→ الفصل الثاني | إحياء علوم الدين كتاب قواعد العقائد - الفصل الثالث المؤلف: أبو حامد الغزالي |
الفصل الرابع ← |
الحمد لله الذي ميز عصابة السنة بأنواراليقين وآثر رهط الحق بالهداية إلى دعائم الدين وجنبهم زيغ الزائغين وضلال الملحدين ووفقهم للاقتداء بسيد المرسلين وسددهم للتأسي بصحبة الأكرمين ويسر لهم اقتفاء آثار السلف الصالحين حتى اعتصموا من مقتضيات العقول بالحبل المتين ومن سير الأولين وعقائدهم بالمنهج المبين، فجمعوا بالقول بين نتائج العقول وقضايا الشرع المنقول، وتحققوا أن النطق بما تعبدوا به من قول "لا إله إلا الله محمد رسول الله" ليس له طائل ولا محصول إن لم تتحقق الإحاطة بما تدور عليه هذه الشهادة من الأقطاب والأصول، وعرفوا أن كلمتي الشهادة على إيجازها تتضمن إثبات ذات الإله وإثبات صفاته وإثبات أفعاله وإثبات صدق الرسول، وعلموا أن بناء الإيمان على هذه الأركان وهي أربعة ويدور كل ركن منها على عشرة أصول الركن الأول في معرفة ذات الله تعالى ومداره على عشرة أصول: وهي العلم بوجود الله تعالى وقدمه وبقائه وأنه ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض وأنه سبحانه ليس مختصاً بجهة ولا مستقراً على مكان وأنه يرى وأنه واحد الركن الثاني في صفاته ويشتمل على عشرة أصول: وهو العلم بكونه حياً عالماً قادراً مريداً سميعاً بصيراً متكلماً منزهاً عن حلول الحوادث وأنه قديم الكلام والعلم والإرادة الركن الثالث في أفعاله تعالى ومداره على عشرة أصول: وهي أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى وأنها متكتسبة للعباد وأنه مرادة لله تعالى وأنه متفضل بالخلق والاختراع وأن له تعالى تكليف ما لا يطاق، وأن له إيلام البريء ولا يجب عليه رعاية الأصلح، وأنه لا واجب إلا بالشرع وأن بعثه الأنبياء جائز وأن نبوة نبينا محمد ﷺ ثابتة مؤيدة بالمعجزة الركن الرابع في السمعيات ومداره على عشرة أصول: وهي إثبات الحشر والنشر وسؤال منكر ونكير وعذاب القبر والميزان والصراط وخلق الجنة والنار وأحكام الإمامة وأن فضل الصحابة على حسب ترتيبهم وشروط الإمامة.
فأما الركن الأول من أركان الإيمان
في معرفة ذات الله سبحانه وتعالى
وأن الله تعالى واحد ومداره على عشرة أصول
الأصل الأول معرفة وجوده تعالى وأول ما يستضاء به من الأنوار ويسلك من طريق الاعتبار ما أرشد إليه القرآن فليس بعد بيان الله سبحانه بيان وقد قال تعالى "ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً وخلقناكم أزواجاً وجعلنا نومكم سباتاً وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً وبنينا فوقكم سبعاً شداداً وجعلنا سراجاً وهاجاً وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً لنخرج به حباً ونباتاً وجنات ألفافاً" وقال تعالى "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون" وقال تعالى "ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً" وقال تعالى "أفرأيتم ما تمنون ءأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون" إلى قوله "للموقين" فليس يخفى على من معه أدنى مسكة من عقل إذا تأمل بأدنى فكرة مضمون هذه الآيات وأدار نظره على عجائب خلق الله في الأرض والسموات وبدائع فطرة الحيوان والنبات أن هذا الأمر العجيب والترتيب المحكم لا يستغني عن صانع يدبره وفاعل يحكمه ويقدره؛ بل تكاد فطرة النفوس تشهد بكونها مقهورة تحت تسخيره ومصرفة بمقتضى تدبيره. ولذلك قال الله تعالى "أفي الله شك فاطر السموات والأرض" ولهذا بعث الأنبياء صلوات الله عليهم لدعوة الخلق إلى التوحيد ليقولوا "لا إله إلا الله" وما أمروا أن يقولوا لنا إله وللعالم إله. فإن ذلك كان مجبولاً في فطرة عقولهم من مبدإ نشوهم وفي عنفوان شبابهم. ولذلك قال عز وجل "ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله" وقال تعالى "فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم" فإذاً في فطرة الإنسان وشواهد القرآن ما يغني عن إقامة البرهان. ولكنا على سبيل الاستظهار والاقتداء بالعلماء النظار نقول: من بدائة العقول أن الحادث لا يستغني في حدوثه عن سبب يحدثه، والعالم حادث فإذاً لا يستغني في حدوثه عن سبب. أما قولنا "إن الحادث لا يستغني في حدوثه عن سبب" فجلي فإن كل حادث مختص بوقت يجوز في العقل تقدير تقديمه وتأخيره فاختصاصه بوقته دون ما قبله وما بعده يفتقر بالضرورة إلى المخصص وأما قولنا "العالم حادث" فبرهانه أن أجسام العالم لا تخلو عن الحركة والكون وهما حادثان وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. ففي هذا البرهان ثلاث دعاوى؛ الأولى: قولنا إن الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون وهذه مدركة بالبديهة والاضطرار فلا يحتاج فيها إلى تأمل وافتكار فإن من عقل جسماً لا ساكناً ولا متحركاً كان لمتن الجهل راكباً وعن نهج العقل ناكباً. الثانية: قولنا إنهما حادثان ويدل على ذلك تعاقبهما ووجود البعض منهما بعد البعض وذلك مشاهدة في جميع الأجسام ما شوهد منها وما لم يشاهد فما من ساكن إلا والعقل قاض بجواز حركته وما من متحرك إلا والعقل قاض بجواز سكونه فالطارىء منهما حادث لطريانه والسابق حادث لعدمه؛ لأنه لو ثبت قدمه لاستحال عدمه - على ما سيأتي بيانه وبرهانه في إثبات بقاء الصانع تعالى وتقدس - الثالثة: قولنا ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وبرهانه أنه لو لم يكن كذلك لكان قبل كل حادث حوادث لا أول لها ولو لم تنقض تلك الحوادث بجملتها لا تنتهي النوبة إلى وجود الحادث الحاضر في الحال وانقضاء ما لا نهاية له محال، ولأنه لو كان للفلك دورات لا نهاية لها لكان لا يخلو عددها عن أن تكون شفعاً أو وتراً أو شفعاً ووتراً جميعاً أو لا شفعاً ولا وتراً، ومحال أن يكون شفعاً ووتراً جميعاً أو لا شفعاً ولا وتراً. فإن ذلك جمع بين النفي والإثبات؛ إذ في إثبات أحدهما نفي الآخر وفي نفي أحدهما إثبات الآخر. ومحال أن يكون شفعاً لأن الشفع يصير وتراً بزيادة واحد. وكيف يعوز ما لا نهاية له: واحد? ومحال أن يكون وتراً إذ الوتر يصير شفعاً بواحد فكيف يعوزها واحد مع أنه لا نهاية لأعدادها. ومحال أن يكون لا شفعاً ولا وتراً إذ له نهاية. فتحصل من هذا أن العالم لا يخلو عن الحوادث. وما لا يخلو عن الحوادث فهو إذن حادث وإذا ثبت حدوثه كان افتقاره إلى المحدث من المدركات بالضرورة الأصل الثاني العلم بأن الله تعالى قديم لم يزل، أزلي ليس لوجوده أول بل هو أول كل شيء وقبل كل ميت وحي. وبرهانه أنه لو كان حادثاً ولم يكن قديماً لافتقر هو أيضاً إلى محدث وافتقر محدثه إلى محدث وتسلسل ذلك إلى ما لا نهاية، وما تسلسل لم يتحصل أو ينتهي إلى محدث قديم هو الأول وذلك هو المطلوب الذي سميناه صانع العالم ومبدئه وبارئه ومحدثه ومبدعه الأصل الثالث العلم بأنه تعالى مع كونه أزلياً أبدياً ليس لوجوده آخر فهو الأول والآخر والظاهر والباطن لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه، وبرهانه أنه لو انعدم لكان لا يخلو إما أن ينعدم بنفسه أو بمعدم يضاده ولو جاز أن ينعدم شيء يتصور دوامه لجاز أن يوجد شيء يتصور عدمه بنفسه فكما يحتاج طريان الوجود إلى سبب فكذلك يحتاج طريان العدم إلى سبب. وباطل أن ينعدم بمعدم يضاده لأن ذلك المعدم لو كان قديماً لما تصور الوجود معه. وقد ظهر بالأصلين السابقين وجوده وقدمه فكيف كان وجوده في القدم ومعه ضده? فإن كان الضد المعدم حادثاً كان محالاً؛ إذ ليس الحادث في مضادته للقديم حتى يقطع وجوده بأولى من القديم في مضادته للحادث حتى يدفع وجوده، بل الدفع أهون من القطع والقديم أقوى وأولى من الحادث الأصل الرابع العلم بأنه تعالى ليس بجوهر يتحيز بل يتعالى ويتقدس عن مناسبة الحيز. وبرهانه أن كل جوهر متحيز فهو مختص بحيزه ولا يخلو من أن يكون ساكناً فيه أو متحركاً عنه، فلا يخلو عن الحركة أو السكون وهما حادثان، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. ولو تصور جوهر متحيز قديم لكان يعقل قدم جواهر العالم فإن سماه مسم جوهراً ولم يرد به المتحيز كان مخطئاً من حيث اللفظ لا من حيث المعنى الأصل الخامس العلم بأنه تعالى ليس بجسم مؤلف من جواهر. إذ الجسم عبارة عن المؤلف من الجواهر، وإذا بطل كونه جوهراً مخصوصاً بحيز بطل كونه جسماً لأن كل جسم مختص بحيز ومركب من جوهر فالجوهر يستحيل خلوه عن الافتراق والاجتماع والحركة والسكون والهيئة والمقدار وهذه سمات الحدوث. ولو جاز أن يعتقد أن صانع العالم جسم لجاز أن يعتقد الإلهية للشمس والقمر أو لشيء آخر من أقسام الأجسام. فإن تجاسر متجاسر على تسميته تعالى جسماً من غير إرادة التأليف من الجواهر كان ذلك غلطاً في الاسم مع الإصابة في نفي معنى الجسم الأصل السادس العلم بأنه تعالى ليس بعرض قائم بجسم أو حال في محل لأن العرض ما يحل في الجسم، فكل جسم حادث لا محالة ويكون محدثه موجوداً قبله. فكيف يكون حالاً في الجسم وقد كان موجوداً في الأزل وحده وما معه غيره، ثم أحدث الأجسام والأعراض بعده? ولأنه عالم قادر مريد خالق - كما سيأتي بيانه - وهذه الأوصاف تستحيل على الأعراض بل لا تعقل إلا لموجود قائم بنفسه مستقل بذاته. وقد تحصل من هذه الأصول أنه موجود قائم بنفسه ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض. وأن العالم كله جواهر وأعراض وأجسام فإذا لايشبه شيئاً ولا يشبهه شيء بل هو الحي القيوم الذي ليس كمثله شيء وأنى يشبه المخلوق خالقه والمقدور مقدره والمصور مصوره. والأجسام والأعراض كلها من خلقه وصنعه فاستحال القضاء عليها بمماثلته ومشابهته الأصل السابع العلم بأن الله تعالى منزه الذات عن الاختصاص بالجهات فإن الجهة إما فوق وإما أسفل وإما يمين وإما شمال أو قدام أو خلف، وهذه الجهات هو الذي خلقها وأحدثها بواسطة خلق الإنسان إذ خلق له طرفين أحدهما يعتمد على الأرض ويسمى رجلاً، والآخر يقابله ويسمى رأساً. فحدث اسم الفوق لما يلي جهة الرأس واسم السفل لما يلي جهة الرجل حتى إن النملة التي تدب منكسة تحت السقف تنقلب جهة الفوق في حقها تحتاً وإن كان في حقنا فوقاً. وخلق للإنسان اليدين وإحداهما أقوى من الأخرى في الغالب فحدث اسم اليمين للأقوى واسم الشمال لما يقابله وتسمى الجهة التي تلي اليمين يميناً والأخرى شمالاً، وخلق له جانبين يبصر من أحدهما ويتحرك إليه فحدث اسم القدام للجهة التي يتقدم إليها بالحركة واسم الخلف لما يقابلها، فالجهات حادثة بحدوث الإنسان ولو لم يخلق الإنسان بهذه الخلقة بل خلق مستديراً كالكرة لم يكن لهذه الجهات وجود ألبتة. فكيف كان في الأزل مختصاً بجهة والجهة حادثة? وكيف صار مختصاً بجهة بعد أن لم يكن له? أبأن خلق العالم فوقه ويتعالى عن أن يكون له فوق إذ تعالى أن يكون له رأس والفوق عبارة عما يكون جهة الرأس أو خلق العالم تحته فتعالى عن أن يكون له تحت إذ تعالى عن أن يكون له رجل والتحت عبارة عما يلي جهة الرجل؛ وكل ذلك مما يستحيل في العقل ولأن المعقول من كونه مختصاً بجهة أنه مختص بحيز اختصاص الجواهر أو مختص بالجواهر اختصاص العرض وقد ظهر استحالة كونه جوهراً أو عرضاً فاستحال كونه مختصاً بالجهة؛ وإن أريد بالجهة غير هذين المعنيين كان غلطاً في الاسم مع المساعدة على المعنى ولأنه لو كان فوق العالم لكان محاذياً له، وكل محاذ لجسم فإما أن يكون مثله أو أصغر منه أو أكبر وكل ذلك تقدير محوج بالضرورة إلى مقدر ويتعالى عنه الخالق الواحد المدبر، فأما رفع الأيدي عند السؤال إلى جهة السماء فهو لأنها قبلة الدعاء. وفيه أيضاً إشارة إلى ما هو وصف للمدعو من الجلال والكبرياء تنبيهاً بقصد جهة العلو على صفة المجد والعلاء فإنه تعالى فوق كل موجود بالقهر والاستيلاء الأصل الثامن العلم بأنه تعالى مستو على عرشه بالمعنى الذي أراد الله تعالى بالاستواء وهو الذي لا ينافي وصف الكبرياء ولا يتطرق إليه سمات الحدوث والفناء وهو الذي أريد بالاستواء إلى السماء حيث قال في القرآن "ثم استوى إلى السماء وهي دخان" وليس ذلك إلا بطريق القهر والاستيلاء كما قال الشاعر: قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق واضطر أهل الحق إلى هذا التأويل كما التأويل كما اضطر أهل الباطن إلى تأويل قوله تعالى "وهو معكم أينما كنتم" إذ حمل ذلك بالاتفاق على الإحاطة والعلم، وحمل قوله ﷺ "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن" على القدرة والقوة، وحمل قوله ﷺ "الحجر الأسود يمين الله في أرضه" على التشريف والإكرام لأنه لو ترك على ظاهره للزم منه المحال فكذا الاستواء لو ترك على الاستقرار والتمكن لزم منه كون المتمكن جسماً مماساً للعرش إما مثله أو أكبر منه أو أصغر وذلك محال، وما يؤدي إلى المحال فهو محال الأصل التاسع العلم بأنه تعالى مع كونه منزهاً عن الصورة والمقدار مقدساً عن الجهات والأقطار مرئي بالأعين والأبصار في الدار الآخرة دار القرار لقوله تعالى "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة" ولا يرى في الدنيا تصديقاً لقوله عز وجل "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" ولقوله تعالى في خطاب موسى عليه السلام "لن تراني" وليت شعري كيف عرف المعتزل من صفات رب الأرباب ما جهله موسى عليه السلام? وكيف سأل موسى عليه السلام الرؤية مع كونها محالاً? ولعل الجهل بذوي البدع والأهواء من الجهلة الأغبياء أولى من الجهل بالأنبياء صلوات الله عليهم، وأما وجه إجراء آية الرؤية على الظاهر فهو أنه غير مؤد إلى المحال، فإن الرؤية نوع كشف وعلم إلا أنه أتم وأوضح من العلم فإذا جاز تعلق العلم به وليس في جهة جاز تعلق الرؤية به وليس بجهة، وكما يجوز أن يرى الله تعالى الخلق وليس في مقابلتهم جاز أن يراه الخلق من غير مقابلة، وكما جاز أن يعلم من غير كيفية وصورة جاز أن يرى كذلك الأصل العاشر العلم بأن الله عز وجل واحد لا شريك له فرد لا ند له انفرد بالخلق والإبداع واستند بالإيجاد والاختراع لا مثل له يساهمه ويساويه ولا ضد له فينازعه ويناويه: وبرهانه قوله تعالى "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" وبيانه أنه لو كان اثنين وأراد أحدهما أمراً فالثاني إن كان مضطراً إلى مساعدته كان هذا الثاني مقهوراً عاجزاً ولم يكن إلهاً قادراً، وإن كان قادراً على مخالفته ومدافعته كان الثاني قوياً قاهراً والأول ضعيفاً قاصراً ولم يكن إلهاً قادراً
الركن الثاني
العلم بصفات الله تعالى
ومداره على عشرة أصول
الأصل الأول العلم بأن صانع العالم قادر وأنه تعالى في قوله "وهو على كل شيء قدير" صادق لأن العالم محكم في صنعته مرتب في خلقته ومن رأى ثوباً من ديباج حسن النسج والتأليف متناسب التطريز والتطريف ثم توهم صدور نسجه عن ميت لا استطاعة له أو عن إنسان لا قدرة له كان منخلعاً عن غريزة العقل ومنخرطاً في سلك أهل الغباوة والجهل الأصل الثاني العلم بأنه تعالى عالم بجميع الموجودات ومحيط بكل المخلوقات "لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء" صادق في قوله "وهو بكل شيء عليم" ومرشد إلى صدقه بقوله تعالى "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" أرشدك إلى الاستدلال بالخلق على العلم بأنك لا تستريب في دلالة الخلق اللطيف والصنع المزين بالترتيب ولو في الشيء الحقير الضعيف على علم الصانع بكيفية الترتيب والترصيف فما ذكره الله سبحانه هو المنتهى في الهداية والتعريف الأصل الثالث العلم بكونه عز وجل وحيا فإن من ثبت علمه وقدرته ثبت بالضرورة حياته ولو تصور قادر وعالم فاعل مدبر دون أن يكون حيا لجاز أن يشك في حياة الحيوانات عند ترددها في الحركات والسكنات بل في حياة أرباب الحرف والصناعات وذلك انغماس في غمرة الجهالات والضلالات الأصل الرابع العلم بكونه تعالى مريداً لأفعاله فلا موجود إلا وهو مستند إلى مشيئته وصادر عن إرادته فهو المبدىء المعيد والفعال لما يريد وكيف لا يكون مريداً وكل فعل صدر منه أمكن أن يصدر منه ضده? وما لا ضد له أمكن أن يصدر منه ذلك بعينه قبله أو بعده. والقدرة تناسب الضدين والوقتين مناسبة واحدة فلابد من إرادة صارفة للقدرة إلى أحد المقدورين. ولو أغنى العلم عن الإرادة في تخصيص المعلوم حتى يقال إنما وجد في الوقت الذي سبق بوجوده لجاز أن يغني عن القدرة حتى يقال وجد بغير قدرة لأنه سبق العلم بوجوده فيه الأصل الخامس العلم بأنه تعالى سميع بصير لا يعزب عن رؤيته هواجس الضمير وخفايا الوهم والتفكير ولا يشذ عن سمعه صوت دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء: وكيف لا يكون سميعاً بصيراً والسمع والبصر كمال لا محالة وليس بنقص? فكيف يكون المخلوق أكمل من الخالق والمصنوع أسنى وأتم من الصانع? وكيف تعتدل القسمة مهما وقع النقص في جهته والكمال في خلقه وصنعته أو كيف تستقيم حجة إبراهيم ﷺ على أبيه إذ كان يعبد الأصنام جهلاً وغياً فقال له "لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً" ولو انقلب ذلك عليه في معبوده لأضحت حجته داحضة ودلالته ساقطة ولم يصدق قوله تعالى "وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه" وكما عقل كونه فاعلاً بلا جارحة وعالماً بلا قلب ودماغ فليعقل كونه بصيراً بلا حدقة وسميعاً بلا اذن إذ لا فرق بينهما الأصل السادس أنه سبحانه وتعالى متكلم بكلام وهو وصف قائم بذاته ليس بصوت ولا حرف بل لا يشبه كلامه كلام غيره كما لا يشبه وجوده وجود غيره. والكلام بالحقيقة كلام النفس وإنما الأصوات قطعت حروفاً للدلالات كما يدل عليها تارة بالحركات والإشارات وكيف التبس هذا على طائفة من الأغبياء ولم يلتبس على جهلة الشعراء حيث قال قائلهم: إن الكلام لفي الفؤاد وإنـمـا جعل اللسان على الفؤاد دليلا ومن لم يعقله عقله ولا نهاه نهاه عن أن يقول: لساني حادث ولكن ما يحدث فيه بقدرتي الحادثة قديم، فاقطع عن عقلة طمعك وكف عن خطابه لسانك. ومن لم يفهم أن القديم عبارة عما ليس قبله شيء. وأن الباء قبل السين في قولك بسم الله فلا يكون السين المتأخر عن الباء قديماً فنزه عن الالتفات إليه قلبك فلله سبحانه سر في إبعاد بعض العباد "ومن يضلل الله فما له من هاد" ومن استبعد أن يسمع موسى عليه السلام في الدنيا كلاماً ليس بصوت ولا حرف فليستنكر أن يرى في الآخرة موجوداً ليس بجسم ولا لون: وإن عقل أن يرى ما ليس بلون ولا جسم ولا قدر ولا كمية وهو إلى الآن لم ير غيره فليعقل في حاسة السمع ما عقله في حاسة البصر. وإن عقل أن يكون له علم واحد هو علم بجميع الموجودات فليعقل صفة واحدة للذات هو كلام بجميع ما دل عليه من العبارات. وإن عقل كون السموات السبع وكون الجنة والنار مكتوبة في ورقة صغيرة ومحفوظة في مقدار ذرة من القلب وأن كل ذلك مرئي في مقدار عدسة من الحدقة من غير أن تحل ذات السموات والأرض والجنة والنار في الحدقة والقلب والورقة فليعقل كون الكلام مقروءاً بالألسنة محفوظاً في القلوب مكتوباً في المصاحف من غير حلول ذات الكلام فيها إذ لو حلت بكتاب الله ذات الكلام في الورق لحل ذات الله تعالى بكتابة اسمه في الورق وحلت ذات النار بكتابه اسمها في الورق ولاحترق الأصل السابع أن الكلام القائم بنفسه قديم وكذا جميع صفاته إذ يستحيل أن يكون محلاً للحوادث داخلاً تحت التغير بل يجب للصفات من نعوت القدم ما يجب للذات فلا تعتريه التغيرات ولا تحله الحادثات بل لم يزل في قدمه موصوفاً بمحامد الصفات ولا يزال في أبده كذلك منزهاً عن تغير الحالات لأن ما كان محل الحوادث لا يخلو عنها وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. وإنما ثبت نعت الحدوث للأجسام من حيث تعرضها للتغير وتقلب الأوصاف فكيف يكون خالقها مشاركاً لها في قبول التغير? وينبني على هذا أن كلامه قديم قائم بذاته وإنما الحادث هي الأصوات الدالة عليه، وكما عقل قيام طلب التعلم وإرادته بذات الوالد للولد قبل أن يخلق ولده حتى إذا خلق ولده وعقل وخلق الله علماً متعلقاً بما في قلب أبيه من الطلب صار مأموراً بذلك الطلب الذي قام بذات أبيه ودام وجوده إلى وقت معرفة ولده له فليعقل قيام الطلب الذي دل عليه قوله عز وجل "اخلع نعليك" بذات الله ومصير موسى عليه السلام مخاطباً به بعد وجوده إذ خلقت له معرفة بذلك الطلب وسمع لذلك الكلام القديم الأصل الثامن أن علمه قديم فلم يزل عالماً بذاته وصفاته وما يحدثه من مخلوقاته. ومهما حدثت المخلوقات لم يحدث له علم بها بل حصلت مكشوفة له بالعلم الأزلي إذ لو خلق لنا علم به بقدوم زيد عند طلوع الشمس ودام ذلك العلم تقديراً حتى طلعت الشمس لكان قدوم زيد عند طلوع الشمس معلوماً لنا بذلك العلم من غير تجدد علم آخر. فهكذا ينبغي أن يفهم قدم علم الله تعالى الأصل التاسع أن إرادته قديمة وهي في القدم تعلقت بإحداث الحوادث في أوقاتها اللائقة بها على وفق سبق العلم الأزلي إذ لو كانت حادثة لصار محل الحوادث، ولو حدثت في غير ذاته لم يكن هو مريداً لها كما لا تكون أنت متحركاً بحركة ليست في ذاتك وكيفما قدرت فيفتقر حدوثها إلى إرادة أخرى، وكذلك الإرادة الأخرى تفتقر إلى أخرى ويتسلسل الأمر إلى غير نهاية، ولو جاز أن يحدث إرادة بغير إرادة لجاز أن يحدث العالم بغير إرادة الأصل العاشر أن الله تعالى عالم بعلم، حي بحياة، قادر بقدرة، ومريد بإرادة، ومتكلم بكلام، وسميع بسمع، وبصير ببصر، وله هذه الأوصاف من هذه الصفات القديمة. وقول القائل: عالم بلا علم كقوله: غني بلا مال وعلم بلا عالم وعالم بلا معلوم، فإن العلم والمعلوم والعالم متلازمة كالقتل والمقتول والقاتل، وكما لا يتصور قاتل بلا قتل ولا قتيل ولا يتصور قتيل بلا قاتل ولا قتل كذلك لا يتصور عالم بلا علم ولا علم بلا معلوم ولا معلوم بلا عالم بل هذه الثلاثة متلازمة في العقل لا ينفك بعض منها عن البعض فمن جوز انفكاك العلام عن العلم فليجوز انفكاكه عن المعلوم وانفكاك العلم عن العالم إذ لا فرق بين هذه الأوصاف.
الركن الثالث
العلم بأفعال الله تعالى
ومداره على عشرة أصول
الأصل الأول العلم بأن كل حادث في العالم فهو فعله وخلقه واختراعه لا خالق له سواه ولا محدث له إلا إياه. خلق الخلق وصنعهم وأوجد قدرتهم وحركتهم فجميع أفعاله عبادة مخلوقة له ومتعلقة بقدرته تصديقاً له في قوله تعالى "الله خالق كل شيء" وفي قوله تعالى "والله خلقكم وما تعملون" وفي قوله تعالى "وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" أمر العباد بالحرز في أقوالهم وأفعالهم وإسرارهم وإضمارهم لعلمه بموارد أفعالهم. واستدل على العلم بالخلق، وكيف لا يكون خالقاً لفعل العبد وقدرته تامة لا قصور فيها وهي متعلقة بحركة أبدان العباد والحركات متماثلة وتعلق القدرة بها لذاتها فما الذي يقصر تعلقها عن بعض الحركات دون البعض مع تماثلها? أو كيف يكون الحيوان مستبداً بالاختراع ويصدر من العنكبوت والنحل وسائر الحيوانات من لطائف الصناعات ما يتحير فيه عقول ذوي الألباب فكيف انفردت هي باختراعها دون رب الأرباب وهي غير عالمة بتفصيل ما يصدر منها من الاكتساب? هيهات هيهات! ذلت المخلوقات وتفرد بالملك والملكوت جبار الأرض والسموات الأصل الثاني أن انفراد الله سبحانه باختراع حركات العباد لا يخرجها عن كونها مقدورة للعباد على سبيل الاكتساب بل الله تعالى خلق القدرة والمقدور جميعاً وخلق الاختيار والمختار جميعاً.
فأما القدرة فوصف للعبد وخلق للرب سبحانه وليست بكسب له. وأما الحركة فخلق للرب تعالى ووصف للعبد وكسب له فإنها خلقت مقدورة بقدرة هي وصفه وكانت للحركة نسبة إلى صفة أخرى تسمى قدرة فتسمى باعتبار تلك النسبة كسباً" وكيف تكون جبراً محضاً وهو بالضرورة يدرك التفرقة بين الحركة المقدورة والرعدة الضرورية? أو كيف يكون خلقاً للعبد وهو لا يحيط علماً بتفاصيل أجزاء الحركات المكتسبة وأعدادها وإذا يطل الطرفان لم يبق إلا الاقتصاد في الاعتقاد وهو أنها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعاً وبقدرة العبد على وجه آخر من التعليق يعبر عنه بالاكتساب. وليس من ضرورة تعلق القدرة بالمقدور أن يكون بالاختراع فقط؛ إذ قدرة الله تعالى في الأزل قد كانت متعلقة بالعالم ولم يكن الاختراع حاصلاً بها وهي عند الاختراع متعلقة به نوعاً آخر من التعلق فيه يظهر أن تعلق القدرة ليس مخصوصاً بحصول المقدور بها الأصل الثالث أن فعل العبد وإن كان كسباً للعبد فلا يخرج عن كونه مراداً لله سبحانه. فلا يجري في الملك والملكوت طرفة عين ولا لفتة خاطر ولا فلتة ناظر إلا بقضاء الله وقدرته وبإرادته ومشيئته. ومنه الشر والخير والنفع والضر والإسلام والكفر والعرفان والنكر والفوز والخسران والغواية والرشد والطاعة والعصيان والشرك والإيمان لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه يضل من يشاء ويهدي من يشاء "لا يسئل عما يفعل وهم يسألون" ويدل عليه من النقل قول الأمة قاطبة "ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن"وقول الله عز وجل "أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً" وقوله تعالى "ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها" ويدل عليه من جهة العقل أن المعاصي والجرئام إن كان الله يكرهها ولا يريدها وإنما هي جارية على وفق إرادة العدو إبليس لعنه الله مع أنه عدو لله سبحانه، والجاري على وفق إرادة العدو أكثر من الجاري على وفق إرادته تعالى فليت شعري كيفي يستجيز المسلم أن يرد ملك الجبار ذي الجلال والإكرام إلى رتبة لو ردت إليها رياسة زعيم ضيعة لاستنكف منها؛ إذ لو كان ما يستمر لعدو الزعيم في القرية أكثر مما يستقيم له لاستنكف من زعامته وتبرأ عن ولايته. والمعصية هي الغالبة على الخلق وكل ذلك جار عند المبتدعة على خلاف إرادة الحق تعالى وهذا غاية الضعف والعجز، تعالى رب الأرباب عن قول الظالمين علواً كبيراً. ثم مهما ظهر أن أفعال العباد مخلوقة لله صح أنها مرادة له. فإن قيل: فكيف ينهى عما يريد ويأمر بما لا يريد? قلنا: الأمر غير الإرادة. ولذلك إذا ضرب السيد عبده فعاتبه السلطان عليه فاعتذر بتمرد عبده عليه فكذبه السلطان - فأراد إظهار حجته بأن يأمر العبد بفعل ويخالفه بين يديه - فقال له: أسرج هذه الدابة بمشهد من السلطان، فهو يأمره بما لا يريد امتثاله، ولو لم يكن آمراً لما كان عذره عند السلطان ممهداً، ولو كان مريداً لامتثاله لكان مريداً لهلاك نفسه وهو محال الأصل الرابع أن الله تعالى متفضل بالخلق والاختراع ومتطول بتكليف العباد ولم يكن الخلق والتكليف واجباً عليه. وقالت المعتزلة وجب عليه ذلك لما فيه من مصلحة العباد وهو محال؛ إذ هو الموجب والآمر والناهي وكيف يتهدف لإيجاب أو يتعرض للزوم وخطاب? والمراد بالواجب أحد أمرين: إما الفعل الذي في تركه ضرر إما آجل؛ كما يقال يجب على العبد أن يطيع الله حتى لا يعذبه في الآخرة بالنار، أو ضرر عاجل: كما يقال يجب على العطشان أن يشرب حتى لا يموت. وإما أن يراد به الذي يؤدي عدمه إلى محال كما يقال وجود المعلوم واجب إذ عدمه يؤدي إلى محال وهو أن يصير العلم جهلاً، فإن أراد الخصم بأن الخلق واجب على الله بالمعنى الأول فقد عرضه للضرر وإن أراد به المعنى الثاني فهو مسلم؛ إذ بعد سبق العلم لابد من وجود المعلوم وإن أراد به معنى ثالثاً فهو غير مفهوم. وقوله "يجب لمصلحة عباده" كلام فاسد فإنه إذا لم يتضرر بترك مصلحة العباد لم يكن للوجوب في حقه معنى. ثم إن مصلحة العباد في أن يخلقهم في الجنة فأما أن يخلقهم في دار البلايا ويعرضهم للخطايا ثم يهدفهم لخطر العقاب وهول العرض والحساب فما في ذلك غبطة عند ذوي الألباب الأصل الخامس أنه يجوز على الله سبحانه أن يكلف الخلق ما لا يطيقونه - خلافاً للمعتزلة - ولو لم يجز ذلك لاستحال سؤال دفعه وقد سألوا ذلك فقالوا "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" ولأن الله تعالى أخبر نبيه ﷺ بأن أبا جهل لا يصدقه، ثم أمره بأن يأمره بأن يصدقه في جميع أقواله وكان من جملة أقواله أنه لا يصدقه، فكيف يصدقه في أنه لا يصدقه وهل هذا إلا محال وجوده? الأصل السادس أن لله عز وجل إيلام الخلق وتعذيبهم من غير جرم سابق ومن غير ثواب لا حق خلافاً للمعتزلة - لأنه متصرف في ملكه ولا يتصور أن يعدو تصرفه ملكه، والظلم هو عبارة عن التصرف في ملك الغير بغير إذنه وهو محال على الله تعالى فإنه لا يصادف لغيره ملكاً حتى يكون تصرفه فيه ظلماً: ويدل على جواز ذلك وجوده فإن ذبح البهائم إيلام لها وما صب عليها من أنواع العذاب من جهة الآدميين لم يتقدمها جريمة. فإن قيل: إن الله تعالى يحشرها ويجازيها على قدر ما قاسته من الآلام ويجب ذلك على الله سبحانه? فقول: من زعم أنه يجب على الله إحياء كل نملة وطئت وكل بقة عركت حتى يثيبها على آلامها فقد خرج عن الشرع والعقل؛ إذ يقال وصف الثواب والحشر بكونه واجباً عليه إن كان المراد به أن يتضرر بتركه فهو محال، وإن أريد به غيره فقد سبق أنه غير مفهوم إذ خرج عن المعاني المذكورة للواجب الأصل السابع أنه تعالى يفعل بعباده ما يشاء فلا يجب عليه رعاية الأصلح لعباده لما ذكرناه من أنه لا يجب عليه سبحانه شيء بل لا يعقل في حقه الوجوب فإنه "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون" وليت شعري بما يجيب المعتزلي في قوله "إن الأصلح واجب عليه" في مسألة نعرضها عليه: وهو أن يفرض مناظرة في الآخرة بين صبي وبين بالغ ماتا مسلمين فإن الله سبحانه يزيد في درجات البالغ ويفضله على الصبي لأنه تعب بالإيمان والطاعات بعد البلوغ، ويجب عليه ذلك - عند المعتزلي - فلو قال الصبي: يا رب لم رفعت منزلته علي فيقول: لأنه بلغ واجتهد في الطاعات، ويقول الصبي: أنت أمتني في الصبا فكان يجب عليك أن تديم حياتي حتى أبلغ فأجتهد "فقد عدلت عن العدل في التفضل عليه بطول العمر له دوني فلم فضلته? فيقول الله تعالى: لأني علمت أنك لو بلغت لأشركت أو عصيت فكان الأصلح لك الموت في الصبا - هذا عذر المعتزلي عن الله عز وجل - وعند هذا ينادى الكفار من دركات لظى ويقولون: يا رب أما علمت أننا إذا بلغنا أشركنا فهلا أمتنا في الصبا فإنا رضينا بما دون منزلة الصبي المسلم? فبماذا يجاب عن ذلك وهل يجب عند هذا إلا القطع بأن الأمور الإلهية تتعالى بحكم الجلال عن أن توزن بميزان أهل الاعتزال?. فإن قيل: مهما قدر على رعاية الأصلح للعباد ثم سلط عليهم أسباب العذاب كان ذلك قبحاً لا يليق بالحكمة? قلنا: القبح ما لا يوافق الغرض حتى إنه قد يكون الشيء قبيحاً عند شخص حسناً عند غيره إذا وافق غرض أحدهما دون الآخر حتى يستقبح قتل الشخص أولياؤه ويستحسنه أعداؤه. فإن أريد بالقبيح ما لا يوافق غرض الباري سبحانه فهو محال إذ لا غرض له فلا يتصور منه قبح كما لا يتصور منه ظلم إذ لا يتصور منه التصرف في ملك الغير. وإن أريد بالقبيح ما لا يوافق غرض الغير فلم قلتم إن ذلك عليه محال? وهل هذا إلا مجرد تشه يشهد بخلافه ما قد فرضناه من مخاصمة أهل النار? ثم الحكيم معناه العالم بحقائق الأشياء القادر على إحكام فعلها على وفق إرادته وهذا من أين يوجب رعاية الأصلح? وأما الحكيم منا يراعي الأصلح نظراً لنفسه ليستفيد به في الدنيا ثناه وفي الآخرة ثواباً أو يدفع به عن نفسه آفة. وكل ذلك محال على الله سبحانه وتعالى الأصل الثامن أن معرفة الله سبحانه وطاعته واجبة بإيجاب الله تعالى وشرعه لا بالعقل - خلافاً للمعتزلة - لأن العقل وإن أوجب الطاعة فلا يخلو إما أن يوجبها لغير فائدة وهو محال فإن العقل لا يوجب العبث، وإما أن يوجبها لفائدة وغرض وذلك لا يخلو إما أن يرجع إلى المعبود وذلك محل في حقه تعالى فإنه يتقدس عن الأغراض والفوائد بل الكفر، والإيمان والطاعة والعصيان في حقه تعالى سيان، وإما أن يرجع ذلك إلى غرض العبد وهو أيضاً محال لأنه لا غرض له في الحال بل يتعب به وينصرف عن الشهوات لسببه وليس في المآل إلا الثواب والعقاب. ومن أين يعلم أن الله تعالى يثيب على المعصية والطاعة ولا يعاقب عليهما مع أن الطاعة والمعصية في حقه يتساويان، إذ ليس له إلى أحدهما ميل ولا به لأحدهما اختصاص وإنما عرف تمييز ذلك بالشرع، ولقد زل من أخذ هذا من المقايسة بين الخالق والمخلوق حيث يفرق بين الشكر والكفران لما له من الارتياح والاهتزاز والتلذذ بأحدهما دون الآخر. فإن قيل: فإذا لم يجب النظر والمعرفة إلا بالشرع والشرع لا يستقر ما لم ينظر المكلف فيه؛ فإذا قال المكلف للنبي: إن العقل ليس يوجب على النظر والشرع لا يثبت عندي إلا بالنظر ولست أقدم على النظر، أدى ذلك إلى إفحام الرسول ﷺ? قلنا: هذا يضاهي قول القائل للواقف في موضع من المواضع إن وراءك سبعاً ضارياً فإن لم تبرح عن المكان قتلك وإن التفت وراءك ونظرت عرفت صدقي، فيقول الواقف لا يثبت صدقك ما لم ألتفت ورائي ولا ألتفت ورائي، ولا أنظر ما لم يثبت صدقك؛ فيدل هذا على حماقة هذا القائل وتهدفه للهلاك ولا ضرر فيه على الهادي المرشد؛ فكذلك النبي ﷺ يقول "إن وراءكم الموت ودونه السباع الضارية والنيران المحرقة إن لم تأخذوا منها حذركم وتعرفوا لي صدقي بالالتفات إلى معجزتي وإلا هلكتم، فمن التفت عرف واحترز ونجا ومن لم يلتفت وأصر هلك وتردى ولا ضرر على إن هلك الناس كلهم أجمعون، وإنما على البلاغ المبين" فالشرع يعرف وجود السباع الضارية بعد الموت. والعقل يفيد فهم كلامه والإحاطة بإمكان ما يقوله في المستقبل. والطبع يستحث على الحذر من الضرر، ومعنى كون الشيء واجباً أن في تركه ضرراً، ومعنى كون الشرع موجباً أنه معرف للضرر المتوقع فإن العقل لا يهدي إلى التهدف للضرر بعد الموت عند اتباع الشهوات، فهذا معنى الشرع والعقل وتأثيرهما في تقدير الواجب، ولولا خوف العقاب على ترك ما أمر به لم يكن الوجوب ثابتاً، إذ لا معنى للواجب إلا ما يرتبط بتركه ضرر في الآخرة الأصل التاسع أنه ليس يستحيل بعثه الأنبياء عليهم السلام - خلافاً للبراهمة - حيث قالوا: لا فائدة في بعثتهم إذ في العقل مندوحة عنهم لأن العقل لا يهدي إلى الأفعال المنجية في الآخرة كما لا يهدي إلى الأدوية المفيدة للصحة، فحاجة الخلق إلى الأنبياء كحاجتهم إلى الأطباء ولكن يعرف صدق الطبيب بالتجربة ويعرف صدق النبي بالمعجزة. الأصل العاشر أن الله سبحانه قد أرسل محمداً ﷺ خاتماً للنبيين وناسخاً لما قبله من شرائع اليهود والنصارى والصابئين? وأيده بالمعجزات الظاهرة والآيات الباهرة كانشقاق القمر وتسبيح الحصى وإنطاق العجماء وما تفجر من بين أصابعه من الماء. ومن آياته الظاهرة التي تحدى بها - مع كافة العرب - القرآن العظيم فإنهم مع تمييزهم بالفصاحة والبلاغة تهدفوا لسبه ونهيه وقتله وإخراجه - كما أخبر الله عز وجل - عنهم ولم يقدروا على معارضته بمثل القرآن، إذ لم يكن في قدرة البشر الجمع بين جزالة القرآن ونظمه، هذا مع ما فيه من أخبار الأولين مع كونه أمياً غير ممارس للكتب والإنباء عن الغيب في أمور تحقق صدقه فيها في الاستقبال كقوله تعالى "لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين" وكقوله "ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين" ووجه دلالة المعجزة على صدق الرسل أن كل ما عجز عنه البشر لم يكن إلا فعلاً لله تعالى. فمهما كان مقروناً بتحدي النبي ﷺ ينزل منزلة قوله "صدقت" وذلك مثل القائل بين يدي الملك المدعي على رعيته أنه رسول الملك إليهم فإنه مهما قال لذلك إن كنت صادقاً فقم على سريرك ثلاثاً واقعد - على خلاف عادتك - ففعل الملك ذلك حصل للحاضرين علم ضروري بأن ذلك نازل منزلة قوله "صدقت"
الركن الرابع
في السمعيات وتصديقه ﷺ
فيما أخبر عنه ومداره على عشرة أصول
الأصل الأول الحشر والنشر وقد ورد بهما الشرع وهو حق والتصديق بهما واجب لأنه في العقل ممكن؛ ومعناه الإعادة بعد الإفناء وذلك مقدور لله تعالى كابتدا الإنشاء قال الله تعالى "قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة" فاستدل بالابتداء على الإعادة وقال عز وجل "ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة" والإعادة ابتداء ثان فهو ممكن كالابتداء الأول الأصل الثاني سؤال منكر ونكير وقد وردت به الأخبار فيجب التصديق به لأنه ممكن إذ ليس يستدعي إلا إعادة الحياة إلى جزء من الأجزاء الذي به فهم الخطاب وذلك ممكن في نفسه ولا يدفع ذلك ما يشاهد من سكون أجزاء الميت وعدم سماعنا للسؤال له، فإن النائم ساكن بظاهره ويدرك بباطنه من الآلام واللذات ما يحس بتأثيره عند التنبه، وقد كان رسول الله ﷺ يسمع كلام جبريل عليه السلام ويشاهده ومن حوله لا يسمعونه ولا يرونه ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء فإذا لم يخلق لهم السمع والرؤية لم يدركوه الأصل الثالث عذاب القبر وقد ورد الشرع به قال الله تعالى "النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب" واشتهر عن رسول الله ﷺ والسلف الصالح الاستعاذة من عذاب القبر وهو ممكن فيجب التصديق به ولا يمنع من التصديق به تفرق أجزاء الميت في بطون السباع وحواصل الطيور؛ فإن المدرك لألم العذاب من الحيوان أجزاء مخصوصة يقدر الله تعالى على إعادة الإدراك إليها الأصل الرابع الميزان وهو حق قال الله تعالى "ونضع الموازين القسط ليوم القيامة" وقال تعالى "فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه" الآية ووجهها أن الله تعالى يحدث في صحائف الأعمال وزناً بحسب درجات الأعمال عند الله تعالى فتصير مقادير أعمال العباد معلومة للعباد حتى يظهر لهم العدل في العقاب أو الفضل في العفو وتضعيف الثواب الأصل الخامس الصراط وهو جسر ممدود على متن جهنم أرق من الشعرة وأحد من السيف قال الله تعالى "فاهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسئولون" وهذا ممكن فيجب التصديق به فإن القادر على أن يطير الطير في الهواء قادر على أن يسير الإنسان على الصراط الأصل السادس أن الجنة والنار مخلوقتان قال الله تعالى "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين" فقوله تعالى "أعدت" دليل على أنها مخلوقة فيجب إجراؤه على الظاهر إذ لا استحالة فيه، ولا يقال لا فائدة في خلقهما قبل يوم الجزاء لأن الله تعالى "لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون" الأصل السابع أن الإمام الحق بعد رسول الله ﷺ أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم ولم يكن نص رسول الله ﷺ على إمام أصلاً؛ إذ لو كن لكان أولى بالظهور من نصبه آحاد الولاة والأمراء على الجنود في البلاد ولم يخف ذلك فكيف خفي هذا? وإن ظهر فكيف اندرس حتى لم ينقل إلينا? فلم يكن أبو بكر إماماً إلا بالاختيار والبيعة وأما تقدير النص على غيره فهو نسبة للصحابة كلهم إلى مخالفة رسول الله ﷺ وخرق الإجماع، وذلك مما لا يستجرىء على اختراعه إلا الروافض، واعتاد أهل السنة تزكية جميع الصحابة والثناء عليهم كما أثنى الله سبحانه وتعالى ورسوله ﷺ. وما جرى بين معاوية وعلي رضي الله عنهما كان مبنياً على الاجتهاد لا منازعة من معاوية في الإمامة؛ إذ ظن علي رضي الله عنه أن تسليم قتلة عثمان مع كثرة عشائرهم واختلاطهم بالعسكر يؤدي إلى اضطراب أمر الإمامة في بدايتها فرأى التأخير أصوب، وظن معاوية أن تأخير أمرهم مع عظم جنايتهم يوجب الإغراء بالأئمة ويعرض الدماء للسفك. وقد قال أفاضل العلماء: كل مجتهد مصيب. وقال قائلون: المصيب واحد ولم يذهب إلى تخطئة على ذو تحصيل أصلاً الأصل الثامن أن فضل الصحابة رضي الله عنهم على تربيتهم في الخلافة إذ حقيقة الفضل ما هو فضل عند الله عز وجل وذلك لا يطلع عليه إلا رسول الله ﷺ. وقد ورد في الثناء على جميعهم آيات وأخبار كثيرة وإنما يدرك دقائق الفضل والترتيب فيه المشاهدون للوحي والتنزيل بقرائن الأحوال ودقائق التفصيل، فلولا فهمهم ذلك لما رتبوا الأمر كذلك إذ كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم ولا يصرفهم عن الحق صارف. الأصل التاسع أن شرائط الإمامة بعد الإسلام والتكليف خمسة: الذكورة والورع والعلم والكفاية ونسبة قريش؛ لقوله ﷺ "الأئمة من قريش" وإذا اجتمع عدد من الموصوفين بهذه الصفات فالإمام من انعقدت له البيعة من أكثر الخلق، والمخالف للأكثر باغ يجب رده إلى الانقياد إلى الحق الأصل العاشر أنه لو تعذر وجود الورع والعلم فيمن يتصدى للإمامة وكان في صرفه إثارة فتنة لا تطاق حكمنا بانعقاد إمامته، لأنا بين أن نحرك فتنة بالاستبدال، فما يلقى المسلمون فيه من الضرر يزيد على ما يفوتهم من نقصان هذه الشروط التي أثبتت لمزية المصلحة فلا يهدم أصل المصلحة شغفاً بمزاياها كالذي يبني قصراً ويهدم مصراً وبين أن نحكم بخلو البلاد عن الإمام وبفساد الأقضية وذلك محال. ونحن نقضي بنفوذ قضاء أهل البغي في بلادهم لمسيس حاجتهم فكيف لا نقضي بصحة الإمامة عند الحاجة والضرورة? فهذه الأركان الأربعة الحاوية للأصول الأربعين هي قواعد العقائد فمن اعتقدها كان موافقاً لأهل السنة ومبايناً لرهط البدعة. فالله تعالى يسددنا بتوفيقه ويهدينا إلى الحق وتحقيقه بمنه وسعة جوده وفضله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وكل عبد مصطفى.