به المؤمنين من قوله ويطيعون الله ورسوله فان طاعة الله ورسوله تنافي مشابهة الذين من قبلكم قال سبحانه كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا

فالخطاب في قوله كانوا أشد منكم قوة وقوله فاستمتعتم إن كان للمنافقين كان من باب خطاب التلوين والالتفات وهذا انتقال من الغيبة إلى الحضور كما في قوله الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين ثم حصل الانتقال من الخطاب إلى الغيبة في قوله أولئك حبطت أعمالهم وكما في قوله حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها وقوله وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فإن الضمير في قوله أولئك حبطت أعمالهم الأظهر أنه عائد إلى المستمتعين الخائضين من هذه الأمة كقوله فيما بعد ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم وإن كان الخطاب لمجموع الأمة المبعوث إليها فلا يكون الإلتفات إلا في الموضع الثاني