→ الفصل الأول | إحياء علوم الدين كتاب قواعد العقائد - الفصل الثاني المؤلف: أبو حامد الغزالي |
الفصل الثالث ← |
اعلم أن ما ذكرناه في ترجمة العقيدة ينبغي أن يقدم إلى الصبي في أول نشوه ليحفظه حفظاً ثم لا يزال ينكشف له معناه في كبره شيئاً فشيئاً؛ فابتداؤه الحفظ ثم الفهم ثم الاعتقاد والإيقان والتصديق به، وذلك مما يحصل في الصبي بغير برهان. فمن فضل الله سبحانه على قلب الإنسان أن شرحه في أول نشوه للإيمان من غير حاجة إلى حجة وبرهان، وكيف ينكر ذلك وجميع عقائد العوام مباديها التلقين المجرد والتقليد المحض? نعم يكون الاعتقاد الحاصل بمجرد التقليد غير خال عن نوع من الضعف في الابتداء على معنى أنه يقبل الإزالة بنقيضه لو ألقي إليه فلابد من تقويته وإثباته في نفس الصبي والعامي حتى يترسخ ولا يتزلزل. وليس الطريق في تقويته وإثباته إن يعلم صنعة الجدل والكلام بل يشتغل بتلاوة القرآن وتفسيره وقراءة الحديث ومعانيه. ويشتغل بوظائف العبادات فلا يزال اعتقاده يزداد رسوخاً بما يقرع سمعه من أدلة القرآن وحججه وبما يرد عليه من شواهد الأحاديث وفوائدها وبما يسطع عليه من أنوار العبادات ووظائفها وبما يسري إليه من مشاهدة الصالحين ومجالستهم وسيماهم وسماعههم وهيآتهم في الخضوع لله عز وجل والخوف منه والاستكانة له فيكون أول التلقين كإلقاء بذر في الصدر، وتكون هذه الأسباب كالسقي والتربية له حتى ينمو ذلك البذر يقوى ويرتفع شجرة طيبة راسخة أصلها ثابت وفرعها في السماء. وينبغي أن يحرس سمعه من الجدل والكلام غاية الحراسة فإن ما يشوشه الجدل أكثر مما يمهده وما يفسده أكثر مما يصلحه بل تقويته بالجدل تضاهي ضرب الشجرة بالمدقة من الحديد رجاء تقويتها بأن تكثر أجزاؤها وربما يفتتها ذلك ويفسدها وهو الأغلب. والمشاهدة تكفيك في هذا بياناً فناهيك بالعيان برهاناً. فقس عقيدة أهل الصلاح والتقى من عوام الناس بعقيدة المتكلمين والمجادلين فترى اعتقاد العامي في الثبات كالطود الشامخ لا تحركه الدواهي والصواعق وعقيدة المتكلم الحارس اعتقاده بتقسيمات الجدل كخيط مرسل في الهواء تفيئه الرياح مرة هكذا ومرة هكذا إلا من سمع منهم دليل الاعتقاد فتلقفه تقليداً كما تلقف نفس الاعتقاد تقليداً؛ إذ لا فرق في التقليد بين تعليم الدليل أو تعلم المدلول فتلقين الدليل شيء والاستدلال بالنظر شيء آخر بعيد عنه. ثم الصبي إذا وقع نشوه على هذه العقيدة إن اشتغل بكسب الدنيا لم ينفتح له غيرها ولكنه يسلم في الآخرة باعتقاد أهل الحق، إذ لم يكلف الشرع أجلاف العرب أكثر من التصديق الجازم بظاهر هذه العقائد، فأما البحث والتفتيش وتكلف نظم الأدلة فلم يكلفوه أصلاً. وإن أراد أن يكون من سالكي طريق الآخرة وساعده التوفيق حتى اشتغل بالعمل ولازم التقوى ونهى النفس عن الهوى واشتغل بالرياضة والمجاهدة انفتحت له أبواب من الهداية تكشف عن حقائق هذه العقيدة بنور إلهي يقذف في قلبه بسبب المجاهدة تحقيقاً لوعده عز وجل إذ قال "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين" وهو الجوهر النفيس الذي هو غاية إيمان الصديقين والمقربين، وإليه الإشارة بالسر الذي وقر في صدر أبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث فضل به الخلق. وانكشاف ذلك السر بل تلك الأسرار له درجات بحسب درجات المجاهدة ودرجات الباطن في النظافة والطهارة عما سوى الله تعالى وفي الاستضاءة بنور اليقين وذلك كتفاوت الخلق في اسرار الطب والفقه وسائر العلوم إذ يختلف ذلك باختلاف الاجتهاد واختلاف الفطرة في الذكاء والفطنة وكما لا تنحصر تلك الدرجات فكذلك هذه مسألة فإن قلت: تعلم الجدل والكلام مذموم كتعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب إليه? فاعلم أن الناس في هذا غلواً وإسرافاً في أطراف فمن قائل إنه بدعة أو حرام وأن العبد إن لقي الله عز وجل بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام، ومن قائل إنه واجب وفرض إما على الكفاية أو على الأعيان وأنه أفضل الأعمال وأعلى القربات فإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال عن دين الله تعالى. وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع أهل الحديث من السلف.
قال ابن عبد الأعلى رحمه الله سمعت الشافعي رضي الله عنه يوم ناظر حفصاً الفرد - وكان من متكلمي المعتزلة - يقول: لأن يلقى الله عز وجل العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير من أن يلقاه بشيء من علم الكلام ولقد سمعت من حفص كلاماً لا أقدر أن أحكيه، وقال أيضاً: قد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننته قط ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في الكلام. وحكى الكرابيسي "أن الشافعي رضي الله عنه سئل عن شيء من الكلام فغضب، وقال: سل عن هذا حفصاً الفرد وأصحابه، أخزاهم الله، ولما مرض الشافعي رضي الله عنه دخل عليه حفص الفرد فقال له: من أنا? فقال: حفص الفرد، لا حفظك الله ولا رعاك حتى تتوب مما أنت فيه. وقال أيضاً لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه فرارهم من الأسد? وقال أيضاً إذا سمعت الرجل يقول الاسم هو المسمى أو غير المسمى? فاشهد بأنه من أهل الكلام ولا دين له. قال الزعفراني: قال الشافعي حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام? وقال أحمد بن حنبل: لا يفلح صاحب الكلام أبداًن ولا تكاد ترى أحداً نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل، وبالغ في ذمه حتى هجر الحارث المحاسبي مع زهده وورعه بسبب تصنيفه كتاباً في الرد على المبتدعة وقال له: ويحك ألست تحكي بدعتهم أولاً ثم ترد عليهم ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة البدعة والتفكر في تلك الشبهات فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث! وقال أحمد رحمه الله: علماء الكلام زنادقة. وقال مالك رحمه الله: أرأيت إن جاءه من هو أجدل منه أيدع دينه كل يوم لدين جديد? يعني أن أقوال المتجادلين تتفاوت. وقال مالك رحمه الله أيضاً: لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء؛ فقال بعض أصحابه - في تأويله - أنه أراد بأهل الأهواء أهل الكلام على أي مذهب كانوا. وقال أبو يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق. وقال الحسن: لا تجادلوا أهل الأهواء ولا تجالسوهم ولا تسمعوا منهم، وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا. ولا ينحصر ما نقل عنهم من التشديدات فيه وقالوا ما سكت عنه الصحابة - مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح بترتيب الألفاظ من غيرهم - إلا لعلمهم بما يتولد منه من الشر.
ولذلك قال النبي ﷺ "هلك المتنطعون هلك المتنطعون هلك المتنطعون" أي المتعقمون في البحث والاستقصاء. واحتجوا أيضاً بأن ذلك لو كان من الدين لكان ذلك أهم ما يأمر به رسول الله ﷺ ويعلم طريقه ويثني عليه وعلى أربابه، فقد علمهم الاستنجاء" وندبهم إلى علم الفرائض وأثنى عليهم ونهاهم عن الكلام في القدر وقال أمسكوا عن القدر. وعلى هذا استمر الصحابة رضي الله عنهم فالزيادة على الأستاذ طغيان وظلم. وهم الأستاذون والقدوة ونحن الأتباع والتلامذة. وأما الفرقة الأخرى فاحتجوا بأن قالوا: إن المحذور من الكلام إن كان هو لفظ الجوهر والعرض وهذه الاصطلاحات الغريبة التي تعهدها الصحابة رضي الله عنهم فالأمر فيه قريب، إذا ما من علم غلا وقد أحدث فيه اصطلاحات لأجل التفهيم كالحديث والتفسير ولو عرض عليهم عبارة النقض والكسر والتركيب والتعدية وفساد الوضع إلى جميع الأسئلة التي تورد على القياس لما كانوا يفقهونه. فإحداث عبارة للدلالة بها على مقصود صحيح كإحداث آنية على هيئة جديدة لاستعمالها في مباح، وإن كان المحذور هو المعنى فنحن لا نعني به إلا معرفة الدليل على حدوث العالم ووحدانية الخالق وصفاته كما جاء في الشرع فمن أين تحرم معرفة الله تعالى بالدليل، وإن كان المحذور هو التشعب والتعصب والعداوة والبغضاء وما يفضي إليه الكلام فذلك محرم ويجب الاحتراز عنه كما أن الكبر والعجب والرياء وطلب الرياسة مما يفضي إليه علم الحديث والتفسير والفقه وهو محرم يجب الاحتراز عنه ولكن لا يمنع من العلم لأجل أدائه إليه وكيف يكون ذكر الحجة والمطالبة بها والبحث عنها محظوراً وقد قال الله تعالى "قل هاتوا برهانكم" وقال عز وجل "ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة" وقال تعالى "هل عندكم من سلطان بهذا" أي حجة وبرهان وقال تعالى "قل فالله الحجة البالغة" وقال تعالى "ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه - إلى قوله - فبهت الذي كفر" إذ ذكر سبحانه احتجاج إبراهيم ومجادلته وإفحامه خصمه في معرض الثناء عليه وقال عز وجل "وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه" وقال تعالى "قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا" وقال تعالى في قصة فرعون "وما رب العالمين - إلى قوله - أولوا جئتك بشيء مبين" وعلى الجملة فالقرآن من أوله إلى آخره محاجة مع الكفار فعمدة أدلة المتكلمين في التوحيد قوله تعالى "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" وفي النبوة "وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله" وفي البعث "قل يحييها الذي أنشأها أول مرة" إلى غير ذلك من الآيات والأدلة.
ولم تزل الرسل صلوات الله عليهم يحاجون المنكرين ويجادلونهم قال تعالى "وجادلهم بالتي هي أحسن" فالصحابة رضي الله عنهم أيضاً كانوا يحاجون المنكرين ويجادلون ولكن عند الحاجة. وكانت الحاجة إليه قليلة في زمانهم وأول من سن دعوة المبتدعة بالمجادلة إلى الحق: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إذ بعث ابن عباس رضي الله عنهما إلى الخوارج فكلمهم فقال: ما تنقمون على إمامكم? قالوا: قاتل ولم يسب ولم يغنم، فقال: ذلك في قتال الكفار! أرأيتم لو سببت عائشة رضي الله عنها في سهم أحدكم أكنتم تستحلون منها ما تستحلون من ملككم وهي أمكم في نص الكتاب? فقالوا: لا، فرجع منهم إلى الطاعة بمجادلته ألفان. وروي أن الحسن ناظر قدرياً فرجع عن القدر. وناظر علي بن أبي طالب كرم الله وجهه رجلاً من القدرية. وناظر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يزيد بن عميرة في الإيمان، قال عبد الله: لو قلت إني مؤمن لقلت إني في الجنة? فقال له يزيد بن عميرة: يا صاحب رسول الله هذه زلة منك وهل الإيمان إلا أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث والميزان وتقيم الصلاة والصوم والزكاة? ولنا ذنوب لو نعلم أنها تغفر لنا لعلمنا أننا من أهل الجنة، فمن أجل ذلك نقول إنا مؤمنون ولا نقول إنا من أهل الجنة. فقال ابن مسعود صدقت والله إنها مني زلة، فينبغي أن يقال كان خوضهم فيه قليلاً لا كثيراً وقصيراً لا طويلاً وعند الحاجة لا بطريق التصنيف والتدريس واتخاذه صناعة، فيقال أما قلة خوضهم فيه فإنه كان لقلة الحاجة إذا لم تكن البدعة تظهر في ذلك الزمان، وأما القصر فقد كان الغاية في إفحام الخصم واعترافه وانكشاف الحق وإزالة الشبهة، فلو طال إشكال الخصم أو لجاجه لطال لا محالة إلزامهم. وما كانوا يقدرون قدر الحاجة بميزان ولا مكيال بعد الشروع فيها "وأما عدم تصديهم للتدريس والتصنيف فيه فهكذا كان دأبهم في الفقه والتفسير والحديث أيضاً، فإن جاز تصنيف الفقه ووضع الصور النادرة التي لا تتفق إلا على الندور إما إدخار اليوم وقوعها وإن كان نادراً أو تشحيذاً للخواطر فنحن أيضاً نرتب طرق المجادلة لتوقع وقوع الحاجة بثوران شبهة أو هيجان مبتدع أو لتشحيذ أو لادخار الحجة حتى لا يعجز عنها عند الحاجة على البديهة والارتجال، كمن يعد السلاح قبل القتال ليوم القتال فهذا ما يمكن أن يذكر للفريقين. فإن قلت: فما المختار عندك فيه? فاعلم أن الحق فيه أن إطلاق القول بذمه في كل حال أو بحمده في كل حال خطأ بل لابد فيه من تفصيل. فاعلم أولاً أن الشيء قد يحرم لذاته كالخمر والميتة وأعني بقولي لذاته أن علة تحريمه وصف في ذاته وهو الإسكار والموت. وهذا إذا سئلنا عنه أطلقنا القول بأنه حرام ولا يلتفت إلا إباحة الميتة عند الاضطرار وإباحة تجرع الخمر إذا غص الإنسان بلقمة ولم يجد ما يسيغها سوى الخمر وإلى ما يحرم لغيره كالبيع على بيع أخيك المسلم في وقت الخيار والبيع وقت النداء، وكأكل الطين فإنه يحرم لما فيه من الإضرار وهذا ينقسم إلى ما يضر قليله وكثيره فيطلق القول عليه بأنه حرام كالسم الذي يقتل قليله وكثيره، وإلى ما يضر عند الكثرة فيطلق القول عليه بالإباحة كالعسل فإن كثيره يضر بالمجرور، وكأكل الطين.
وكأن إطلاق التحريم على الطين والخمر والتحليل على العسل التفات إلى أغلب الأحوال؛ فإن تصدى شيء تقابلت فيه الأحوال فالأولى والأبعد عن الالتباس أن يفصل فنعود إلى علم الكلام ونقول: إن فيه منفعة وفيه مضرة، فهو باعتبار منفعته في وقت الانتفاع حلال أو مندوب إليه أو واجب كما يقتضيه الحال، وهو باعتبار مضرته في وقت الاستضرار ومحله حرام أما مضرته فإثارة الشبهات وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم فذلك مما يحصل في الابتداء ورجوعها بالدليل مشكوك فيه، ويختلف فيه الإشخاص، فهذا ضرره في الاعتقاد الحق. وله ضرر آخر في تأكيد اعتقاد المبدعة للبدعة وتثبيته في صدورهم بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه ولكن هذا الضرر بواسطة التعب الذي يثور من الجدل ولذلك ترى المبتدع العامي يمكن أن يزول اعتقاده باللطف في أسرع زمان إلا إذا كان نشؤه في بلد يظهر فيها الجدل والتعصب فإنه لو اجتمع عليه الأولون والآخرون لم يقدروا على نزع البدعة من صدره بل الهوى والتعصب وبغض خصوم المجادلين وفرقة المخالفين يستولي على قلبه ويمنعه من إدراك الحق حتى لو قيل له: هل تريد أن يكشف الله تعالى لك الغطاء ويعرفك بالعيان أن الحق مع خصمك لكره ذلك خيفة من أن يفرح به خصمه? وهذا هو الداء العضال الذي استطار في البلاد والعباد وهو نوع فساد أثاره المجادلون بالتعصب فهذا ضرره. وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه وهيهات فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف، وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخر تناسب نوع الكلام وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود. ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور ولكن على الندور في أمور جلية تكاد تفهم قبل التعمق في صنعة الكلام بل منفعته شيء واحد وهو حراسة العقيدة التي ترجمناها على العوام وحفظها عن تشويشات المبتدعة بأنواع الجدل فإن العامي ضعيف يستفزه جدل المبتدع وإن كان فاسداً، ومعارضة الفاسد بالفاسد تدفعه.
والناس متعبدون بهذه العقيدة التي قدمناها غذ ورد الشرع بها لما فيها من صلاح دينهم ودنياهم وأجمع السلف الصالح عليها والعلماء يتعبدون بحفظها على العوام من تلبيسات المبتدعة كما تعبد السلاطين بحفظ أموالهم عن تهجمات الظلمة والغصاب وإذا وقعت الإحاطة بضرره ومنفعته فينبغي أن يكون كالطبيب الحاذق في استعمال الدواء الخطر إذ لا يضعه إلا في موضعه وذلك في وقت الحاجة وعلى قدر الحاجة. وتفصيله أن العوام المشتغلين بالحرف والصناعات يجب أن يتركوا على سلامة عقائدهم التي اعتقدوها مهما تلقنوا الاعتقاد الحق الذي ذكرناه فإن تعليمهم الكلام ضرر محض في حقهم إذ ربما يثير لهم شكاً ويزلزل عليهم الاعتقاد ولا يمكن القيام بعد ذلك بالإصلاح. وأما العامي المعتقد للبدعة فينبغي أن يدعى إلى الحق بالتلطف لا بالتعصب وبالكلام اللطيف المقنع للنفس المؤثر في القلب القريب من سياق أدلة القرآن والحديث الممزوج بفن من الوعظ والتحذير فإن ذلك أنفع من الجدال الموضوع على شرط المتكلمين؛ إذ العامي إذا سمع ذلك اعتقد أنه نوع صنعة من الجدل تعلمها المتكلم ليستدرج الناس إلى اعتقاده فإن عجز عن اجلواب قدر أن المجادلين مع أهل مذهبه أيضاً يقدرون على دفعه. فالجدل مع هذا ومع الأول حرام وكذلك مع من وقع في شك إذ يجب إزالته باللطف والوعظ والأدلة القريبة المقبولة البعيدة عن تعمق الكلام. واستقصاء الجدل إنما ينفع في موضع واحد وهو أن يفرض عامي اعتقد البدعة بنوع جدله سمعه فيقابل ذلك الجدل بمثله فيعود إلى اعتقاد الحق وذلك فيمن ظهر له من الأنس بالمجادلة ما يمنعه عن القناعة بالمواعظ والتحذيرات العامية فقد انتهى هذا إلى حالة لا يشفيه منها إلا دواء الجدل فجار أن يلقى إليه. وأما في بلاد تقل فيها البدعة ولا تختلف فيها المذاهب فيقتصر فيها على ترجمة الاعتقاد الذي ذكرناه ولا يتعرض للأدلة ويتربص وقوع شبهة فإن وقعت ذكر بقدر الحاجة فإن كانت البدعة شائعة وكان يخاف على الصبيان أن يخدعوا فلا بأس أن يعلموا القدر الذي أودعناه كتاب الرسالة القدسية ليكون ذلك سبباً لدفع تأثير مجادلات المبتدعة إن وقعت إليهم وهذا مقدار مختصر وقد أودعناه هذا الكتاب لاختصاره فإن كان فيه ذكاء وتنبه بذكائه لموضع سؤال أو ثارت في نفسه شبهة فقد بدت العلة المحذورة وظهر الداء فلا بأس أن يرقى منه إلى القدر الذي ذكرناه في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد - وهو قدر خمسين ورقة - وليس فيه خروج عن النظر في قواعد العقائد إلى غير ذلك من مباحث المتكلمين. فإن اقنعه ذلك كف عنه وإن لم يقنعه ذلك فقد صارت العلة مزمنة والداء غالباً والمرض سارياً فليتلطف به الطبيب بقدر إمكانه وينتظر قضاء الله تعالى فيه إلى أن ينكشف له الحق بتنبيه من الله سبحانه أو يستمر على الشك والشبهة إلى ما قدر له فالقدر الذي يحويه ذلك الكتاب وجنسه من المصنفات هو الذي يرجى نفعه. فأما الخارج منه فقسمان؛ أحدهما: بحث عن غير قواعد العقائد كالبحث عن الاعتمادات وعن الأكوان وعن الإدراكات وعن الخوض في الرؤية هل لها ضد يسمى المنع أو العمى? وإن كان فذلك واحد هو منع عن جميع ما لا يرى أو ثبت لكل مرئي يمكن رؤيته منع بحسب عدده إلى غير ذلك من الترهات المضلات. والقسم الثاني: زيادة تقرير لتلك الأدلة في غير تلك القواعد وزيادة أسئلة وأجوبة وذلك أيضاً استقصاء لا يزيد إلا ضلالاً وجهلاً في حق من لم يقنعه ذلك القدر فرب كلام يزيده الإطناب والتقرير غموضاً. ولو قال قائل: البحث عن حكم الإدراكات والاعتمادات فيه فائدة تشحيذ الخواطر. والخاطر آلة الدين كالسيف آل الجهاد فلا بأس بتشحيذه كان كقوله لعب الشطرنج يشحذ الخاطر فهو من الدين أيضاً وذلك هوس فإن الخاطر يتشحذ بسائر علوم الشرع ولا يخاف فيها مضرة فقد عرفت بهذا القدر المذموم والقدر المحمود من الكلام والحال التي يذم فيها والحال التي يحمد فيها والشخص الذي ينتفع به والشخص الذي لا ينتفع به.
فإن قلت: مهما اعترفت بالحاجة إليه في دفع المبتدعة والآن قد ثارت البدع وعمت البلوى وأرهقت الحاجة فلابد أن يصير القيام بهذا العلم من فروض الكفايات كالقيام بحراسة الأموال وسائر الحقوق كالقضاء والولاية وغيرهما? وما لم يشتغل العلماء بنشر ذلك والتدريس فيه والبحث عنه لا يدوم ولو ترك بالكلية لاندرس وليس في مجرد الطباع كفاية لحل شبه المبتدعة ما لم يتعلم فينبغي أن يكون التدريس فيه والبحث عنه أيضاً من فروض الكفايات بخلاف زمن الصحابة رضي الله عنهم فإن الحاجة ما كانت ماسة إليه. فاعلم أن الحق أنه لابد في كل بلد من قائم بهذا العلم مستقل يدفع شبه المبتدعة التي ثارت في تلك البلدة وذلك يدوم بالتعليم ولكن ليس من الصواب تدريسه على العموم كتدريس الفقه والتفسير فإن هذا مثل الدواء والفقه مثل الغذاء وضرر الغذاء لا يحذر وضرر الدواء محذور لما ذكرنا فيه من أنواع الضرر. فالعالم الذي ينبغي أن يخصص بتعليم هذا العلم من فيه ثلاث خصال؛ إحداها: التجرد للعلم والحرص عليه، فإن المحترف يمنعه الشغل عن الاستتمام وإزالة الشكوك إذا عرضت. الثانية: الذكاء والفطنة والفصاحة فإن البليد لا ينتفع بفهمه والفدم لا ينتفع بحجاجه فيخاف عليه من ضرر الكلام ولا يرجى فيه نفعه. الثالثة: أن يكون في طبعه الصلاح والديانة والتقوى ولا تكون الشهوات غالبة عليه فإن الفاسق بأدنى شبهة ينخلع عن الدين فإن ذلك يحل عنه الحجر ويرفع للسد الذي بينه وبين الملاذ فلا يحرص على إزالة الشبهة بل يغتنمها ليتخلص من أعباء التكليف فيكون ما يفسده مثل هذا المتعلم أكثر مما يصلحه. وإذا عرفت هذه الانقسامات اتضح لك أن هذه الحجة المحمودة في الكلام إنما هي من جنس حجج القرآن من الكلمات اللطيفة المؤثرة في القلوب المقنعة للنفوس دون التغلغل في التقسيمات والتدقيقات التي لا يفهمها أكثر الناس وإذا فهموها اعتقدوا أنها شعوذة وصناعة تعلمها صاحبها للتلبيس، فإذا قابله مثله في الصنعة قاومه. وعرفت أن الشافعي وكافة السلف إنما منعوا عن الخوض فيه والتجرد له لما فيه من الضرر الذي نبهنا عليه. وأن ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما من مناظرة الخوارج وما نقل عن علي رضي الله عنه من المناظرة في القدر وغيره كان من الكلام الجلي الظاهر وفي محل الحاجة وذلك محمود في كل حال. نعم قد تختلف الأعصار في كثرة الحاجة وقلتها فلا يبعد أن يختلف الحكم لذلك فهذا حكم العقيدة التي تعبد الخلق بها حكم طريق النضال عنها وحفظها فأما إزالة الشبهة وكشف الحقائق ومعرفة الأشياء على ما هي عليه وإدراك الأسرار التي يترجمها ظاهر ألفاظ هذه العقيدة فلا مفتاح له إلا المجاهدة وقمع الشهوات والإقبال بالكلية على الله تعالى وملازمة الفكر الصافي عن شوائب المجادلات وهي رحمة من الله عز وجل تفيض على من يتعرض لنفحاتها بقدر الرزق وبحسب التعرض وبحسب قبول المحل وطهارة القلب وذلك البحر الذي لا يدرك غوره ولايبلغ ساحله مسألة فإن قلت: هذا الكلام يشير إلى أن هذه العلوم لها ظواهر وأسرار وبعضها جلي يبدو أولاً وبعضها خفي يتضح بالمجاهدة والرياضة والطلب الحثيث والفكر الصافي والسر الخالي عن كل شيء من أشغال الدنيا سوى المطلوب وهذا يكاد يكون مخالفاً للشرع إذ ليس للشرع ظاهر وباطن وسر وعلن بل الظاهر والباطن والسر والعلن واحد فيه? فاعلم أن انقسام هذه العلوم إلى خفية وجلية لا ينكرها ذو بصيرة وإنما ينكرها القاصرون الذي تلقفوا في أوائل الصبا شيئاً وجمدوا عليه فلم يكن لهم ترق إلى شأو العلا ومقامات العلماء والأولياء وذلك ظاهر من أدلة الشرع قال ﷺ "إن للقرآن ظاهراً وباطناً وحداً ومطلقعاً" وقال علي رضي الله عنه - وأشار إلى صدره - إن ههنا علوماً جمة لو وجدت لها حملة. وقال ﷺ "نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم" وقال ﷺ "ما حدث أحد قوماً بحديث لم تبلغه عقولهم إلا كان فتنة عليهم" وقال الله تعالى "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون" وقال ﷺ "إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العالمون بالله تعالى" الحدث إلى آخره كما أوردناه في كتاب العلم. وقال ﷺ "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً" فليت شعري إن لم يكن ذلك سراً منع من إفشائه لقصور الأفهام عن إدراكه أو لمعنى آخر فلم لم يذكره لهم ولاشك أنهم كانوا يصدقونه لو ذكره لهم? وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل "الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن" لو ذكرت تفسيره لرجمتموني. وفي لفظ آخر: لقلتم إنه كافر، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: حفظت من رسول الله ﷺ "ما فضلكم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بسر وقر في صدره" رضي الله عنه ولا شك في أن ذلك السر كان متعلقاً بقواعد الدين غير خارج منها وما كان من قواعد الدين لم يكن خافياً بظواهره على غيره، وقال سهل التستري رضي الله عنه: للعالم ثلاثة علوم: علم ظاهر يبذله لأهل الظاهر وعلم باطن لا يسعه إظهاره إلا لأهله وعلم هو بينه وبين الله تعالى لا يظهره لأحد. وقال بعض العارفين: إفشاء سر الربوبية كفر. وقال بعضهم: للربوبية سر لو أظهر لبطلت النبوة، وللنبوة سر لو كشف لبطل العلم، وللعلماء بالله سر لو أظهروه لبطلت الأحكام، وهذا القائل إن لم يرد بذلك بطلان النبوة في حق الضعفاء لقصور فهمهم فما ذكره ليس بحق بل الصحيح أنه لا تناقض فيه وأن الكامل من لا يطفي نور معرفته نور ورعه، وملاك الورع النبوة مسألة فإن قلت: هذه الآيات والأخبار يتطرق إليها تأويلات فبين لنا كفيفة اختلاف الظاهر والباطن فإن الباطن إن كان مناقضاً للظاهر ففيه إبطال الشرع، وهو قول من قال: إن الحقيقة خلاف الشريعة وهو كفر لأن الشريعة عبارة عن الظاهر والحقيقة عبارة عن الباطن وإن كان لا يناقضه ولا يخالفه فهو هو فيزول به الانقسام ولا يكون للشرع سر لا يفشى بل يكون الخفي والجلي واحد? فاعلم أن هذا السؤال يحرك خطباً عظيماً وينجر إلى علوم المكاشفة ويخرج عن مقصود علم المعاملة وهو غرض هذه الكتب فإن العقائد التي ذكرناها من أعمال القلوب وقد تعبدنا بتلقينها بالقبول والتصديق بعقد القلب عليها لا بأن يتوصل إلى أن ينكشف لنا حقائقها فإن ذلك لم يكلف به كافة الخلق ولولا أنه من الأعمال لما أوردناه في هذا الكتاب، ولولا أنه عمل ظاهر القلب لا عمل باطنه لما أوردناه في الشطر الأول من الكتاب وإنما الكشف الحقيقي هو صفة سر القلب وباطنه ولكن إذا انجر الكلام إلى تحريك خيال في مناقضة الظاهر للباطن فلابد من كلام وجيز في حله. فمن قال: إن الحقيقة تخالف الشريعة أو الباطن يناقض الظاهر فهو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان بل الأسرار التي يختص بها المقربون بدركها ولا يشاركهم الأكثرون في علمها ويمتنعون عن إفشائها إليهم ترجع إلى خمسة أقسام: القسم الأول: أن يكون الشيء في نفسه دقيقاً تكل أكثر الأفهام عن دركه فيختص بدركه الخواص وعليهم أن لا يفشوه إلى غير أهله فيصير ذلك فتنة عليهم حيث تقصر أفهامهم عن الدرك. وإخفاء سر الروح وكف رسول الله ﷺ عن بيانه من هذا القسم فإن حقيقته بما تكل الأفهام عن دركه وتقصر الأوهام عن تصور كنهه. ولا تظنن أن ذلك لم يكن مكشوفاً لرسول الله ﷺ فإن من لم يعرف الروح فكأنه لم يعرف نفسه ومن لم يعرف نفسه فكيف يعرف ربه سبحانه? ولا يبعد أن يكون ذلك مكشوفاً لبعض الأولياء والعلماء وإن لم يكونوا أنبياء ولكنهم يتأدبون بآداب الشرع فيسكتون عما سكت عنه بل في صفات الله عز وجل من الخفايا ما تقصر أفهام الجماهير عن دركه ولم يذكر رسول الله ﷺ منها إلا الظواهر للأفهام من العلم والقدرة وغيرهما حتى فهمها الخلق بنوع مناسبة توهموها إلى علمهم وقدرتهم إذ كان لهم من الأوصاف ما يسمى علماً وقدرة فيتوهمون ذلك بنوع مقايسة. ولو ذكر من صفاته ما ليس للخلق مما يناسبه بعض المناسبة شيء لم يفهموه، بل لذة الجماع إذا ذكرت للصبي أو العنين لم يفهمها إلا بمناسبة إلى لذة المطعوم الذي يدركه ولا يكون ذلك فهماً علىالتحقق. والمخالفة بين علم الله تعالى وقدرته وعلم الخلق وقدرتهم أكثر من المخالفة بين لذة الجماع والأكل. وبالجملة فلا يدرك الإنسان إلا نفسه وصفات نفسه مما هي حاضرة له في الحال أو مما كانت له من قبل ثم بالمقايسة إليه يفهم ذلك لغيره ثم قد يصدق بأن بينهما تفاوتاً في الشرف والكمال فليس في قوة البشر إلا أن يثبت لله تعالى ما هو ثابت لنفسه من الفعل والعلم والقدرة وغيرها من الصفات مع التصديق بأن ذلك أكمل وأشرف فيكون معظم تحريمه على صفات نفسه لا على ما اختص الرب تعالى به من الجلال. ولذلك قال ﷺ "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" وليس المعنى أني أعجز عن التعبير عما أدركته بل هو اعتراف بالقصور عن إدراك كنه جلاله. ولذلك قال بعضهم: ما عرف الله بالحقيقة سوى الله عز وجل. وقال الصديق رضي الله عنه: الحمد لله الذي لم يجعل للخلق سبيلاً إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته. ولنقبض عنان الكلام عن هذا النمط ولنرجع إلى الغرض وهو أن أحد الأقسام ما تكل الأفهام عن إدراكه ومن جملته الروح ومن جملته بعض صفات الله تعالى. ولعل الإشارة إلى مثله في قوله ﷺ "إن لله سبحانه وتعالى سبعين حجاباً من نور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل من أدركه بصره" القسم الثاني: من الخفيات التي تمتنع الأنبياء والصديقون عن ذكرها ما هو مفهوم في نفسه لا يكل الفهم عنه لكن ذكره يضر بأكثر المستمعين ولا يضر بالأنبياء والصديقين. وسر القدر الذي منع أهل العلم من إفشائه من هذا القسم، فلا يبعد أن يكون ذكر بعض الحقائق مضراً ببعض الخلق كما يضر نور الشمس بأبصار الخفافيش وكما تضر رياح الورد بالجعل، وكيف يبعد هذا وقولنا إن الكفر والزنا والمعاصي والشرور كله بقضاء الله تعالى وإرادته ومشيئته حق في نفسه وقد أضر سماعه بقوله إذ أوهم ذلك عندهم أنه دلالة على السفه ونقيض الحكمة والرضا بالقبيح والظلم? وقد ألحد ابن الراوندي وطائفة من المخذولين بمثل ذلك. وكذلك سر القدر لو أفشي لأوهم عند أكثر الخلق عجزاً إذ تقصر أفهامهم عن إدراك ما يزيل ذلك الوهم عنهم، ولو قال قائل: إن القيامة لو ذكر ميقاتها وأنها بعد ألف سنة أو أكثر أو أقل لكان مفهوماً ولكن لم يذكر لمصلحة العباد وخوفاً من الضرر فلعل المدة إليها بعيدة فيطول الأمد، وإذا استبطأت النفوس وقت العقاب قل اكتراثها ولعلها كانت قريبة في علم الله سبحانه ولو ذكرت لعظم الخوف وأعرض الناس عن الأعمال وخربت الدنيا، فهذا المعنى لو اتجه وصح فيكون مثالاً لهذا القسم
القسم الثالث: أن يكون الشيء بحيث لو ذكر صريحاً لفهم ولم يكن فيه ضرر ولكن يكنى عنه على سبيل الاستعارة والرمز ليكون وقعه في قلب المستمع أغلب وله مصلحة في أن يعظم وقت ذلك الأمر في قلبه، كما لو قال قائل؛ رأيت فلاناً يقلد الدر في أعناق الخنازير؛ فكنى به عن إفشاء العلم وبث الحكمة إلى غير أهلها فالمستمع قد يسبق إلى فهمه ظاهر اللفظ، والمحقق إذا نظر وعلم أن ذلك الإنسان لم يكن معه در ولا كان في موضعه خنزير تفطن لدرك السر والباطن فيتفاوت الناس في ذلك، ومن هذا قال الشاعر:
فإنه عبر عن سبب سماوي في الإقبال والإدبار برجلين صانعين وهذا النوع يرجع إلى التعبير عن المعنى بالصورة التي تتضمن عين المعنى أو مثله، ومنه قوله ﷺ "إن المسجد لينزوي من النخامة كما تنزوي الجلدة على النار" وأنت ترى أن ساحة المسجد لا تنقبض بالنخامة، ومعناه أن روح المسجد كونه معظماً ورمي النخامة فيه تحقير له فيضاد معنى المسجدية مضادة النار لاتصال أجزاء الجلدة، وكذلك قوله ﷺ "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول رأسه رأس حمار" وذلك من حيث الصورة لم يكن قط ولا يكون؛ ولكن من حيث المعنى هو كائن إذ رأس الحمار لم يكن بحقيقته لكونه وشكله بل بخاصيته وهي البلادة والحمق، ومن رفع رأسه قبل الإمام فقد صار رأسه رأس حمار في معنى البلادة والحمق وهو المقصود دون الشكل الذي هو قالب المعنى. إذ من غاية الحمق أن يجمع بين الاقتداء وبين التقدم فإنهما متناقضان. وإنما يعرف أن هذا السر على خلاف الظاهر إما بدليل عقلي أو شرعي، أما العقلي فأن يكون حمله على الظاهر غير ممكن كقوله ﷺ "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن" إذ لو فتشنا عن قلوب المؤمنين لم نجد فيها أصابع فعلم أنها كناية عن القدرة التي هي سر الأصابع وروحها الخفي، وكنى بالأصابع عن القدرة لأن ذلك أعظم وقعاً في تفهم تمام الاقتدار. ومن هذا القبيل في كنايته عن الاقتدار قوله تعالى "إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون" فإن ظاهره ممتنع إذ قوله "كن" إن كان خطاباً للشيء قبل وجوده فهو محال إذا المعدوم لا يفهم الخطاب حتى يمثل وإن كان بعد الوجود فهو مستغن عن التكوين. ولكن لما كانت هذه الكناية أوقع في النفوس في تفهيم غاية الاقتدار عدل إليها وأما المدرك بالشرع فهو أن يكون إجراؤه على الظاهر ممكناً ولكنه يروا أنه أريد به غير الظاهر كما ورد في تفسير قوله تعالى "أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها" الآية أن معنى الماء ههنا هو القرآن ومعنى الأودية هي القلوب وأن بعضها احتملت شيئاً كثيراً وبعضها قليلاً وبعضها لم يحتمل. والزبد مثل الكفر والنفاق فإنه وإن ظهر وطفا على رأس الماء فإنه لا يثبت والهداية التي تنفع الناس تمكث. وفي هذا القسم تعمق جماعة فأولوا ما ورد في الآخرة من الميزان والصراط وغيرهما وهو بدعة إذ لم ينقل ذلك بطريق الرواية وإجراؤه على الظاهر غير محال فيجب إجراؤه على الظاهر. القسم الرابع: أن يدرك الإنسان الشيء جملة ثم يدركه تفصيلاً بالتحقيق والذوق بأن يصير حالاً ملابساً له فيتفاوت العلمان ويكون الأول كالقشر والثاني كاللباب، والأول كالظاهر والثاني كالباطن. وذلك كما يتمثل للإنسان في عينه في الظلمة أو على البعد فيحصل له نوع علم فإذا رآه بالقرب أو بعد زوال الظلام أدرك تفرقة بينهما، ولا يكون الأخير ضد الأول بل هو استكمال له. فكذلك العلم والإيمان والتصديق، إذ قد يصدق الإنسان بوجود العشق والمرض والموت قبل وقوعه ولكن تحققه به عند الوقوع أكمل من تحققه قبل الوقوع بل للإنسان في الشهوة والعشق وسائر الأحوال ثلاثة أحوال متفاوتة وإدراكات متباينة، الأول: تصديقه بوجوده قبل وقوعه. والثاني. عند وقوعه. والثالث: بعد تصرمه. فإن تحققك بالجوع بعد زواله يخالف التحقيق قبل الزوال وكذلك من علوم الدين ما يصير ذوقاً فيكمل فيكون ذلك كالباطن بالإضافة إلى ما قبل ذلك، ففرق بين علم المريض بالصحة وبين علم الصحيح بها. ففي هذه الأقسام الأربعة تتفاوت الخلق وليس في شيء منها باطن يناقض الظاهر بل يتممه ويكمله كما يتمم اللب القشر والسلام. الخامس: أن يعبر بلسان المقال عن لسان الحال فالقاصر الفهم يقف على الظاهر ويعتقده نطقاً، والبصير بالحقائق يدرك السر فيه وهذا كقول القائل: قال الجدار للوتد لم تشقني? قال: سل من يدقني فلم يتركني ورائي الحجر الذي ورائي? فهذا تعبير عن لسان الحال بلسان المقال، ومن هذا قوله تعالى "ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين فالبليد يفتقر في فهمه إلى أن يقدر لهما حياة وعقلاً وفهماً للخطاب وخطاباً هو صوت وحرف تسمعه السماء والأرض فتجيبان بحرف وصوت وتقولان "أتينا طائعين" والبصير يعلم أن ذلك لسان الحال وأنه إنباء عن كونهما مسخرتين بالضرورة ومضطرتين إلى التسخير. ومن هذا قوله تعالى "وإن من شيء إلا يسبح بحمده" فالبليد يفتقر فيه إلى أن يقدر للجمادات حياة وعقلاً ونطقاً بصوت وحرف حتى يقول "سبحان الله" ليتحقق تسبيحه. والبصير يعلم أنه ما أريد به نطق اللسان بل كونه مسبحاً بوجوده ومقدساً بذاته وشاهداً بوحدانية الله سبحانه كما يقال: وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد وكما يقال: هذه الصنعة المحكمة تشهد لصانعها بحسن التدبير وكمال العلم لا بمعنى أنها تقول أشهد بالقول ولكن بالذات والحال. وكذلك ما من شيء إلا وهو محتاج في نفسه إلى موجد يوجده ويبقيه ويديم أوصافه ويردده في أطواره فهو بحاجته يشهد لخالقه بالتقديس يدرك شهادته ذوو البصائر دون الجامدين على الظواهر. ولذلك قال تعالى "ولكن لا تفقهون تسبيحهم" وأما القاصرون فلا يفقهون أصلاً وأما المقربون والعلماء الراسخون فلا يفقهون كنهه وكماله إذ لكل شيء شهادات شتى على تقديس الله سبحانه وتسبيحه، ويدرك كل واحد بقدر عقله وبصيرته، وتعداد تلك الشهادات لا يليق بعلم المعاملة. فهذا الفن أيضاً مما يتفاوت أرباب الظواهر وأرباب البصائر في علمه وتظهر به مفارقة الباطن للظاهر. وفي هذا المقام لأرباب المقامات إسراف واقتصاد فمن مسرف في رفع الظواهر انتهى إلى تغيير جميع الظواهر والبراهين أو أكثرها حتى حملوا قوله تعالى "وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم" وقوله تعالى "وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء" وكذلك المخاطبات التي يجري من منكر ونكير وفي الميزان والصراط والحساب ومناظرات أهل النار وأهل الجنة في قولهم "أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله" زعموا أن ذلك كله بلسان الحال. وغلا آخرون في حسم الباب منهم أحمد بن حنبل رضي الله عنه حتى منع تأويل قوله "كن فيكون" وزعموا أن ذلك خطاب بحرف وصوت يوجد من الله تعالى في كل لحظة بعدد كون مكون حتى سمعت بعض أصحابه يقول؛ إنه حسم باب التأويل إلا لثلاثة ألفاظ قوله ﷺ "الحجر الأسود يمين الله في أرضه" وقوله ﷺ "قلب المؤمنين بين أصبعين من أصابع الرحمن" وقوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم "إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن" ومال إلى حسم الباب أرباب الظواهر. والظن بأحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه علم أن الاستواء ليس هو الاستقرار والنزول ليس هو الانتقال ولكنه منع من التأويل حسماً للباب ورعاية لصلاح الخلق. فإنه إذا فتح الباب اتسع الخرق وخرج الأمر عن الضبط وجاوز حد الاقتصاد إذ حد ما جاوز الاقتصاد لا ينضبط فلا بأس بهذا الزجر ويشهد له سيرة السلف فإنهم كانوا يقولون: أمروها كما جاءت "حتى قال مالك رحمه الله لما سئل عن الاستواه: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. وذهبت طائفة إلى الاقتصاد وفتحوا باب التأويل في كل ما يتعلق بصفات الله سبحانه وتركوا ما يتعلق بالآخرة على ظواهرها ومنعوا التأويل فيه وهم الأشعرية. وزاد المعتزلة عليهم حتى أولوا من صفاته تعالى الرؤية وأولوا كونه سميعاً بصيراً وأولوا المعراج وزعموا أنه لم يكن بالجسد وأولوا عذاب القبر والميزان والصراط وجملة من أحكام الآخرة، ولكن أقروا بحشر الأجساد وبالجنة واشتمالها على المأكولات والمشمومات والمنكوحات والملاذ المحسوسة، وبالنار واشتمالها على جسم محسوس يحرق بحرق الجلود ويذيب الشحوم. ومن ترقيهم إلى هذا الحد زاد الفلاسفة فأولوا كل ما ورد في الآخرة وردوه إلى آلام عقلية وروحانية ولذات عقلية وأنكروا حشر الأجساد وقالوا ببقاء النفوس وأنها تكون إما معذبة وإما منعمة بعذاب ونعيم لا يدرك بالحس وهؤلاء هم المسرفون. وحد الاقتصاد بين هذا الانحلال كله وبين جمود الحنابلة دقيق غامض لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنور إلهي لا بالسماع، ثم إذا انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هي عليه نظروا إلى السمع والألفاظ الواردة فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قروره وما خالف أولوه. فأما من يأخذ معرفة هذه الأمور من السمع المجرد فلا يستقر له فيها قدم ولا يتعين له موقف. والألبق بالمقتصر على السمع المجرد: مقام أحمد بن حنبل رحمه الله. والآن فكشف الغطاء عن حد الاقتصاد في هذه الأمور داخل في علم المكاشفة والقول فيه يطول فلا نخوض فيه؛ والغرض بيان موافقة الباطن الظاهر وأنه غير مخالف له فقد انكشف بهذه الأقسام الخمسة أمور كثيرة. وإذا رأينا أن نقتصر بكافة العوام على ترجمة العقيدة التي حررناها وأنهم لا يكلفون غير ذلك في الدرجة الأولى إلا إذا كان خوف تشويش لشيوع البدعة فيرقى في الدرجة الثانية إلى عقيدة فيها لوامع من الأدلة مختصرة من غير تعمق. فلنورد في هذا الكتاب تلك اللوامع ولنقتصر فيها على ما حررناه لأهل القدس وسميناه الرسالة القدسية في قواعد العقائد وهي مودعة في هذا الفصل الثالث من هذا الكتاب.