→ كتاب آفات اللسان | إحياء علوم الدين كتاب ذم الغضب والحقد والحسد المؤلف: أبو حامد الغزالي |
كتاب ذم الدنيا ← |
وهو الكتاب الخامس من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لا يتكل على عفوه ورحمته إلا الراجون، ولا يحذر سوء غضبه وسطوته إلا الخائفون، الذي استدرج عباده من حيث لا يعلمون، وسلط عليهم الشهوات وأمرهم بترك ما يشتهون، وابتلاهم بالغضب وكلفهم كظم الغيظ فيما يغضبون، ثم حفهم بالمكاره واللذات وأملى لهم لينظر كيف يعملون، وامتحن بهم حبهم ليعلم صدقهم فيما يدعون، وعرفهم أنه لا يخفى عليه شيء مما يسرون وما يعلنون، وحذرهم أن يأخذهم بغتة وهم لا يشعرون فقال "ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون" والصلاة والسلام على محمد رسوله الذي يسير تحت لوائه النبيون، وعلى آله وأصحابه الأئمة المهديين، والسادة المرضيين، صلاة يوازي عددها عدد ما كان من خلق الله وما سيكون، ويحظى ببركتها الأولون والآخرون، وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد فإن الغضب شعلة نار اقتبست من نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، وإنها لمستكنة في طي الفؤاد. استكنان الجمر تحت الرماد، ويستخرجها الكبر الدفين في قلب كل جبار عنيد، كاستخراج الحجر النار من الحديد، وقد انكشف للناظرين بنور اليقين، أن الإنسان ينزع منه عرق إلى الشيطان اللعين، فمن استفزته نار الغضب فقد قويت فيه قرابة الشيطان حيث قال "خلقتني من نار وخلقته من طين" فإن شأن الطين السكون والوقار، وشأن النار التلظي والاستعار، والحركة والاضطراب، ومن نتائج الغضب الحقد والحسد، وبهما هلك من هلك وفسد من فسد، ومفيضهما مضغة إذا صلحت صلح معها سائر الجسد، وإذا كان الحقد والحسد والغضب، مما يسوق العبد إلى مواطن العطب، فما أحوجه إلى معرفة معاطبه ومساويه! ليحذر ذلك ويتقيه، ويمطيه عن القلب إن كان وينفيه، ويعالجه إن رسخ في قلبه ويداويه، فإن من لا يعرف الشر يقع فيه، ومن عرفه فالمعرفة لا تكفيه، ما لم يعرف الطريق الذي به يدفع الشر ويقصيه.
ونحن نذكر ذم الغضب وآفات الحقد والحسد في هذا الكتاب، ويجمعهما بيان ذم الغضب، ثم بيان حقيقة الغضب ثم بيان أن الغضب هل يمكن إزالة أصله بالرياضة أم لا? ثم بيان الأسباب المهيجة للغضب، ثم بيان علاج الغضب بعد هيجانه، ثم بيان فضيلة كظم الغيظ، ثم بيان فضيلة الحلم، ثم بيان القدر الذي يجوز الانتصار والتشفي به من الكلام، ثم القول في معنى الحقد ونتائجه وفضيلة العفو والرفق، ثم القول في ذم الحسد وفي حقيقته وأسبابه ومعالجته وغاية الواجب في إزالته، ثم بيان السبب في كثرة الحسد بين الأمثال والأقران والأخوة وبني العم والأقارب وتأكده وقلته في غيرهم وضعفه، ثم بيان الدواء الذي به ينفى مرض الحسد عن القلب، ثم بيان القدر الواجب في نفي الحسد عن القلب وبالله التوفيق.
بيان ذم الغضب
قال الله تعالى "إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين" الآية. ذم الكفار بما تظاهروا به من الحمية الصادرة عن الغضب بالباطل، ومدح المؤمنين بما أنزل الله عليهم من السكينة وروى أبو هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله مرني بعمل وأقلل، قال "لا تغضب" ثم أعاد عليه فقال "لا تغضب وقال ابن عمر: قلت لرسول الله ﷺ: قل لي قولاً وأقلله لعلي أعقله، فقال "لا تغضب" فأعدت عليه مرتين كل ذلك يرجع إلى "لا تغضب وعن عبد الله بن عمرو: أنه سأل رسول الله ﷺ ماذا ينقذني من غضب الله? قال "لا تغضب وقال ابن مسعود قال النبي صلى اللهعليه وسلم "ما تعدون الصرعة فيكم قلنا: الذي لا تصرعه الرجال، قال "ليس ذلك ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب وقال أبو هريرة: قال النبي ﷺ "ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب وقال ابن عمر: قال النبي ﷺ "من كف غضبه ستر الله عورته وقال سليمان ابن داود عليهما السلام: يا بني إياك وكثرة الغضب فإن كثرة الغضب تستخف فؤاد الرجل الحليم. وعن عكرمة في قوله تعالى "وسيداً وحصوراً" قال: السيد الذي لا يغلبه الغضب. وقال أبو الدرداء: قلت يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة، قال: "لا تغضب وقال يحيى لعيسى عليهما السلام: لا تغضب، قال: لا أستطيع أن لا أغضب إنما أنا بشر، قال: لا تقتن مالاً، قال: هذا عسى. وقال ﷺ "الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل وقال ﷺ "ما غضب أحد إلا أشفى على جهنم وقال له رجل: أي شيء أشد علي قال "غضب الله" قال: فما يبعدني عن غضب الله? قال "لا تغضب .
الآثار: قال الحسن: يا ابن آدم كلما غضبت وثبت ويوشك أن تثب وثبة فتقع في النار. وعن ذي القرنين أنه لقي ملكاً من الملائكة فقال: علمني علماً أزداد به إيماناً ويقيناً، قال: لا تغضب فإن الشيطان أقدر ما يكون على ابن آدم حين يغضب، فرد الغضب بالكظم، وسكنه بالتؤدة. وإياك والعجلة فإنك إذا عجلت أخطأت حظك، وكن سهلاً ليناً للقريب والبعيد ولا تكن جباراً عنيداً. وعن وهب بن منبه. أن راهباً كان في صومعته فأراد الشيطان أن يضله فلم يستطع، فجاءه حتى ناداه فقال له: افتح، فلم يجبه فقال: افتح فإني إن ذهبت ندمت، فلم يلتفت إليه فقال إني أنا المسيح، قال الراهب: وإن كنت المسيح فما أصنع بك! أليس قد أمرتنا بالعبادة والاجتهاد ووعدتنا القيامة فلو جئتنا اليوم بغيره لم نقبله منك? فقال: إني الشيطان وقد أردت أن أضلك فلم أستطع? فجئتك لتسألني عما شئت فأخبرك، فقال: ما أريد أن أسألك عن شيء، قال: فولى مدبراً، فقال الراهب: ألا تسمع، قال: بلى، أخبرني أي أخلاق بني آدم أعون لك عليهم? فقال: الحدة إن الرجل إذا كان حديداً قلبناه كما يقلب الصبيان الكرة. وقال خيثمة: الشيطان يقول كيف يغلبني ابن آدم وإذا رضي جئت حتى أكون في قلبه? وإذا غضب طرت حتى أكون في رأسه? وقال جعفر بن محمد: الغضب مفتاح كل شر. وقال بعض الأنصار: رأس الحمق الحدة وقائده الغضب، ومن رضي بالجهل استغنى عن الحلم، والحلم زين ومنفعهة، والجهل شين ومضرة، والسكوت عن جواب الأحمق جوابه. وقال مجاهد: قال إبليس ما أعجزني بنود آدم فلن يعجزوني في ثلاث: إذا سكر أحدهم أخذنا بخزامته فقدناه حيث شئنا وعمل لنا بما أحببنا، وإذا غضب قال بما لا يعلم وعمل بما يندم، ونبخله بما في يديه ونمنيه بما لا يقدر عليه. وقيل لحكيم: ما أملك فلاناً لنفسه! قال: إذاً لا تذله الشهوة ولا يصرعه الهوى ولا يغلبه الغضب. وقال بعضهم: إياك والغضب فإنه يصيرك إلى ذلة الاعتذار. وقيل: اتقوا الغضب فإنه يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل. وقال عبد الله بن مسعود: انظروا إلى حلم الرجل عند غضبه، وأمانته عند طمعه وما علمك بحلمه إذا لم يغضب، وما علمك بأمانته إذا لم يطمع? وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله أن لا تعاقب عند غضبك وإذا غضبت على رجل فاحبسه، فإن سكن غضبك فأخرجه فعاقبه على قدر ذنبه، ولا تجاوز به خمسة عشر سوطاً. وقال علي بن يزيد: أغلظ رجل من قريش لعمر بن عبد العزيز القول فأطرق عمر زماناً طويلاً ثم قال: أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غداً? وقال بعضهم لابنه: يا بني لا يثبت العقل عند الغضب كما لا تثبت روح الحي في التنانير المسجورة، فأقل الناس غضباً أعقلهم، فإن كان للدنيا كان دعاء ومكراً، وإن كان للآخرة كان حلماً وعلماً، فقد قيل: الغضب عدو العقل والغضب غول العقل. وكان عمر رضي الله عنه إذا خطب قال في خطبته: أفلح منكم من حفظ من الطمع والهوى والغضب. وقال بعضهم: من أطاع شهوته وغضبه قاداه إلى النار. وقال الحسن: من علامات المسلم قوة في دين وحزم في لين وإيمان في يقين وعلم في حلم وكيس في رفق وإعطاء في حق وقصد في غنى وتجمل في فاقة وإحسان في قدرة وتحمل في رفاقة وصبر في شدة، لا يغلبه الغضب ولا تجمح به الحمية ولا تغلبه شهوة ولا تفضحه بطنه ولا يستخفه حرصه ولا تقصر به نيته، فينصر المظلوم ويرحم الضعيف ولا يبخل ولا يبذر ولا يسرف ولا يقتر، يغفر إذا ظلم ويعفو عن الجاهل. نفسه منه في عناء والناس منه في رخاء. وقيل لعبد الله بن المبارك أجمل لنا حسن الخلق في كلمة. فقال اترك الغضب. وقال نبي من الأنبياء لمن تبعه: من يتكفل لي أن لا يغضب فيكون معي في درجتي ويكون بعدي خليفتي? فقال شاب من القوم: أنا، ثم أعاد عليه فقال الشاب: أنا أوفي به، فلما مات كان في منزلته بعده وهو ذو الكفل، سمي به لأنه تكفل بالغضب ووفى به. وقال وهب بن منبه: للكفر أربعة أركان؛ الغضب، والشهوة، والخرق، والطمع.
بيان حقيقة الغضب
اعلم أن الله تعالى لما خلق الحيوان معرضاً للفساد والموتان، بأسباب في داخل بدنه وأسباب خارجة عنه؛ أنعم عليه بما يحميه عن الفساد ويدفع عنه الهلاك إلى أجل معلوم سماه في كتابه.
أما السبب الداخلي: فهو أنه ركبه من الحرارة والرطوبة، وجعل بين الحرارة والرطوبة عداوة ومضادة، فلا تزال الحرارة تحلل الرطوبة وتجففها وتبخرها حتى تصير أجزاؤها بخاراً يتصاعد منها، فلو لم يصل بالرطوبة مدد من الغذاء بجبر ما انحل وتبخر من أجزائها لفسد الحيوان، فخلق الله الغذاء الموافق لبدن الحيوان وخلق في الحيوان شهوة تبعثه على تناول الغذاء؛ كالموكل به في جبر ما انكسر وسد ما انثلم ليكون ذلك حافظاً له من الهلاك بهذا السبب.
وأما الأسباب الخارجة التي يتعرض لها الإنسان: فكالسيف والسنان وسائر المهلكات التي يقصد بها، فافتقر إلى قوة وحمية تثور من باطنه فتدفع المهلكات عنه، فخلق الله طبيعة الغضب من النار وغرزها في الإنسان وعجنها بطينته. فمهما صد عن غرض من أغراضه ومقصود من مقاصده اشتعلت نار الغضب وثارت ثوراناً يغلي به دم القلب وينتشر في العروق ويرتفع إلى أعالي البدن، كما ترتفع النار وكما يرتفع الماء الذي يغلي في القدر، فلذلك ينصب إلى الوجه فيحمر الوجه والعين، والبشر لصفائها تحكي لون ما وراءها من حمرة الدم كما تحكي الزجاجة لون ما فيها. وإنما ينبسط الدم إذا غضب على من دونه واستشعر القدرة عليه، فإن صدر الغضب على من فوقه وكان معه يأس من الانتقام تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب وصار حزناً، ولذلك يصفر اللون، وإن كان الغضب على نظير يشك فيه تردد الدم بين انقباض وانبساط فيحمر ويصفر ويضطرب.
وبالجملة فقوة الغضب محلها القلب ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها. والانتقام قوت هذه القوة وشهوتها وفيه لذتها، ولا تسكن إلا به. ثم إن الناس في هذه القوة على درجات ثلاثة في أول الفطرة من التفريط والإفراط والاعتدال.
أما التفريط: فبفقد هذه القوة أو ضعفها وذلك مذموم، وهو الذي يقال فيه إنه لا حمية له. ولذلك قال الشافعي رحمه الله من استغضب فلم يغضب فهو حمار. فمن فقد قوة الغضب والحمية أصلاً فهو ناقص جداً، وقد وصف الله سبحانه أصحاب النبي ﷺ بالشدة والحمية فقال "أشداء على الكفار رحماء بينهم" وقال لنبيه ﷺ "جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم" الآية وإنما الغلظة والشدة من آثار قوة الحمية وهو الغضب.
وأما الإفراط: فهو أن تغلب هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل والدين وطاعته، ولا يبقى للمرء معها بصيرة ونظر وفكرة ولا اختيار، بل يصير في صورة المضطر. وسبب غلبته أمور غريزية وأمور اعتيادية: فرب إنسان هو بالفطرة مستعد لسرعة الغضب حتى كأن صورته في الفطرة صورة غضبان، ويعين على ذلك حرارة مزاج القلب لأن الغضب من النار كما قال ﷺ. وإنما برودة المزاج تطفئه وتكسر سورته. وأما الأسباب الاعتيادية: فهو أن يخالط قوماً يتبجحون بتشفي الغيظ وطاعة الغضب ويسمون ذلك شجاعة ورجولية، فيقول الواحد منهم: أنا الذي لا أصبر على المكر والمحال ولا أحتمل من أحد مراً! ومعناه لا عقل في ولا حلم. ثم يذكره في معرض الفخر بجهله. فمن سمعه رسخ في نفسه حسن الغضب وحب التشبه بالقوم فيقوى به الغضب. ومهما اشتدت نار الغضب وقوى اضطرامها أعمت صاحبها وأصمته عن كل موعظة، فإذا وعظ لم يسمع بل زاده ذلك غضباً، وإذا استضاء بنور عقله وراجع نفسه لم يقدر إذ ينطفئ نور العقل وينمحي في الحال بدخان الغضب، فإن معدن الفكر الدماغ، ويتصاعد عند شدة الغضب من غليان دم القلب دخان مظلم إلى الدماغ يستولي على معادن الفكر، وربما يتعدى إلى معادن الحس فتظلم عينه حتى لا يرى بعينه، وتسود عليه الدنيا بأسرها، ويكون دماغه على مثال كهف اضطرمت فيه نار. فاسود جوه وحمى مستقره وامتلأ بالدخان جوانيه وكان فيه سراج ضعيف فانمحى أو انطفأ نوره فلا تثبت فيه قدم ولا يسمع فيه كلام ولا ترى فيه صورة، ولا يقدر على إطفائه لا من داخل ولا من خارج، بل ينبغي أن يصبر إلى أن يحترق جميع ما يقبل الاحتراق: فكذلك يفعل الغضب بالقلب والدماغ. وربما تقوى نار الغضب فتفني الرطوبة التي بها حياة القلب، فيموت صاحبه غيظاً كما تقوى النار في الكهف فينشق وتنهد أعاليه على أسفله، وذلك لإبطال النار ما في جوانبه من القوة الممسكة الجامعة لأجزائه، فهكذا حال القلب عند الغضب. وبالحقيقة فالسفينة في ملتطم الأمواج عند اضطراب الرياح في لجة البحر أحسن حالاً وأرجى سلامة من النفس المضطربة غيظاً؛ إذ في السفينة من يحتال لتسكينها وتدبيرها وينظر لها ويسوسها، وأما القلب فهو صاحب السفينة وقد سقطت حيلته إذ أعماه الغضب وأصمه. ومن آثار هذا الغضب في الظاهر تغير اللون وشدة الرعدة في الأطراف وخروج الأفعال عن الترتيب والنظام واضطراب الحركة والكلام، حتى يظهر الزبد على الأشداق وتحمر الأحداق وتنقلب المناخر وتستحيل الخلقة، ولو رأى الغضبان في حالة غضبه قبح صورته لسكن غضبه حياء من قبح صورته واستحالة خلقته، وقبح باطنه أعظم من قبح ظاهره فإن الظاهر عنوان الباطن، وإنما قبحت صورة الباطن أولاً ثم انتشر قبحها إلى الظاهر ثانياً، فتغير الظاهر ثمرة تغير الباطن فقس الثمرة بالمثمرة فهذا أثره في الجسد.
وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش من الكلام الذي يستحي منه ذو العقل ويستحي منه قائله عند فتور الغضب، وذلك مع تخبط النظم واضطراب اللفظ.
أما أثره على الأعضاء فالضرب والتهجم والتمزيق والقتل والجرح عند التمكن من غير مبالاة، فإن هرب منه المغضوب عليه أو فاته بسبب وعجز عن التشفي رجع الغضب على صاحبه فمزق ثوب نفسه ويطلم نفسه، وقد يضرب بيده على الأرض ويعدو عدو الواله السكران والمدهوش المتحير، وربما يسقط سريعاً لا يطيق العدو والنهوض بسبب شدة الغضب ويعتريه مثل الغشية، وربما يضرب الجمادات والحيوانات فيضرب القصعة مثلاً على الأرض وقد يكسر المائدة إذا غضب عليها. ويتعاطى أفعال المجانين فيشتم البهيمة والجمادات ويخاطبها ويقول: إلى متى منك هذا يا كيت وكيت? كأنه يخاطب عاقلاً، حتى ربما رفسته فيرفس الدابة ويقابلها بذلك.
وأما أثرة في القلب مع المغضوب عليه فالحقد والحسد وإضمار السوء والشماتة بالمساءات والحزن بالسرور والعزم على إفشاء السر وهتك الستر والاستهزاء وغير ذلك من القبائح، فهذه ثمرة الغضب المفرط.
وأما ثمرة الحمية الضعيفة فقلة الأنفة مما يؤنف منه من التعرض للحرم والزوجة والأمة واحتمال الذل من الأخساء وصغر النفس والقماءة وهو أيضاً مذموم، إذ من ثمراته عدم الغيرة على الحرام وهو خنوثة قال ﷺ "إن سعداً لغيور وأنا أغير من سعد وأن الله أغير مني وإنما خلقت الغيرة لحفظ الأنساب. ولو تسامح الناس بذلك لاختلطت الأنساب. ولذلكقيل كل أمة وضعت الغيرة في رجالها وضعت الصيانة في نسائها. ومن ضعف الغضب الخور والسكوت عند مشاهدة المنكرات وقد قال ﷺ "خير أمتي أحداؤها يعني في الدين وقال تعالى "ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله" بل من فقد الغضب عجز عن رياضة نفسه، إذ لا تتم الرياضة إلا بتسليط الغضب على الشهوة، حتى يغضب على نفسه عند الميل إلى الشهوات الخسيسة. ففقد الغضب مذموم، وإنما المحمود غضب ينتظر إشارة العقل والدين، فينبعث حيث تجب الحمية وينطفئ حيث يحسن الحلم، وحفظه على حد الاعتدال هو الاستقامة التي كلف الله بها عباده وهو الوسط الذي وصفه رسول الله ﷺ حيث قال "خير الأمور أوساطها فمن مال غضبه إلى الفتور حتى أحس من نفسه بضعف الغيرة وخسة النفس في احتمال الذل والضيم في غير محله فينبغي أن يعالج نفسه حتى يقوى غضبه. ومن مال غضبه إلى الإفراط حتى جره إلى التهور واقتحام الفواحش فينبغي أن يعالج نفسه لينقص من سورة الغضب ويقف على الوسط الحق بين الطرفين؛ فهو الصراط المستقيم وهو أرق من الشعرة وأحد من السيف؛ فأن عجز عنه فليطلب القرب منه قال تعالى "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة" فليس كل من عجز عن الإتيان بالخير كله ينبغي أن يأتي بالشر كله؛ ولكن بعض الشر أهون من بعض وبعض الخير أرفع من بعض. فهذه حقيقة الغضب ودرجاته نسأله الله حسن التوفيق لما يرضيه إنه على ما يشاء قدير.
بيان الغضب هل يمكن إزالة أصله بالرياضة أم لا
اعلم أنه ظن ظانون أنه يتصور محو الغضب بالكلية، وزعموا أن الرياضة إليه تتوجه وإياه تقصد، وظن آخرون أنه أصل لا يقبل العلاج. وهذا رأي من يظن أن الخلق كالخلق وكلاهما لا يقبل التغيير، وكلا الرأيين ضعيف. بل الحق فيه ما نذكره وهو أنه ما بقي الإنسان يحب شيئاً ويكره شيئاً فلا يخلو من الغيظ والغضب، وما دام يوافقه شيء ويخالفه آخر فلا بد من أن يحب ما يوافقه ويكره ما يخالفه، والغضب يتبع ذلك فإنه مهما أخذ منه محبوبه غضب لا محالة، وإذا قصد بمكروه غضب لا محالة.
إلا أن ما يحبه الإنسان ينقسم إلى ثلاثة أقسام، الأول: ما هو ضرورة في حق الكافة كالقوت والمسكن والملبس وصحة البدن، فمن قصد بدنه بالضرب والجرح فلا بد وأن يغضب، وكذلك إذا أخذ منه ثوبه الذي يستر عورته، وكذلك إذا أخرج من داره التي هي مسكنه أو أريق ماؤه الذي لعطشه، فهذه ضرورات لا يخلو الإنسان من كراهة زوالها ومن غيظ على من يتعرض لها.
القسم الثاني: ما ليس ضرورياً لأحد من الخلق كالجاه والمال الكثير والغلمان والدواب، فإن هذه الأمور صارت محبوبة بالعادة والجهل بمقاصد الأمور، حتى صار الذهب والفضة محبوبين في أنفسهما فيكنزان، ويغضب على من يسرقهما وإن كان مستغنياً عنهما في القوت، فهذا الجنس مما يتصور أن ينفك الإنسان عن أصل الغيظ عليه، فإذا كانت له دار زائدة على مسكنه فهدمه ظالم فيجوز أن لا يغضب، إذ يجوز أن يكون بصيراً بأمر الدنيا فيزهد في الزيادة على الحاجة فلا يغضب بأخذها، فإنه لا يحب وجودها ولو أحب وجودها لغضب على الضرورة بأخذها وأكثر غضب الناس على ما هو غير ضروري كالجاه والصيت والتصدر في المجالس والمباهاة في العلم، فمن غلب هذا الحب عليه فلا محالة يغضب إذا زاحمه مزاحم على التصدر في المحافل، ومن لا يحب ذلك فلا يبالي ولو جلس في صف النعال، فلا يغضب إذا جلس غيره فوقه. وهذه العادات الرديئة هي التي أكثرت محاب الإنسان ومكارهه فأكثرت غضبه، وكلما كانت الإرادات والشهوات أكثر كان صاحبها أحط رتبة وأنقص، لأن الحاجة صفة نقص فمهما كثرت كثر النقص، والجاهل أبدا جهده في أن يزيد في حاجاته وفي شهواته، وهو لا يدري أنه مستكثر من أسباب الغم والحزن، حتى ينتى بعض الجهال بالعادات الرديئة ومخالطة قرناء السوء إلى أن يغضب لو قيل له: إنك لا تحسن اللعب بالطيور واللعب بالشطرنج ولا تقدر على شرب الخمر الكثير وتناول الطعام الكثير، وما يجري مجراه من الرذائل، فالغضب على هذا الجنس ليس بضروري لأن حبه ليس بضروري.
القسم الثالث؛ ما يكون ضرورياً في حق بعض الناس دون البعض، كالكتاب مثلاً في حق العالم لأنه مضطر إليه فيحبه فيغضب على من يحرقه ويغرقه، وكذلك أدوات الصناعات في حق المكتسب الذي لا يمكنه التوصل إلى القوت إلا بها، فإنما هو وسيلة إلى الضروري، والمحبوب يصير ضرورياً ومحبوباً، وهذا يختلف بالأشخاص وإنما الحب الضروري ما أشار إليه رسول الله ﷺ بقوله "من أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه وله قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ومن كان بصيراً بحقائق الأمور وسلم له هذه الثلاثة يتصور أن لا يغضب في غيرها فهذه ثلاثة أقسام فلنذكر غاية الرياضة في كل واحد منها.
أما القسم الأول: فليست الرياضة فيه لينعدم غيظ القلب ولكن لكي يقدر على أن لا يطيع الغضب ولا يستعمله في الظالم إلا على حد يستحبه الشرع ويستحسنه العقل، وذلك ممكن بالمجاهدة وتكلف الحلم والاحتمال مدة، حتى يصير الحلم والاحتمال خلقاً راسخاً فأما قمع أصل الغيظ من القلب فذلك ليس مقتضى الطبع وهو غير ممكن نعم يمكن كسر سورته وتضعيفه حتى لا يشتد هيجان الغيظ في الباطن، وينتهي ضعفه إلى أن لا يظهر أثره في الوجه، ولكن ذلك شديد جداً وهذا حكم القسم الثالث أيضاً لأن ما صار ضرورياً في حق شخص فلا يمنعه من الغيظ استغناء غيره عنه. فالرياضة فيبه تمنع العمل به وتضعف هجيانه في الباطن حتى لا يشتد التألم بالصبر عليه.
وأما القسم الثاني: فيمكن التوصل بالرياضة إلى الانفكاك عن الغضب عليه إذ يمكن إخراج حبه من القلب، وذلك بأن يعلم الإنسان أن وطنه القبر ومستقره الآخرة وأن الدنيا معبر يعبر عليها ويتزود منها قدر الضرورة، وما وراء ذلك عليه وبال في وطنه ومستقره فيزهد في الدنيا ويمحو حبها عن قلبه، ولو كان للإنسان كلب لا يحبه لا يغضب إذا ضربه غيره، فالغضب تبع للحب. فالرياضة في هذا تنتهي إلى قمع أصل الغضب وهو نادر جداً، وقد تنتهي إلى المنع من استعمال الغضب والعمل بموجبه وهو أهون.
فإن قلت: الضروري من القسم الأول التألم بفوات المحتاج إليه دون الغضب، فمن له شاة مثلاً وهي قوته فماتت لا يغضب على أحد وإن كان يحصل فيه كراهة، وليس من ضرورة كل كراهة غضب، فإن الإنسان يتألم بالفصد والحجامة ولا يغضب على الفصاد والحجام فمن غلب عليه التوحيد حتى يرى الأشياء كلها بيد الله ومنه فلا يغضب على أحد من خلقه؛ إذ يراهم مسخرين في قبضة قدرته كالقلم في يد الكاتب، ومن وقع ملك بضرب رقبته لم يغضب على القلم، فلا يغضب على من يذبح شاته التي هي قوته كما لا يغضب على موتها، إذ يرى الذبح والموت من الله عز وجل لا يقدر له إلا ما فيه الخيرة، وربما تكون الخيرة في مرضه وجوعه وجرحه وقتله، فلا يغضب كما لا يغضب على الفصاد والحجام لأنه يرى أن الخيرة فيه، فيقول هذا على هذا الوجهغير محال، ولكن غلبة التوحيد إلى هذا الحد إنما تكون كالبرق الخاطف، تغلب في أحوال مختلفة ولا تدوم، ويرجع القلب إلى الالتفات إلى الوسائط رجوعاً طبيعياً لا يندفع عنه، ولو تصور ذلك على الدوام لبشر لتصور لرسول الله ﷺ فإنه كان يغضب حتى تحمر وجنتاه حتى قال "اللهم أنا بشر أغضب كما يغضب البشر فأيما مسلم سببته أو لعنته أو ضربته فاجعلها مني صلاة عليه وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة وقال عبد اله بن عمرو بن العاص: يا رسول الله أكتب عنك كل ما قلت في الغضب والرضا فقال "اكتب فوالذي بعثني بالحق نبياً ما يخرج منه إلا حق" وأشار إلى لسانه فلم يقل إني لا أغضب، ولكن قال إن الغضب لا يخرجني عن الحق، أي لا أعمل بموجب الغضب. وغضبت عائشة رضي الله تعالى عنها مرة فقال لها رسول الله ﷺ "مالك? جاءك شيطانك" فقال: وما لك شيطان? قال "بلى ولكني دعوت الله فأعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بالخير ولم يقل: لا شيطان لي، وأراد شيطان الغضب لكن قال: لا يحملني على الشر. وقال علي رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله ﷺ لا يغضب للدنيا فإذا أغضبه الحق لم يعرفه أحد ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له فكان يغضب على الحق، وإن كان غضبه لله فهو التفات إلى الوسائط على الجملة، بل كل من يغضب على من يأخذ ضرورة قوته وحاجته التي لا بد له في دينه منها فإنما غضب لله، فلا يمكن الانفكاك عنه. نعم قد يفقد أصل الغضب فيما هو ضروري إذا كان القلب مشغولاً بضروري أهم منه، فلا يكون في القلب متسع للغضب لاشتغاله بغيره، فإن استغراق القلب ببعض المهمات يمنع الإحساس بما عداه.
وهذا كما أن سلمان لما شتم قال: إن خفت موازيني فأنا شر مما تقول وإن ثقلت موازيني لم يضرني ما تقول. فقد كان همه مصروفاً إلى الآخرة فلم يتأثر قلبه بالشتم. وكذلك شتم الربيع بن خثيم فقال: يا هذا قد سمع الله كلامك وإن دون الجنة عقبة إن قطعتها لم يضرني ما تقول، وإن لم أقطعها فأنا شر مما تقول وسب رجل أبا بكر رضي الله عنه فقال: ما ستر الله عنك أكثر؛ فكأنه كان مشغولاً بالنظر في تقصير نفسه عن أن يتقي الله حق تقاته ويعرفه حق معرفته، فلم يغضبه نسبة غيره إياه إلى نقصان، إذ كان ينظر إلى نفسه بعين النقصان، وذلك لجلالة قدره. وقالت امرأة لمالك بن دينار: يا مرائي، فقال: ما عرفني غيرك! فكأنه كان مشغولاً بأن ينفي عن نفسه آفة الرياء، ومنكراً على نفسه ما يلقيه الشيطان إليه فلم يغضب لما نسب إليه. وسب رجل الشعبي فقال: إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك.
فهذه الأقاويل دالة في الظاهر على أنهم لم يغضبوا لاشتغال قلوبهم بمهمات دينهم، ويحتمل أن يكون ذلك قد أثر في قلوبهم ولكنهم لم يشتغلوا به واشتغلوا بما كان هو الأغلب على قلوبهم، فإذاً اشتغال القلب ببعض المهمات لا يبعد أن يمنع هيجان الغضب عند فوات بعض المحاب؛ فإذاً يتصور فقد الغيظ إما باشتعال القلب بمهم، أو بغلبة نظر التوحيد، أو بسبب ثالث: وهو أن يعلم أن الله يحب منه أن لا يغتاط فيطفئ شدة حبه لله غيظه، وذلك غير محال في أحوال نادرة. وقد عرفت بهذا أن الطريق للخلاص من نار الغضب محو حب الدنيا عن القلب وذلك بمعرفة آفات الدنيا وغوائلها -كما سيأتي في كتاب ذم الدنيا- ومن أخرج حب المزايا عن القلب تخلص من أكثر أسباب الغضب، وما لا يمكن محوره يمكن كسره وتضعيفه فيضعف الغضب بسببه ويهون دفعه. نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه إنه على كل شيء قدير والحمد لله وحده.
بيان الأسباب المهيجة للغضب
قد عرفت أن علاج كل علة حسم مادتها وإزالة أسبابها فلا بد من معرفة أسباب الغضب. وقد قال يحيى لعيسى عليهما السلام: أي شيء أشد? قال: غضب الله، قال فما يقرب من غضب الله، قال أن تغضب، قال: فما يبدي الغضب وما ينبته? قال عيسى: الكبر والفخر والتعزز والحمية.
والأسباب المهيجة للغضب هي: الزهور والعجب والمزاح والهزل والهزء والتعيير والمماراة والمضادة والغدر وشدة الحرص على فضول المال والجاه، وهي بأجمعها أخلاق رديئة مذمومة شرعاً ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب فلا بد من إزالة هذه الأسباب بأضدادها.
فينبغي أن تميت الزهو بالتواضع. وتميت العجب بمعرفتك بنفسك -كما سيأتي بيانه في كتاب الكبر والعجب- وتزيل الفخر بأنك من جنس عبدك إذ الناس يجمعهم في الانتساب أب واحد؛ وإنما اختلفوا في الفضل أشتاتاً فبنو آدم جنس واحد وإنما الفخر بالفضائل؛ والفخر والعجب والكبر أكبر الرذائل وهي أصلها ورأسها، فإذا لم تخل عنها فلا فضل لك على غيرك، فلم تفتخر وأنت من جنس عبدك من حيث البنية والنسب والأعضاء الظاهرة والباطنة? وأما المزاح فتزيله بالتشاغل بالمهمات الدينية التي تستوعب العمر وتفضل عنه إذا عرفت ذلك. وأما الهزء فتزيله بالتكرم عن إيذاء الناس وبصيانة النفس عن أن يستهزأ بك. وأما التعيير فالحذر عن القول القبيح وصيانة النفس عن مر الجواب. وأما شدة الحرص على مزايا العيش فتزال بالقناعة بقدر الضرورة طلباً لعز الاستغناء وترفعاً عن ذل الحاجة.
وكل خلق من هذه الأخلاق وصفة من هذه الصفات يفتقر في علاجه إلى رياضة وتحمل مشقة، وحاصل رياضتها يرجع إلى معرفة غوائلها لترغب النفس عنها وتنفر عن قبحها، ثم المواظبة على مباشرة أضدادها مدة مديدة حتى تصير بالعادة مألوفة هينة على النفس، فإذا انمحت عن النفس فقد زكت وتطهرت عن هذه الرذائل وتخلصت أيضاً عن الغضب الذي يتولد منها. ومن أشد البواعث على الغضب عند أكثر الجهال تسميتهم الغضب شجاعة ورجولية وعزة نفس وكبر همة، وتلقيبه بالألقاب المحمودة غباوة وجهلاً حتى تميل النفس إليه وتستحسنه. وقد يتأكد ذلك بحكاية شدة الغضب عن الأكابر في معرض المدح بالشجاعة، والنفوس مائلة إلى التشبه بالأكابر فيهيج الغضب إلى القلب بسببه، وتسمية هذا عزة نفس وشجاعة جهل بل هو مرض قلب ونقصان عقل وهو لضعف النفس ونقصانها، وآية أنه لضعف النفس أن المريض أسرع غضباً من الصحيح، والمرأة أسرع غضباً من الرجل، والصبي أسرع غضباً من الرجل الكبير، والشيخ الضعيف أسرع غضباً من الكهل، وذو الخلق السيئ والرذائل القبيحة أسرع غضباً من صاحب الفضائل. فالرذل يغضب لشهوته إذا فاتته اللقمة، ولبخله إذا فاتته الحبة، حتى أنه يغضب على أهله وولده وأصحابه. بل القوي من يملك نفسه عند الغضب كما قال رسول الله ﷺ "ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب بل ينبغي أن يعالج هذا الجاهل بأن تتلى عليه حكايات أهل الحلم والعفو وما استحسن منهم من كظم الغيظ، فإن ذلك منقول عن الأنبياء والأولياء والحكماء والعلماء وأكابر الملوك الفضلاء، وضد ذلك منقول عن الأكراد والأتراك والجهلة والأغبياء الذين لا عقول لهم ولا فضل فيهم.
بيان علاج الغضب بعد هيجانه
ما ذكرناه هو حسم لمواد الغضب وقطع لأسبابه حتى لا يهيج، فإذا جرى سبب هيجه فعنده يجب التثبت حتى لا يضطر صاحبه إلى العمل به على الوجه المذموم، وإنما يعالج الغضب عند هيجانه بمعجون العلم والعمل.
أما العلم فهو ستة أمور؛ الأول: أن يتفكر في الأخبار التي سنوردها في فضل كظم الغيظ والعفو والحلم والاحتمال فيرغب في ثوابه، فتمنعه شدة الحرص على ثواب الكظم عن التشفي والانتقام وينطفئ عنه غيظه، قال مالك بن أوس ابن الحدثان: غضب عمر على رجل وأمر بضربه فقلت يا أمير المؤمنين "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" فكان عمر يقول "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" فكان يتأمل في الآية وكان وقافاً عند كتاب الله مهما تلي عليه كثير التدبر فيه فتدبر فيه وخلى الرجل. وأمر عمر بن عبد العزيز بضرب رجل ثم قرأ قوله تعالى "والكاظمين الغيظ" فقال لغلامه خل عنه.
الثاني: أن يخوف نفسه بعقاب الله وهو أن يقول قدرة الله على أعظم من قدرتي على هذا الإنسان، فلو أمضيت غضبي عليه لم آمن أن يمضي الله غضبه علي يوم القيامة أحوج ما أكون إلى العفو. فقد قال تعالى في بعض الكتب القديمة: يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب فلا أمحقك فيمن أمحق. وبعث رسول الله ﷺ وصيفاً إلى حاجة فأبطأ عليه فلما جاء قال "لولا القصاص لأوجعتك أي القصاص في القيامة. وقيل ما كان في بني إسرائيل ملك إلا ومعه حكيم إذا غضب أعطاه صحيفة فيها: ارحم المسكين واخش الموت واذكر الآخرة، فكان يقرؤها حتى يسكن غضبه.
الثالث: أن يحذر نفسه عاقبة العداوة والانتقام وتشمر العدو لمقابلته والسعي في هدم أغراضه والشماتة بمصائبه وهو لا يخلو عن المصائب فيخوف نفسه بعواقب الغضب في الدنيا إن كان لا يخاف من الآخرة. وهذا يرجع إلى تسليط شهوة على غضب وليس هذا من أعمال الآخرة ولا ثواب عليه، لأنه متردد على حظوظه العاجلة يقدم بعضها على بعض، غلا أن يكون محذوره أن تتشوش عليه في الدنيا فراغته للعلم والعمل وما يعينه على الآخرة فيكون مثاباً عليه.
الرابع: أن يتفكر في قبح صورته عند الغضب بأن يتذكر صورة غيره في حالة الغضب، ويتفكر في قبح الغضب في نفسه ومشابهة صاحبه للكلب الضاري والسبع العادي، ومشابهة الحليم الهادئ التارك للغضب للأنبياء والأولياء والعلماء والحكماء، ويخير نفسه بين أن يتشبه بالكلاب والسباع وأرذال الناس وبين أن يتشبه بالعلماء والأنبياء في عادتهم لتميل نفسه إلى حب الاقتداء بهؤلاء إن كان قد بقي معه مسكة من عقل.
الخامس: أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى الإنتقام ويمنعه من كظم الغيظ، ولا بد وأن يكون له سبب مثل قول الشيطان له: إن هذا يحمل منك على العجز وصغر النفس والذلة والمهانة وتصير حقيراً في أعين الناس! فيقول لنفسه: ما أعجبك! تأنفين من الاحتمال الآن ولا تأنفين من خزي يوم القيامة والافتضاح إذا أخذ هذا بيدك وانتقم منك? وتحذرين من أن تصغري في أعين الناس ولا تحذرين من أن تصغري عند الله والملائكة والنبيين? فمهما كظم الغيظ فينبغي أن يكظمه لله، وذلك يعظمه عند الله، فما له وللناس? وذل من ظلمه يوم القيامة أشد من ذله له انتقم الآن، أفلا يحب أن يكون هو القائم إذا نودي يوم القيامة: ليقم من أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا? فهذا وأمثاله من معارف الإيمان ينبغي أن يكرره على قلبه.
السادس: أن يعلم أن غضبه من تعجبه من جريان الشيء على وفق مراد الله لا على وفق مراده، فكيف يقول مرادي أولى من مراد الله? ويوشك أن يكون غضب الله عليه أعظم من غضبه.
وأما العمل فإن تقول بلسانك أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. هكذا أمر رسول الله ﷺ أن يقال عند الغيظ وكان رسول الله ﷺ إذا غضبت عائشة أخذ بأنفها وقال "يا عويش قولي اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن فيستحب أن تقول ذلك، فإن لم يزل بذلك فاجلس إن كنت قائماً واضجع إن كنت جالساً واقرب من الأرض التي منها خلقت لتعرف بذلك ذل نفسك، واطلب بالجلوس والاضجاع السكون فإن سبب الغضب الحرارة وسبب الحرارة الحركة. فقد قال رسول الله ﷺ "إن الغضب جمرة توقد في القلب ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمره عينيه، فإذا وجد أحدكم من ذلك شيئاً فإن كان قائماً فليجلس وإن كان جالساً فلينم، فإن لم يزل ذلك فليتوضاً بالماء البارد أو يغتسل، فإن النار لا يطفئها إلا الماء: فقد قال ﷺ "إذا غضب أحدكم فليوضأ بالماء فإنما الغضب من النار وفي وراية "إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ" وقال ابن عباس: قال رسول الله ﷺ "وإذا غضبت فاسكت وقال أبو هريرة: كان رسول الله ﷺ إذا غضب وهو قائم جلس وإذا غضب وهو جالس اضطجع فيذهب غضبه وقال أبو سعيد الخدري: قال النبي ﷺ "ألا إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم ألا ترون إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه فمن وجد من ذلك شيئاً فليلصق خده بالأرض" وكأن هذا إشارة إلى السجود وتمكين أعز الأعضاء من أذل المواضع وهو التراب لتستشعر به النفس الذل وتزايل به العزة والزهو الذي هو سبب الغضب.
وروي أن عمر غضب يوماً فدعا بماء فاستنشق وقال: إن الغضب من الشيطان وهذا يذهب الغضب. وقال عروة ابن محمد: لما استعملت على اليمن قال لي أبي: أوليت? قلت: نعم، قال: فإذا غضبت فانظر إلى السماء فوقك وإلى الأرض تحتك ثم عظم خالقهما. وروي أن أبا ذر قال لرجل: يا ابن الحمراء -في خصومة بينهما- فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال "يا أبا ذر بلغني أنك اليوم عيرت أخاك بأمه" فقال: نعم، فانطلق أبو ذر ليرضي صاحبه فسبقه الرجل فسلم عليه فذكر ذلك لرسول الله ﷺ فقال "يا أبا ذر ارفع رأسك فانظر ثم اعلم أنك لست بأفضل من أحمر فيها ولا أسود إلا أن تفضله بعمل" ثم قال "إذا غضبت فإن كنت قائماً فاقعد وإن كنت قاعداً فاتكئ وإن كنت متكئاً فاضطجع وقال المعتمر بن سليمان: كان رجل ممن كان قبلكم يغضب فيشتد غضبه فكتب صحائف وأعطى كل صحيفة رجلاً وقال للأول: إذا غضبت فأعطني هذه، وقال للثاني: إذا سكن بعض غضبي فأعطني هذه، وقال للثالث: إذا ذهب غضبي فأعطني هذه، فاشتد غضبه يوماً فأعطى الصحيفة الأولى فإذا فيها ما أنت وهذا الغضب إنك لست بإله إنما أنت بشر يوشك أن يأكل بعضك بعضاً، فسكن بعض غضبه، فأعطي الثانية فإذا فيها: ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء، فأعطي الثالثة فإذا فيها: خذ الناس بحق الله فإنه لا يصلهم إلا ذلك. أي لا تعطل الحدود. وغضب المهدي على رجل فقال شبيب: لا تغضب لله بأشد من غضبه لنفسه، فقال: خلوا سبيله.
فضيلة كظم الغيظ
قال الله تعالى "والكاظمين الغيظ" وذكر ذلك في معرض المدح. وقال رسول الله ﷺ "من غضبه كف الله عنه عذابه ومن اعتذر إلى ربه قبل الله عذره ومن خزن لسانه ستر الله عورته وقال ﷺ "أشدكم من غلب نفسه عند الغضب وأحلمكم من عفا عند القدرة وقال ﷺ "من كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه لأمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضا" وفي وراية "ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً وقال ابن عمر: قال رسول الله ﷺ "ما جرع عبد جرعة أعظم أجراً من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله تعالى وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال ﷺ "إن لجهنم باباً لا يدخله إلى من شفى غيظه بمعصية الله تعالى وقال ﷺ "ما من جرعة أحب إلى الله تعالى من جرعة غيظ كظمها عبد وما كظمها عبد إلا ملأ الله قلبه إيمانا وقال ﷺ "من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق ويخيره من أي الحور شاء .
الآثار: قال عمر رضي الله عنه: من اتقى الله لم يشف غيظه ومن خاف الله لم يفعل ما يشاء ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون. وقال لقمان لابنه: يا بني لا تذهب ماء وجهك بالمسألة ولا تشف غيظك بفضيحتك واعرف قدرك تنفعك معيشتك. وقال أيوب: حلم ساعة يدفع شراً كثيراً. واجتمع سفيان الثوري وأبو خزيمة اليربوعي والفضيل بن عياض فتذاكروا الزهد، فأجمعوا على أن أفضل الأعمال الحلم عند الغضب والصبر عند الجزع. وقال رجل لعمر رضي الله عنه: والله ما تقضي بالعدل ولا تعطي الجزل، فغضب عمر حتى عرف ذلك في وجهه. فقال له رجل. يا أمير المؤمنين ألا تسمع إلى الله تعالى يقول "خذ العفو أمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" فهذا من الجاهلين، فقال عمر: صدقت، فكأنما كانت ناراً فأطفئت. وقال محمد بن كعب: ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان بالله، إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق وإذا قدر لم يتناول ما ليس له. وجاء رجل إلى سلمان فقال: يا عبد الله أوصني، قال: لا تغضب، قال لا أقدر، قال: فإن غضبت فأمسك لسانك ويدك.
بيان فضيلة الحلم
اعلم أن الحلم أفضل من كظم الغيظ؛ لأن كظم الغيظ عبارة عن التحلم أي تكلف الحلم، ولا يحتاج إلى كظم الغيظ إلا من هاج غيظه ويحتاج فيه إلى مجاهدة شديدة، ولكن إذا تعود ذلك مدة صار ذلك اعتياداً فلا يهيج الغيظ، وإن هاج فلا يكون في كظمه تعب، وهو الحلم الطبيعي، وهو دلالة كمال العقل واستيلائه وانكسار قوة الغضب وخضوعها للعقل، ولكن ابتداؤه التحلم وكظم الغيظ تكلفاً. قال ﷺ "إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ومن يتخير الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقه وأشار بهذا إلى أن اكتساب الحلم طريقه التحلم أولاً وتكلفه كما أن اكتساب العلم طريقه التعلم. وقال أبو هريرة: قال رسول الله ﷺ "اطلبوا العلم واطلبوا مع العلم السكينة والحلم، لينوا لمن تعلمون ولمن تتعلمون منه، ولا تكونوا من جبابرة العلماء فيغلب جهلكم حلمكم وأشار بهذا إلى أن التكبر والتجبر هو الذي يهيج الغضب ويمنع من الحلم واللين. وكان من دعائه ﷺ اللهم أغنني بالعلم وزيني بالحلم وأكرمني بالتقوى وجملني بالعافية وقال أبو هريرة "قال النبي ﷺ "ابتغوا الرفعة عند الله. قالوا: وما هي يا رسول الله? قال "تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتحلم عمن جهل عليك وقال ﷺ "خمس من سنن المرسلين: الحياء والحلم والحجامة والسواك والتعطر وقال علي كرم الله وجهه: قال النبي ﷺ "إن الرجل المسلم ليدرك بالحلم درجة الصائم القائم وإنه ليكتب جباراً عنيداً ولا يملك إلا أهل بيته وقال أبو هريرة: إن رجلاً قال يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي ويجهلون علي وأحلم عنهم، قال "إن كان كما تقول فكأنما تسفهم المل ولا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك المل: يعني به الرمل. وقال رجل من المسلمين: اللهم ليس عندي صدقة أتصدق بها فأيما رجل أصاب من عرضي شيئاً فهو عليه صدقة فأوحى الله تعالى إلى النبي ﷺ إني قد غفرت له وقال ﷺ "أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم" قالوا: وما أبو ضمضم? قال "رجل ممن كان قبلكم كان إذا أصبح يقول: اللهم إني تصدقت اليوم بعرضي على من ظلمني .
وقيل في قوله تعالى "ربانيين" أي حلماء علماء. وعن الحسن في قوله تعالى "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً" قال حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا. وقال عطاء بن أبي رباح "يمشون على الأرض هوناً" أي حلماء. وقال ابن أبي حبيب في قوله عز وجل "وكهلا" قاله: الكهل منتهى الحلم. وقال مجاهد "وإذا مروا باللغو مروا كراما" أي إذا أوذوا صفحوا.
وروي أن ابن مسعود مر بلغو معرضاً فقال رسول الله ﷺ "أصبح ابن مسعود وأمسى كريماً ثم تلا إبراهيم بن ميسرة وهو الراوي قوله تعالى "وإذا مروا باللغو مروا كراما" وقال النبي ﷺ "اللهم لا يدركني ولا أدركه زمان لا يتبعون فيه العليم ولا يستحيون فيه من الحليم، قلوبهم قلوب العجم وألسنتهم ألسنة العرب وقال ﷺ "ليليني منكم ذوو الأحلام والنهي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ولا تختلفوا فتخلف قلوبكم، وإياكم وهيشات الأسواق وروي أنه وفد على النبي ﷺ الأشج فأناخ راحلته ثم عقلها وطرح عنه ثوبين كانا عليه وأخرج من العيبة ثوبين حسنين فلبسهما. وذلك بعين رسول الله ﷺ يرى ما يصنع، ثم أقبل يمشي إلى رسول الله ﷺ فقال عليه السلام "إن فيك يا أشج خلقين يحبهما الله ورسوله "قال: ما هما بأبي أنت وأمي يا رسول الله? قال "الحلم والأناة" فقال: خلتان تخلقتهما أو خلقان جبلت عليهما? فقال: بل خلقان جبلك الله عليهما" فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله وقال ﷺ "إن الله يحب الحليم الحي الغني المتعفف أبا العيال التقي ويبغض الفاحش البذيء السائل الملحف الغبي وقال ابن عباس: قال النبي ﷺ "ثلاث من لم تكن فيه واحدة منهن فلا تعتدوا بشيء من عمله: تقوى تحجزه عن معاصي الله عز وجل. وحلم يكف به السفيه، وخلق يعيش به في الناس وقال رسول الله ﷺ "إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة نادى مناد: أين أهل الفضل? فيقوم ناس وهم يسير فينطلقون سراعاً إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فتقولون لهم إنا نراكم سراعاً إلى الجنة فيقولون نحن أهل الفضل، فيقولون لهم ما كان فضلكم? فيقولون كنا إذا ظلمنا صبرنا وإذا أسيء إلينا عفونا وإذا جهل علينا حلمنا. فيقال لهم ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين .
الآثار: قال عمر رضي الله عنه: تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم. وقال علي رضي الله عنه: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك، وأن لا تباهي الناس بعبادة الله، وإذا أحسنت حمدت الله تعالى، وإذا أسأت استغفرت الله تعالى. وقال الحسن: اطلبوا العلم وزينوه بالوقار والحلم. وقال أكثم بن صيفي: دعامة العقل الحلم وجماع الأمر الصبر. وقال أبو الدرداء: أدركت الناس ورقا لا شوك فيه فأصبحوا شوكاً لا ورق فيه، إن عرفتهم نقدوك وإن تركتهم لم يتركوك، قالوا: كيف نصنع? قال: تقرضهم عن عرضك ليوم فقرك. وقال علي رضي الله عنه: إن أول ما عوض الحليم عن حلمه جهله وصبره وشهوته، ولا يبلغ ذلك إلا بقوة العلم، وقال معاوية لعمرو بن الأهتم: أي الرجال أشجع? قال: من رد جهله بحلمه. قال: أي الرجال أسخى? قال: من بذل دنياه لصلاح دينه. وقال أنس بن مالك في قوله تعالى "فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" إلى قوله "عظيم" هو الرجل يشتمه أخوه فيقول: إن كنت كاذباً فغفر الله لك وإن كنت صادقاً فغفر الله لي. وقال بعضهم: شتمت فلاناً من أهل البصرة فحلم علي فاستعبدني بها زماناً. وقال معاوية لعرابة بن أوس: بم سدت قومك يا عرابة? قال: يا أمير المؤمنين كنت أحلم عن جاهلهم وأعطي سائلهم وأسعى في حوائجهم. فمن فعل فعلي فهو مثلي ومن جاوزني فهو أفضل مني ومن قصر عني فأنا خير منه. وسب رجل ابن عباس رضي الله عنهما فلما فرغ قال: يا عكرمة هل للرجل حاجة فنقضيها? فنكس الرجل رأسه واستحى. وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: أشهد أنك من الفاسقين، فقال: ليس تقبل شهادتك. وعن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم أنه سبه رجل فرمى إليه بخميصة كانت عليه وأمر له بألف درهم، فقال بعضهم: جمع له خمس خصال محمودة: الحلم وإسقاط الأذى وتخليص الرجل مما يبعد من الله عز وجل وحمله على الندم والتوبة ورجوعه إلى مدح بعد الذم اشترى جميع ذلك بشيء من الدنيا يسير وقال رجل لجعفر بن محمد إنه قد وقع بيني وبين قوم منازعة في أمر وإني أريد أن أتركه فأخشى أن يقال لي: إن تركك له ذل، فقال جعفر: إنما الذليل الظالم. وقال الخليل بن أحمد: كان يقال من أساء فأحسن إليه فقد جعل له حاجز من قلبه يردعه عن مثل إساءته وقال الأحنف بن قيس: لست بحليم ولكني أتحلم. وقال وهب بن منبه: من يرحم يرحم ومن يصمت يسلم، ومن يجهل يغلب، ومن يعجل يخطئ، ومن يحرص على الشر لا يسلم، ومن لا يدع المراء يشتم، ومن لا يكره الشر يأثم، ومن يكره الشر يعصم، ومن يتبع وصية الله يحفظ، ومن يحذر الله يأمن، ومن يتول الله يمنع ومن لا يسأل الله يفتقر، ومن يأمن مكر الله يخذل، ومن يستعن بالله يظفر. وقال رجل لمالك بن دينار: بلغني أنك ذكرتني بسوء، قال، أنت إذن أكرم علي من نفسي إني إذا فعلت ذلك أهديت لك حسناتي. وقال بعض العلماء الحلم أرفع من العقل لأن الله تعالى تسمى به. وقال رجل لبعض الحكماء: والله لأسبنك سباً يدخل معك في قبرك، فقال: معك يدخل لا معي. ومر المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام بقوم من اليهود فقالوا له شراً فقال لهم خيراً فقيل له: إنهم يقولون شراً وأنت تقول خيراً? فقال: كل ينفق مما عنده. وقال لقمان: ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلاثة؛ لا يعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا الشجاع إلا عند الحرب، ولا الأخ إلا عند الحاجة إليه. ودخل على بعض الحكماء صديق له فقدم إليه طعاماً فخرجت امرأة الحكيم -وكانت سيئة الخلق- فرفعت المائدة وأقبلت على شتم الحكيم، فخرج الصديق مغضباً فتبعه الحكيم وقال له تذكر يوم كنا في منزلك نطعم فسقطت دجاجة على المائدة فأفسدت ما عليها فلم يغضب أحد منا? قال: نعم، قال فاحسب أن هذه مثل تلك الدجاجة؛ فسرى عن الرجل غضبه وانصرف وقال: صدق الحكيم، الحلم شفاء من كل ألم. وضرب رجل قدم حكيم فأوجعه فلم يغضب فقيل له في ذلك فقال: أقمته مقام حجر تعثرت به فذبحت الغضب. وقال محمود الوراق: سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب وإن كثرت منه علي الـجـرائم
وما الناس إلا واحـد مـن ثـلاثة شريف ومشروف ومثلي مقـام
فأما الذي فوق فأعـرف قـدره وأتبع فيه الحق والـحـق لازم
وأما الذي دوني فإن قال صنت عن إجابتـه عـرضـي وإن لام لائم
وأما الذي مثل فإن زل أو هـفـا تفضلت إن الفضل بالحلم حاكـم
بيان القدر الذي يجوز الانتصار والتشفي به من الكلام
اعلم أن كل ظلم صدر من شخص فلا يجوز مقابلته بمثله، فلا تجوز مقابلة الغيبة بالغيبة ولا مقابلة التجسس بالتجسس ولا السب بالسب. وكذلك سائر المعاصي. وإنما القصاص والغرامة على قدر ما ورد الشرع به وقد فصلناه في الفقه.
وأما السبب فلا يقال بمثله إذ قال رسول الله ﷺ "إن امرؤ عيرك بما فيك فلا تعيره بما فيه وقال "المستبان ما قالا فهو على البادئ ما لم يعتد المظلوم" وقال "المستبان شيطانان يتهاتران وشتم رجل أبا بكر الصديق رضي الله عنه وهو ساكت فلما ابتدأ ينتصر منه قام رسول الله ﷺ فقال أبو بكر: إنك كنت ساكتاً لما شتمني فلما تكلمت قمت قال "لأن الملك كان يجيب عنك فلما تكلمت ذهب الملك وجاء الشيطان فلم أكن لأجلس في مجلس فيه الشيطان وقال قوم: تجوز المقابلة بما لا كذب فيه، وإنما نهى رسول الله ﷺ عن مقابلة التعيير بمثله نهي تنزيه، والأفضل تركه ولكنه لا يعصى به. والذي يرخص فيه أن تقول: من أنت? وهل أنت إلا من بني فلان? كما قال سعد لابن مسعود: وهل أنت إلا من بني هذيل? وقال ابن مسعود: وهل أنت إلا من بني أمية، ومثل قوله: يا أحمق، قال مطرف: كل الناس أحمق فيما بينه وبين ربه إلا أن بعض الناس أقل حماقة من بعض. وقال ابن عمر في حديث طويل: حتى ترى الناس كلهم حمقى في ذات الله تعالى وكذلك قوله يا جاهل، إذ ما من أحد إلا وفيه جهل؛ فقد آذاه بما ليس بكذب. وكذلك قوله يا سيئ الخلق، يا صفيق الوجه يا ثلايا للإعراض، وكان ذلك فيه. وكذلك قوله: لو كان فيك حياء لما تكلمت، وما أحقرك في عيني بما فعلت، وأخزاك الله وانتقم منك.
فأما النميمة والغيبة والكذب وسب الوالدين فحرام بالاتفاق، لما روي أن كان بين خالد بن الوليد وسعد كلام، فذكر رجل خالداً عند سعد، فقال سعد: مه إن ما بيننا لم يبلغ ديننا. يعني أن يأثم بعضنا في بعض، فلم يسمع السوء فكيف يجوز له أن يقوله?
والدليل على جواز ما ليس بكذب ولا حرام كالنسبة إلى الزنا والفحش والسب: ما روت عائشة رضي الله عنها أن أزواج النبي ﷺ أرسلن إليه فاطمة، فجاءت فقالت: يا رسول الله أرسلني إليك أزواجك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، والنبي ﷺ نائم، فقال "يا بنية أتحبين ما أحب? قالت: نعم، قال "فأحبي هذه" فرجعت إليهن فأخبرتهن بذلك فقلن: ما أغنيت عنا شيئاً: فأرسلن زينب بنت جحش، قالت: وهي التي كانت تساميني في الحب فجاءت فقالت: بنت أبي بكر وبنت أبي بكر، فما زالت تذكرني وأنا ساكتة أنتظر أن يأذن لي رسول الله ﷺ في الجواب فأذن لي، فسببتها حتى جف لساني فقال النبي ﷺ "كلا إنها ابنة أبي بكر يعني أنك لا تقاومينها في الكلام قط وقولها: سببتها، ليس المراد به الفحش بل هو الجواب عن كلامها بالحق ومقابلتها بالصدق. وقال النبي ﷺ "المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم فأثبت للمظلوم انتصار إلى أن يعتدي. فهذا القدر هو الذي أباحه هؤلاء وهو رخصة في الإيذاء جزاء على إيذائه السابق. ولا تبعد الرخصة في هذا القدر ولكن الأفضل تركه فإنه يجره إلى ما وراءه ولا يمكنه الاقتصار على قدر الحق فيه، والسكوت عن أصل الجواب لعله أيسر من الشروع في الجواب والوقوف على حد الشرع فيه، ولكن من الناس من لا يقدر على ضبط نفسه في فورة الغضب ولكن يعود سريعاً، ومنهم من يكف نفسه في الابتداء ولكن يحقد على الدوام. والناس في الغضب أربعة: فبعضهم كالحلفاء سريع الوقود سريع الخمود، وبعضهم كالغضا بطيء الوقود بطيء الخمود وبعضهم بطيء الوقود سريع الخمود وهو الأحمد ما لم ينته إلى فتور الحمية والغيرة، وبعضهم سريع الوقود بطيء الخمود وهذا هو أشرهم. وفي الخبر "المؤمن سريع الغضب سريع الرضى فهذه بتلك وقال الشافعي رحمه الله: من استغضب فلم يغضب فهو حمار ومن استرضى فلم يرض فهو شيطان. وقد قال أبو سعيد الخدري قال رسول الله ﷺ "ألا إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى فمنهم بطيء الغضب سريع الفيء، ومنهم سريع الغضب سريع الفيء؛ فتلك بتلك، ومنهم سريع الغضب بطيء الفيء، ألا وإن خيرهم البطيء الغضب السريع الفيء وشرهم السريع الغضب البطيء الفيء ولما كان الغضب يهيج ويؤثر في كل إنسان وجب على السلطان أن لا يعاقب أحداً في حال غضبه، لأنه ربما يتعدى الواجب، ولأنه ربما يكون متغيظاً عليه فيكون متشفياً لغيظه ومريحاً نفسه من ألم الغيظ، فيكون صاحبه حظ نفسه، فينبغي أن يكون انتقامه وانتصاره لله تعالى لا لنفسه. ورأى عمر رضي الله عنه سكران فأراد أن يأخذه ويعزره فشتمه السكران فرجع عمر، فقيل له: يا أمير المؤمنين لما شتمك تركته? قال: لأنه أغضبني ولو عزرته لكان ذلك لغضبي لنفسي، ولم أحب أن أضرب مسلماً حمية لنفسي. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله لرجل أغضبه: لولا أنك أغضبتني لعاقبتك.
القول في معنى الحقد ونتائجه وفضيلة العفو والرفق
اعلم أن الغضب إذا لزم كظمه لعجز عن التشفي في الحال رجع إلى الباطن واحتقن فيه فصار حقداً، ومعنى الحقد أن يلزم قلبه استثقاله والبغضة له والنفار عنه وأن يدوم ذلك ويبقى، وقد قال ﷺ "المؤمن ليس بحقود فالحقد ثمرة الغضب.
والحقد يثمر ثمانية أمور "الأول" الحسد: وهو أن يحملك الحقد على أن تتمنى زوال النعمة عنه فتغتم بنعمة إن أصابها وتسر بمصيبة إن نزلت به، وهذا من فعل المنافقين. وسيأتي ذمهإن شاء اللهتعالى. "الثاني" أن تزيد على إضمار الحسد في الباطن، فتشمت بما أصابه من البلاء. "الثالث" أن تهجره وتصارمه وتنقطع عنه وإن طلبك وأقبل عليك. "الرابع" وهو دونه أن تعرض عنه استصغاراً له. "الخامس" أن تتكلم فيه بما لا يحل من كذب وغيبة وإفشاء سر وهتك ستر وغيره. "السادس" أن تحاكيه استهزاء به وسخرية منه. "السابع" إيذاؤه بالضرب وما يؤلم بدنه. "الثامن" أن تمنعه حقه من قضاء دين أو صلة رحم أو رد مظلمة. وكل ذلك حرام.
وأقل درجات الحقد أن تحترز من الآفات الثمانية المذكورة ولا تخرج بسبب الحقد إلى ما تعصي الله به، ولكن تستثقله في الباطن ولا تنهي قلبك عن بغضه، حتى تمتنع عما كنت تطوع به من البشاشة والرفق والعناية والقيام بحاجاته والمجالسة معه على ذكر الله تعالى والمعاونة على المنفعة له، أو بترك الدعاء له والثناء عليه أو التحريض على بره ومواساته. فهذا كله مما ينقص درجتك في الدين ويحول بينك وبين فضل عظيم وثواب جزيل وإن كان لا يعرضك لعقاب الله.
ولما حلف أبو بكر رضي الله عنه أن لا ينفق على مسطح -وكان قريبه- لكونه تكلم في واقعة الإفك نزل قوله تعالى "ولا يأتل أولوا الفضل منكم" إلى قوله "ألا تحبون أن يغفر الله لكم" فقال أبو بكر: نعم نحب ذلك وعاد إلى الإنفاق عليه .
والأولى أن يبقى على ما كان عليه، فإن أمكنه أن يزيد في الإحسان مجاهدة للنفس وإرغاماً للشيطان فذلك مقام الصديقين وهو من فضائل أعمال المقربين. فللمحقود ثلاثة أحوال عند القدرة "أحدها" أن يستوفي حقه الذي يستحقه من غير زيادة أو نقصان وهو العدل. "الثاني" أن يحسن إليه بالعفو والصلة وذلك هو الفضل. "الثالث" أن يظلمه بما لا يستحقه وذلك هو الجور، وهو اختيار الأرذال، والثاني: هو اختيار الصديقين، والأول: هو منتهى درجات الصالحين. ولنذكر الآن فضيلة العفو والإحسان.
فضيلة العفو والإحسان
اعلم أن معنى العفو أن يستحق حقاً فيسقطه ويبرئ عنه من قصاص أو غرامة، وهو غير الحلم وكظم الغيظ؛ فلذلك أفردناه. قال الله تعالى "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" وقال الله تعالى "وأن تعفوا أقرب للتقوى" وقال رسول الله ﷺ "ثلاث والذي نفسي بيده لو كنت حلافاً لحلفت عليهن: ما نقص مال من صدقة فتصدقوا، ولا عفا رجل عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا زاده الله بها عزاً يوم القيامة، ولا فتح رجل على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر وقال ﷺ "التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله، والعفو لا يزيد العبد إلا عزاً فاعفوا يعزكم الله، والصدقة لا تزيد المال إلا كثرة فتصدقوا يرحمكم الله وقال عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رسول الله ﷺ منتصراً من مظلمة ظلمها قط ما لم ينتهك من محارم الله، فإذا انتهك من محارم الله شيء كان أشدهم في ذلك غضباً، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً وقال عقبة "لقيت رسول الله ﷺ يوماً فابتدرته فأخذت بيده أو بدرني فأخذ بيدي فقال "يا عقبة ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة: تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك وقال ﷺ "قال موسى عليه السلام يا رب أي عبادك أعز عليك? قال الذي إذا قدر عفا وكذلك سئل أبو الدرداء عن أعز الناس قال الذي يعفو إذا قدر فاعفوا يعزكم الله وجاء رجل إلى النبي ﷺ يشكو مظلمة فأمره النبي ﷺ أن يجلس وأراد أن يأخذ له بمظلمته، فقال له ﷺ "إن المظلومين هم المفلحون يوم القيامة فأبى أن يأخذها حين سمع الحديث: وقالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله ﷺ "من دعا على من ظلمه فقد انتصر" وعن أنس قال: قال رسول الله ﷺ "إذا بعث الله الخلائق يوم القيامة نادى مناد من تحت العرش ثلاثة أصوات: يا معشر الموحدين إن الله عفا عنكم فليعف بعضكم عن بعض وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ لما فتح مكة طاف بالبيت وصلى ركعتين ثم أتى الكعبة فأخذ بعضادتي الباب فقال "ما تقولون وما تظنون? فقالوا: نقول أخ وابن عم حليم رحيم -قالوا ثلاثاً- فقال ﷺ "أقول كما قال يوسف "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين" قال فخرجوا كأنما نشروا من القبور فدخلوا في الإسلام. وعن سهيل بن عمرو قال: لما قدم رسول الله ﷺ مكة وضع يديه على باب الكعبة والناس حوله فقال "لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده" ثم قال "يا معشر قريش ما تقولون وما تظنون?" قال: قلت يا رسول الله نقول خيراً ونظن خيراً أخ كريم وابن عم رحيم وقد قدرت، فقال رسول الله ﷺ "أقول كما قال أخي يوسف "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وعن أنس قال: قال رسول الله ﷺ "إذا وقف العباد نادى مناد ليقم من أجره على الله فليدخل الجنة، قيل ومن ذا الذي له على الله أجر? قال "العافون عن الناس، فيقوم كذا وكذا ألفاً فيدخلونها بغير حساب وقال ابن مسعود قال رسول الله ﷺ "لا ينبغي لوالي أمر أن يؤتي بحد إلا أقامه والله عفو يحب العفو ثم قرأ "وليعفوا أو ليصفحوا" الآية وقال جابر: قال رسول الله ﷺ "ثلاث من جاء بهن مع إيمان دخل من أي أبواب الجنة شاء وزوج من الحور العين حيث شاء: من أدى ديناً خفياً وقرأ في دبر كل صلاة "قل هو الله أحد" عشر مرات وعفا عن قاتله" قال أبو بكر: أو إحداهن يا رسول الله قال "أو إحداهن .
الآثار: قال إبراهيم التيمي: إن الرجل ليظلمني فأرحمه. وهذا إحسان وراء العفو لأنه يشتغل قلبه بتعرضه لمعصية الله تعالى بالظلم وأنه يطالب يوم القيامة فلا يكون له جواب. وقال بعضهم: إذا أراد الله أن يتحف عبداً قيض له من يظلمه. ودخل رجل على عمر بن عبد العزيز رحمه الله فجعل يشكو إليه رجلاً ظلمه ويقع فيه فقال له عمر: إنك إن تلقى الله ومظلمتك كما هي، خير لك من أن تلقاه وقد اقتصصتها. وقال يزيد بن ميسرة: إن ظللت تدعو على من ظلمك فإن الله تعالى يقول إن آخر يدعو عليك بأنك ظلمته فإن شئت استجبنا لك وأجبنا عليك وإن شئت أخرتكما إلى يوم القيامة فيسعكما عفوي وقال مسلم بن يسار لرجل دعا على ظالمه: كل الظالم إلى ظلمه فإنه أسرع إليه من دعائك عليه غلا أن يتداركه بعمل وقمن أن لا يفعل. وعن ابن عمر عن أبي بكر أنه قال: بلغنا أن الله تعالى يأمر منادياً يوم القيامة فينادي من كان له عند الله شيء فليقم فيقوم أهل العفو، فيكافئهم الله بما كان من عفوهم عن الناس. وعن هشام بن محمد قال أتى النعمان بن المنذر برجلين قد أذنب أحدهما ذنباً عظيماً فعفا عنه والآخر أذنب ذنباً خفيفاً فعاقبه وقال: تعفو الملوك عن العظيم من الذنوب بفضلها
ولقد تعاقب في اليسير وليس ذاك لجهلهـا
إلا ليعرف حلمها ويخاف شدة دخـلـهـا
وعن مبارك بن فضالة قال: وفد سوار بن عبد الله في وفد من أهل البصرة إلى أبي جعفر، قال: فكنت عنده إذا أتى برجل فأمر بقتله فقلت يقتل رجل من المسلمين وأنا حاضر، فقلت يا أمير المؤمنين ألا أحدثك حديثاً سمعته من الحسن? قال: وما هو? قلت سمعته يقول: إذا كان يوم القيامة جمع الله عز وجل الناس في صعيد واحد حيث يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، فيقوم مناد فينادي من له عند الله يد فليقم، فلا يقوم إلا من عفا، فقال: والله لقد سمعته من الحسن? فقلت والله لسمعته منه، فقال: خلينا عنه. وقال معاوية: عليكم بالحلم والاحتمال حتى تمكنكم الفرصة، فإذا أمكنتكم فعليكم بالصفح والإفضال. وروي أن راهباً دخل على هشام بن عبد الملك فقال للراهب: أرأيت ذا القرنين أكان نبياً? فقال. لا، ولكنه إنما أعطى ما أعطى بأربع خصال كن فيه: كان إذا قدر عفا، وإذا وعد وفى، وإذا حدث صدق، ولا يجمع شغل اليوم لغد. وقال بعضهم: ليس الحليم من ظلم فحلم. حتى إذا قدر انتقم، ولكن الحليم من ظلم فحلم حتى إذا قدر عفا. وقال زياد: القدرة تذهب الحفيظة يعني الحقد والغضب وأتى هشام برجل بلغه عنه أمر فلما أقيم بين يديه جعل يتكلم بحجته فقال له هشام: وتتكلم أيضاً? فقال الرجل: يا أمير المؤمنين قال الله عز وجل "يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها" أفنجادل الله تعالى ولا نتكلم بين يديك كلاماً? قال هشام: بلى ويحك تكلم. وروي أن سارقاً دخل خباء عمار بن ياسر بصفين فقيل له اقطعه فإنه من أعدائنا، فقال بل أستر عليه لعل الله يستر علي يوم القيامة. وجلس ابن مسعود في السوق يبتاع طعاماً فابتاع ثم طلب الدراهم وكانت في عمامته فوجدها قد حلت فقال لقد جلست وإنها لمعي، فجعلوا يدعون على من أخذها ويقولون: اللهم اقطع يد السارق الذي أخذها اللهم افعل به كذا، فقال عبد الله: اللهم إن كان حمله على أخذها فبارك له فيها وإن كان حملته جراءة على الذنب فاجعله آخر ذنوبه. وقال الفضيل: ما رأيت أزهد من رجل من أهل خراسان جلس إلي في المسجد الحرام ثم قام ليطوف فسرقت دنانير كانت معه فجعل يبكي فقلت أعلى الدنانير تبكي? فقال: لا. ولكن مثلتني وإياه بين يدي الله عز وجل فأشرف عقلي على إدحاض حجته فبكائي رحمة له? وقال مالك بن دينار: أتينا منزل الحكم بن أيوب ليلاً وهو على البصر أمير. وجاء الحسن وهو خائف فدخلنا معه عليه فما كنا مع الحسن إلا بمنزله الفراريج، فذكر الحسن قصة يوسف عليه السلام وما صنع به إخوته من بيعهم إياه وطرحهم له في الجب فقال: باعوا أخاهم وأحزنوا أباهم، وذكر ما لقي من كيد النساء ومن الحبس ثم قال: أيها الأمير ماذا صنع الله به? أداله منهم ورفع ذكره وأعلى كلمته وجعله على خزائن الأرض، فما صنع حين أكمل له أمره وجمع أهله? "قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين" يعرض للحكم بالعفو عن أصحابه. قال الحكم فأنا أقول لا تثريب عليكم اليوم ولو لم أجد إلا ثوبي هذا لواريتكم تحته. وكتب ابن المقفع إلى صديق له يسأله العفو عن بعض إخوانه: فلان هارب من زلته إلى عفوك لائذ منك بك. واعلم أنه لن يزداد الذنب عظماً إلى ازدادالعفو فضلاً.وأتى عبد الملك بن مروان بأسارى ابن الأشعث فقال لرجاء بن حيوة. ما ترى? قال إن الله تعالى قد أعطاك ما تحب من الظفر فأعط الله ما يحب من العفو فعفا عنهم. وروي أن زياداً أخذ رجلاً من الخوارج فأفلت منه فأخذ أخاً له فقال له: إن جئت بأخيك وإلا ضربت عنقك، فقال: أرأيت إن جئتك بكتاب من أمير المؤمنين تخلي سبيلي? قال نعم قال فأنا آتيك بكتاب من العزيز الحكيم وأقيم عليه شاهدين إبراهيم وموسى ثم تلا "أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى أن لا تزر وازرة وزر أخرى" فقال زياد خلوا سبيله، هذا رجل قد لقن حجته، وقيل مكتوب في الإنجيل. من استغفر لمن ظلمه فقد هزم الشيطان.
فضيلة الرفق
اعلم أن الرفق محمود ويضاده العنف والحدة. والعنف نتيجة الغضب والفظاظة. والرفق واللين نتيجة حسن الخلق والسلامة، وقد يكون سبب الحد الغضب. وقد يكون سببها شدة الحرص واستيلاءه بحيث يدهش عن التفكر ويمنع من التثبت فالرفق في الأمور ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق، ولا يحسن الخلق إلا بضبط قوة الغضب وقوة الشهوة وحفظهما على حد الاعتدال. ولأجل هذا أثنى رسول الله ﷺ على ارفق وبالغ فيه فقال "يا عائشة إنه من أعطى حظه من الرفق فقد أعطى حظه من خير الدنيا والآخرة، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الدنيا والآخرة وقال رسول الله ﷺ "إذا أحب الله أهل بيت أدخل عليهم الرفق وقال ﷺ "إن الله ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق وإذا أحب الله عبداً أعطاه الرفق وما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا محبة الله تعالى وقالت عائشة رضي الله عنها قال النبي ﷺ "إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف وقال ﷺ "يا عائشة ارفقي فإن الله إذا أراد بأهل بيت كرامة دلهم على باب الرفق وقال ﷺ "من يحرم الرفق يحرم الخير كله وقال ﷺ "أيما وال ولى فرفق ولان رفق الله تعالى به يوم القيامة وقال ﷺ "تدرون من يحرم على النار يوم القيامة كل عين لين سهل قريب وقال ﷺ "الرفق يمن والخرق شؤم وقال ﷺ "التأني من الله والعجلة من الشيطان وروي أن رسول الله ﷺ أتاه رجل فقال يا رسول الله "إن الله قد بارك لجميع المسلمين فيك فاخصصني منك بخير فقال "الحمد لله" مرتين أو ثلاثاً ثم أقبل عليه فقال "هل أنت مستوص" مرتين أو ثلاثاً قال: نعم، قال "إن أدرت أمراً فتدبر عاقبته فإن كان رشداً فأمضه وإن كان سوى ذلك فانته وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع رسول الله ﷺ في سفر على بعير صعب فجعلت تصرفه يميناً وشمالاً فقال رسول الله ﷺ "يا عائشة عليك بالرفق فإنه لا يدخل في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه .
الآثار: بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جماعة من رعيته اشتكوا من عماله فأمرهم أن يوافوه، فلما أتوه قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس أيتها الرعية إن لنا عليكم حقاً النصيحة بالغيب والمعاونة على الخير، أيتها الرعاة إن للرعية عليكم حقاً فاعلموا أن لا شيء أحب إلى الله ولا أعز من حلم إمام ورفقه، ليس جهل أبغض إلى الله ولا أغم من جهل إمام وخرجه، واعلموا أنه من يأخذ بالعافية فيمن بين ظهريه يرزق العافية ممن هو دونه.
وقال وهب بن منبه: الرفق ثنى الحلم.
وفي الخبر موقوفاً ومرفوعاً "العلم خليل المؤمن والحلم وزيره والعقل دليله والعمل قيمه والرفق والده واللين أخوه والصبر أمير جنوده وقال بعضهم: ما أحسن الإيمان يزينه العلم وما أحسن العلم يزينه العمل وما أحسن العمل يزينه الرفق وما أضيف إلى شيء مثل حلم إلى عمل. وقال عمرو بن العاص لابنه عبد الله: ما الرفق? قال: تكون ذا أناة فتلاين الولاة. قال فما الخرق? قال: معاداة إمامك ومناوأة من يقدر على ضررك. وقال سفيان لأصحابه: تدرون ما الرفق? قالوا: قل يا أبا محمد، قال: أن تضع الأمور من مواضعها: الشدة في مواضعها واللين في موضعه والسيف في موضعه والسوط في موضعه؛ وهذه إشارة إلى أنه لا بد من مزج الغلظة باللين والفظاظة بالرفق كما قيل.
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
فالمحمود وسط بين العنف واللين كما في سائر الأخلاق، ولكن لما كانت الطباع إلى العنف والحدة أميل كانت الحاجة إلى ترغيبهم في جانب الرفق أكثر، فلذلك كثر ثناء الشرع على جانب الرفق دون العنف، وإن كان العنف في محله حسناً كما أن الرفق في محله حسن، فإذا كان الواجب هو العنف فقد وافق الحق الهوى وهو ألذ من الزبد بالشهد وهكذا. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: روي أن عمرو بن العاص كتب إلى معاوية يعاتبه في التأني فكتب إليه معاوية. أما بعد، فإن الفهم في الخير زبادة الشر، وإن الرشيد من رشد عن العجلة، وإن الجانب من خاب عن الأناة، وإن المتثبت مصيب أو كاد أن يكون مصيباً، وإن العجل مخطئ أو كاد أن يكون مخطئاً، وأن من لا ينفعه الرفق يضره الخرق، ومن لا ينفعه التجارب لا يدرك المعالي. وعن أبي عون الأنصاري قال: ما تكلم الناس بكلمة صعبة إلا وإلى جانبها كلمة ألين منها تجري مجراها. وقال أبو حمزة الكوفي: لا تتخذ من الخدم إلا ما لا بد منه فإن مع كل إنسان شيطاناً. واعلم أنهم لا يعطونك بالشدة شيئاً إلا أعطوك باللين ما هو أفضل منه. وقال الحسن: المؤمن وقاف متأن وليس كحاطب ليل. فهذا ثناء أهل العلم على الرفق وذلك لأنه محمود ومفيد في أكثر الأحوال وأغلب الأمور، والحاجة إلى العنف قد تقع ولكن على الندور، وإنما لكامل من يميز مواقع الرفق عن مواقع العنف فيطعى كل أمر حقه فإن كان قاصر البصيرة أو أشكل عليه حكم واقعة من الوقائع فليكن ميله إلى الرفق فإن النجح معه في الأكثر.
القول في ذم الحسد وفي حقيقته وأسبابه
ومعالجته وغاية الواجب في إزالته
بيان ذم الحسد
اعلم أن الحسد أيضاً من نتائج الحقد، والحقد من نتائج الغضب فهو فرع فرعه والغضب أصل أصله ثم إن للحسد من الفروع الذميمة ما لا يكاد يحصى. وقد ورد في ذم الحسد خاصة أخبار كثيرة: قال رسول الله ﷺ "الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب وقال ﷺ في النهي عن الحسد وأسبابه وثمراته "لا تحاسدوا ولا تقاطعوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً وقال أنس: كنا يوماً جلوساً عند رسول الله ﷺ فقال "يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة" قال: فطلع رجل من الأنصار ينفض لحيته من وضوئه قد علق نعليه في يده الشمال فسلم، فلما كان الغد قال ﷺ مثل ذلك فطلع ذلك الرجل، وقاله في اليوم الثالث فطلع ذلك الرجل، فلما قام النبي ﷺ تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال له. إني لاحيت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت، فقال "نعم، فبات عنده ثلاث ليال فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا انقلب على فراشه ذكر الله تعالى، ولم يقم لصلاة الفجر، قال: غير أني ما سمعته يقول إلا خيراً فلما مضت الثلاث وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة، ولكني سمعت رسول الله ﷺ يقول كذا وكذا فأردت أن أعرف عملك فلم أرك تعمل عملاً كثيراً فما الذي بلغ بك ذلك? فقال: ما هو إلا ما رأيت، فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشاً ولا حسداً على خير أعطاه الله إياه، قال عبد الله: فقلت له هي التي بلغت بك وهي التي لا نطيق . وقال ﷺ "ثلاث لا ينجو منهن أحد: الظن والطيرة والحسد، وسأحدثكم بالمخرج من ذلك: إذا ظننت فلا تحقق؛ وإذا تطيرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ وفي رواية "ثلاثة لا ينجو منهن أحد وقل من ينجو منهن" فأثبت في هذه الرواية إمكان النجاة. وقال ﷺ "دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، والبغضة هي الحالقة لا أقول حالقة الشعر ولكن حالقة الدين، والذي نفس محمد بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا ألا أنبئكم بما يثب ذلك لكم أفشوا السلام بينكم وقال ﷺ "كاد الفقر أن يكون كفراً وكاد الحسد أن يغلب القدر وقال ﷺ "إنه سيصيب أمتي داء الأمم" قالوا. وما داء الأمم? قال "الأشر والبطر والتكاثر والتنافس في الدنيا والتباعد والتحاسد حتى يكون البغي ثم الهرج وقال ﷺ "لا تظهر الشماتة لأخيك فيعافيه الله ويبتليك وروي أن موسى عليه السلام لما تعجل إلى ربه تعالى رأى في ظل العرش رجلاً فغبطه بمكانه فقال: إن هذا لكريم على ربه، فسأل ربه تعالى أن يخبره باسمه فلم يخبره وقال أحدثك من عمله بثلاث: كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، وكان لا يعق والديه، ولا يمشي بالنميمة. وقال زكريا عليه السلام: قال الله تعالى: الحاسد عدو لنعمتي متسخط لقضائي غير راض بقسمتي التي قسمت بين عبادي. وقال ﷺ "أخوف ما أخاف على أمتي أن يكثر فيهم المال فيتحاسدون ويقتتلون وقال ﷺ "استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود وقال ﷺ "إن لنعم الله أعداء" فقيل ومن هم? فقال "الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله وقال ﷺ "ستة يدخلون النار قبل الحساب بسنة" قيل يا رسول الله من هم? قال "الأمراء بالجور والعرب بالعصبية والدهاقين بالتكبر والتجار بالخيانة، وأهل الرستاق بالجهالة والعلماء بالحسد .
الآثار: قال بعض السلف: أول خطيئة هي الحسد حسد إبليس آدم عليه السلام على رتبته فأبى أن يسجد له فحمله على الحسد والمعصية. وحكي أن عون بن عبد الله دخل على الفضل بن المهلب وكان يومئذ على واسط فقال: إني أريد أن أعظك بشيء فقال: وما هو? قال: إياك والكبر فإنه أول ذنب عصي الله به، ثم قرأ "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس" الآية، وإياك والحرص فإنه أخرج آدم من الجنة أمكنه الله سبحانه من جنة عرضها السموات والأرض يأكل منها إلا شجرة واحدة نهاه عنها فأكل منها فأخرجه الله تعالى منها، ثم قرأ "اهبطوا منها" إلى آخر الآية وإياك والحسد فإنما قتل ابن آدم أخاه حين حسده ثم قرأ "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق"، الآيات وإذا ذكر أصحاب رسول الله ﷺ فأمسك، وإذا ذكر القدر فاسكت، وإذا ذكرت النجوم فاسكت. وقال بكر بن عبد الله: كان رجل يغشى بعض الملوك فيقوم بحذاء الملك فيقول: أحسن إلى المحسن بإحسانه فإن المسيء سيكفيكه إساءته، فحسده رجل على ذلك المقام والكلام فسعى به إلى الملك فقال: إن هذا الذي يقوم بحذائك ويقول ما يقول زعم أن الملك أبخر، فقال له الملك: وكيف يصح ذلك عندي? قال: تدعوه إليك فإنه إذا دنا منك وضع يده على أنفه لئلا يشم رائحة البخر، فقال له: انصرف حتى أنظر، فخرج من عند الملك فدعا الرجل إلى منزله فأطعمه طعاماً فيه ثوم فخرج الرجل من عنده وقام بحذاء الملك على عادت فقال: أحسن إلى المحسن بإحسانه فإن المسيء سيكفيكه إساءته، فقال له الملك: أدن مني فدنا منه فوضع يده على فيه مخافة أن يشم الملك منه رائحة الثوم، فقال الملك في نفسه: ما أرى فلا إلا قد صدق? قال: وكان الملك لا يكتب بخطه إلا بجائزة أو صلة فكتب له كتاباً بخطه إلى عامل من عماله: إذا أتاك حامل كتابي فاذبحه واسلخه واحش جلده تبناً وابعث به إلي فأخذ الكتاب وخرج فلقيه الرجل الذي سعى به فقال: ما هذا الكتاب قال خط الملك لي بصلة، فقال: هبه لي! فقال: هو لك، فأخذه ومضى به إلى العامل: فقال العامل: في كتابك أن أذبحك وأسلخك، قال: إن الكتاب ليس هو لي ف في أمري حتى تراجع الملك؛ فقال: ليس لكتاب الملك مراجعة، فذبحه وسلخه وحشا جلده تبناً وبعث به ثم عاد الرجل إلى الملك كعادته وقال مثل قوله؛ فعجب الملك وقال: ما فعل الكتاب? فقال: لقيني فلان فاستوهبه مني فوهبته له، قال له الملك: إنه ذكر لي أنك تزعم أني أبخر، قال: ما قلت ذلك? قال: فلم وضعت يدك على فيك? قال: لأنه أطعمني طعاماً فيه ثوم فكرهت أن تشمه، قال: صدقت ارجع إلى مكانك فقد كفى المسيء إساءته. وقال ابن سيرين رحمه الله: ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حفيرة في الجنة? وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار? وقال رجل للحسن: هل يحسد المؤمن? قال: ما أنساك بني يعقوب? نعم، ولكن غمه في صدرك فإنه لا يضرك ما لم تعد به يداً ولا لساناً. وقال أبو الدرداء: ما أكثر عبد ذكر الموت إلا قل فرحه وقل حسده! وقال معاوية: كل الناس أقدر على رضاه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها ولذلك قيل: كل العداوات قد ترجى إماتتها إلا عداوة من عاداك من حسد
وقال بعض الحكماء: الحسد جرح لا يبرأ أو حسب الحسود ما يلقى. وقال أعرابي: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من حاسد، إنه يرى النعمة عليك نقمة عليه. وقال الحسن: يا ابن آدم لم تحسد أخاك? فإن كان الذي أعطاه لكرامته عليه فلم تحسد من أكرمه الله? وإن كان غير ذلك فلم تحسد من مصيره إلى النار? وقال بعضهم: الحاسد لا ينال من المجالس إلا مذمة وذلاً، ولا ينال من الملائكة إلا لعنة وبغضاً، ولا ينال من الخلق إلا جزعاً وغماً، ولا ينال عند النزع إلا شدة وهولاً، ولا ينال عند الموقف إلا فضيحة ونكالاً.
بيان حقيقة الحسد وحكمه وأقسامه ومراتبه
اعلم أنه لا حسد إلا على نعمة، فإذا أنعم الله على أخيك بنعمة فلك فيها حالتان: إحداهما: أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها، وهذه الحالة تسمى حسداً. فالحسد حده كراهة النعمة وحب زوالها عن المنعم عليه.
الحالة الثانية: أن لا تحب زوالها ولا تكره وجودها ودوامها ولكن تشتهي لنفسك مثلها. وهذه تسمى غبطة، وقد تختص باسم المنافسة.
وقد تسمى المنافسة حسداً والحسد منافسة ويوضع أحد اللفظين موضع الآخر، ولا حجر في الأسامي بعد فهم المعاني: وقد قال ﷺ "إن المؤمن يغبط والمنافق يحسد .
فأما الأول فهو حرام بكل حال، إلا نعمة أصابها فاجر أو كافر وهو يستعين بها على تهييج الفتنة وإفساد ذات البين وإيذاء الحق، فلا يضرك كراهتك لها ومحبتك لزوالها، فإنك لا تحب زوالها من حيث هي نعمة بل من حيث هي آلة الفساد، ولو أمنت فساده لم يغمك بنعمته، ويدل على تحريم الحسد الأخبار التي نقلناها وأن هذه الكراهة تسخط لقضاء الله في تفضيل بعض عباده على بعض، وذلك لا عذر فيه ولا رخصة، وأي معصية تزيد على كراهتك لراحة مسلم من غير أن يكون لك منه مضرة? وإلى هذا أشار القرآن بقوله "إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها" وهذا الفرح شماتة والحسد والشماتة يتلازمان. وقال تعالى "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم" فأخبر تعالى أن حبهم زوال نعمة الإيمان حسد. وقال عز وجل "ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء" وذكر الله تعالى حسد إخوة يوسف عليه السلام وعبر عما في قلوبهم بقوله تعالى "إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين. اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم" فلما كرهوا حب أبيهم له وساءهم ذلك وأحبوا زواله عنه غيبوه عنه وقال تعالى "ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا" أي لا تضيق صدورهم به ولا يغتمون فأثنى عليهم بعدم الحسد. وقال تعالى في معرض الإنكار "أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله" وقال تعالى "كان الناس أمة واحدة" إلى قوله "إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم" قيل في التفسير: حسداً. وقال تعالى "وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم" فأنزل الله العلم ليجمعهم ويؤلف بينهم على طاعته، وأمرهم أن يتألفوا بالعلم فتحاسدوا واختلفوا إذ أراد كل واحد منهم أن ينفرد بالرياسة وقبول القول فرد بعضهم على بعض. قال ابن عباس: كانت اليهود قبل أن يبعث النبي ﷺ إذا قاتلوا قوماً قالوا نسألك بالنبي الذي وعدتنا أن ترسله وبالكتاب الذي تنزله إلا ما نصرتنا . فكانوا ينصرون. فلما جاء النبي ﷺ من ولد إسماعيل عليه السلام عرفوه وكفروا به بعد معرفتهم إياه فقال تعالى "وكانوا من يقبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به" إلى قوله "أن يكفروا بما أنزل الله بغياً" أي حسداً. وقالت صفية بنت حي للنبي ﷺ: جاء أبي وعمي من عندك يوماً، فقال أبي لعمي: ما تقول فيه? قال: أقول أنه النبي الذي بشر به موسى. قال: فما ترى? قال: أرى معاداته أيام الحياة فهذا حكم الحسد في التحريم.
وأما المنافسة: فليست بحرام بل هي إما واجبة وإما مندوبة وإما مباحة. وقد يستعمل لفظ الحسد بدل المنافسة والمنافسة بدل الحسد، قال قثم بن العباس: لما أراد هو والفضل أن يأتيا النبي ﷺ فيسألاه أن يؤمرهما على الصدقة -قالا لعلي حين قال لهما: لا تذهبا إليه فإنه لا يؤمر كما عليها- فقالا له: ما هذا منك إلا نفاسة والله لقد زوجك ابنته فما نفسنا ذلك عليك أي هذا منك حسد وما حسدناك على تزويجه إياك فاطمة.
والمنافسة في اللغة مشتقة من النفاسة والذي يدل على إباحة المنافسة قوله تعالى "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون" وقال تعالى "سابقوا إلى مغفرة من ربكم" وإنما المسابقة عند خوف الفوت وهو كالعبدين يتسابقان إلى خدمة مولاهما؛ إذ يجزع كل واحد أن يسبقه صاحبه فيحظى عند مولاه بمنزلة لا يحظى هو بها، فكيف وقد صرح رسول الله ﷺ بذلك فقال "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله تعالى علماً فهو يعمل به ويعلمه الناس ثم فسر ذلك في حديث أبي كبشة الأتماري فقال "مثل هذه الأمة مثل أربعة: رجل آتاه الله مالاً وعلماً فهو يعمل بعلمه في ماله ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فيقول رب لو أن لي مالاً مثل مال فلان لكنت أعمل فيه بمثل عمله فهما في الأجر سواء -وهذا منه حب لأن يكون له مثل ماله فيعمل ما يعمل من غير حب زوال النعمة عنه قال- ورجل آتاه الله مالاً ولا لم يؤته علماً فهو ينفقه في معاصي الله، ورجل لم يؤته علماً ولم يؤته مالاً فيقول لو أن لي مثل مال فلان لكنت أنفقته في مثل ما أنفقه فيه من العاصي فهما في الوزر سواء فذمه رسول الله ﷺ من جهة تمنيه للمعصية لا من جهة حبه أن يكون له من النعمة مثل ما له. فإذاً لا حرج على من يغبط غيره في نعمة ويشتهي لنفسه مثلها مهما لم يحب زوالها عنه ولم يكره دوامها له. نعم إن كانت تلك النعمة نعمة دينية واجبة كالإيمان والصلاة والزكاة فهذه المنافسة واجبة، وهو أن يحب أن يكون مثله لأنه إذا لم يكن يحب ذلك فيكون راضياً بالمعصية وذلك حرام، وإن كانت النعمة من الفضائل كإنفاق الأموال في المكارم والصدقات فالمنافسة فيها مندوب إليها، وإن كانت نعمة يتنعم بها على وجه مباح فالمنافسة فيها مباحة، وكل ذلك يرجع إلى إرادة مساواته واللحوق به في النعمة وليس فيها كراهة النعمة، وكان تحت هذه النعمة أمران، أحدهما: راحة المنعم عليه، والآخر: ظهور نقصان غيره وتخلفه عنه وهو يكره أحد الوجهين وهو تخلف نفسه ويحب مساواته له.
ولا حرج على من يكره تخلف نفسه ونقصانها في المباحات، نعم ذلك ينقص من الفضائل ويناقض الزهد والتوكل والرضا ويحجب عن المقامات الرفيعة ولكنه لا يوجب العصيان. وههنا دقيقة غامضة: وهو أنه إذا أيس من أن ينال مثل تلك النعمة وهو يكره تخلفه ونقصانه فلا محالة يحب وزال النقصان، وإنما يزول نقصانه إما بأن ينال مثل ذلك أو بأن تزول نعمة المحسود، فإذا انسد أحد الطريقين فيكاد القلب لا ينفك عن شهوة الطريق الآخر، حتى إذا زالت النعمة عن المحسود كان ذلك أشفى عنده من دوامها إذ بزوالها يزول تخلفه وتقدم غيره، وهذا يكاد لا ينفك القلب عنه فإن كان بحيث لو ألقى الأمر إليه ورد إلى اختياره لسعى في إزالة النعمة عنه فهو حسود حسداًمذموماً. وإن كان تدعه التقوى عن إزالة ذلك، فيعفى عما يجده في طبعه من الارتياح إلى زوال النعمة عن محسوده مهما كان كارهاً لذلك من نفسه بعقله ودينه، ولعله المعنى بقوله ﷺ "ثلاث لا ينفك المؤمن عنهن: الحسد والظن والطيرة ثم قال وله منهن مخرج: "إذا حسدت فلا تبغ" أي إن وجدت في قلبك شيئاً فلا تعمل به. وبعيد أن يكون الإنسان مريداً للحاق بأخيه في النعمة فيعجز عنها ثم ينفك عن ميل إلى زوال النعمة؛ إذ يجد لا محالة ترجيحاً له على دوامها. فهذا الحد من المنافسة يزاحم الحسد الحرام فينبغي أن يحتاط فيه فإنه موضع الخطر، وما من إنسان إلا وهو يرى فوق نفسه جماعة من معارفه وأقرانه يحب مساواتهم، ويكاد ينجر ذلك إلى الحسد المحظور إن لم يكن قوي الإيمان رزين التقوى. ومهما كان محركه خوف التفاوت وظهور نقصانه عن غيره جره ذلك إلى الحسد المذموم وإلى ميل الطبع إلى زوال النعمة عن أخيه، حتى ينزل هو إلى مساواته إذ لم يقدر هو أن يرتقي إلى مساواته بإدراك النعمة، وذلك لا رخصة فيه أصلاً بل هو حرام سواء كان في مقاصد الدين أو مقاصد الدنيا، ولكن يعفى عنه في ذلك ما لم يعمل به إن شاء الله تعالى، وتكون كراهته لذلك من نفسه كفارة له. فهذه هي حقيقة الحسد وأحكامه.
وأما مراتبه فأربع "الأولى" أن يحب زوال النعمة عنه وإن كان ذلك لا ينتقل إليه وهذا غاية الخبث. "الثانية" أن يحب زوال النعمة إليه لرغبته في تلك النعمة، مثل رغبته في دار حسنة أو امرأة جميلة أو ولاية نافذة أو سعة نالها غيره وهو يحب أن تكون له، ومطلوبه تلك النعمة لا زوالها عنه، ومكروهه فقد النعمة لا تنعم غيره بها "الثالثة" أن لا يشتهي عينها لنفسه بل يشتهي مثلها، فإن عجز عن مثلها أحب زوالها كيلاً يظهر التفاوت بينهما. "الرابعة" أن يشتهي لنفسه مثلها فإن لم تحصل فلا يحب زوالها عنه.
وهذا الأخير هو المعفو عنه إن كان في الدنيا، والمندوب إليه إن كان في الدين، والثالثة فيها مذموم وغير مذموم، والثانية أخف من الثالثة، والأولى مذموم محض. وتسمية الرتبة حسداً فيه تجوز وتوسع ولكنه مذموم لقوله تعالى "ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض" فتمنيه لمثل ذلك غير مذموم، وأما تمنيه عين ذلك فهو مذموم.
بيان أسباب الحسد والمنافسة
أما المنافسة فسببها حب ما فيه النافسة، فإن كان ذلك أمراً دينياً فسببه حب الله تعالى وحب طاعته، وإن كان دنيوياً فسببه حب مباحات الدنيا والتنعم فيها. وإنما نظرنا الآن في الحسد المذموم ومداخله كثيرة جداً، ولكن يحصر جملتها سبعة أبواب: العداوة، والكبر، والتعجب، والخوف من فوت المقاصد المحبوبة، وحب الرياسة، وخبث النفس وبخلها. فإنه مما يكره النعمة على غيره إما لأنه عدوه فلا يريد له الخير، وهذا لا يختص بالأمثال بل يحسد الخسيس الملك بمعنى أنه يحب زوال نعمته لكونه مبغضاً له بسبب إساءته إليه، أو إلى من يحبه. وإما أن يكون من حيث يعلم أنه يستكبر بالنعمة عليه وهو لا يطيق احتمال كبره وتفاخره لعزة نفسه، وهو المراد بالتعزز. وإما أن يكون في طبعه أن يتكبر على المحسود ويمتنع ذلك عليه لنعمته وهو المراد بالتكبر. وإما أن تكون النعمة عظيمة والمنصب عظيم فيتعجب من فوز مثله بمثل تلك النعمة وهو المراد بالتعجب. وإما أن يخاف من فوات مقاصده بسب نعمته بأن يتوصل بها إلى مزاحمته في أغراضه. وإما أن يكون يحب الرياسة التي تنبني على الاختصاص بنعمة لا يساوي فيها. وإما لا يكون بسبب من هذه الأسباب بل لخبث النفس وشحها بالخير لعباد الله تعالى. ولا بد من شرح هذه الأسباب.
السبب الأول: العداوة والبغضاء، وهذا أشد أسباب الحسد، فإن من آذاه شخص بسبب من الأسباب وخالفه في غرض بوجه من الوجوه أبغضه قلبه وغضب عليه ورسخ في نفسه الحقد. والحقد يقتضي التشفي والانتقام، فإن عجز المبغض عن أن يتشفى بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان، وربما يحيل ذلك على كرامة نفسه عند الله تعالى فمهما أصابت عدوة بلية فرح بها وظنها مكافأة له من جهة الله على بغضه وأنها لأجله، ومهما أصابته نعمة ساءه ذلك لأنه ضد مراده، وربما يخطر له أنه لا منزلة له عند الله حيث لم ينتقم له من عدوه الذي آذاه بل أنعم عليه. وبالجملة فالحسد يلزم البغض والعداوة ولا يفارقهما، وإنما غاية التقى أن لا يبغي وأن يكره ذلك من نفسه، فأما أن يبغض إنساناً ثم يستوي عند مسرته ومساءته، فهذا غير ممكن، وهذا مما وصف الله تعالى الكفار به أعني الحسد بالعداوة إذ قال الله تعالى "وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلو عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور. إن تمسسكم حسنة تسؤهم" الآية. وكذلك قال "ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر" والحسد بسبب البغض ربما يفضي إلى التنازع والتقاتل واستغراق العمر في إزالة النعمة بالحيل والسعاية وهتك الستر وما يجري مجراه.
السبب الثاني: التعزز؛ وهو أن يثقل عليه أن يترفع عليه غيره. فإذا أصاب بعض أمثاله ولاية أو علماً أو مالاً خاف أن يتكبر عليه وهو لا يطيق تكبره ولا تسمح نفسه باحتمال صلفه وتفاخره عليه، وليس من غرضه أن يتكبر بل غرضه أن يدفع كبره، فإنه قد رضي بمساواته مثلاً، ولكن لا يرضى بالترفع عليه.
السبب الثالث: الكبر؛ وهو أن يكون في طبعه أن يتكبر عليه ويستصغره ويستخدمه ويتوقع منه الانقياد له والمتابعة في أغراضه، فإذا نال نعمة خاف أن لا يحتمل تكبره ويترفع عن متابعته، أو ربما يتشوف إلى مساواته أو إلى أن يرتفع عليه فيعود متكبراً بعد أن كان متكبراً عليه. ومن التكبر والتعزز كان حسد أكثر الكفار لرسول الله ﷺ إذ قالوا: كيف يتقدم علينا غلام يتيم وكيف نطأطئ رؤوسنا? فقالوا "لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين أعظم" أي كان لا يثقل علينا أن نتواضع له ونتبعه إذا كان عظيماً وقال تعالى يصف قول قريش "أهؤلاء من الله عليهم من بيننا" كالاستحقار لهم والأنفة منهم.
السبب الرابع: التعجب، كما أخبر الله تعالى عن الأمم السالفة إذ قالوا "ما أنتم إلا بشر مثلنا" "وقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا" "ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون" فتعجبوا من أن يفوز برتبة الرسالة والوحي والقرب من الله تعالى بشر مثلهم فحسدوهم، وأحبوا زوال النبوة عنهم جزعاً أن يفضل عليهم من هو مثلهم في الخلقة، لا عن قصد تكبر وطلب رياسة وتقدم عداوة أو سبب آخر من سائر الأسباب، وقالوا متعجبين "أبعث الله بشراً رسولاً" وقالوا "لولا أنزل علينا الملائكة" وقال تعالى "أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم" الآية.
السبب الخامس: الخوف من فوت المقاصد، وذلك يختص بمتزاحمين على مقصود واحد، فإن كان واحد يحسد صاحبه في كل نعمة تكون عوناً له في الانفراد بمقصوده، ومن هذا الجنس تحاسد الضرات في التزاحم على مقاصد الزوجية، وتحاسد الأخوة في التزاحم على نيل المنزلة في قلب الأبوين للتوصل به إلى مقاصد الكرامة والمال، وكذلك تحاسد التلميذين لأستاذ واحد على نيل المرتبة من قلب الأستاذ، وتحاسد ندماء الملك وخواصه في نيل المنزلة من قلبه للتوصل به إلى المال والجاه، وكذلك تحاسد الواعظين المتزاحمين على أهل بلدة واحدة إذا كان غرضهما نيل المال بالقبول عندهم، وكذلك تحاسد العالمين المتزاحمين على طائفة من المتفقهه محصورين، إذ يطلب كل واحد منزلة في قلوبهم للتوصل بهم إلى أغراض له.
السبب السادس: حب الرياسة وطلب الجاه لنفسه من غير توصل إلى مقصود. وذلك كالرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون إذا غلب عليه حب الثناء واستفزه الفرح بما يمدح به من أنه واحد الدهر وفريد العصر في فنه وأنه لا نظير له، فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم لساءه ذلك وأحب موته أو زوال النعمة عنه التي بها يشاركه المنزلة من شجاعة أو علم أو عبادة أو صناعة أو جمال أو ثروة أو غير ذلك مما يتفرد هو به ويفرح بسبب تفرده، وليس السبب في هذا عداوة ولا تعزز ولا تكثر على المحسود ولا خوف من فوات مقصود سوى محض الرياسة بدعوى الانفراد. وهذا وراء ما بين آحاد العلماء من طلب الجاه والمنزلة في قلوب الناس للتوصل إلى مقاصد سوى الرياسة. وقد كان علماء اليهود ينكرون معرفة رسول الله ﷺ ولا يؤمنون به خيفة من أن تبطل رياستهم واستتباعهم مهما نسخ علمهم.
السبب السابع: خبث النفس وشحها بالخير لعباد الله تعالى، فإنك تجد من لا يشتغل برياسة وتكبر ولا طلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله تعالى فيما أنعم الله به عليه يشق ذلك عليه، وإذا وصف له اضطراب أمور الناس وإدبارهم وفوات مقاصدهم وتنغص عيشهم فرح به، فهو أبداً يحب الإدبار لغيره ويبخل بنعمة الله على عباده كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزانته. ويقال البخيل من يبخل بمال نفسه والشحيح هو الذي يبخل بمال غيره، فهذا يبخل بنعمة الله تعالى على عباده الذين ليس بينه وبينهم عداوة ولا رابطة، هذا ليس له سبب ظاهر إلا خبث في النفس ورذالة في الطبع عليه وقعت الجبلة، ومعالجته شديدة لأن الحسد الثابت بسائر الأسباب أسبابه عارضة يتصور زوالها فيطمع في إزالتها، وهذا خبث في الجبلة لا عن سبب عارض فتعسر إزالته إذ يستحيل في العادة إزالته. فهذه هي أسباب الحسد وقد يجتمع بعض هذه الأسباب أو أكثرها أو جميعها في شخص واحد فيعظم فيه الحسد بذلك، ويقوى قوة لا يقدر معها على الإخفاء والمجاملة، بل ينتهك حجاب المجاملة وتظهر العداوة بالمكاشفة. وأكثر المحاسدات تجتمع فيها جملة من هذه الأسباب، وقلما يتجرد سبب واحد منها.
بيان السبب في كثرة الحسد
بين الأمثال والأقران والأخوة وبني العم والأقارب وتأكده وقلته في غيرهم وضعفه
اعلم أن الحسد إنما يكثر بين قوم تكثر بينهم الأسباب التي ذكرناها، وإنما يقوى بين قوم تجتمع جملة من هذه الأسباب فيهم وتتظاهر، إذ الشخص الواحد يجوز أن يحسد لأنه قد يمتنع عن قبول التكبر ولأنه يتكبر ولأنه عدو ولغير ذلك من الأسباب. وهذه الأسباب إنما تكثر بين أقوام تجمعهم روابط يجتمعون بسببها في مجالس المخاطبات ويتواردون على الأغراض، فإذا خالف واحد منهم صاحبه في غرض من الأغراض نفر طبعه عنه وأبغضه وثبت الحقد في قلبه، فعند ذلك يريد أن يستحقره ويتكبر عليه ويكافئه على مخالفته لغرضه، ويكره تمكنه من النعمة التي توصله إلى أغراضه وتترادف جملة من هذه الأسباب، إذ لا رابطة بين شخصين في بلدتين متنائيتين فلا يكون بينهما محاسدة، وكذلك في محلتين، نعم إذا تجاورا في مسكن أو سوق أو مدرسة أو مسجد تواردا على مقاصد تتناقض فيها أغراضهما، فيثور من التناقض التنافر والتباغض، ومنه تثور بقية أسباب الحسد، ولذلك ترى العالم يحسد العالم دون العابد، والعابد يحسد العابد دون العالم، والتاجر يحسد التاجر، بل الإسكاف يحسد الإسكاف ولا يحسد البزاز إلا بسبب آخر سوى الاجتماع في الحرفة، ويحسد الرجل أخاه وابن عمه أكثر مما يحسد الأجانب والمرأة تحسد ضرتها وسرية زوجها أكثر مما تحسد أم الزوج وابنته. لأن مقصد البزاز غير مقصد الإسكاف فلا يتزاحمون على المقاصد، إذ مقصد البزاز الثروة ولا يحصلها إلا بكثرة الزبون، وإنما ينازعه فيه بزاز آخر؛ إذ حريف البزاز لا يطلبه الإسكاف بلل البزاز. ثم مزاحمة البزاز المجاور له أكثر من مزاحمة البعيد عنه إلى طرف السوق، فلا جرم يكون حسده للجار أكثر. وكذلك الشجاع يحسد الشجاع ولا يحسد العالم لأن مقصده أن يذكر بالشجاعة ويشتهر بها وينفرد بهذه الخصلة، ولا يزاحمه العالم على هذا الغرض وكذلك يحسد العالم العالم ولا يحسد الشجاع. ثم حسد الواعظ للواعظ أكثر من حسده للفقيه والطبيب، لأن التزاحم بينهما على مقصود واحد أخص. فأصل هذه المحاسدات العداوة، وأصل العداوة التزاحم بينهما على غرض واحد، والغرض الواحد لا يجمع متباعدين بل متناسبين، فلذلك يكثر الحسد بينهما. نعم من اشتد حرصه على الجاه وأحب الصيت في جميع أطراف العالم بما هو فيه فإنه يحسد كل من هو في العالم وإن بعد ممن يساهمه في الخصلة التي يتفاخر بها، ومنشأ جميع ذلك حب الدنيا، فإن الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين: أما الآخرة فلا ضيق فيها، وإنما مثال الآخرة نعمة العلم فلا جرم من يحث معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وملائكته وأنبيائه وملكوت سمواته وأرضه لم يحسد غيره إذا عرف ذلك أيضاً، لأن المعرفة لا تضيق على العارفين. بل المعلوم الواحد يعلمه ألف ألف عالم ويفرح بمعرفته ويلتذ به، ولا تنقص لذة واحد بسبب غيره، بل يحصل بكثرة العارفين زيادة الأنس وثمرة الاستفادة والإفادة. فلذلك لا يكون بين علماء الدين محاسدة لأن مقصدهم معرفة الله تعالى وهو بحر واسع لا ضيق فيه، وغرضهم المنزلة عند الله ولا ضيق أيضاً، فيما عند الله تعالى لأن أجل ما عند الله سبحانه من النعيم لذة لقائه وليس فيها ممانعة ومزاحمة، ولا يضيق بعض الناظرين على بعض بل يزيد الأنس بكثرتهم. نعم إذا قصد العلماء بالعلم المال والجاه تحاسدوا لأن المال أعيان وأجسام إذا وقعت في يد واحد خلت عنها يد الآخر، ومعنى الجاه ملك القلوب ومهما امتلأ قلب شخص بتعظيم عالم انصرف عن تعظيم الآخر أو نقص عنه لا محالة: فيكون ذلك سبباً للمحاسدة، وإذا امتلأ قلب بالفرح بمعرفة الله تعالى لم يمنع ذلك أن يمتلئ قلب غيره بها وأن يفرح بذلك. والفرق بين العلم والمال أن المال لا يحل في يد ما لم يرتحل عن اليد الأخرى والعلم في قلب العالم مستقر ويحل في قلب غيره بتعليمه من غير أن يرتحل من قلبه، والمال أجسام وأعيان ولها نهاية فلو ملك الإنسان جميع في الأرض لم يبق بعده مال يمتلكه غيره، والعلم لا نهاية له ولا يتصور استيعابه، فمن عود نفسه الفكر في جلال الله وعظمته وملكوت أرضه وسمائه صار ذلك ألذ عنده من كل نعيم، ولم يكن ممنوعاً منه ولا مزاحماً فيه، فلا يكون في قلبه حسد لأحد من الخلق لأن غيره أيضاً لو عرف مثل معرفته لم ينقص من لذته بل زادت لذته بمؤانسته، فتكون لذة هؤلاء في مطالعة عجائب الملكوت على الدوام أعظم من لذة من ينظر إلى أشجار
الجنة وبساتينها بالعين الظاهرة، فإن نعيم العارف وجنته معرفته التي هي صفة ذاته، يأمن زوالها وهو أبداً يجني ثمارها؛ فهو بروحه وقلبه مغتذ بفاكهة علمه وهي فاكهة غير مقطوعة ولا ممنوعة بل قطوفها دانية، فهو وإن غمض العين الظاهرة فروحه أبداً ترتع في جنة عالية ورياض زاهرة، فإن فرض كثرة في العارفين لم يكونوا متحاسدين بل كانوا كما قال فيهم رب العالمين "ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواننا على سرر متقابلين" فهذا حالهم وهم بعد في الدنيا، فماذا يظن بهم عند انكشاف الغطاء، أمشاهدة المحبوب في العقبى? فإذن لا يتصور أن يكون في الجنة محاسدة ولا أن يكون بين أهل الدنيا في الجنة محاسدة، لأن الجنة لا مضايقة فيها ولا مزاحمة، ولا تنال إلا بمعرفة الله تعالى التي لا مزاحمة فيها في الدنيا أيضاً، فأهل الجنة بالضرورة برءاء من الحسد في الدنيا والآخرة جميعاً، بل الحسد من صفات المبعدين عن سعة عليين إلى مضيق سجين، ولذلك وسم به الشيطان اللعين، وذكر من صفاته أنه حسد آدم عليه السلام على ما خص به من الاجتباء، ولما دعى إلى السجود استكبر وأبى وتمرد وعصى. فقد عرفت أنه لا حسد إلا للتوارد على مقصود يضيق عن الوفاء بالكل. ولهذا لا ترى الناس يتحاسدون على النظر إلى زينة السماء ويتحاسدون على رؤية البساتين التي هي جزء يسير من جملة الأرض، وكل الأرض لا وزن لها بالإضافة إلى السماء، ولكن السماء لسعة الأقطار وافيه بجميع الأبصار فلم يكن فيها تزاحم ولا تحاسد أصلاً. فعليك إن كنت بصيراً وعلى نفسك مشفقاً أن تطلب نعمة لا زحمة فيها ولذة لا كدر لها? ولا يوجد ذلك في الدنيا إلا في معرفة الله عز وجل ومعرفة صفاته وأفعاله وعجائب ملكوت السموات والأرض. ولا ينال ذلك في الآخرة إلا بهذه المعرفة أيضاً. فإن كنت لا تشتاق إلى معرفة الله تعالى ولم تجد لذتها وفتر عنها رأيك وضعفت فيها رغبتك فأنت في ذلك معذور؛ إذ العنين لا يشتاق إلى لذة الوقاع، والصبي لا يشتاق إلى لذة الملك، فإن هذه لذات يختص بإدراكها الرجال دون الصبيان والمخنثين فكذلك لذة المعرفة يختص بإدراكها الرجل "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" ولا يشتاق إلى هذه اللذة غيرهم، لأن الشوق بعد الذوق، ومن لم يذق لم يعرف، ومن لم يعرف لم يشتق، ومن لم يشتق لم يطلب، ومن لم يطلب لم يدرك، ومن لم يدرك بقي مع المحرومين في أسفل السافلين "ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين".
بيان الدواء الذي ينفي مرض الحسد عن القلب
اعلم أن الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب، ولا تداوى أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل. والعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعرف تحقيقاً أن الحسد ضرر عليك في الدنيا والدين، وأنه لا ضرر فيه على المحسود في الدنيا والدين بل ينتفع به فيهما. ومهما عرفت هذا عن بصيرة ولم تكن عدو نفسك وصديق عدوك فارقت الحسد لا محالة. أما كونه ضرراً عليك في الدين فهو أنك بالحسد سخطت قضاء الله تعالى، وكرهت نعمته التي قسمها بين عباده، وعدله الذي أقامه في ملكه بخفي حكمته، فاستنكرت ذلك واستبشعته. وهذه جناية على حدقة التوحيد وقذى في عين الإيمان، وناهيك بهما جناية على الدين. وقد انضاف إلى ذلك أنك غششت رجلاً من المؤمنين وتركت نصيحته، وفارقت أولياء الله وأنبياءه في حبهم الخير لعباده تعالى، وشاركت إبليس وسائر الكفار في محبتهم للمؤمنين البلايا وزوال النعم. وهذه خبائث في القلب تأكل حسنات القلب كما تأكل النار الحطب، وتمحوها كما يمحو الليل النهار.
وأما كونه ضرراً عليك في الدنيا فهو أنك تتألم بحسدك في الدنيا أو تتعذب به، ولا تزال في كمد وغم إذ أعداؤك لا يخليهم الله تعالى عن نعم يفيضها عليهم، فلا تزال تتعذب بكل نعمة تتراها وتتألم بكل بلية تنصرف عليهم، فتبقى مغموماً محروماً متشعب القلب ضيق الصدر قد نزل بك ما يشتهيه الأعداء لك وتشتهيه لأعدائك، فقد كنت تريد المحنة لعدوك فتنجزت في الحال محنتك وغمك نقداً، ومع هذا فلا تزول النعمة عن المحسود بحسدك. ولو لم تكن تؤمن بالبعث والحساب لكان مقتضى الفطنة إن كنت عاقلاً أن تحذر من الحسد لما فيه من ألم القلب ومساءته مع عدم النفع، فكيف وأنت عالم بما في الحسد من العذاب الشديد في الآخرة? فما أعجب من العاقل كيف يتعرض لسخط الله تعالى من غير نفع يناله بل مع ضرر يحتمله وألم يقاسيه فيهلك دينه ودنياه من غير جدوى ولا فائدة? وأما أنه لا ضرر على المحسود في دينه ودنياه فواضح لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك، بل ما قدره الله تعالى من إقبال ونعمة فلا بد أن يدوم إلى أجل غير معلوم قدره الله سبحانه. فلا حيلة في دفعه، بل كل شيء عنده بمقدار، ولكل أجل كتاب. ولذلك شكا نبي من الأنبياء من امرأة ظالمة مستولية على الخلق فأوحى الله إليه: فر من قدامها حتى تنقضي أيامها أي ما قدرناه في الأزل لا سبيل إلى تغيير فاصبر حتى تنقضي المدة التي سبق القضاء بدوام إقبالها فيها. ومهما لم تزل النعمة بالحسد لم يكن على المحسود ضرر في الدنيا ولا يكون عليه إثم في الآخرة، ولعلك تقول ليت النعمة كانت تزول عن المحسود بحسدي. وهذا غاية الجهل فإنه بلاء تشتهيه أولاً لنفسك، فإنك أيضاً لا تخلو عن عدو يحسدك، فلو كانت النعمة تزول بالحسد لم يبق لله تعالى عليك نعمة ولا على أحد من الخلق ولا نعمة الإيمان أيضاً، لأن الكفار يحسدون المؤمنين على الإيمان. قال الله تعالى "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم" إذ ما يريد الحسود لا يكون. نعم هو يضل بإرادته الضلال لغيره فإن أراد الكفر كفر. فمن اشتهى أن تزول النعمة عن المحسود بالحسد فكأنما يريد أن يسلب نعمة الإيمان بحسد الكفار وكذا سائر النعم. وإن اشتهيت أن تزول النعمة عن الخلق بحسدك ولا تزول عنك بحسد غيرك فهذا غاية الجهل والغباوة، فإن كل واحد من حمقى الحساد أيضاً يشتهي أن يخص بهذه الخاصية ولست بأولى من غيرك، فنعمة الله تعالى عليك في إن لم تزل النعمة بالحسد مما يجب عليك شكرها وأنت بجهلك تكرهها.
وأما أن المحسود ينتفع به في الدين والدنيا فواضح. أما منفعته في الدين: فهو أنه مظلوم من جهتك لا سيما إذا أخرجك الحسد إلى القول والفعل بالغيبة والقدح فيه وهتك ستره وذكره مساويه، فهذه هدايا تهديها إليه؛ أعني أنك بذلك تهدي إليه حسناتك حتى تلقاه يوم القيامة مفلساً محروماً عن النعمة كما حرمت في الدنيا عن النعمة، فكأنك أردت زوال النعمة عنه فلم تزل. نعم كان عليه نعمة إذ وفقك للحسنات فنقلتها إليه فأضفت إليه نعمة إلى نعمة وأضفت إلى نفسك شقاوة إلى شقاوة.
وأما منفعته في الدنيا فهو أن أهم أغراض الخلق مساءة الأعداء وغمهم وشقاوتهم وكونهم معذبين مغمومين، ولا عذاب أشد مما أنت فيه من ألم الحسد، وغاية أماني أعدائك أن يكونوا في نعمة وأن تكون في غم وحسرة بسببهم وقد فعلت بنفسك ما هو مرادهم، ولذلك لا يشتهي عدوك موتك بل يشتهي أن تطول حياتك ولكن في عذاب الحسد لتنظر إلى نعمة الله عليه فيتقطع قلبك حسداً. ولذلك قيل: لا مات أعداؤك بل خلـدوا حتى يروا فيك الذي يكمد
لا زلت محسوداً على نعمة فإنما الكامل من يحـسـد
ففرح عدوك بغمك وحسدك أعظم من فرحه بنعمته، ولو علم خلاصك من ألم الحسد وعذابه لكان ذلك أعظم مصيبة وبليه عنده، فما أنت فيما تلازمه من غم الحسد إلا كما يشتهيه عدوك، فإذا تأملت هذا عرفت أنك عدو نفسك وصديق عدوك إذ تعاطيت ما تضررت به في الدنيا والآخرة وانتفع به عدوك في الدنيا والآخرة. وصرت مذموماً عند الخالق والخلائق شقياً في الحال والمآل، ونعمة المحسود دائمة شئت أم أبيت باقية، ثم لم تقتصر على تحصيل مراد عدوك حتى وصلت إلى إدخال أعظم سرور على إبليس الذي هو أعدى أعدائك، لأنه لما رآك محروماً من نعمة العلم والورع والجاه والمال الذي اختص به عدوك عنك خاف أن تحب ذلك له فتشاركه في الثواب بسبب المحبة، لأن من أحب الخير للمسلمين كان شريكاً في الخير، ومن فاته اللحاق بدرجة الأكابر في الدنيا لم يفته ثواب الحب لهم مهما أحب ذلك، فخاف إبليس أن تحب ما أنعم الله به على عبده من صلاح دينه ودنياه فتفوز بثواب الحب فبغضه إليك حتى لا تلحقه بحبك كما لم تلحقه بعملك.
وقد قال أعرابي للنبي ﷺ: يا رسول الله الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم فقال النبي ﷺ "المرء مع من أحب وقام أعرابي إلى رسول الله ﷺ وهو يخطب فقال: يا رسول الله متى الساعة? فقال "ما أعددت لها?" قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله ورسوله، فقال ﷺ "أنت مع من أحببت قال أنس: فما فرح المسلمون بعد إسلامهم كفرحهم يومئذ. إشارة إلى أن أكبر بغيتهم كانت حب الله ورسوله. قال أنس: فنحن نحب رسول الله وأبا بكر وعمر ولا نعمل مثل عملهم ونرجو أن نكون معهم. وقال أبو موسى: قلت يا رسول الله الرجل يحب المصلين ولا يصلي ويحب الصوام ولا يصوم، حتى عد أشياء. فقال النبي ﷺ "هو مع من أحب وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: إنه كان يقال إن استطعت أن تكون عالماً فكن عالماً، فإن لم تستطع أن تكون عالماً فكن متعلماً، فإن لم تسطع أن تكون متعلماً فأحبهم، فإن لم تستطع فلا تبغضهم، فقال: سبحان الله لقد جعل الله لنا مخرجاً.
فانظر الآن كيف حسدك إبليس ففوت عليك ثواب الحب، ثم لم يقنع به حتى بغض إليك أخاك وحملك على الكراهة حتى أثمت، وكيف لا وعساك تحاسد رجلاً من أهل العلم وتحب أن يخطئ في دين الله تعالى وينكشف خطؤه ليفتضح? وتحب أن يخرس لسانه حتى لا يتكلم أو يمرض حتى لا يعلم ولا يتعلم وأي إثم يزيد على ذلك? فليتك إذ فاتك اللحاق به ثم اغتممت بسببه سلمت من الإثم وعذاب الآخرة وقد جاء في الحديث "أهل الجنة ثلاثة: المحسن والمحب له والكاف عنه أي من يكف عنه الأذى والحسد والبغض والكراهة فانظر كيف أبعدك إبليس عن جميع المداخل الثلاثة حتى لا تكون من أهل واحد منها البتة، فقد نفذ فيك حسد إبليس وما نفذ حسدك في عدوك بل على نفسك، بل لو كوشفت بحالك في يقظة أو منام لرأيت نفسك أيها الحاسد في صورة من يرمي سهماً فيرجع إلى عينه ليصيب مقتله فلا يصيبه بل يرجع إلى حدقته اليمني فيقلعها، فيزيد غضبه فيعود ثانية فيرمي أشد من الأولى فيرجع إلى عينه الأخرى فيعميها، فيزداد غيظه فيعود على رأسحه فيشجه، وعدوه سالم في كل حال وهو إليه راجع مرة بعد أخرى، وأعداؤه حوله يفرحون به ويضحكون عليه. وهذا حال الحسود وسخرية الشيطان منه، بل حالك في الحسد أقبح من هذا لأن الرمية العائدة لم تفوت إلا العينين ولو بقيتا لفاتتا بالموت لا محالة. والحسد يعود بالإثم والإثم لا يفوت بالموت، ولعله يسوقه إلى غضب الله وإلى النار، فلأن تذهب عينه في الدنيا خير له من أن تبقى له عين يدخل بها النار فيقلعها لهيب النار. فانظر كيف انتقم الله من الحاسد إذا أراد زوال النعمة عن المحسود فلم يزلها عنه ثم أزالها عن الحاسد؛ إذ السلامة من الإثم نعمة والسلامة من الغم والكمد نعمة قد زالتا عنه تصديقاً لقوله تعالى "ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله" وربما يبتلي بعين ما يشتهيه لعدوه، وقلما يشمت شامت بمساءة غلا ويبتلى بمثلها، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: ما تمنيت لعثمان شيئاً إلى نزل بي، حتى لو تمنيت له القتل لقتلت. فهذا إثم الحسد نفسه فكيف ما يجر إليه لحسد من الاختلاف وجحود الحق وإطلاق اللسان واليد بالفواحش في التشفي من الأعداء? وهو الداء الذي فيه هلك الأمم السالفة.
فهذه هي الأدوية العلمية فمهما تفكر الإنسان فيها بذهن صاف وقلب حاضر انطفأت نار الحسد من قلبه، وعلم أنه مهلك نفسه ومفرح عدوه ومسخط ربه ومنغص عيشه.
وأما العمل النافع فيه فهو أن يحكم الحسد فكل ما يتقاضاه الحسد من قول وفعل فينبغي أن يكلف نفسه نقيضه، فإن حمله الحسد على القدح في محسوده كلف لسانه المدح له والثناء عليه، وإن حمله على التكبر عليه ألزم نفسه التواضع له والاعتذار إليه، وإن بعثه على كف الإنعام عليه ألزم نفسه الزيادة في الإنعام عليه، فمهما فعل ذلك عن تكلف وعرفه المحسود طاب قلبه وأحبه، ومهما ظهر حبه عاد الحاسد فأحبه، وتولد من ذلك الموافقة التي تقطع مادة الحسد، لأن التواضع والثناء والمدح وإظهار السرور بالنعمة يستجلب قلب المنعم عليه ويسترقه ويستعطفه ويحمله على مقابلة ذلك بالإحسان، ثم ذلك الإحسان يعود إلى الأول فيطيب قلبه ويصبر ما تكلفه أولاً: طبعاً آخر ولا يصدنه عن ذلك قول الشيطان له: لو تواضعت وأثنيت عليه حملك العدو على العجز أو على النفاق أو الخوف وأن ذلك مذلة ومهانة، وذلك من خداع الشيطان ومكايده بل المجاملة -تكلفاً كانت أو طبعاً- تكسر سورة العداوة من الجانبي وتقل مرغوبها وتعود القلب التآلف والتحاب، وبذلك تستريح القلوب من ألم الحسد وغم التباغض.
فهذه هي أدوية الحسد وهي نافعة جداً إلا أنها مرة على القلوب جداً ولكن النفع في الدواء المر. فمن لم يصبر على مرارة الدواء لم ينقل حلاوة الشفاء؛ وإنما تهون مرارة هذا الدواء، أعني التواضع للأعداء والتقرب إليهم، بالمدح والثناء بقوة العلم بالمعاني التي ذكرناها وقوة الرغبة في ثواب الرضا بقضاء الله تعالى وحب ما أحبه. وعزة النفس وترفعها عن أن يكون في العالم شيء على خلاف مرادها جهل، وعند ذلك يريد ما لا يكون، إذ لا مطمع في أن يكون ما يريد وفوات المراد ذل وخسة، ولا طريق إلى الخلاص من هذا الذل إلا بأحد أمرين: إما بأن يكون ما تريد أو بأن تريد ما يكون، والأول ليس إليك ولا مدخل للتكلف والمجاهدة فيه. وأما الثاني: فللمجاهدة فيه مدخل، وتحصيله بالرياضة ممكن، فيجب تحصيله على كل عاقل هذا هو الدواء الكلي.
فأما الدواء المفصل: فهو تتبع أسباب الحسد من الكبر وغيره وعزة النفس وشدة الحرص على ما لا يغني -وسيأتي تفصيل مداواة هذه الأسباب في مواضعها إن شاء الله تعالى- فإنها مواد هذا المرض ولا ينقمع المرض إلا بقمع المادة، فإن لم تقمع المادة لم يحصل بما ذكرناه إلا تسكين وتطفئة، ولا يزال يعود مرة بعد أخرى ويطول الجهد في تسكينه مع بقاء مواده، فإنه ما دام محباً للجاه فلا بد وأن يحسد من استأثر بالجاه والمنزلة في قلوب الناس دونه، ويغمه ذلك لا محالة، وإنما غايته أن يهون الغم على نفسه ولا يظهر بلسانه ويده، فأما الخلو عنه رأساً فلا يمكنه والله الموفق.
بيان القدر الواجب في نفي الحسد عن القلب
اعلم أن المؤذي ممقوت بالطبع، ومن آذاك فلا يمكنك أن لا تبغضه غالباً، فإذا تيسرت له نعمة فلا يمكنك أن لا تكرهها له حتى يستوي عندك حسن حال عدوك وسوء حاله، بل لا تزال تدرك في النفس بينهما تفرقة، ولا يزال الشيطان ينازعك إلى الحسد له، ولكن عن قوي ذلك فيك حتى بعثك على إظهار الحسد بقول أو فعل بحيث يعرف ذلك من ظاهرهك بأفعالك الاختيارية فأنت حسود عاص بحسدك، وإن كففت ظاهرك بالكلية إلا أنك بباطنك تحب زوال النعمة وليس في نفسك كراهة لهذه الحالة فأنت أيضاً حسود عاص، لأن الحسد صفة القلب لا صفة الفعل، قال الله تعالى "ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا" وقال عز وجل "ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء" وقال "إن تمسسكم حسنة تسؤهم" أما الفعل فهو غيبة وكذب وهو عمل صادر عن الحسد وليس هو عين الحسد، بل محل الحسد القلب دون الجوارح. نعم هذا الحسد ليس مظلمة بحب الاستحلال منها بل هو معصية بينك وبين الله تعالى، وإنما يجب الاستحلال من الأسباب الظاهرة على الجوارح، فأما إذا كففت ظاهرك وألزمت مع ذلك قلبك كراهة ما يترشح منه بالطبع من حب زوال النعمة حتى كأنك تمقت نفسك على ما في طبعها فتكون تلك الكراهة من جهة العقل في مقالة الميل من جهة الطبع، فقد أديت الواجب عليك، ولا يدخل تحت اختيارك في أغلب الأحوال أكثر من هذا، فأما تغيير الطبع ليستوي عنده المؤذي والمحسن ويكون فرحه أو غمه بما تيسر لهما من نعمة أو تنصب عليهما من بلية سواء، فهذا مما لا يطاوع الطبع عليه ما دام ملتفتاً إلى حظوظ الدنيا، إلا أن يصير مستغرقاً بحيث الله تعالى مثل السكران الواله، فقد ينتهي أمره إلى أن لا يلتفت قلبه إلى تفاصيل أحوال العباد، بل ينظر إلى الكل بعين واحدة وهي عين الرحمة، ويرى الكل عباد الله وأفعالهم أفعال الله، ويراهم مسخرين وذلك إن كان فهو كالبرق الخاطف لا يدوم، ثم يرجع القلب بعد ذلك إلى طبعه ويعود العدو إلى منازعته -أعني الشطيان- فإنه ينازع بالوسوسة.فمهما قابل ذلك بكراهته وألزم قلبه هذه الحالة فقد أدى ما كلفه. وقد ذهب ذاهبون إلى أنه لا يأثم إذا لم يظهر الحسد على جوارحه لما روي عن الحسن أنه سئل عن الحسد فقال: غمه فإنه لا يضرك ما لم تبده. وروي عنه موقوفاً ومرفوعاً إلى النبي ﷺ أنه قال "ثلاثة لا يخلو منهن المؤمن وله مهن مخرج" فمخرجه من الحسد أن لا يبغي، والأولى أن يحمل هذا على ما ذكرناه من أن يكون فيه كراهة من جهة الدين والعقل في مقابلة حب الطبع لزوال نعمة الدعو، وتلك الكراهة تمنعه من البغي والإيذاء، فإن جميع ما ورد من الأخبار في ذم الحسد يدل ظاهره على أن كل حاسد آثم، ثم الحسد عبارة عن صفة القلب لا عن الأفعال. فكل من يحب إساءة مسلم فهو حاسد. فإذن كونه آثماً بمجرد حسد القلب من غير فعل هو في محل الاجتهاد، والأظهر ما ذكرناه من حيث ظواهر الآيات والأخبار ومن حيث المعنى، إذ يبعد أن يعفى عن العبد في إرادته إساءة مسلم واشتماله بالقلب على ذلك من غير كراهة.
وقد عرفت من هذا أن لك في أعدائك ثلاثة أحوال، أحدها: أن تحب مساءتهم بطبعك، وتكره حبك لذلك ميل قلبك إليه بعقلك وتمقت نفسك عليه وتود لو كانت لك حيلة في إزالة ذلك الميل منك، وهذا معفو عنه قطعاً لأنه لا يدخل تحت الاختيار أكثر منه.
الثاني: أن تحب ذلك وتظهر الفرح بمساءته إما بلسانك أو بجوارحك، فهذا هو الحسد المحظور قطعاً.
الثالث: وهو بين الطرفين أن تحسد بالقلب من غير مقت لنفسك على حسدك، ومن غير إنكار منك على قلبك ولكن تحفظ جوارحك عن طاعة الحسد في مقتضاه، وهذا في محل الخلاف. والظاهر أنه لا يخلوا عن إثم بقدر قوة ذلك الحب وضعفه. والله أعلم والحمد لله رب العالمين وحسبنا الله ونعم الوكيل.