الرئيسيةبحث

إحياء علوم الدين/كتاب آفات اللسان


وهو الكتاب الرابع من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أحسن خلق الإنسان وعدله، وألهمه نور الإيمان فزينه وجمله، وعلمه البيان فقدمه به وفضله، وأفاض على قلبه خزائن العلوم فأكمله، ثم أرسل عليه ستراً من رحمته وأسبله، ثم أمده بلسان يترجم به عما حواه القلب وعقله، ويكشف عنه ستره الذي أرسله، وأطلق بالحق مقوله، وأفصح بالشكر عما أولاه وخوله، من علم حصله ونطق سهله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله الذي أكرمه وبجله، ونبيه الذي أرسله بكتاب أنزله، وأسمى فضله وبين سبله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن قبله ما كبر الله عند وهلله.

أما بعد: فإن اللسان من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبه، فإنه صغير جرمه، عظيم طاعته وجرمه، إذا لا يستبين الكفر والإيمان إلا بشهادة اللسان وهما غاية الطاعة والعصيان، ثم إنه ما من موجود أو معدوم خالق أو مخلوق متخيل أو معلوم مظنون أو موهوم إلا واللسان يتناوله ويتعرض له بإثبات أو نفي، فإن كل ما يتناوله العلم يعرب عنه اللسان إما بحق أو باطل ولا شيء إلا والعلم متناول له وهذه خاصية لا توجد في سائر الأعضاء، فإن العين لا تصل إلى غير الألوان والصور، والآذان لا تصل إلى غير الأصوات، واليد لا تصل إلى غير الأجسام، وكذا سائر الأعضاء. واللسان رحب الميدان ليس له مرد ولا لمجاله منتهى وحد، له في الخير مجال رحب وله في الشر ذيل سحب، فمن أطلق عذبة اللسان وأهمله مرخى العنان سلك به الشيطان في كل ميدان وساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى البوار، ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع، فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة ويكفه عن كل ما يخشى غائلته في عاجله وآجله وعلم ما يحمد فيه إطلاق اللسان أو يذم غامض عزيز والعمل بمقتضاه على من عرفه ثقيل عسير، وأعصى الأعضاء على الإنسان اللسان فإنه لا تعب في إطلاقه ولا مؤنة في تحريكه وقد تساهل الخلق في الاحتراز عن آفاته وغوائله والحذر من مصائده وحبائله، وإنه أعظم آلة الشيطان في استغواء الإنسان. ونحن بتوفيق الله وحسن تدبيره نفصل مجامع آفات اللسان ونذكرها واحدة واحدة بحدودها وأسبابها وغوائلها. ونعرف طريق الاحتراز عنها، ونورد ما ورد من الأخبار والآثار في ذمها. فنذكر أولاً فضل الصمت ونردفه بذكر آفة الكلام فيما لا يعني، ثم آفة فضول الكلام، ثم آفة الخوض في الباطل، ثم آفة المراء والجدال؛ ثم آفة الخصومة، ثم آفة التقعر في الكلام بالتشدق وتكلف السجع والفصاحة والتصنع فيه وغير ذلك مما جرت به عادة المتفاصحين المدعين للخطابة، ثم آفة الفحش والسب وبذاءة اللسان، ثم آفة اللعن إما لحيوان أو جماد أو إنسان، ثم آفة الغناء بالشعر -وقد ذكرنا في كتاب السماع ما يحرم من الغناء وما يحل فلا نعيده- ثم آفة المزاح، ثم آفة السخرية والاستهزاء، ثم آفة إفشاء السر، ثم آفة الوعد الكاذب، ثم آفة الكذب في القول واليمين، ثم بيان التعارض في الكذب، ثم آفة الغيبة، ثم آفة النميمة، ثم آفة ذي اللسانين الذي يتردد بين المتعاديين فيكلم كل واحد بكلام يوافقه، ثم آفة المدح، ثم آفة الغفلة عن دقائق الخطأ في فحوى الكلام لا سيما فيما يتعلق بالله وصفاته ويرتبط بأصول الدين، ثم آفة سؤال العوام عن صفات الله عز وجل وعن الحروف أهي قديمة أو محدثة? وهي آخر الآفات وما يتعلق بذلك وجملتها عشرون آفة ونسأل الله حسن التوفيق بمنه وكرمه.

بيان عظيم خطر اللسان وفضيلة الصمت

اعلم أن خطر اللسان عظيم ولا نجاة من خطره إلا بالصمت، فلذلك مدح الشرع الصمت وحث عليه فقال ﷺ "من صمت نجا وقال عله السلام "الصمت حكم وقليل فاعله أي حمة وحزم. وروى عبد الله بن سفيان عن أبيه قال: قلت يا رسول الله أخبرني عن الإسلام بأمر لا أسأل عنه أحداً بعدك قال "قل آمنت بالله ثم استقم" قال: قلت فما أتقي? فأوما بيده إلى لسانه وقال عقبة بن عامر: قلت يا رسول الله ما النجاة? قال "أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وأبك على خطيئتك وقال سهل بن سعد الساعدي. قال رسول الله ﷺ "من وفى شر قبقبه وذبذبه ولقلقه فقد وقى الشركله القبقب: هو البطن والذبذب: الفرج، واللقلق: اللسان. فهذه الشهوات الثلاث بها يهلك أكثر الخلق، ولذلك اشتغلنا بذكر آفات اللسان لما فرغنا من ذكر آفة الشهوتين البطن والفرج، وقد سئل رسول الله ﷺ عن أكثر ما يدخل الناس في الجنة فقال "تقوى الله وحسن الخلق" وسئل عن أكثر ما يدخل النار فقال "الأجوفان: الفم والفرج فيحتمل أن يكون المراد بالفم آفات اللسان لأنه محله، ويحتمل أن يكون المراد به البطن لأنه منفذه؛ فقد قال معاذ بن جبل: قلت يا رسول الله أنؤاخذ بما نقول? فقال "ثكلتك أمك يا ابن جبل وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم? وقال عبد الله الثقفي: قلت يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به فقال "قل ربي الله ثم استقم" قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي? فأخذ بلسانه وقال "هذا وروي أن معاذاً قال: يا رسول الله أي الأعمال أفضل? فأخرج رسول الله ﷺ لسانه ثم وضع عليه أصبعه وقال أنس بن مالك: قال ﷺ "لا يستقيم إيمان العبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل الجنة رجل لا يأمن جاره بوائقه وقال ﷺ "من سره أن يسلم فليلزم الصمت وعن سعيد بن جبير مرفوعاً إلى رسول الله ﷺ أنه قال "إذا أصبح ابن آدم أصبحت الأعضاء كلها تذكر اللسان أي تقول اتق الله فينا فإنك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أبا بكر الصديق رضي الله عنه وهو يمد لسانه بيده فقال له: ما تصنع يا خليفة رسول الله? قال؛ هذا أوردني الموارد إن رسول الله ﷺ قال "ليس شيء من الجسد إلا يشكو إلى الله اللسان على حدته وعن ابن مسعود أنه كان على الصفا يلبي ويقول: يا لسان قل خيراً تغنم واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم، فقيل له يا أبا عبد الرحمن أهذا شيء تقوله أو شيء سمعته? فقال: لا بل سمعت رسول الله ﷺ يقول "إن أكثر خطايا ابن آدم في لسانه وقال ابن عمر: قال رسول الله ﷺ "من كف لسانه ستر الله عورته ومن ملك غضبه وقاه الله عذابه ومن اعتذر إلى الله قبل الله عذره وروي أن معاذ بن جبل قال. يا رسول الله أوصني قال "اعبد الله كأنك تراه وعد نفسك في الموتى وإن شئت أنبأتك بما هو أملك لك من هذا كله" وأشار بيده إلى لسانه وعن صفوان بن سليم قال. قال رسول الله ﷺ "ألا أخبركم بأيسر العبادة وأهونها على البدن. الصمت وحسن الخلق .

وقال أبو هريرة. قال رسول الله ﷺ "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت وقال الحسن" ذكر لنا أن النبي ﷺ قال "رحم الله عبداً تكلم فغنم أو سكت فسلم وقيل لعيسى عليه السلام: دلنا على عمل ندخل به الجنة قال: لا تنطقوا أبداً، قالوا: لا نستطيع ذلك، فقال: فلا تنطقوا إلا بخير. وقال سليمان بن داود عليهما السلام: إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب. وعن البراء بن عازب قال: جاء أعرابي إلى رسول الله ﷺ فقال: دلني على عمل يدخلني الجنة، قال "أطعم الجائع واسق الظمآن وأمر بالمعروف وانه عن المنكر فإن لم تطق فكف لسانك إلا من خير وقال ﷺ "اخزن لسانك إلا من خير فإنك بذلك تغلب الشيطان وقال ﷺ "إن الله عند لسان كل قائل فليتق الله امرؤ علم ما يقول" وقال عليه السلام "الناس ثلاثة: غانم وسالم وشاحب. فالغانم الذي يذكر الله تعالى، والسالم الساكت، والشاحب الذي يخوض في الباطل وقال عليه السلام "إن لسان المؤمن وراء قلبه فإذا أراد أن يتكلم بشيء تدبره بقلبه ثم أمضاه بلسانه، وإن لسان المنافق أمام قلبه، فإذا هم بشيء أمضاه بلسانه ولم يتدبره بقلبه وقال عيسى عليه السلام: العبادة عشرة أجزاء: تسعة منها في الصمت وجزء في الفرار من الناس، وقال نبينا ﷺ "من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به .

الآثار: كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يضع حصاة في فيه يمنع بها نفسه عن الكلام، وكان يشير إلى لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد. وقال عبد الله بن مسعود: والله الذي لا إله إلا هو ما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان. وقال طاوس: لساني سبع إن أرسلته أكلني. وقال وهب بن منبه: في حكمة آل داود؛ حق على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه حافظاً للسانه مقبلاً على شأنه. وقال الحسن: ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه. وقال الأوزاعي: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أما بعد: فإن من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه. وقال بعضهم: الصمت يجمع للرجل فضيلتين؛ السلامة في دينه والفهم عن صاحبه. وقال محمد بن واسع لمالك بن دينار: يا أبا يحيى حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم. وقال يونس بن عبيد: ما من الناس أحد يكون منه لسان على بال إلا رأيت صلاح ذلك في سائر عمله. وقال الحسن تكلم قوم عند معاوية رحمه الله والأحنف بن قيس ساكت فقال له: مالك يا أبا بحر لا تتكلم? فقال له: أخشى الله إن كذبت وأخشاك إن صدقت. وقال أبو بكر بن عياش: اجتمع أربعة ملوك؛ ملك الهند وملك الصين وكسرى وقيصر، فقال أحدهم: أنا أندم على ما قلت ولا أندم على ما لم أقل، وقال الآخر: إني إذا تكلمت بكلمة ملكتني ولم أملكها وإذا لم أتكلم بها ملكتها ولم تملكني، وقال الثالث: عجبت للمتكلم إن رجعت عليه كلمته ضرته وإن لم ترجع لم تنفعه، وقال الرابع: أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت. وقيل: أقام المنصور بن المعتز لم يتكلم بكلمة بعد العشاء الآخرة أربعين سنة. وقيل: ما تكلم الربيع بن خيثم بكلام الدنيا عشرين سنة وكان إذا أصبح وضع دواة وقرطاساً وقلماً فكل ما تكلم به كتبه ثم يحاسب نفسه عند المساء.

فإن قلت: فهذا الفضل الكبير للصمت ما سببه? فاعلم أن سببه كثرة آفات اللسان من الخطأ والكذب والغيبة والنميمة والرياء والنفاق والفحش والمراء وتزكية النفس والخوض في الباطل والخصومة والفضول والتحريف والزيادة والنقصان وإيذاء الخلق وهتك العورات. فهذه آفات كثيرة وهي سياقة إلى اللسان لا تثقل عليه ولها حلاوة في القلب وعليها بواعث من الطبع ومن الشيطان، والخائض فيها قلما يقدر أن يمسك اللسان فيطلقه بما يحب ويكفه عما لا يحب فإن ذلك من غوامض العلم -كما سيأتي تفصيله- ففي الخوض خطر وفي الصمت سلامة فلذلك عظمت فضيلته، هذا مع ما فيه من جمع الهم ودوام الوقار والفراغ للفكر والذكر والعبادة والسلامة من تبعات القول في الدنيا ومن حسابه في الآخرة. فقد قال الله تعالى "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد".

ويدلك على فضل لزوم الصمت أمر، وهو أن الكلام أربعة أقسام: قسم هو ضرر محض، وقسم هو نفع محض، وقسم فيه ضرر ومنفعة، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة.

أما الذي هو ضرر محض فلا بد من السكوت عنه، وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة لا تفي بالضرر.

وأما ما لا منفعة فيه ولا ضرر فهو فضول والاشتغال به تضييع زمان وهو عين الخسران، فلا يبقى إلا القسم الرابع، فقد سقط ثلاثة أرباع الكلام وبقي الربع، وهذا الربع فيه خطر إذ يمتزج بما فيه إثم من دقائق الرياء والتصنع والغيبة وتزكية النفس وفضول الكلام امتزاجا يخفى دركه فيكون الإنسان به مخاطراً. ومن عرف دقائق آفات اللسان -على ما سنذكره- علم قطعاً أن ما ذكره ﷺ هو فصل الخطاب حيث قال "من صمت نجا فلقد أوتى والله جواهر الحكم قطعا وجوامع الكلم ولا يعرف ما تحت آحاد كلماته من بحار المعاني إلا خواص العلماء وفيما سنذكره من الآفات وعسر الاحتراز عنها ما يعرفك حقيقة ذلك إن شاء الله تعالى. ونحن الآن نعد آفات اللسان ونبتدئ بأخفها ونترقى إلى الأغلظ قليلاً، ونؤخر الكلام في الغيبة والنميمة والكذب فإن النظر فيها أطول وهي عشرون آفة فاعلم ذلك ترشد بعون الله تعالى.

الآفة الأولى

الكلام فيما لا يعنيك

اعلم أن أحسن أحوالك أن تحفظ ألفاظك من جميع الآفات التي ذكرناها من الغيبة والنميمة والكذب والرياء والجدال وغيرها، وتتكلم فيما هو مباح لا ضرر عليك فيه وعلى مسلم أصلاً إلا أنك تتكلم بما أنت مستغن عنه ولا حاجة بك إليه، فإنك مضيع به زمانك ومحاسب على عمل لسانك وتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، لأنك لو صرفت زمان الكلام إلى الفكر ربما كان ينفتح لك من نفحات رحمة الله عند الفكر ما يعظم جدواه، ولو هللت الله سبحانه وذكرته وسبحته لكان خيراً لك فكم من كلمة يبنى بها قصراً في الجنة? ومن قدر على أن يأخذ كنزاً من الكنوز فأخذ مكانه مدرة لا ينتفع بها كان خاسراً خسراناً مبيناً. وهذا مثال من ترك ذكر الله تعالى واشتغل بمباح لا يعنيه فإنه وإن لم يأثم فقد خسر حيث فاته الربح العظيم بذكر الله تعالى، فإن المؤمن لا يكون صمته إلا فكرا ونظرة وعبرة ونطقه إلا ذكراً هكذا قال النبي ﷺ. بل رأس مال العبد أوقاته ومهما صرفها إلى ما لا يعنيه ولم يدخر بها ثواباً في الآخرة فقد ضيع رأس ماله. ولهذا قال النبي ﷺ "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه بل ورد ما هو أشد من هذا قال أنس: استشهد غلام منا يوم أحد فوجدنا على بطنه حجراً مربوطاً من الجوع فمسحت أمه عن وجهه التراب وقالت هنيئاً لك الجنة يا بني، فقال ﷺ "وما يدرك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضره? وفي حديث آخر: أن النبي ﷺ فقد كعباً فسأل عنه فقالوا مريض فخرج يمشي حتى أتاه فلما دخل عليه قال "أبشر يا كعب" فقالت أمه هنيئاً لك الجنة يا كعب فقال ﷺ "من هذه المتألية على الله"? قال: هي أمي يا رسول الله قال "وما يدريك يا أم كعب لعل كعباً قال ما لا يعنيه أو منع ما لا يغنيه ومعناه أنه إنما تتهيأ الجنة لمن لا يحاسب ومن تكلم فيما لا يعنيه حوسب عليه، وإن كان كلامه غير مباح فلا تتهيأ الجنة مع المناقشة في الحساب فإنه نوع من العذاب.

وعن محمد بن كعب قال: قال رسول الله ﷺ "إن أول من يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنة" فدخل عبد الله بن سلام فقال إليه ناس من أصحاب رسول الله ﷺ فأخبروه بذلك وقالوا: أخبرنا بأوثق عمل في نفسك ترجو به فقال: إني لضعيف وإن أوثق ما أرجو به الله سلامة الصدر وترك ما لا يعنيني وقال أبو ذر: قال رسول الله ﷺ "ألا أعلمك بعمل خفيف على البدن ثقيل في الميزان" قلت: بلى يا رسول الله قال "هو الصمت وحسن الخلق وترك ما لا يعنيك وقال مجاهد. سمعت ابن عباس يقول خمس لهن أحب إلى من الدهم الموقوفة: لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه فضل ولا آمن عليك الوزر، ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعاً فإنه رب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فعنت، ولا تمار حليماً ولا سفيهاً فإن الحليم يقليك والسفيه يؤذيك، واذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، وأعفه مما تحب أن يعفيك منه، وعامل أخاك بما تحب أن يعاملك به، واعمل عمل رجل يعلم أنه مجازى بالإحسان مأخوذ بالاحترام. وقيل للقمان الحكيم: ما حكمتك? قال: لا أسأل عما كفيت ولا أتكلف ما لا يعنيني. وقال مورق العجلي: أمر أنا في طلبه منذ عشرين سنة لم أقدر عليه ولست بتارك طلبه قالوا: وما هو? قال: السكوت عما لا يعنيني. وقال عمر رضي الله عنه لا تتعرض لما لا يعنيك واعتزل وأحذر صديقك من القوم إلا الأمين، ولا أمين إلا من خشى الله تعالى، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره ولا تطلعه على سرك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى.

وحد الكلام فيما لا يعنيك أن تتكلم بكلام لو سكت عنه لن تأثم ولم تستضر به في حال ولا مال، مثاله أن تجلس مع قوم فتذكر لهم أسفارك وما رأيت فيها من جبال وأنهار، وما وقع لك من الوقائع، وما استحسنته من الأطعمة والثياب، وما تعجبت منه من مشايخ البلاد ووقائعهم. فهذه أمور لو سكت عنها لم تأثم ولم تستضر. وإذا بالغت في الجهاد حتى لم يمتزج بحكايتك زيادة ولا نقصان، ولا تزكية نفس من حيث التفاخر بمشاهدة الأحوال العظيمة، ولا اغتياب لشخص ولا مذمة لشيء مما خلقه الله تعالى فأنت مع ذلك كله مضيع زمانك -وأنى تسلم من الآفات التي ذكرناها- ومن جملتها أن تسأل غيرك عما لا يعنيك فأنت بالسؤال مضيع وقتك وقد الجأت صاحبك أيضاً بالجواب إلى التضييع، هذا إذا كان الشيء مما يتطرق إلى السؤال عنه آفة، وأكثر الأسئلة فيها آفات. فإنك تسأل غيرك عن عبادته مثلاً فتقول له: هل أنت صائم? فإن قال نعم، كان مظهراً لعبادته فيدخل عليه الرياء، وإن لم يدخل سقطت عبادته من ديوان السر، وعبادة السر تفضل عبادة الجهر بدرجات، وإن قال: لا، كان كاذباً، وإن سكت كان مستحقراً لك وتأذيت به، وإن احتال لمدافعة الجواب افتقر إلى جهد وتعب فيه. فقد عرضته بالسؤال إما للرياء أو للكذب أو للاستحقار أو للتعب في حيلة الدفع، وكذلك سؤالك عن سائر عباداته، وكذلك سؤالك عن المعاصي وعن كل ما يخفيه ويستحي منه. وسؤالك عما حدث به غيرك فتقول له: ماذا تقول? وفيم أنت? وكذلك ترى إنساناً في الطريق فتقول: من أين? فربما يمنعه مانع من ذكره، فإن ذكره تأذى به واستحيا، وإن لم يصدق وقع في الكذب وكنت السبب فيه.. وكذلك تسأل عن مسألة لا حاجة بك إليها والمسئول ربما لم تسمح نفسه بأن يقول لا أدري، فيجيب عن غير بصيرة.

ولست أعني بالتكلم فيما لا يعني هذه الأجناس، فإن هذا يتطرق إليه إثم أو ضرر. وإنما مثال ما لا يعني ما روي أن لقمان الحكيم دخل على داود عليه السلام وهو يسرد درعاً ولم يكن رآها قبل ذلك اليوم فجعل يتعجب مما رأى فأراد أن يسأله عن ذلك فمنعته حكمته فأمسك نفسه ولم يسأله، فلما فرغ قام داود ولبسه ثم قال: نعم الدرع للحرب، فقال لقمان: الصمت حكم وقليل فاعله، أي حصل العلم بع من غير سؤال فاستغنى عن السؤال. وقيل أنه كان يتردد إليه سنة وهو يريد أن يعلم ذلك من غير سؤال. فهذا وأمثاله من الأسئلة إذا لم يكن فيه ضرر هتك ستر وتوريط في رياء وكذب هو مما لا يعني وتركه من حسن الإسلام فهذا حده.

وأما سببه الباعث عليه فالحرص على معرفة ما لا حاجة به إليه أو المباسطة بالكلام على سبيل التودد أو تزجية الأوقات بحكايات أحوال لا فائدة فيها.

وعلاج ذلك كله أن يعلم أن الموت بين يديه وأنه مسئول عن كل كلمة، وأن أنفاسه رأس ماله. وأن لسانه شبكة يقدر أن يقتنص بها الحور العين فإهماله ذلك وتضييعه خسران مبين. هذا علاج من حيث العلم وأما من حيث العمل فالعزلة أو أن يضع حصاة في فيه وأن يلزم نفسه السكوت بها عن بعض ما يعنيه حتى يعتاد اللسان ترك ما لا يعنيه، وضبط اللسان في هذا على غير المعتزل شديد جداً.

الآفة الثانية

فضول الكلام

وهو أيضاً مذموم، وهذا يتناول الخوض فيما لا يعني والزيادة فيما يعني على قدر الحاجة، فإن من يعنيه أمر يمكنه أن يذكره بكلام مختصر، ويمكنه أن يجسمه ويقرره ويكرره. ومهما تأدى مقصوده بكلمة واحدة فكذر كلمتين فالثانية فضول -أي فضل عن الحاجة- وهو أيضاً مذموم -لما سبق- وإن لم يكن فيه إثم ولا ضرر. قال عطاء بن أبي رباح: إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام وكانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله تعالى وسنة رسول الله ﷺ، أو أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر، أو أن تنطق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها، أتنكرون أن عليكم حافظين كراماً كاتبين عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، أما يستحي أحدكم إذا نشرت صحيفته التي أملاها صدر نهاره كان أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه. وعن بعض الصحابة قال: إن الرجل ليكلمني بالكلام لجوابه أشهى إلى من الماء البارد إلى الظمآن فأترك جوابخ خيفة أن يكون فضولاً. وقال مطرف: ليعظم جلال الله في قلوبكم فلا تذكروه عند مثل قول أحدكم للكلب والحمار: الله اخزه وما أشبه ذلك.

واعلم أن فضول الكلام لا ينحصر بل المهم محصور في كتاب الله تعالى قال الله عز وجل "لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح الناس" وقال ﷺ "طوبى لمن أمسك الفضل من لسانه وأنفق الفضل من ماله فانظر كيف قلب الناس الأمر في ذلك فأمسكوا فضل المال وأطلقوا فضل اللسان وعن مطرف بن عبد الله عن أبيه قال: قدمت على رسول ﷺ في رهط من بني عامر فقالوا: أنت والدنا وأنت سيدنا وأنت أفضلنا علينا فضلاً، وأنت أطولنا علينا طولاً، وأنت الجفنة الغراء وأنت وأنت فقال "قولوا قولكم ولا يستهوينكم الشيطان إشارة إلى أن اللسان إذا أطنب بالثناء ولو بالصدق فيخشى أن يستهويه الشيطان إلى الزيادة المستغنى عنها. وقال ابن مسعود: أنذركم فضول كلامكم؛ حسب امرئ من الكلام ما بلغ به حاجته. وقال مجاهد: إن الكلام ليكتب حتى إن الرجل ليسكت ابنه فيقول، حسب امرئ من الكلام ما بلغ به حاجته. وقال مجاهد: إن الكلام ليكتب حتى إن الرجل ليسكت ابنه فيقول، أبتاع لك كذا وكذا. فيكتب كذاباً. وقال الحسن: يا ابن آدم بسطت لك صحيفة ووكل بها ملكان كريمان يكتبان أعمالك فاعمل ما شئت وأكثر أو أقل. وروي أن سليمان عليه السلام بعث بعض عفاريته وبعث نفراً ينظرون ما يقول ويخبرونه، فأخبروه بأنه مر في السوق فرفع رأسه إلى السماء ثم نظر إلى الناس وهز رأسه فسأله سليمان عن ذلك فقال: عجبت من الملائكة على رؤوس الناس ما أسرع ما يكتبون! ومن الذين أسفل منهم ما أسرع ما يملون! وقال إبراهيم التيمي: إذا أراد المؤمن أن يتكلم نظر فإن كان له تكلم وإلا أمسك، والفاجر إنما لسانه رسلاً رسلا. وقال الحسن: من كثر كلامه كثر كذبه، ومن كثر ماله كثرت ذنوبه، ومن ساء خلقه عذب نفسه، وقال عمرو بن دينار: تكلم رجل عند النبي ﷺ فأكثر فقال له ﷺ "كم دون لسانك من حجاب"? فقال: شفتاي وأسناني، قال "أفما كان لك ما يرد كلامك? وفي رواية: أنه قال ذلك في رجل أثنى عليه فاستهتر في الكلام ثم قال: ما أوتي رجلاً شراً من فضل في لسانه وقال عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه: إنه ليمنعني من كثير من الكلام خوف المباهاة. وقال بعض الحكماء: إذا كان الرجل في مجلس فأعجبه الحديث فليسكت وإن كان ساكتاً فأعجبه السكوت فليتكم. وقال يزيد بن أبي حبيب: من فتنة العالم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع فإن وجد من يكفيه فإن في الاستماع سلامة، وفي الكلام تزيين وزيادة ونقصان. وقال ابن عمر: إن أحق ما طهر الرجل لسانه. ورأى أبو الدرداء امرأة سليطة فقال: لو كانت هذه خرساء كان خيراً لها. وقال إبراهيم: يهلك الناس خلتان: فضول المال وفضول الكلام. فهذه مذمة فضول الكلام وكثرته وسببه الباعث عليه. وعلاجه ما سبق في الكلام فيما لا يعني.

الآفة الثالثة

الخوض في الباطل

وهو الكلام في المعاصي كحكاية أحوال النساء ومجالس الخمر ومقامات الفساق وتنعم الأغنياء وتجبر الملوك ومراسمهم المذمومة وأحوالهم المكروهة، فإن كل ذلك مما لا يحل الخوض فيه وهو حرام. وأما الكلام فيما لا يعني أو أكثر مما يعني فهو ترك الأولى ولا تحريم فيه. نعم من يكثر الكلام فيما لا يعني لا يؤمن عليه الخوض في الباطل. وأكثر الناس يتجالسون للتفرج بالحديث ولا يعدو كلامهم التفكه بأعراض الناس أو الخوض في الباطل. وأنواع الباطل لا يمكن حصرها لكثرتها وتفننها فلذلك لا مخلص منها إلا بالاقتصار على ما يعني من مهمات الدين والدنيا. وفي هذا الجنس تقع كلمات يهلك بها صاحبها وهو يستحقرها، فقد قال بلال بن الحارث: قال رسول الله ﷺ "إن الرجل ليتكم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت فيكتب الله بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة وكان علقمة يقول: كم من كلام منعنيه حديث بلال بن الحارث. وقال النبي ﷺ "إن الرجل ليتكم بالكلمة يضحك بها جلسائه يهوي بها أبعد من الثريا وقال أبو هريرة إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يلقى لها بالاً يرفعه الله بها في أعلى الجنة. وقال ﷺ "أعظم الناس خطايا يوم القيامة أكثرهم خوضاً في الباطل وإليه الإشارة بقوله تعالى "وكنا نخوض مع الخائضين" وبقوله تعالى "فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم" وقال سلمان: أكثر الناس ذنوباً يوم القيامة أكثرهم كلاماً في معصية الله. وقال ابن سيرين: كان رجل من الأنصار يمر بمجلس لهم فيقول لهم توضئوا فإن بعض ما تقولون شر من الحديث. فهذا هو الخوض في الباطل وهو وراء ما سيأتي من الغيبة والنميمة والفحش وغيرها، بل هو الخوض في ذكر محظورات سبق وجودها أو تدبر للتوصل إليها من غير حاجة دينية إلى ذكرها. ويدخل فيه أيضاً الخوض في حكاية البدع والمذاهب الفاسدة وحكاية ما جرى من قتال الصحابة على وجه يوهم الطعن في بعضهم. وكل ذلك باطل والخوض فيه خوض في الباطل نسأل الله حسن العون بلطفه وكرمه.

الآفة الرابعة

المراء والجدال

وذلك منهي عنه قال ﷺ "لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعداً فتخلفه وقال عليه السلام "ذروا المراء فإنه لا تفهم حكمته ولا تؤمن فتنته وقال ﷺ "من ترك المراء وهو محق بني له بيت في أعلى الجنة ومن ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ "إن أول ما عهد إلي ربي ونهاني عنه بعد عبادة الأوثان وشرب الخمر ملاحاة الرجال وقال أيضاً "ما ضل قوم بعد أن هداهم الله تعالى إلا أوتوا الجدل وقال أيضاً "لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وإن كان محقاً وقال أيضاً "ست من كن فيه بلغ حقيقة الإيمان: الصيام في الصيف، وضرب أعداء الله بالسيف، وتعجيل الصلاة في اليوم الدجن، والصبر على المصيبات، وإسباغ الوضوء على المكاره، وترك المراء وهو صادق وقال الزبير لابنه: لا تجادل الناس بالقرآن فإنك لا تستطيعهم ولكن عليك بالسنة. وقال عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه: من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل. وقال مسلم بن يسار: إياكم والمراء فإنه ساعة جهل العالم وعندها يبتغي الشيطان زلته. وقيل: ما ضل قوم بعد إذ هداهم الله إلا بالجدل. وقال مالك بن أنس رحمة الله عليه: ليس هذا الجدل من الدين في شيء. وقال أيضاً: المراء يقسي القلوب ويورث الضغائن. وقال لقمان لابنه: يا بني لا تجادل العلماء فيمقتوك وقال بلال بن سعد: إذا رأيت الرجل لجوجاً ممارياً معجباً برأيه فقد تمت خسارته. وقال سفيان: لو خالفت أخي في رمانة فقال حلوة وقلت حامضة لسعى بي إلى السلطان. وقال أيضاً: صاف من شئت ثم أغضبه بالمراء فليرمينك بداهية تمنعك العيش. وقال ابن أبي ليلى: لا أماري صاحبي فإما أن أكذبه وإما أن أغضبه. وقال أبو الدرداء: كفى بك إثماً أن لا تزال ممارياً. وقال ﷺ "تكفين كل لحاء ركعتان وقال عمر رضي الله عنه: لا تتعلم العلم لثلاث ولا تتركه لثلاث. لا تتعلمه لتتمارى به، ولا لتباهي به، ولا لترائي به. ولا تتركه حياء من طلبه، ولا زهادة فيه، ولا رضا بالجهل به. وقال عيسى عليه السلام من كثر كذبه ذهب جماله ومن لاحى الرجال سقطت مروءته ومن كثر همه سقم جسمه ومن ساء خلقه عذب نفسه. وقيل لميمون بن مهران: ما لك لا تترك أخاك عن قلى? قال: لأني لا أشاريه ولا أماريه. وما ورد في ذم المراء والجدال أكثر من أن يحصى.

وحد المراء هو كل اعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه؛ إما في اللفظ وإما في المعنى وإما في قصد المتكلم. وترك المراء بترك الإنكار والاعتراض. فكل كلام سمعته فإن كان حقاً فصدق به، وإن كان باطلاً أو كذباً ولم يكن متعلقاً بأمور الدين فاسكت عنه.

والطعن في كلام الغير تارة يكون في لفظه بإظهار خلل فيه من جهة النحو أو من جهة اللغة أو من جهة العربية أو من جهة النظم والترتيب بسوء تقديم أو تأخير. وذلك يكون تارة من قصور المعرفة وتارة يكون بطغيان اللسان. وكيفما كان فلا وجه لإظهار خلله.

وأما في المعنى: فبأن يقول ليس كما تقول؛ وقد أخطأ فيه من وجه كذا وكذا.

وأما في قصده فمثل أن يقول هذا الكلام حق ولكن ليس قصدك منه الحق وإنما أنت فيه صاحب غرض، وما يجري مجراه، وهذا الجنس إن جرى في مسألة علمية ربما خص باسم الجدل وهو أيضاً مذموم بل الواجب السكوت أو السؤال في معرض الاستفادة لا على وجه العناد والنكارة، أو التلطف في التعريف لا في معرض الطعن.

وأما المجادلة فعبارة عن قصد إفحام الغير وتعجيزه وتنقيصه بالقدح في كلامه ونسبته إلى القصور والجهل فيه، وآية ذلك أن يكون تنبيهه للحق من جهة أخرى مكروهاً عند المجادل، يحب أن يكون هو المظهر له خطأ ليبين به فضل نفسه ونقص صاحبه، ولا نجاة من هذا إلا بالسكوت عن كل ما لا يأثم به لو سكت عنه.

وأما الباعث على هذا فهو الترفع بإظهار العلم والفضل، والتهجم على الغير بإظهار نقصه. وهما شهوتان باطنتان للنفس قويتان لها. أما إظهار الفضل: فهو من قبل تزكية النفس وهي من مقتضى ما في العبد من طغيان دعوى العلو والكبرياء وهي من صفات الربوبية. وأما تنقيض الآخر فهو من مقتضى طبع السبعية فإنه يقتضي أن يمزق غيره ويقصمه ويصدمه ويؤذيه، وهاتان صفتان مذمومتان مهلكتان، وإنما قوتهما المراء والجدال. فالمواظب على المراء والجدال مقو لهذه الصفات المهلكة، وهذا مجاوز حد الكراهة بل هو معصية مهما حصل فيه إيذاء الغير. ولا تنفك المماراة عن الإيذاء وتهييج الغضب وحمل المعترض عليه على أن يعود فينصر كلامه بما يمكنه من حق أو باطل، ويقدح في قائله بكل ما يتصور له؛ فيثور الشجار بين المتمارين كما يثور الهراش بين الكلبين يقصد كل واحد منهما أن يعض صاحبه بما هو أعظم نكاية وأقوى في إفحامه وإلجامه.

وأما علاجه: فهو بأن يكسر الكبر الباعث له على إظهار فضله، والسبعية الباعث له على تنقيص غيره -كما سيأتي ذلك في كتاب ذم الكبر والعجب وكتاب ذم الغضب- فإن علاج كل على بإماطة سببها. وسبب المراء والجدال ما ذكرناه، ثم المواظبة عليه تجعله عادة طبعاً حتى يتمكن من النفس ويعسر الصبر عنه.

روي أن أبا حنيفة رحمة الله عليه قال لداود الطائي: لم آثرت الإنزواء? قال: لأجاهد نفسي بترك الجدال، فقال احضر المجالس واستمع ما يقال ولا تتكلم، قال: ففعلت فما رأيت مجاهدة أشد علي منها. وهو كما قال لأن من سمع الخطأ من غيره وهو قادر على كشفه يعسر عليه الصبر عند ذلك جداً. ولذلك قال ﷺ "من ترك المراء وهو محق بنى الله له بيتاً في أعلى الجنة، لشدة ذلك على النفس وأكثر ما يغلب ذلك في المذاهب والعقائد. فإن المراء طبع؛ فإذا ظن أن له عليه ثواباً اشتد عليه حرصه وتعاون الطبع والشرع عليه، وذلك خطأ محض، بل ينبغي للإنسان أن يكف لسانه عن أهل القبلة، وإذا رأى مبتدعاً تلطف في نصحه في خلوة لا بطريق الجدال. فإن الجدال يخيل إليه أنها حيلة منه في التلبيس وأن ذلك صنعة يقدر المجادلون من أهل مذهبه على أمثالها لو أرادوا، فتستمر البدعة في قلبه بالجدل وتتأكد فإذا عرف أن النصح لا ينفع اشتغل بنفسه وتركه، وقال ﷺ "رحم الله من كف لسانه عن أهل القبلة إلا بأحسن ما يقدر عليه وقال هشام بن عروة: كان عليه السلام يردد قوله هذا سبع مرات: وكل من اعتاد المجادلة مدة وأثنى الناس عليه ووجد لنفسه بسببه عزاً وقبولاً قويت فيه هذه المهلكات ولا يستطيع عنها نزوعاً إذا اجتمع عليه سلطان الغضب والكبر والرياء وحب الجاه والتعزز بالفضل. وآحاد هذه الصفات يشق مجاهدتها فكيف بمجموعها?

الآفة الخامسة

الخصومة

وهي أيضاً مذمومة وهي وراء الجدال والمراء؛ فالمراء طعن في كلام الغير بإظهار خلل فيه من غير أن يرتبط به غرض سوى تحقير الغير. وإظهار مزية الكياسة والجدال وعبارة عن أمر يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها. والخصومة لجاج في الكلام ليستوفي بها مال أو حق مقصود، وذلك تارة يكون ابتداء وتارة يكون اعتراضاً. والمراء لا يكون إلا باعتراض على كلام سبق. فقد قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله ﷺ "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم وقال أبو هريرة: قال رسول الله ﷺ "من جادل في خصومة بغير علم لم يزل في سخط الله حتى ينزع وقال بعضهم: إياك والخصومة فإنها تمحق الدين. ويقال: ما خاصم ورع قط في الدين. وقال ابن قتيبة: مر بي بشر بن عبد الله بن أبي بكرة فقال: ما يجلسك ههنا? قلت: خصومة بيني وبين ابن عم لي، فقال: إن لأبيك عندي يداً وإني أريد أن أجزيك بها، وإني والله ما رأيت شيئاً أذهب للدين ولا أنقص للمروءة ولا أضيع للذة وأشغل للقلب من الخصومة? قال: فقمت لأنصرف فقال لي خصمي: ما لك? قلت: لا أخاصمك، قال: إنك عرفت أن الحق لي، قلت: لا ولكن أكرم نفسي عن هذا قال: فإني لا أطلب منك شيئاً هو لك.

فإن قلت: فإذا كان للإنسان حق فلا بد له من الخصومة في طلبه أو في حفظه مهما ظلمه ظالم فكيف يكون حكمه وكيف تذم خصومته? فاعلم أن هذا الذم يتناول الذي يخاصم بالباطل والذي يخاصم بغير علم؛ مثل وكيف القاضي فإنه قبل أن يتعرف أن الحق في أي جانب هو يتوكل في الخصومة من أي جانب كان? فيخاصم بغير علم ويتناول الذي يطلب حقه، ولكنه لا يقتصر على قدر الحاجة بل يظهر اللدد في الخصومة على قصد التسلط أو على قصد الإيذاء ويتناول الذي يمزج بالخصومة كلمات مؤذية ليس يحتاج إليها في نصرة الحجة وإظهار الحق، ويتناول الذي يحمله على الخصومة محض العناد لقهر الخصم وكسره مع أنه قد يستحقر ذلك القدر من المال، وفي الناس من يصرح به ويقول: إنما قصدي عناده وكسر عرضه، وإني إن أخذت منه هذا المال ربما رميت به في بئر ولا أبالي، وهذا مقصوده اللدد والخصومة واللجاج وهو مذموم جداً.? فأما المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد وإسراف وزيادة لجاج على قدر الحاجة ومن غير قصد عناد وإيذاء ففعله ليس بحرام، ولكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلاً، فإنضبط اللسان في الخصومة على حد الاعتدال متعذر، والخصومة توغر الصدر وتهييج الغضب، وإذا هاج الغضب نسي المتنازع فيه وبقي الحقد بين المتخاصمين، حتى يفرح كل واحد بمساءة صاحبه ويحزن بمسرته ويطلق اللسان في عرضه، فمن بدأ بالخصومة فقد تعرض لهذه المحذورات، وقال ما فيه تشويش خاطره حتى إنه في صلاته يشتغل بمحاجة خصمه فلا يبقى الأمر على حد الواجب، فالخصومة مبدأ كل شر، وكذا المراء والجدل، فينبغي أن لا يفتح بابه إلا لضرورة، وعند الضرورة ينبغي أن يحفظ اللسان والقلب عن تبعات الخصومة وذلك متعذر جداً، فمن اقتصر على الواجب في خصومته سلم من الإثم ولا تذم خصومته، إلا أنه إن كان مستغنياً عن الخصومة فيما خاصم فيه لأن عنده ما يكفيه فيكون تاركاً للأولى ولا يكون آثماً، نعم أقل ما يفوته في الخصومة والمراء والجدال طيب الكلام وما ورد فيه من الثواب؛ إذ أقل درجات طيب الكلام إظهار، ولا خشونة في الكلام أعظم من الطعن والاعتراض الذي حاصله إما تجهيل وإما تكذيب، فإن من جادل غيره أو ماراه أو خاصمه فقد جهله أو كذبه فيفوت به طيب الكلام. وقد قال ﷺ "يمكنكم من الجنة طيب الكلام وإطعام الطعام وقد قال الله تعالى "وقولوا للناس حسناً" وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه السلام وإن كان مجوسياً إن الله تعالى يقول "وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها" وقال ابن عباس أيضاً: لو قال لي فرعون خيراً لرددت عليه. وقال أنس: قال رسول الله ﷺ "إن في الجنة لغرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام وألان الكلام وروي أن عيسى عليه السلام مر به خنزير فقال "مر بسلام، فقيل: يا روح الله أتقول هذا لخنزير? فقال: أكره أن أعود لساني الشر. وقال نبينا عليه السلام "الكلمة الطيبة صدقة وقال "اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة وقال عمر رضي الله عنه البر شيء هين وجه طليق وكلام لين. وقال بعض الحكماء: الكلام اللين يغسل الضغائن المستكنة في الجوارح. وقال بعض الحكماء: كل كلام لا يسخط ربك إلا أنك ترضي به جليسك فلا تكن به عليه بخيلاً، فإنه لعله يعوضك منه ثواب المحسنين. وهذا كله في فضل الكلام الطيب وتضاده الخصومة والمراء والجدال واللجاج، فإنه الكلام المستكره الموحش المؤذي للقلب المنغص للعيش المهيج للغضب الموغر للصدر. نسأل الله حسن التوفيق بمنه وكرمه.

الآفة السادسة

التقعر في الكلام بالتشدق وتكلف السجع

والفصاحة والتصنع فيه بالتشبيبات والمقدمات وما جرى به عادة المتفاصحين المدعين للخطابة

وكل ذلك من التصنع المذموم ومن التكلف الممقوت الذي قال فيه رسول الله ﷺ "أنا وأتقياء أمتي برءاء من التكلف" وقال ﷺ "إن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً الثرثارون المتفيقهون المتشدقون في الكلام وقالت فاطنة رضي الله عنها قال رسول الله ﷺ "شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم يأكلون ألوان الطعام ويلبسون ألوان الثياب ويتشدقون في الكلام وقال ﷺ "ألا هلك المتنطعون -ثلاث مرات- والتنطع هو التعمق والاستقصاء. وقال عمر رضي الله عنه: شقاشق الكلام من شقاشق الشيطان. وجاء عمر بن سعد بن أبي وقاص إلى أبيه سعد يسأله حاجة، فتكلم بين يدي حاجته بكلام فقال له سعد: ما كنت من حاجتك بأبعد منك اليوم! إني سمعت رسول الله ﷺ يقول "يأتي على الناس زمان يتخللون الكلام بألسنتهم كما تتخلل البقرة الكلأ بلسانها وكأنه أنكر عليه ما قدمه على الكلام من التشبب والمقدمة المصنوعة المتكلفة. وهذا أيضاً من آفات اللسان، ويدخل فيه كل سجع متكلف، وكذلك التفاصح الخارج عن حد العادة، وكذلك التكلف بالسجع في المحاورات "إذ قضى رسول الله ﷺ بغرة الجنين فقال بعض قوم الجاني: كيف ندى من لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل ومثل ذلك بطل? فقال "أسجعاً كسجع الأعراب وأنكر ذلك لأن أثر التكلف والتصنع بين عليه، بل ينبغي أن يقتصر في كل شيء على مقصوده: ومقصود الكلام التفهيم للغرض وما وراء ذلك تصنع مذموم. ولا يدخل في هذه تحسين ألفاظ الخطابة والتذكير من غير إفراد وإغراب، فإن المقصود منها تحريك القلوب وتشويقها وقبضها وبسطها، فرشاقة اللفظ تأثير فيه فهو لائق به. فأما المحاورات التي تجري لقضاء الحاجات فلا يليق بها السجع والتشدق والاشتغال به من التكلف المذموم، ولا باعث عليه إلا الرياء وإظهار الفصاحة والتميز بالبراعة وكل ذلك مذموم يكرهه الشرع ويزجر عنه.

الآفة السابعة

الفحش والسب وبذاءة اللسان

وهو مذموم ومنهي عنه ومصدره الخبث واللؤم قال ﷺ "إياكم والفحش فإن الله تعالى لا يحب الفحش ولا التفحش ونهى رسول الله ﷺ عن أن تسب قتلى بدر من المشركين فقال "لا تسبوا هؤلاء فإنه لا يخلص إليهم شيء مما تقولون وتؤذون الأحياء ألا إن البذاء لؤم وقال ﷺ ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذي وقال ﷺ "الجنة حرام على كل فاحش أن يدخلها وقال ﷺ "أربعة يؤذون أهل النار في النار على ما بهم من الأذى يسعون بين الحميم والجحيم يدعون بالويل والثبور: رجل يسيل فوه قيحاً ودماً فيقال له ما بال الأبعد قد آذاناً على ما بنا من الأذى? فيقول إن الأبعد كان ينظر إلى كل كلمة قذعة خبيثة فيستلذها كما يستلذ الرفث وقال ﷺ لعائشة يا عائشة "لو كان الفحش رجلاً لكان رجل سوء وقال ﷺ "البذاء والبيان شعبتان من شعب النفاق فيحتمل أن يراد بالبيان في أمور الدين وفي صفات الله تعالى، فإن إلقاء ذلك مجملاً إلى أسماع العوام أولى من المبالغة في بيانه؛ إذ قد يثور من غاية البيان فيه شكوك ووساوس فإذا أجملت بادرت القلوب إلى القبول ولم تضطرب، ولكن ذكره مقروناً بالبذاء يشبه أن يكون المراد به المجاهرة بما يستحي الإنسان من بيانه، فإن الأولى في مثله الإغماض والتغافل دون الكشف والبيان، وقال ﷺ "إن الله لا يحب الفاحش المتفحش الصياح في الأسواق وقال جابر بن سمرة: كنت جالساً عند النبي ﷺ وأبي أمامي فقال ﷺ "إن الفحش والتفاحش ليسا من الإسلام في شيء وإن أحسن الناس إسلاماً أحاسنهم أخلاقاً وقال إبراهيم بن ميسرة يقال يؤتى بالفاحش المتفحش يوم القيامة في صورة كلب أو في جوف كلب. وقال الأحنف بن قيس: ألا أخبركم بأدوإ الداء: اللسان البذي والخلق الدني.

فهذه مذمة الفحش فأما حده وحقيقته فهو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة، وأكثر ذلك يجري في ألفاظ الوقاع وما يتعلق به، فإن لأهل الفساد عبارات صريحة فاحشة يستعملونها فيه، وأهل الصلاح يتحاشون عنها بل يكنون عنها. ويدلون عليها بالرموز فيذكرون ما يقاربها ويتعلق بها، وقال ابن عباس: إن الله حي كريم يعفو ويكنو، كني باللمس عن الجماع فالمسيس واللمس والدخول والصحبة كنايات عن الوقاع وليست يفاحشة. وهناك عبارات فاحشة يستقبح ذكرها ويستعمل أكثرها في الشتم والتعيير، وهذه العبارات متفاوتة في الفحش وبعضها أفحش من بعض. وربما اختلف ذلك بعادة البلاد وأوائلها مكروهة وأواخرها محظورة وبينهما درجات يتردد فيه، وليس يختص هذا بالوقاع، بل بالكناية بقضاء الحاجة عن البول والغائط أولى من لفظ التغوط والخراء وغيرهما، فإن هذا أيضاً مما يخفى وكل ما يخفى يستحيا منه فلا ينبغي أن يذكر ألفاظه الصريحة فإنه فحش، وكذلك يستحسن في العادة الكناية عن النساء فلا يقال: قالت زوجتك كذا بل يقال قيل في الحجرة، أو من وراء الستر، أو قالت أم الأولاد. فالتلطف في هذه الألفاظ محمود والتصريح فيها يفضي إلى الفحش، وكذلك من به عيوب يستحيا منها فلا ينبغي أن يعبر عنها بصريح لفظها كالبرص والقرع والبواسير. بل يقال العارض الذي يشكوه وما يجري مجراه فالتصريح بذلك داخل في الفحش وجميع ذلك من آفات اللسان.

قال العلاء بن هرون: كان عمر بن عبد العزيز يتحفظ في من منطقه: فخرج تحت إبطه خراج فأتيناه نسأله لنرى ما يقول? فقلنا: من أين خرج? فقال: من باطن اليد. والباعث على الفحش إما قصد الإيذاء وإما الاعتياد الحاصل من مخالطة الفساق وأهل الخبث واللؤم ومن عادتهم السب. وقال أعرابي لرسول الله ﷺ: أوصني فقال "عليك بتقوى الله وإن امرؤ عيرك بشيء يعلمه فيك فلا تعيره بشيء فيه يكن وباله عليه وأجره لك ولا تسبن شيئاً" قال: فما سببت شيئاً بعده وقال عياض بن حمار: يا رسول الله إن الرجل من قومي يسبني وهو دوني هل علي من بأس أن أنتصر منه? فقال "المتسابان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم وقال ﷺ "ملعون من سب والديه وفي وراية "من أكبر الكبائر أن يسب الرجال والديه" قالوا يا رسول الله كيف يسب الرجل والديه? قال "يسب أبا الرجل فيسب الآخر أباه".

الآفة الثامنة

اللعن

إما لحيوان أو جماد أو إنسان وكل ذلك مذموم. قال رسول الله ﷺ "المؤمن ليس بلعان وقال ﷺ "لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضبه ولا بجهنم وقال حذيفة: ما تلاعن قوم قط إلا حق عليهم القول. وقال عمران بن حصين: بينما رسول الله ﷺ في بعض أسفاره إذ امرأة من الأنصار على ناقة لها فضجرت منها فلعنتها فقال ﷺ "خذوا ما عليها وأعروها فإنها ملعونة قال: فكأني أنظر إلى تلك الناقة تمشي بين الناس لا يتعرض لها أحد. وقال أبو الدرداء: ما لعن أحد الأرض إلا قالت: لعن الله أعصانا لله: وقالت عائشة رضي الله عنها: سمع رسول الله ﷺ أبا بكر وهو يلعن بعض رقيقه فالتفت إليه وقال "يا أبا بكر أصديقين ولعانين كلا ورب الكعبة -مرتين أو ثلاثاً- فأعتق أبو بكر يومئذ رقيقه وأتى النبي ﷺ وقال: لا أعود. وقال رسول الله ﷺ "إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة وقال أنس: كان رجل يسير مع رسول الله ﷺ على بعير فلعن بعيره فقال ﷺ " يا عبد الله لا تسر معنا على بعين ملعون وقال ذلك إنكاراً عليه. واللعن عبارة عن الطرد والإبعاد من الله تعالى، وذلك غير جائز إلا على من اتصف بصفة تبعده من الله عز وجل وهو الكفر والظلم، بأن يقول لعنة الله على الظالمين وعلى الكافرين، وينبغي أن يتبع فيه لفظ الشرع فإن في اللعنة خطراً لأنه حكم على الله عز وجل بأنه قد أبعد الملعون وذلك غيب لا يطلع عليه غير الله تعالى، ويطلع عليه رسول الله ﷺ إذا أطلعه الله عليه.

والصفات المقتضية للعن ثلاثة: الكفر، والبدعة، والفسق. وللعن في كل واحد ثلاث مراتب.

الأولى: اللعن بالوصف الأعم كقولك لعنة الله الكافرين والمبتدعين والفسقة.

الثانية: اللعن بأوصاف أخص منه كقولك لعنة الله على اليهود والنصارى والمجوس وعلى القدرية والخوارج والروافض، أو على الزناة والظلمة وآكلي الربا، وكل ذلك جائز. ولكن في لعن أوصاف المبتدعة خطر لأن معرفة البدعة غامضة ولم يرد لفظ مأثور، فينبغي أن يمنع منه العوام لأن ذلك يستدعي المعارضة بمثله ويثير نزاعاً بين الناس وفساداً.

الثالثة: اللعن للشخص المعين وهذا فيه خطر كقولك: زيد لعنه الله، وهو كافر أو فاسق أو مبتدع، والتفصيل فيه أن كل شخص ثبتت لعنته شرعاً فتجوز لعنته كقولك. فرعون لعنه الله، وأبو جهل لعنه الله، لأنه قد ثبت أن هؤلاء ماتوا على الكفر وعرف ذلك شرعاً. وأما شخص بعينه في زماننا كقولك زيد لعنه الله، وهو يهودي مثلاً فهذا فيه خطر فإنه ربما يسلم فيموت مقرباً عند الله فكيف يحكم بكونه ملعوناً? فإن قلت: يلعن لكونه كافراً في الحال كما يقال للمسلم: رحمه الله، لكونه مسلماً في الحال، وإن كان يتصور أن يرتد? فاعلم أن معنى قولنا رحمه الله: أي ثبته الله على الإسلام الذي هو سبب الرحمة وعلى الطاعة، ولا يمكن أن يقال ثبت الله الكافر على ما هو سبب اللعنة فإن هذا سؤال للكفر وهو في نفسه كفر، بل الجائز أن يقال: لعنه الله إن مات على الكفر، ولا لعنه الله إن مات على الإسلام. وذلك غيب لا يدرى، والمطلق متردد بين الجهتين ففيه خطر، وليس في ترك اللعن خطر. وإذا عرفت هذا في الكافر فهو في زيد الفاسق أو زيد المبتدع أولى، فلعن الأعيان فيه خطر لأن الأعيان تتقلب في الأحوال إلا من أعلم به رسول الله ﷺ فإنه يجوز أن يعلم من يموت على الكفر، ولذلك عين قوماً باللعن فكان يقول في دعائه على قريش "اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وذكر جماعة قتلوا على الكفر حتى إن من لم يعلم عاقبته كان يلعنه فنهى عنه إذ روي: أنه كان يلعن الذي قتلوا أصحاب بثر معونة في قنوته شهراً فنزل قوله تعالى "ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون يعني أنهم ربما يسلمون فمن أين تعلم أنهم ملعونون? وكذلك من بان لنا موته على الكفر جاز لعنه وجاز ذمه إن لم يكن فيه أذى على مسلم، فإن كان لم يجز كما روي أن رسول الله ﷺ سألا أبا بكر رضي الله عنه عن قبر مر به وهو يريد الطائف فقال: هذا قبر رجل كان عاتياً على الله ورسوله وهو سعيد بن العاص، فغضب ابنه عمرو بن سعيد وقال: يا رسول الله هذا قبر رجل كان أطعم للطعام وأضرب للهام من أبي قحافة فقال أبو بكر: يكلمني هذا يا رسول الله بمثل هذا الكلام? فقال ﷺ "اكفف عن أبي بكر" فانصرف ثم أقبل على أبي بكر فقال "يا أبا بكر إذا ذكرتم الكفار فعمموا فإنكم إذا خصصتم غضب الأبناء للآباء، فكف الناس عن ذلك وشرب نعيمان الخمر فحد مرات في مجلس رسول الله ﷺ فقال بعض الصحابة: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به فقال ﷺ "لا تكن عوناً للشيطان على أخيك وفي وراية "لا تقل هذا فإنه يحب الله ورسوله" فنهاه عن ذلك، وهذا يدل على أن لعن فاسق بعينه غير جائز. وعلى الجملة ففي لعن الأشخاص خطر فليجتنب ولا خطر في السكوت عن لعن إبليس مثلاً فضلاً عن غيره.

فإن قيل: هل يجوز لعن يزيد لأنه قاتل الحسين أو آمر به? قلنا. هذا لم يثبت أصلاً فلا يجوز أن يقال إنه قتله أو أمر به ما لم يثبت، فضلاً عن اللعنة، لأنه لا تجوز نسبة مسلم إلى كبيرة من غير تحقيق. نعم يجوز أن يقال قتل ابن ملجم علياً وقتل أبو لؤلؤة عمر رضيالله عنهما فإن ذلك ثبت متواتراً. فلا يجوز أن يرمى مسلم بفسق أو كفر من غير تحقيق قال ﷺ "لا يرمى رجل رجلاً بالكفر ولا يرميه بالفسق إذا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك وقال ﷺ "ما شهد رجل على رجل بالكفر إلا باء به أحدهما، إن كان كافراً فهو كما قال، وإن لم يكن كافراً فقد كفر بتكفيره إياه وهذا معناه أن يكفره وهو يعلم أنه مسلم فإن ظن أنه كافر ببدعة أو غيرها كان مخطئاً لا كافراً. وقال معاذ: قال لي رسول الله ﷺ "أنهاك أن تشتم مسلماً أو تعصي إماماً عادلاً، والتعرض للأموات أشد قال مسروق دخلت على عائشة رضي الله عنها فقالت: ما فعل فلان لعنه الله? قلت توفى قالت: رحمه الله، قلت: وكيف هذا? قالت: قال رسول الله ﷺ "لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا وقال عليه السلام "لا تسبوا الأموات فتؤذوا به الأحياء وقال عليه السالم "أيها الناس احفظوني في أصحابي وإخواني وأصهاري ولا تسبوهم، أيها الناس إذا مات الميت فاذكروا منه خيراً .

فإن قيل؛ فهل يجوز أن يقال: قاتل الحسين لعنه الله? أو الآمر بقتله لعنه الله? قلنا: الصواب أن يقال: قاتل الحسين إن مات قبل التوبة لعنه الله، لأنه يحتمل أن يموت بعد التوبة، فإن وحشياً قاتل حمزة عم رسول الله ﷺ قتله وهو كافر، ثم تاب عن الكفر والقتل جميعاً ولا يجوز أن يلعن، والقتل كبيرة ولا تنتهي إلى رتبة الكفر، فإذا لم يقيد بالتوبة وأطلق كان فيه خطر وليس في السكوت خطر فهو أولى.

وإنما أوردنا هذا لتهاون الناس باللعنة وإطلاق اللسان بها. والمؤمن ليس بلعان فلا ينبغي أن يطلق اللسان باللعنة إلا على من مات على الكفر، أو على الأجناس المعروفين بأوصافهم دون الأشخاص المعينين. فالاشتغال بذكر الله أولى فإن لم يكن ففي السكوت سلامة.

قال مكي بن إبراهيم: كنا عند ابن عون فذكروا بلال بن أبي بردة فجعلوا يلعنونه ويقعون فيه وابن عون ساكت فقالوا: يا ابن عون إنما تذكره لما ارتكب منك، فقال: إنما هما كلمتان تخرجان من صحيفتي يوم القيامة: لا إله إلا الله ولعن الله فلاناً، فلأن يخرج من صحيفتي لا إله إلا الله، أحب إلي من أن يخرج منها لعن الله فلاناً. وقال رجل لرسول الله ﷺ: أوصني فقال "أوصيك أن لا تكون لعاناً وقال ابن عمر: إن أبغض الناس إلى الله كل طعان ولعان. وقال بعضهم لعن المؤمن يعد قتله، وقال حماد بن زيد بعد أن روى هذا لو قلت إنه مرفوع لم أبال? وعن أبي قتادة قال: كان يقال "من لعن مؤمناً فهو مثل أن يقتله وقد نقل ذلك حديثاً مرفوعاً إلى رسول الله ﷺ.

ويقرب من اللعن الدعاء على الإنسان بالشر حتى الدعاء على الظالم كقول الإنسان مثلاً: لا صحح الله جسمه ولا سلمه الله وما يجري مجراه، فإن ذلك مذموم. وفي الخبر "إن المظلوم ليدعو على الظالم حتى يكافئه ثم يبقى للظالم عنده فضلة يوم القيامة .

الآفة التاسعة

الغناء والشعر

وقد ذكرنا في كتاب السماع ما يحرم من الغناء وما يحل فلا نعيده، وأما الشعر فكلام حسنه حسن وقبيحه قبيح غلا أن التجرد له مذموم. قال رسول الله ﷺ "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً وعن مسروق أن سئل عن بيت من الشعرفكرهه فقيل له في ذلك فقال: أنا أكره أن يوجد في صحيفتي شعر. وسئل بعضهم عن شيء من الشعر فقال: أجعل مكان هذا ذكراً فإن ذكر الله خير من الشعر وعلى الجملة فإنشاد الشعر ونظمه ليس بحرام إذا لم يكن في كلام مستكره قال ﷺ "إن من الشعر لحكمة نعم مقصود الشعر المدح والذم والتشبيب، وقد يدخله الكذب، وقد أمر رسول الله ﷺ حسان بن ثابت الأنصاري بهجاء الكفار والتوسع في المدح فإنه وإن كان كذباً فإنه لا يلتحق في التحريم بالكذب كقول الشاعر: ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق اللـه سـائلـه

فإن هذا عبارة عن الوصف بنهاية السخاء، فإن لم يكن صاحبه سخياً كان كاذباً، وإن كان سخياً فالمبالغة من صنعة الشعر فلا يقصد منه أن يعتقد صورته. وقد أنشدت أبيات بين يدي رسول الله ﷺ لو تتبعت لوجد فيها مثل ذلك فلم يمنع منه. قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله ﷺ يخصف نعله وكنت جالسة أغزل، فنظرت إليه فجعل جبينه يعرق وجعل عرقه يتولد نوراً قالت: فبهت فنظر إلي فقال "مالك بهت? فقلت: يا رسول الله نظرت إليك فجعل جبينك يعرق وجعل عرقك يتولد نوراً ولو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره قال "وما يقول يا عائشة أو كبير الهذلي" قلت: يقول هذين البيتين: ومبرأ من كل غبـر حـيضة وفساد مرضعة وداء مغـيل

وإذا نظرت إلى أسرة وجهـه برقت كبرق العارض المتهلل

قال فوضع ﷺ ما كان بيده وقام إلي وقبل ما بين عيني وقال "جزاك الله خيراً يا عائشة ما سررت مني كسروري منك ولما قسم رسول الله ﷺ الغنائم يوم حنين أمر للعباس بن مرداس بأربع قلائص فاندفع يشكو في شعر له وفي آخره: وما كان بدر ولا حابـس يسودان مردسا في مجمع

وما كنت دون امرئ منهما ومن تضع اليوم لا يرفع

فقال ﷺ "اقطعوا لسانه" فذهب به أبو بكر الصديق رضي الله عنه حتى اختار مائة من الإبل ثم رجع وهو من أرض الناس، فقال له ﷺ "أتقول في الشعر?" فجعل يعتذر إليه ويقول: بأبي أنت وأمي إني لأجد للشعر دبيباً على لساني كدبيب النمل ثم يقرصني كما يقرص النمل فلا أجد بداً من قول الشعر، فتبسم ﷺ وقال "لا تدع العرب العشر حتى تدع الإبل الحنين

الآفة العاشرة

المزاح

وأصله مذموم منهي عنه إلا قدراً يسيراً يستثنى منه قال ﷺ "لا تمار أخاك ولا تمازحه فإن قلت: المماراة فيها إيذاء لأن فيها تكذيباً للأخ والصديق أو تجهيلاً له وأما المزاح فمطايبة وفيه انبساط وطيب قلب فلم ينهى عنه? فاعلم أن المنهي عنه الإفراط فيه أو المداومة عليه. أما المداومة فلأنه اشتغال باللعب والهزل فيه واللعب مباح ولكن المواظبة عليه مذمومة، وأما الإفراط فيه فإنه يورث كثرة الضحك وكثرة الضحك تميت القلب وتورث الضغينة في بعض الأحوال، وتسقط المهابة والوقار. فما يخلو عن هذه الأمور فلا يذم كما روي عن النبي ﷺ أنه قال "إن لأمزح ولا أقول إلا حقاً إلا أن مثله يقدر على أن يمزح ولا يقول إلا حقاً، وأما غيره إذا فتح باب المزاح كان غرضه أن يضحك الناس كيفما كان. وقد قال رسول الله ﷺ "إن الرجل ليتكم بالكلمة يضحك بها جلساءه يهوى في النار أبعد من الثريا وقال عمر رضي الله عنه: من كثير ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل حياءه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه. ولأن الضحك يدل على الغفلة عن الآخرة قال ﷺ "لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً وقال رجل لأخيه: يا أخي هل أتاك أنك وارد النار? قال: نعم، قال: فهل أتاك أنك خارج منها? قال: لا، قال: ففيم الضحك? قيل فما رؤي ضاحكاً حتى مات. وقال يوسف بن أسباط: أقام الحسن ثلاثين سنة لم يضحك. وقيل أقام عطاء السلمي أربعين سنة لم يضحك ونظر وهيب بن الورد إلى قوم يضحكون في عيد فطر فقال: إن كان هؤلاء قد غفر لهم فما هذا فعل الشاكرين? وإن كان لم يغفر لهم فما هذا فعل الخائفين? وكان عبد الله بن أبي يعلى يقول: أتضحك ولعل أكفانك قد خرجت من عند القصار? وقال ابن عباس: من أذنب ذنباً وهو يضحك دخل النار وهو يبكي. وقال محمد بن واسع: إذا رأيت في الجنة رجلاً يبكي ألست تعجب من بكائه? قيل: بلى، قال: فالذي يضحك في الدنيا ولا يدري إلى ماذا يصير هو أعجب منه? فهذه آفة الضحك والمذموم منه أن يستغرق ضحكاً، والمحمود منه التبسم الذي ينكشف فيه السن ولا يسمع له صوت. وكذلك كان ضحك رسول الله ﷺ قال القاسم مولى معاوية: أقبل أعرابي إلى النبي ﷺ على قلوص له صعب فسلم فجعل كلما دنا من النبي ﷺ ليسأله يفر به فجعل أصحاب رسول الله ﷺ يضحكون منه، ففعل ذلك مراراً ثم وقصه فقتله فقيل: يا رسول الله إن الأعرابي قد صرعه قلوصه وقد هلك، فقال "نعم، وأفواهكم ملأى من دمه وأما أداء المزاح إلى سقوط الوقار فقد قال عمر رضي الله عنه: من مزح استخف به. وقال محمد بن المنكدر: قالت لي أمي يا بني لا تمازح الصبيان فتهون عندهم وقال سعيد بن العاص لابنه: يا بني لا تمازح الشريف فيحقد عليك ولا الدنيء فيجترئ عليك. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: اتقوا الله وإياكم والمزاح فإنه يورث الضغينة ويجر إلى القبيح، تحدثوا بالقرآن وتجالسوا به فإن ثقل عليكم فحديث حسن من حديث الرجال. وقال عمر رضي الله عنه: أتدرون لم سمي المزاح مزاحاً? قالوا لا، قال: لأنه أزاح صاحبه عن الحق. وقيل: لكل شيء بذور وبذور العداوة المزاح. ويقال: المزاح مسلبة للنهي مقطعة للأصدقاء.

فإن قلت: قد نقل المزاح عن رسول الله ﷺ وأصحابه فكيف ينهى عنه? فأقول: إن قدرت على ما قدر عليه رسول الله ﷺ وأصحابه وهو أن تمزح ولا تقول إلا حقاً ولا تؤذي قلباً ولا تفرط فيه وتقتصر عليه أحياناً على الندور فلا حرج عليك فيه، ولكن من الغلط العظيم أن يتخذ الإنسان المزاح حرفة يواظب عليه ويفرط فيه ثم يتمسك بفعل الرسول ﷺ وهو كمن يدور نهاره مع الزنوج ينظر إليهم وإلى رقصهم ويتمسك بأن رسول الله ﷺ أذن لعائشة في النظر إلى رقص الزنوج في يوم عيد، وهو خطأ إذ من الصغائر ما يصير كبيرة بالإصرار، ومن المباحات ما يصير صغيرة بالإصرار، فلا ينبغي أن يغفل عن هذا نعم روى أبو هريرة أنهم قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا فقال "إني وإن داعبتكم لا أقول إلا حقاً وقال عطاء: إن رجلاً سأل ابن عباس أكان رسول الله ﷺ يمزج? فقال: نعم، قال: فما كان مزاحه? قال: كان مزاحه أنه ﷺ كسا ذات يوم امرأة من نسائه ثوباً واسعاً فقال هلا "البسيه واحمدي وجري منه ذيلاً كذيل العروس وقال أنس: إن النبي ﷺ كان من أفكه الناس مع نسائه وروي أنه كان كثير التبسم وعن الحسن قال: أتت عجوز إلى النبي ﷺ فقال لها ﷺ "لا يدخل الجنة عجوز" فبكت فقال "إنك لست بعجوز يومئذ، قال الله تعالى "إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً" وقال زيد بن أسلم: إن امرأة يقال لها أم أيمن جاءت إلى النبي ﷺ فقالت: إن زوجي يدعوك، قال "ومن هو أهو الذي بعينه بياض?" قالت: والله ما بعينه بياض! فقال "بل إن بعينه بياضاً" فقالت: لا والله، فقال ﷺ "ما من أحد إلا وبعينه بياض" وأراد به البياض المحيط بالحدقة وجاءت امرأة أخرى فقالت: يا رسول الله احملني على بعيد فقال "بل نحملك على ابن البعير" فقالت ما أصنع به إنه لا يحملني فقال ﷺ "ما من بعين إلا وهو ابن بعير فكان يمزح به وقال أنس: كان لأبي طلحة ابن يقال له أبو عمير وكان رسول الله ﷺ يأتيهم ويقول "يا أبا عمير ما فعل النغير لنغير كان يلعب به وهو فرخ العصفور. وقالت عائشة رضي الله عنها: خرجت مع رسول الله ﷺ في غزوة بدر فقال "تعالي حتى أسابقك، فشددت درعي على بطني ثم خططنا خطاً فقمنا عليه واستبقنا فسبقني وقال "هذه مكان ذي المجاز وذلك أنه جاء يوماً ونحن بذي المجاز وأنا جارية قد بعثني أبي بشيء فقال "أعطينيه" فأبيت وسعيت وسعى في أثري فلم يدركني وقالت أيضاً: سابقني رسول الله ﷺ فسبقته، فلما حملت اللحم سابقني فسبقني، وقال "هذه بتلك وقالت أيضاً رضي الله عنها: كان عندي رسول الله ﷺ وسودة بنت زمعة فصنعت حريرة وجئت به فقلت لسودة: كلي، فقالت لا أحبه، فقلت: والله لتأكلن أو لألطخن به وجهك، فقالت: ما أنا بذائقته، فأخذت بيدي من الصحفة شيئاً مه فلطخت به وجههاً ورسول الله ﷺ جالس بيني وبينها، فخفض لها رسول الله ركبتيه لتستقيد مني فتناولت من الصحفة شيئاً فمسحت به وجهي وجعل رسول الله ﷺ يضحك وروي أن الضحاك بن سفيان الكلابي كان رجلاً دميماً قبيحاً، فلما بايعه النبي ﷺ قال: إن عندي امرأتين أحسن من هذه الحميراء -وذلك قبل أن تنزل آية الحجاب- أفلا أنزل لك عن إحداهما فتتزوجها وعائشة جالسة تسمع، فقالت: أهي أحسن أم أنت? فقال: بل أنا أحسن منها وأكرم، فضحك رسول الله ﷺ من سؤالها إياه لأنه كان دميماً . وروى علقمة عن أبي سلمة أنه كان ﷺ يدلع لسانه للحسن ابن علي عليهما السلام فيرى الصبي لسانه فيهش له فقال له عيينة بن بدر الفزاري: والله ليكونن لي الإبن قد تزوج وبقل وجهه وما قبلته قط! فقال ﷺ "إن من لا يرحم لا يرحم فأكثر هذه المطايبات منقولة مع النساء والصبيان وكان ذلك منه ﷺ معالجة لضعف قلوبهم من غير ميل إلى هزل وقال ﷺ مرة لصهيب وبه رمد وهو يأكل تمراً "أتأكل التمر وأنت رمد? فقال: إنما آكل بالشق الآخر يا رسول الله فتبسم ﷺ قال بعض

الرواة حتى نظرت إلى نواجذه. وروي أن خوات ابن جبير الأنصاري كان جالساً إلى نسوة من بني كعب بطريق مكة فطلع عليه رسول الله ﷺ فقال "يا أبا عبد الله ما لك مع النسوة? فقال يفتلن ضفير الجمل لي شرود، قال: فمضى رسول الله ﷺ لحاجته ثم عاد فقال "يا أبا عبد الله أما ترك ذلك الجمل الشراد بعد? قال: فسكت واستحييت وكنت بعد ذلك أتفرر منه كلما رأيته حياء منه، حتى قدمت المدينة وبعد ما قدمت المدينة قال: فرآني في المسجد يوماً أصلي فجلس إلي فطولت فقلا "لا تطول فإني أنتظرك" فلما سلمت قال يا أبا عبد الله أما ترك ذلك الجمل الشراد بعد?" قال: فسكت واستحييت، فقام وكنت بعد ذلك أتفرر منه حتى لحقني يوماً وهو على حمار وقد جعل رجليه في شق واحد فقال "أبا عبد الله أما ترك ذلك الجمل الشراد بعد?" فقلت والذي بعثك بالحق ما شرد منذ أسلمت فقال "الله أكبر الله أكبر اللهم اهد أبا عبد الله" قال: فحسن إسلامه وهداه الله وكان نعيمان الأنصاري رجلاً مزاحاً فكان يشرب الخمر في المدينة فيؤتي به إلى النبي ﷺ فيضربه بنعله ويأمر أصحابه فيضربونه بنعالهم، فلما كثر ذلك منه قال له رجل من الصحابة: لعنك الله، فقال النبي ﷺ "لا تفعل فإنه يحب الله ورسوله" وكان لا يدخل المدينة رسل ولا طرفة إلا اشترى منها ثم أتى النبي ﷺ فيقول: يا رسول الله هذا قد اشتريته لك وأهديته لك فإذا جاء صاحبها يتقاضاه بالثمن جاء به إلى النبي ﷺ وقال: يا رسول الله أعطه ثمن متاعه، فيقول له ﷺ "أو لم تهده لنا" فيقول: يا رسول الله إنه لم يكن عندي ثمنه وأحببت أن تأكل منه، فيحضك النبي ﷺ ويأمر لصاحبه بثمنه فهذه مطايبات يباح مثلها على الندور لا على الدوام والمواظبة علياه هزل مذموم وسبب للضحك المميت للقلب.

الآفة الحادية عشر

السخرية والاستهزاء

وهذا محرم مهما كان مؤذياً كما قال تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن" ومعنى السخرية الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه: وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء، وإذا كان بحضرة المستهزأ به لم يسم ذلك غيبة وفيه معنى الغيبة. قالت عائشة رضي الله عنها: حاكيت إنساناً فقال لي النبي ﷺ "والله ما أحب أني حاكيت إنساناً ولي كذا وكذا وقال ابن عباس في قوله تعالى "يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها" إن الصغيرة التبسم بالاستهزاء بالمؤمن، والكبيرة القهقهة بذلك. وهذه إشارة إلى أن الضحك على الناس من جملة الذنوب والكبائر. وعن عبد الله بن زمعة أنه قال سمعت رسول الله ﷺ وهو يخطب فوعظهم في ضحكهم من الضرطة فقال "علام يضحك أحدكم مما يفعل وقال ﷺ "إن المستهزئين بالناس يفتح لأحدهم باب من الجنة فيقال هلم هلم فيجيء بكربه وغمه فإذا أتاه أغلق دونه، ثم يفتح له باب آخر فيقال هلم هلم فيجيء بكربه وغمه فإذا أتاه أغلق دونه فما يزال كذلك حتى إن الرجل ليفتح له الباب فيقال له هلم هلم فلا يأتيه وقال معاذ بن جبل: قال النبي ﷺ "من عير أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يعمله وكل هذا يرجع إلى استحقار الغير والضحك عليها استهانة به واستصغاراً له. وعليه قوله تعالى "عسى أن يكونوا خيراً منهم" أي لا تستحقره استصغاراً فلعله خير منك.

وهذا إنما يحرم في حق من يتأذى به، فأما من جعل نفسه مسخرة وربما فرح من أن يسخر به كانت السخرية في حقه من جملة المزاح -وقد سبق ما يذم منه وما يمدح- وإنما المحرم استصغار يتأذى به المستهزأ به لما فيه من التحقير والتهاون. وذلك تارة بأن يضحك على كلامه إذا تخبط فيه ولم ينتظم، أو على أفعاله إذا كانت مشوشة كالضحك على خطه وعلى صنعته، أو على صورته وخلقته إذا كان قصيراً أو ناقصاً لعيب من العيوب. فالضحك من جميع ذلك داخل في السخرية المنهي عنها.

الآفة الثانية عشر

إفشاء السر

وهو منهي عنه لما فيه من الإيذاء والتهاون بحق المعارف والأصدقاء. قال النبي ﷺ "إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة وقال مطلقاً "الحديث بينكم أمانة وقال الحسن: إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك. ويروى أن معاوية رضي الله عنه أسر إلى الوليد بن عتبة حديثه فقال لأبيه: يا أبت إن أمير المؤمنين أسر إلي حديثاً وما أراه يطوى عنك ما بسطه إلى غيرك? قال: فلا تحدثني به فإن من كتم سره كان الخيار إليه، ومن أفشاه كان الخيار عليه قال: فقلت يا أبت وإن هذا ليدخل بين الرجل وبين ابنه? فقال: لا والله يا بني ولكن أحب أن لا تذلل لسانك بأحاديث السر، قال: فأتيت معاوية فأخبرته فقال: يا وليد أعتقك أبوك من رق الخطأ فإفشاء السر خيانة.

وهو حرام إذا كان فيه إضرار، ولؤم إن لم يكن في إضرار. وقد ذكرنا ما يتعلق بكتمان السر في كتاب آداب الصحبة فأغنى عن الإعادة.

الآفة الثالثة عشر

الوعد الكاذب

فإن اللسان سباق إلى الوعد، ثم النفس ربما لا تسمح بالوفاء فيصير الوعد خلفاً وذلك من أمارات النفاق قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود" وقال ﷺ العدة عطية وقال ﷺ الوأي مثل الدين أو أفضل والوأي: الوعد. وقد أثنى الله تعالى على نبيه اسمعيل عليه السلام في كتابه العزيز فقال "إنه كان صادق الوعد" قيل إنه وعد إنساناً في موضع فلم يرجع إليه ذلك الإنسان بل نسي، فبقي اسمعيل اثنين وعشرين يوماً في انتظاره. ولما حضرت عبد الله بن عمر الوفاة قال: إنه كان خطب إلى ابنتي رجل من قريش وقد كان إليه مني شبه الوعد، فوالله لا ألقى الله بثلث النفاق! أشهدكم أني قد زوجته ابنتي. وعن عبد الله بن أبي الخنساء قال: بايعت النبي ﷺ قبل أن يبعث وبقيت له بقية فواعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك فنسيت يومي والغد فأتيته اليوم الثالث وهو في مكانه، فقال "يا فتى لقد شققت علي أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك وقيل لإبراهيم: الرجل يواعد الرجل الميعاد فلا يجيء، قال: ينتظره إلى أن يدخل وقت الصلاة التي تجيء. وكان رسول الله ﷺ إذا وعد وعداً قال "عسى وكان ابن مسعود لا يعد وعداً إلا ويقول إن شاء الله وهو الأولى.

ثم إذا فهم مع ذلك الجزم في الوعد فلا بد من الوفاء إلا أن يتعذر، فإن كان عند الوعد عازماً على أن لا يفي فهذا هو النفاق. وقال أبو هريرة: قال النبي ﷺ "ثلاث من كن فيه فهو منافق،وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قال رسول الله ﷺ "أربع من كن فيه كان منافقاً ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وهذا ينزل على عزم الخلف أو ترك الوفاء من غير عذر، فأما من عزم على الوفاء فعن له عذر منعه من الوفاء لم يكن منافقاً وإن جرى عليه ما هو صورة النفاق، ولكن ينبغي أن يحترز من صورة النفاق أيضاً كما يحترز من حقيقته، ولا ينبغي أن يجعل نفسه معذوراً من غير ضرورة حاجزة فقد روي أن رسول الله ﷺ كان وعد أبا الهيثم بن التهيان خادماً؛ فأتى بثلاثة من السبى فأعطى اثنين وبقي واحداً، فأتت فاطمة رضي الله عنها تطلب منه خادماً وتقول: ألا ترى أثر الرحى بيدي? فذكر موعده لأبي الهيثم فجعل يقول "كيف بموعدي لأبي الهيثم? فآخثره به على فاطمة -لما كان قد سبق من موعده له- مع أنها كانت تدير الرحى بيدها الضعيفة. ولقد كان ﷺ جالساً يقسم غنائم هوازن بحنين فوقف عليه رجل من الناس فقال: إن لي عندك موعداً يا رسول الله قال "صدقت، فاحتكم ما شئت، فقال: أحتكم ثمانين ضائنة وراعيها، قال "هي لك" وقال "احتكمت يسيراً ولصاحبه موسى عليه السلام التي دلته على عظام يوسف كانت أحزم منك وأجزل حكماً منك حين حكمها موسى عليه السلام فقالت حكمي أن تردني شابة وأدخل معك الجنة، قيل فكان الناس يضعفون ما احتكم به حتى جعلا مثلاً فقيل: أشح من صاحب الثمانين والراعي. وقد قال رسول الله ﷺ "ليس الخلف أن يعد الرجل الرجل وفي نيته أن يفي وفي لفظ آخر "إذا وعد لرجل أخاه وفي نيته أن يفي فلم يجد، فلا إثم عليه".

الآفة الرابعة عشرة

الكذب في القول واليمين

وهو من قبائح الذنوب وفواحش العيوب. قال اسمعيل بن واسط: سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يخطب بعد وفاة رسول الله ﷺ فقال قام فينا رسول الله ﷺ مقامي هذا عام أول -ثم بكى وقال "إياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار وقال أبو أمامة: قال رسول الله ﷺ "إن الكذب باب من أبواب النفاق وقال الحسن: كان يقال إن من النفاق اختلاف السر والعلانية، والقول والعمل، والمدخل والمخرج، وإن الأصل الذي بني عليه النفاق الكذب. وقال عليه السلام "كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثاً هو لك به مصدق وأنت له به كاذب وقال ابن مسعود: قال النبي ﷺ "لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ومر رسول الله ﷺ برجلين يتبايعان شاة ويتحالفان، يقول أحدهما: والله لا أنقصك من كذا وكذا. ويقول الآخر: والله لا أزيدك على كذا وكذا، بالشاة وقد اشتراها أحدهما فقال "أوجب أحدهما بالإثم والكفارة وقال عليه السلام "الكذب ينقص الرزق وقال رسول الله ﷺ "إن التجار هم الفجار" فقيل يا رسول الله أليس قد أحل الله البيع? قال "نعم ولكنهم يحلفون فيأثمون ويحدثون فيكذبون وقال ﷺ "ثلاثة نفر لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم: المنان بعطيته والمنفق سلعته بالحلف الفاجر والمسبل إزاره وقال ﷺ "ما حلف حالف بالله أدخل فيما مثل جناح بعوضة إلا كانت نكتة في قلبه إلى يوم القيامة وقال أبو ذر قال رسول الله ﷺ "ثلاثة يحبهم الله: رجل كان في فئة فنصب نحره حتى يقتل أو يفتح الله عليه وعلى أصحابه، ورجل كان له جار سوء يؤذيه فصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن، ورجل كان معه قوم في سفر أو سرية فأطالوا السرى حتى أعجبهم أن يمسوا الأرض فنزلوا. فتنحى يصلى حتى يوقظ أصحابه للرحيل. وثلاثة يشنؤهم الله: التاجر أو البياع الحلاف، والفقير المختال والبخل المنان وقال ﷺ "ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القول ويل له ويل له وقال ﷺ "رأيت كأن رجلاً جاءني فقال لي قم فقمت معه، فإذا أنا برجلين أحدهما قائم والآخر جالس، بيد القائم كلوب من حديد يلقمه في شدق الجالس فيجذبه حتى يبلغ كاهله، ثم يجذبه فليقمه الجانب الآخر فيمده فإذا مده رجع الآخر كما كان، فقلت للذي أقامني ما هذا? فقال: هذا رجل كذاب يعذب في قبره إلى يوم القيامة وعن عبد الله بن جراد قال: سألت رسول الله ﷺ فقلت يا رسول الله هل يزني المؤمن? قال "قد يكون ذلك" قال: يا نبي الله هل يكذب المؤمن? قال "لا" ثم أتبعها ﷺ بقول الله تعالى "إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله" وقال أبو سعيد الخدري: سمعت رسول الله ﷺ يدعو فيقول في دعائه "اللهم طهر قلبي من النفاق وفرجي من الزنا ولساني من الكذب وقال ﷺ "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر وقال عبد الله بن عامر: جاء رسول الله ﷺ إلى بيتنا وأنا صبي صغيرة فذهبت لألعب فقالت أمي: يا عبد الله تعالى حتى أعطيك فقال ﷺ "وما أردت أن تعطيه" قالت تمراً، فقال "أما إنك لو لم تفعلي لكتبت عليك كذبة وقال ﷺ "لو أفاء الله على نعماً عدد هذا الحصى لقسمتها بينكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذاباً ولا جباناً : وقال ﷺ وكان متكئاً "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين، ثم قعد وقال "إلا وقول الزور وقال ابن عمر: قال رسول الله ﷺ "إن العبد ليكذب الكذبة ليتباعد الملك عنه مسيرة ميل من نتن ما جاء به وقال أنس: قال النبي ﷺ "تقبلوا إلي بست أتقبل لكم بالجنة" فقالوا وما هن? قال "إذا حدث أحدكم فلا يكذب وإذا وعد فلا يخلف وإذا ائتمن فلا يخن وغضوا أبصاركم واحفظوا فروجكم وكفوا أيديكم وقال ﷺ "إن للشيطان كحلاً ولعوقاً ونشوقاً: أما لعوقه فالكذب، وأما نشوقه فالغضب، وأما كحله فالنوم وخطب عمر رضي الله عنه يوماً فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه

وسلم كقيامي هذا فيكم فقال "أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل على اليمين ولم يستحلف ويشهد ولم يستشهد وقال النبي ﷺ "من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين وقال ﷺ "من حلف على يمين بإثم ليقتطع بها مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان وروي عن النبي ﷺ "أنه رد شهادة رجل في كذبة كذبها وقال ﷺ "كل خصلة يطبع أو يطوى عليها المسلم إلا الخيانة والكذب وقالت عائشة رضي الله عنها: ما كان من خلق أشد على أصحاب رسول الله ﷺ من الكذب ولقد كان رسول الله ﷺ يطلع على الرجل من أصحابه على الكذب فما ينجلي من صدره حتى يعلم أنه قد أحدث توبة لله عز وجل منها . وقال موسى عليه السلام: يا رب أي عبادك خير لك عملاً? قال من لا يكذب لسانه ولا يفجر قلبه ولا يزني فرجه. وقال لقمان لابنه: يا بني إياك والكذب فإنه شهي كلهم العصفور عما قليل يقلاه صاحبه. وقال عليه السلام في مدح الصدق "أربع إذا كن فيك لا يضرك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث وحفظ الأمانة وحسن خلق وعفة طعمة وقال أبو بكر رضي الله عنه في خطبة بعد وفاة رسول الله ﷺ: قام فينا رسول الله ﷺ مثل مقامي هذا عام أول -ثم بكى- وقال "عليكم بالصدق فإنه مع البر وهما في الجنة وقال معاذ: قال لي رسول الله ﷺ "أوصيك بتقوى الله وصدق الحديث وأداء الأمانة والوفاء بالعهد وبذل السلام وخفض الجناح .

وأما الآثار: فقد قال علي رضي الله عنه: أعظم الخطايا عند الله اللسان الكذوب وشر الندامة ندامة يوم القيامة وقال عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه: ما كذبت كذبة منذ شددت علي إزاري. وقال عمر رضي الله عنه: أحبكم إلينا ما لم نركم أحسنكم اسماً فإذا رأيناكم فأحبكم إلينا أحسنكم خلقاً فإذا اختبرناكم فأحبكم إلينا أصدقكم حديثاً وأعظمكم أمانة. وعن ميمون بن أبي شبيب قال جلست أكتب كتاباً فأتيت على حرف إن أنا كتبته زينت الكتاب وكنت قد كذبت فعزمت على تركه فنوديت من جانب البيت "يثب الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة" وقال الشعبي: ما أدري أيهما أبعد غور في النار الكذاب أو البخيل? وقال ابن السماك: ما أراني أوجر على ترك الكذب لأني إنما أدعه أنفه. وقيل الخالد بن صبيح: أيسمى الرجل كاذباً بكذبة واحدة? قال: نعم وقال مالك بن دينار: قرأت بعض الكتب ما من خطيب إلا وتعرض خطبته على عمله فإن كان صادقاً صدق وإن كان كاذباً قرضت شفتاه بمقاريض من نار كلما قرضتا نبتتا. وقال مالك بن دينار: الصدق والكذب يعتركان في القلب حتى يخرج أحدهما صاحبه وكلم عمر بن عبد العزيز الوليد بن عبد الملك في شيء فقال له: كذبت، فقال عمر: والله ما كذبت منذ علمت أن الكذب يشين صاحبه.

بيان ما رخص فيه من الكذب

اعلم أن الكذب ليس حراماً لعينه بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره، فإن أقل درجاته أن يعتقد المخبر الشيء على خلاف ما هو عليه فيكون جاهلاً وقد يتعلق به ضرر غيره، ورب جهل فيه منفعة ومصلحة، فالكذب محصل لذلك الجهل فيكون مأذوناً فيه، وربما كان واجباً.

قال ميمون بن مهران: الكذب في بعض المواطن خير من الصدق، أرأيت لو أن رجلاً سعى خلف إنسان بالسيف ليقتله فدخل داراً فانتهى إليك فقال: أرأيت فلاناً? ما كنت قائلاً? ألست تقول: لم أره? وما تصدق به. وهذا الكذب واجب.

فنقول: الكلام وسيلة إلى المقاصد فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً فالكذب فيه حرام، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك القصد مباحاً، وواجب إن كان المقصود واجباً، كما أن عصمة دم المسلم واجبة. فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب. ومهما كان لا يتم مقصود الحرب أو إصلاح ذات البين أن استمالة قلب المجني عليه إلا بكذب فالكذب مباح، إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن، لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه فيخشى أن يتداعى إلى ما يستغنى عنه وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة، فبكون الكذب حراماً في الأصل إلا لضرورة.

والذي يدل على الاستثناء ما روي عن أم كلثوم قالت: ما سمعت رسول الله ﷺ يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث: الرجل يقول القول يريد به الإصلاح، والرجل يقول القول في الحرب، والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها وقالت أيضاً: قال رسول الله ﷺ "ليس بكذاب من اصلح بين اثنين فقال خيراً أو نمى خيراً وقالت أسماء بنت يزيد: قال رسول الله ﷺ "كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب بين مسلمين ليصح بينهما وروي عن أبي كامل قال: وقع بين اثنين من أصحاب النبي ﷺ كلام حتى تصارما فلقيت أحدهما فقلت: ما لك ولفلان فقد سمعته يحسن عليك الثناء? ثم لقيت الآخر فقلت له مثل ذلك حتى اصطلحا، ثم قلت: أهلكت نفسي وأصلحت بين هذين! فأخبرت النبي ﷺ فقال "يا أبا كاهل أصلح بين الناس أي ولو بالكذب. وقال عطاء بن يسار: قال رجل للنبي ﷺ أكذب على أهلي? قال "لا خير في الكذب" قال: أعدها وأقول لها، قال "لا جناح عليك .

وروي أن ابن أبي عذرة الدؤلي وكان في خلافة عمر رضي الله عنه كان يخلع النساء اللاتي يتزوج بهن فطارت له في الناس من ذلك أحدوثة يكرهها، فلما علم بذلك أخذ بيد عبد الله بن الأرقم حتى أتى به إلى منزله، ثم قال لامرأته: أنشدك بالله هل تبغضيني? قالت: لا تنشدني، قال: فإني أنشدك الله، قالت: نعم، فقال لابن الأرقم: أتسمع? ثم انطلقا حتى أتيا عمر رضي الله عنه فقال: إنكم لتحدثون إني أظلم النساء وأخلعهن فأسأل ابن الأرقم، فسأله فأخبره، فأرسل إلى امرأة بن أبي عذرة فجاءت هي وعمتها فقال: أنت التي تحدثين لزوجك أنك تبغضينه? فقالت: إني أول من تاب وراجع أمر الله تعالى إنه ناشدني فتحرجت أن أكذب أفأكذب يا أمير المؤمنين? قال: نعم فاكذبي فإن كانت إحداكن لا تحب أحدنا فلا تحدثه بذلك، فإن أقل البيوت الذي بيني على الحب ولكن الناس يتعاشرون بالإسلام والأحساب.

وعن النواس بن سمعان الكلابي قال: قال رسول الله ﷺ "ما لي أراكم تتهافتون في الكذب تهافت الفراش في النار? كل الكذب يكتب على ابن آدم لا محالة إلا أن يكذب الرجل في الحرب، فإن الحرب خدعة، أو يكون بين الرجلين شحناء فيصلح بينهما، أو يحدث امرأته يرضيها وقال ثوبان الكذب كله إثم إلا ما نفع به مسلماً أو دفع عنه ضرراً. وقال علي رضي الله عنه: إذا حدثتكم عني النبي ﷺ فلأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فالحرب خدعة.

فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء، وفي معناها ما عداها إذا ارتبط به مقصود صحيح له أو لغيره. أما ماله: فمثل أن يأخذه ظالم ويسأله عن ماله فله أن ينكره، أو يأخذه سلطان فيسأله عن فاحشة بينه وبين الله تعالى ارتكبها فله أن ينكر ذلك، فيقول: ما زنيت وما سرقت. وقال ﷺ "من ارتكب شيئاً من هذه القاذورات فليستتر بستر الله وذلك أن إظهار الفاحشة فاحشة أخرى، فللرجل أن يحفظ دمه وماله الذي يؤخذ ظلماً وعرضه بلسانه وإن كان كاذباً.

وأما عرض غيره: فبأن يسأله عن سر أخيه فله أن ينكره، وأن يصلح بين اثنين، وأن يصلح بين الضرات من نسائه بأن يظهر لكل واحد أنها أحب إليه، وإن كانت امرأته لا تطاوعه إلا بوعد لا يقدر عليه فيعدها في الحال تطييباً لقلبها، أو يعتذر إلى إنسان وكان لا يطيب قلبه إلا بإنكار ذنب وزيادة تودد فلا بأس به. ولكن الحد فيه أن الكذب محذور ولو صدق في هذه المواضع تولد منه محذور. فينبغي أن يقابل أحدهما بالآخر ويزن بالميزان القسط، فإذا علم أن المحذور الذي يحصل بالصدق أشد وقعاً في الشرع من الكذب فله الكذب، وإن كان ذلك المقصود أهون من مقصود الصدق فيجب الصدق، وقد يتقابل الأمران بحيث يتردد فيهما، وعند ذلك الميل إلى الصدق أولى لأن الكذب يباح لضرورة أو حاجة مهمة. فإن شك في كون الحاجة مهمة فالأصل التحريم فيرجع إليه، ولأجل غموض إدراك مراتب المقاصد ينبغي أن يحترز الإنسان من الكذب ما أمكنه، وكذلك مهما كانت الحاجة له فيستحب له أن يترك أغراضه ويهجر الكذب، فأما إذا تعلق بغرض غيره فلا تجوز المسامحة لحق الغير والإضرر به؛ وأكثر كذب الناس إنما هو لحظوظ أنفسهم، ثم هو لزيادات المال والجاه ولأمور ليس فواتها محذوراً، حتى إن المرأة لتحكي عن زوجها ما تفخر به وتكذب لأجل مراغمة الضرات، وذلك حرام. وقالت أسماء سمعت امرأة سألت رسول الله ﷺ قالت: إن لي ضرة وإني أتكثر من زوجي بما لم يفعل أضارها بذلك فهل على شيء فيه? فقال ﷺ "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور وقال ﷺ "من تطعم بما لا يطعم أو قال لي وليس له أو أعطيت ولم يعط فهو كلابس ثوبي زور يوم القيامة ويدخل في هذا فنوى العالم بما لا يتحققه، وروايته الحديث الذي لا يتثبته إذ غرضه أن يظهر فضل نفسه، فهو لذلك يستنكف من أن يقول: لا أدري، وهذا حرم، ومما يلتحق بالنساء الصبيان، فإن الصبي إذا كان لا يرغب في المكتب إلا بوعد أو عيد أو تخويف كاذب كان ذلك مباحاً. نعم روينا في الأخبار أن ذلك يكتب كذباً، ولكن الكذب المباح أيضاً قد يكتب ويحاسب عليه ويطالب بتصحيح قصده فيه ثم يعفى عنه، لأنه إنما أبيح بقصد الإصلاح ويتطرق إليه غرور كبير، فإنه قد يكون الباعث له حظه وغرضه الذي هو مستغن عنه وإنما يتعلل ظاهراً بالإصلاح فلهذا يكتب. وكل من أتي بكذبة فقد وقع في خطر الاجتهاد ليعلم أن المقصود الذي كذب لأجله هل هو أهم في الشرع من الصدق أم لا? وذلك غامض جداً والحزم تركه إلا أن يصير واجباً بحيث لا يجوز تركه كما لو أدى إلى سفك دم أو ارتكاب معصية كيف كان.

وقد ظن ظانون أنه يجوز وضع الأحاديث في فضائل الأعمال وفي التشديد في المعاصي، وزعموا أن القصد منه صحيح وهو خطأ محض، إذ قال ﷺ "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار وهذا لا يرتكب إلا لضرورة ولا ضرورة إذ في الصدق مندوحة عن الكذب ففيما ورد من الآيات والأخبار كفاية عن غيرها. وقول القائل: إن ذلك قد تكرر على الأسماع وسقط وقعه، وما هو جديد فوقعه أعظم، فهذا هوس إذ ليس هذا من الأغراض التي تقاوم محذور الكذب على رسول الله ﷺ وعلى الله تعالى ويؤدي فتح بابه إلى أمور تشوش الشريعة فلا يقاوم خير هذا شره أصلى. والكذب على رسول الله ﷺ من الكبائر التي لا يقاومها شيء. نسأل الله العفو عنا وعن جميع المسلمين.

بيان الحذر من الكذب بالمعاريض

قد نقل عن السلف أن في المعاريض مندوحة عن الكذب قال عمر رضي الله عنه: أما في المعاريض ما يكفي الرجال عن الكذب? وروى ذلك عن ابن عباس وغيره. وإنما أرادوا بذلك إذا اضطر الإنسان إلى الكذب فأما إذا لم تكن حاجة وضرورة فلا يجوز التعويض ولا التصريح جميعاً، ولكن التعويض أهون. ومثال التعويض ما روى أن مطرفاً دخل على زياد فاستيطأه فتعلل بمرض وقال: ما رفعت جنبي مذ فارقت الأمير إلا ما رفعني الله. وقال إبراهيم: إذا بلغ الرجل عنك شيء فكرهت أن تكذب فقل: إن الله تعالى ليعلم ما قلت من ذلك من شيء. فيكون قوله "ما" حرف نفي عند المستمع، وعنده الإبهام. وكان معاذ بن جبل عاملاً لعمر رضي الله عنه فلما رجع قالت له امرأته ما جئت به مما يأتي به العمال إلى أهلهم? وما كان قد أتاها بشيء. فقال: كان عندي ضاغط، قالت: كنت أميناً عند رسول الله ﷺ وعند أبي بكر رضي الله عنه. فبعث عمر معك ضاغطاً? وقامت بذلك بين نسائها واشتكت عمر، فلما بلغه ذلك دعا معاذاً وقال: بعثت معك ضاغطاً? قال: لم أجد ما أعتذر به إليها إلا ذلك، فضحك عمر رضي الله عنه وأعطاه شيئاً فقال. أرضها به -ومعنى قوله ضاغطاً يعني رقيباً وأراد به الله تعالى- وكان النخعي لا يقول لابنته: أشتري لك سكراً بل يقول: أرأيت لو اشتريت لك سكراً? فإنه ربما لا يتفق له ذلك. وكان إبراهيم إذا طلبه من يكره أن يخرج إليه وهو في الدار قال للجارية: قولي له أطلبه في المسجد ولا تقولي له ليس ههنا كيلا يكون كذباً. وكان الشعبي إذا طلب في المنزل هو يكرهه خط دائرة وقال للجارية: ضعي الأصبع فيها وقولي ليس ههنا. وهذا كله في موضع الحاجة فأما في غير موضع الحاجة فلا، لأن هذا تفهيم للكذب وإن لم يكن اللفظ كذباً فهو مكروه على الجملة كما روى عبد الله بن عتبة قال: دخلت مع أبي على عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه فخرجت وعلى ثوب، فجعل الناس يقولون هذا كساكه أمير المؤمنين? فكنت أقول جزى الله أمير المؤمنين خيراً، فقال لي أبي يا بني اتق الكذب وما أشبهه، فنهاه عن ذلك لأن فيه تقريراً لهم عن ظن كاذب لأجل غرض المفاخرة وهذا غرض باطل لا فائدة فيه.

نعم المعاريض تباح لغرض خفيف كتطييب قلب الغير بالمزاح كقوله ﷺ "لا يدخل الجنة عجوز وقوله للأخرى "الذي في عين زوجك بياض" وللأخرى "نحملك على ولد البعير" وما أشبهه. وأما الكذب الصريح كما فعله النعمان الأنصاري مع عثمان في قصة الضرير إذ قال له إنه نعيمان، وكما يعتاده الناس من ملاعبة الحمقى بتغريرهم بأن امرأة قد رغبت في تزويجك، فإن كان فيه ضرر يؤدي إلى إيذاء قلب فهو حرام، وإن لم يكن إلا لمطايبته فلا يوصف صاحبها بالفسق ولكن ينقص ذلك من درجة إيمانه. قال ﷺ "لا يكمل للمرء الإيمان حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه وحتى يجتنب الكذب في مزاحه وأما قوله عليه السلام "إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها الناس يهوى بها في النار أبعد من الثريا أراد به ما فيه غيبة مسلم أو إيذاء قلب دون محض المزاح.

ومن الكذب الذي لا يوجب الفسق ما جرت به العادة في المبالغة كقوله طلبت كذا وكذا مرة وقلت لك كذا مائة مرة، فإنه لا يريد به تفهيم المرات بعددها بل تفهيم المبالغة، فإن لم يكن طلبه إلا مرة واحدة كان كاذباً، وإن كان طلبه مرات لا يعتاد مثلها في الكثرة لا يأثم وإن لم تبلغ مائة، وبينهما درجات يتعرض مطلق اللسان بالمبالغة فيها لخطر الكذب. ومما يعتاد الكذب فيه ويتساهل به أن يقال: كل الطعام، فيقول: لا أشتهيه؛ وذلك منهي عنه وهو حرام، وإن لم يكن فيه غرض صحيح قال مجاهد: قالت أسماء بنت عميس، كنت صاحبة عائشة في الليلة التي هيأتها وأدخلتها على رسول الله ﷺ ومعي نسوة قالت: فوالله ما وجدنا عنده قرى إلا قدحاً من لبن. فشرب ثم ناوله عائشة، قالت: فاستحيت الجارية فقلت: لا تردي يد رسول الله ﷺ خذي منه، قالت: فأخذت منه على حياء فشربت منه ثم قال "ناولي صواحبك" فقلت: لا نشتهيه، فقال "لا تجمعن جوعاً وكذباً" قالت: فقلت يا رسول الله إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه لا أشتهيه أيعد ذلك كذباً? قال "إن الكذب ليكتب كذباً، حتى تكتب الكذيبة كذيبة وقد كان أهل الورع يحترزون عن لتسامح بمثل هذا الكذب.

قال الليث بن سعد: كانت عينا سعد بن المسيب ترمص حتى يبلغ الرمص خارج عينيه، فيقال له: لو مسحت عينيك? فيقول: وأين قول الطبيب: لا تمس عينيك فأقول: لا أفعل? وهذه مراقبة أهل الورع. ومن تركه انسل لسانه في الكذب عند حد اختياره فيكذب ولا يشعر. وعن خوات التيمي قال: جاءت أخت الربيع بن خثيم عائدة لابن له فانكبت عليه، فقالت: كيف أنت يا بني? فجلس الربيع وقال: أرضعتيه? قالت: لا، قال: ما عليك لو قلت، يا ابن أخي فصدقت? ومن العادة أن يقول: يعلم الله، فيما لا يعمله. قال عيسى عليه السلام: إن من عظم الذنوب عند الله أن يقول العبد إن الله يعلم، لما لا يعلم. وربما يكذب في حكاية المنام، والإثم فيه عظيم إذ قال عليه السلام "إن من أعظم الفرية أن يدعى الرجل إلى غير أبيه أو يرى عينيه في المنام ما لم ير أو يقول على ما لم أقل وقال عليه السلام "من كذب في حلم كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بعاقد بينهما أبداً .

الآفة الخامسة عشرة

الغيبة

والنظر فيها طويل فلنذكر أولاً مذمة الغيبة وما ورد فيها من شواهد الشرع، وقد نص الله سبحانه على ذمها في كتابه وشبه صاحبها بآكل لحم الميتة، فقال تعالى "ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه" وقال عليه السلام "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه والغيبة تتناول العرض وقد جمع الله بينه وبين المال والدم، وقال أبو برزة: قال عليه السلام "لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تفاحشوا ولا تدابروا ولا يغتب بعضكم بعضاً وكونوا عباد الله إخواناً وعن جابر وأبي سعيد قالا: قال رسول الله ﷺ "إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا، فإن الرجل يزني ويتوب فيتوب الله سبحانه عليه وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه وقال أنس: قال رسول الله ﷺ "مررت ليلة سرى بي على أقوام يخمشون وجوههم بأظافيرهم فقلت يا جبريل من هؤلاء? قال هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم وقال سليم بن جابر: أتيت النبي عليه الصلاة والسلام فقلت علمني خيراً أنتفع به، فقال "لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تصب من دلوك في إناء المستقى، وأن تلقى أخاك ببشر حسن وإن أدبر فلا تغتابه وقال البراء: خطبنا رسول الله ﷺ حتى أسمع العواتق في بيوتهن فقال "يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته وقيل أوحي الله إلى موسى عليه السلام: من مات تائباً من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصراً عليها فهو أول من يدخل النار. وقال أنس: أمر رسول الله ﷺ الناس بصوم يوم فقال "لا يفطرن أحد حتى آذن له" فصام الناس حتى إذا أمسوا جعل الرجل يجيء فيقول: يا رسول الله ظللت صائماً فائذن لي لأفطر فيأذن له، والرجل والرجل حتى جاء رجل فقال: يا رسول الله فتاتان من أهلك ظلتا صائمتين وإنهما يستحيان أن يأتياك فائذن لهما أن يفطرا! فأعرض عنه ﷺ، ثم عاوده فأعرض عنه، ثم عاوده فقال "إنهما لم يصوما وكيف يوم من ظل نهاره يأكل لحم الناس? اذهب فمرهما إن كانتا صائمتين أن تستيئا" فرجع إليهما فأخبرهما فاستقاءتا، فقاءت كل واحدة منهما علقة من دم، فرجع إلى النبي ﷺ فأخبره فقال: والذي نفسي بيده لو بقيتا في بوطنهما لأكلتهما النار وفي رواية: أنه لما أعرض عنه جاء بعد ذلك وقال يا رسول الله والله إنهما قد ماتتا أو كادتا أن تموتا، فقال ﷺ "ائتوني بهما" فجاءتا فدعا رسول الله ﷺ بقدح فقال لإحداهما "قيئي" فقاءت من قيح ودم وصديد حتى ملأت القدح، وقال للأخرى "قيئي" فقاءت كذلك، فقال "إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس وقال أنس: خطبنا رسول الله ﷺ فذكر الربا وعظم شأنه فقال "إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثة زنية يزنيها الرجل وأربى الربا عرض المسلم وقال جابر كنا مع رسول الله ﷺ في مسير فأتى على قبرين يعذب صاحباهما فقال "إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يغتاب الناس، وأما الآخر فكان لا يستنزه من بوله" فدعا بجريدة رطبة أو جريدتين فكسرهما ثم أمر بكل كسرة فغرست على قبر وقال "أما إنه سيهون من عذابهما ما كانتا رطبتين -أو ما لم ييبسا- . ولما رحم رسول الله ﷺ ماعزاً في الزنا قال رجل لصاحبه هذا أقعص كما يقعص الكلب، فمر ﷺ وهما معه بجيفة فقال "انهشا منها" فقالا: لا رسول الله ننهش جيفة? فقال "ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه وكان الصحابة رضي الله عنهم يتلاقون بالبشر ولا يغتابون عند الغيبة ويرون ذلك أفضل الأعمال ويرون خلافه عادة المنافقين. وقال أبو هريرة: من أكل لحم أخيه في الدنيا قرب إليه لحمه في الآخرة وقيل له كل ميتاً كما أكلته حياً، فيأكله فينضج ويكلح وروي مرفوعاً كذلك. وروي أن رجلين كانا قاعدين عند باب من أبواب المسجد فمر بهما رجل كان مخنثاً فترك ذلك. فقالا: لقد بقي فيه منه شيء وأقيمت الصلاة فدخلا فصليا مع الناس، فحاك

في أنفسهما ما قالا فأتيا عطاء فسألاه فأمرهما أن يعيدا الوضوء والصلاة وأمرهما أن يقضيا الصيام إن كانا صائمين. وعن مجاهد أنه قال في "ويل لكل همزة لمزة" الهمزة: الطعان في الناس، واللمزة: الذي يأكل لحوم الناس. وقال قيادة: ذكر لنا عذاب القبر ثلاث أثلاث: ثلث من الغيبة، وثلث من النميمة، وثلث من البول. وقال الحسن: والله للغيبة أسره في دين الرجل المؤمن من الأكله في الجسد. وقال بعضهم: أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة ولكن في الكف عن أعراض الناس. وقال ابن عباس: إذا أردت ان تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك. وقال أبو هريرة يبصر أحدكم القذى في عين أخيه ولا يبصر الجذع في عين نفسه. وكان الحسن يقول: ابن آدم إنك لن تصيب حقيقة الإيمان حتى لا تغيب في الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بصلاح ذلك الغيب فتصلحه من، فإذا فعلت ذلك كان شعلك في خاصة نفسك، وأحب العباد إلى الله من كان هكذا. وقال مالك بن دينار: مر عيسى عليه السلام ومعه الحواريون بجيفة كلب فقال الحواريون: ما أنتن ريح هذا الكلب! فقال عليه الصلاة والسلام: ما أشد بياض أسنانه! كأنه رضي الله عنهما رجلاً يغتاب آخر فقال له: إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس. وقال عمر رضي الله عنه: عليكم بذكر الله تعالى فإنه شفاء وإياكم وذكر الناس فإنه داء. نسأل الله حسن التوفيق وطاعته.

بيان معنى الغيبة وحدودها

اعلم أن حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه، سواء ذكرته بنقص في بدنه أو نسبه أو في حلقه أو في فعله أو في قوله أو في دينه أو في دنياه، حتى في ثوبه وداره ودابته.

أما البدن: فكذكرك العمش والحول والقرع والقصر والطول والسواد والصفرة، وجميع ما يتصور أن يوصف به مما يكرهه كيفما كان. وأما النسب: فبأن تقول أبوه نبطي أو هندي أو فاسق أو خسيس أو إسكاف أو زبال، أو شيء مما يكرهه كيفما كان. وأما الخلق: فبأن تقول هو سيئ الخلق بخيل متكبر مراء شديد الغضب جبال عاجز ضعيف القلب متهور وما يجري مجراه. وأما أفعاله المتعلقة بالدين: فكقولك هو سارق أو كذاب أو شارب خمر أو خائن أو ظالم أو متهاون بالصلاة أو الزكاة أو لا يحسن الركوع أو السجود أو لا يحترز من النجاسات أو ليس باراً بوالديه أو لا يضع الزكاة موضعها أو لا يحسن قسمها أو لا يحرص صومه عن الرفث والغيبة والتعرض لأعراض الناس. وأما فعله المتعلق بالدنيا: فكقولك إنه قليل الأدب متهاون بالناس، أو لا يرى لأحد على نفسه حقاً أو يرى لنفسه الحق على الناس، أو أنه كثير الكلام كثير الأكل نئوم ينام في غير وقت النوم ويجلس في غير موضعه. وأما في ثوبه فكقولك إنه واسع الكم طويل الذيل وسخ الثياب.

وقال قوم: لا غيبة في الدين لأنه ما ذمه الله تعالى فذكره بالمعاصي وذمه بها يجوز، بدليل ما روي أن رسول الله ﷺ ذكرت له امرأة وكثرة صلاحها وصومها ولكنها تؤذي جيرانها بلسانها فقال "هي في النار وذكرت عنده امرأة أخرى بأنها بخيلة فقال "فما خيرهم إذن فهذا فاسد لأنهم كانوا يذكرون ذلك لحاجتهم إلى تعرف الأحكام بالسؤال، ولم يكن غرضهم التنقيص ولا يحتاج إليه في غير مجلس الرسول ﷺ. والدليل عليه إجماع الأمة على أن من ذكر غيره بما يكرهه فهو مغتاب لأنه دخل فيما ذكره رسول الله ﷺ في حد الغيبة.

وكل هذا وإن كان صادقاً فيه فهو به مغتاب عاص لربه وآكل لحم أخيه، بدليل ما روي أن النبي ﷺ قال "هل تدرون ما الغيبة? قالوا: الله ورسوله أعلم قال "ذكرك أخاك بما يكرهه" قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقوله? قال "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته وقال معاذ بن جبل: ذكر رجل عند رسول الله ﷺ فقالوا: ما أعجزه! فقال ﷺ "اغتبتم أخاكم" قالوا يا رسول الله قلنا ما فيه، قال "إن قلتم ما ليس فيه فقد بهتموه وعن حذيفة عن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت عند رسول الله ﷺ امرأة فقالت: إنها قصيرة فقال ﷺ "اغتبتيها وقال الحسن ذكر الغير ثلاثة الغيبة والبهتان والإفك، وكل في كتاب الله عز وجل؛ فالغيبة أن تقول ما فيه، والبهتان أن تقول ما ليس فيه، والإفك أن تقول ما بلغك وذكر ابن سيرين رجلاً فقال: ذاك الرجل الأسود، ثم قال أستغفر الله إني أراني قد اغتبته. وذكر ابن سيرين غبراهيم النخعي فوضع يده على عينه ولم يقل الأعور. وقالت عائشة لا يغتابن أحدكم أحداً فإن قلت لامرأة مرة وأنا عند النبي ﷺ إن هذه لطويلة الذيل فقال لي "الفظى الفظى" فلفظت مضغة لحم .

بيان أن الغيبة لا تقتصر على اللسان

اعلم أن الذكر باللسان إنما حرم لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك وتعريفه بما يكرهه، فالتعريض به كالتصريح والفعل فيه كالقول، والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة وكل ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة وهو حرام. فمن ذلك قول عائشة رضي الله عنها: دخلت علينا امرأة فما ولت أومأت بيدي أنها قصير فقال عليه السلام "اغتبتيها ومن ذلك المحاكاة يمشي متعارجاً أو كما يمشي فهو غيبة بل هو أشد من الغيبة لأنه أعظم في التصوير والتفهيم ولما رأى رسول الله ﷺ عائشة حاكت امرأة قال "ما يسرني أني حاكيت إنساناً ولي كذا وكذا . وكذلك الغيبة بالكتابة فإن القلم أحد اللسانين. وذكر المصنف شخصاً معيناً وتهجين كلامه في الكتاب غيبة إلا أن يقترن به شيء من الأعذار المحوجة إلى ذكره -كما سيأتي بيانه- وأما قوله: قال قوم كذا: فليس ذلك غيبة، وإنما الغيبة التعرض لشخص معين إما حي وإما ميت. ومن الغيبة أن تقول: بعض من مر بنا اليوم، أو بعض من رأيناه؛ إذا كان المخاطب يفهم منه شخصاً معيناً؛ لأن المحذور تفهيمه دون ما به التفهيم فأما إذا لم يفهم عينه جاز. كان رسول الله ﷺ إذا كره من إنسان شيئاً قال "ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا فكان لا يعين. وقولك: بعض من قدم من السفر، أو بعض من يدعي العلم، إن كان معه قرينة تفهم عين الشخص فهي غيبة.

وأخبث أنواع الغيبة غيبة القراء المرائين فإنهم يفهمون المقصود على صيغة أهل الصلاح ليظهروا من أنفسهم التعفف عن الغيبة ويفهمون المقصود، ولا يدرون بجهلهم أنهم جمعوا بين فاحشتين الغيبة والرياء، وذلك مثل أن يذكر عنده إنسان فيقول: الحمد لله الذي لم يبتلنا بالدخول على السلطان والتبذل في طلب الحطام، أو يقول: نعوذ بالله من قلة الحياء نسأل الله أن يعصمنا منها، وإنما قصده أن يفهم عيب الغي رفيذكره بصيغة الدعاء، وكذلك قد يقدم مدح من يريد غيبته فيقول: ما أحسن أحوال فلان: ما كان يقصر في العبادات ولكن قد اعتراه فتور وابتلي بما يبتلي به كلنا وهو قلة الصبر. فيذكر نفسه ومقصوده أن يذم غيره في ضمن ذلك ويمدح نفسه بالتشبه بالصالحين بأن يذم نفسه، فيكون مغتاباً ومرائياً ومزكياً نفسه، فيجمع بين ثلاث فواحش وهو بجهله يظن أنه من الصالحين المتعففين عن الغيبة. ولذلك يلعب الشيطان بأهل الجهل إذا اشتغلوا بالعبادة من غير علم فإنه يتبعهم ويحبط بمكايده عملهم ويضحك عليهم ويسخر منهم. ومن ذلك أن يذكر عيب إنسان فلا يتنبه له بعض الحاضرين فيقول: سبحان الله ما أعجب هذا! حتى يصغي إليه ويعلم ما يقول، فيذكر الله تعالى ويستعمل الاسم آلة في تحقيق خبثه، وهو يمثن على الله عز وجل بذكره جهلاً منه وغروراً "وكذلك يقول: ساءني ما جرى على صديقنا من الاستخفاف به نسأل الله أن يروح نفسه، فيكون كاذباً في دعوى الاغتمام وفي إظهار الدعاء له، بل لو قصد الدعاء لأخفاه في خلوته عقيب صلاته، ولو كان يغتم به لاغتم أيضاً بإظهار ما يكرهه. وكذلك يقول: ذلك المسكين قد بلي بآفة عظيمة تاب الله علينا وعليه، فهو في كل ذلك يظهر الدعاء والله مطلع على خبث ضميره وخفي قصده، وهو لجهله لا يدري أنه قد تعرض لمقت أعظم مما تعرض له الجهال إذا جاهروا.

ومن ذلك الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجب فإنه إنما تظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة فيندفع فيها وكأنه يستخرج الغيبة منه بهذا الطريق فيقول: عجب ما علمت أنه كذلك! ما عرفته إلى الآن إلى بالخير: وكنت أحسب فيه غير هذا، عافانا الله من بلائه، فإن كل ذلك تصديق للمغتاب والتصديق بالغيبة غيبة بل الساكت شريك المغتاب. قال ﷺ "المستمع أحد المغتابين وقد روي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن أحدهما قال لصاحبه: إن فلاناً لنئوم ثم إنهما طلبا أدماً من رسول الله ﷺ ليأكلا به الخبز فقال ﷺ "قد ائتدمتما!" فقالا: ما نعلمه? قال "بلى إنكما أكلتما من لحم أخيكما فانظر كيف جمعهما وكان القائل أحدهما والآخر مستمعاً. وقال للرجلين اللذين قال أحدهما. أقعص الرجل كما يقعص الكلب "انهشا من هذا الجيفة فجمع بينهما فالمستع لا يخرج من إثم الغيبة غلا أن ينكر بلسانه أو بقلبه إن خاف، وإن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام آخر فلم يفعل لزمه، وإن قال بلسانه اسكت، وهو مشته لذلك بقلبه فذلك نفاق، ولا يخرجه من الإثم ما لم يكرهه بقلبه، ولا يكفي في ذلك أن يشير باليد أي اسكت، أو يشير بحاجبه وجبينه، فإن ذلك استحقار للمذكور بل ينبغي أن يعظم ذلك فيذب عنه صريحاً وقال ﷺ من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على نصره أذله الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق وقال أبو الدرداء: قال رسول الله ﷺ "من رد عن عرض أخيه بالغيب كان حقاً على الله أن يرد عن عرضه يوم القيامة وقال أيضاً "من ذب عن عرض أخيه بالغيب كان حقاً على الله أن يعتقه من النار وقد ورد في نصرة المسلم في الغيبة وفي فضل ذلك أخبار كثيرة أوردناها في كتاب آداب الصحبة وحقوق المسلمين فلا نطول بإعادتها.

بيان الأسباب الباعثة على الغيبة

اعلم أن البواعث على الغيبة كثيرة ولكن يجمعها أحد عشر سبباً: ثمانية منها تطرد في حق العامة، وثلاثة تختص بأهل الدين والخاصة.

أما الثمانية؛ فالأول أن يشفى الغيظ وذلك إذا جرى سبب غضب به عليه، فإنه إذا هاج غضبه يشتفى بذكر مساوية فيسبق اللسان إليه بالطبع إن لم يكن ثم دين وازع، وقد يمتنع الغيظ عند الغضب فيحتقن الغضب في الباطن فيصير حقداً ثابتاً فيكون سبباً دائماً لذكر المساوي، فالحقد والغضب من البواعث العظيمة على الغيبة.

الثاني: موافقة الأقران ومجاملة الرفقاء ومساعدتهم على الكلام، فإنهم إذا كانوا يتفكهون بذكر الأعراض فيرى أنه لو أنكر عليهم أو قطع المجلس استثقلوه ونفروا عنه فيساعدهم ويرى ذلك من حسن المعاشرة ويظن أنه مجاملة في الصحبة، وقد يغضب رفقاؤه فيحتاج إلى أن يغضب لغضبهم إظهاراً للمساهمة في السراء والضراء فيخوض معه في ذكر العيوب والمساوي.

الثالث: أن يستشعر من إنسان أن سيقصده ويطول لسانه عليه أو يقبح حاله عند محتشم، أو يشهد عليه بشهادة فيبادره قبل أن يقبح هو حاله ويطعن فيه ليسقط أثر شهادته، أو يبتدئ بذكر ما فيه صادقاً ليكذب عليه بعده فيروج كذبه بالصدق الأول ويستشهد ويقول: ما من عادتي الكذب، فإني أخبرتكم بكذا وكذا من أحواله فكان كما قلت.

الرابع: أن ينسب إلى شيء فيريد أن يتبرأ منه فيذكر الذي فعله، وكان من حقه أن يبرئ نفسه ولا يذكر الذي فعل فلا ينسب غيره إليه، أو يذكر غيره بأنه كان مشاركاً له في الفعل ليمهد بذلك عذر نفسه في فعله.

الخامس: إرادة التصنع والمباهاة، وهو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره فيقول فلان جاهل وفهمه ركيك وكلامه ضعيف: وغرضه أن يثبت في ضمن ذلك فضل نفسه ويريهم أنه أعلم منه، أو يحذر أن يعظم مثل تعظيمه فيقدح فيه لذلك.

السادس: الحسد وهو أنه ربما يحسد من يثني الناس عليه ويحبونه ويكرمونه، فيريد زوال تلك النعمة عنه فلا يجد سبيلاً إليه إلا بالقدح فيه، فيريد أن يسقط ماء وجهه عند الناس حتى يكفوا عن كرامته والثناء عليه لأنه يثقل عليه أن يسمع كلام الناس وثناءهم عليه وإكرامهم له، وهذا هو عين الحسد وهو غير الغضب والحقد، فإن ذلك يستدعي جناية من المغضوب عليه، والحسد قد يكون مع الصديق المحسن والرفيق الموافق.

السابع: اللعب والهزل والمطايبة وتزجية الوقت بالضحك، فيذكر عيوب غيره بما يضحك الناس على سبيل المحاكاة ومنشؤه التكبر والعجب.

الثامن: السخرية والاستهزاء استحقاراً له فإن ذلك قد يجري في الحضور ويجري أيضاً في الغيبة ومنشؤه التكبر واستصغار المستهزأ به.

وأما الأسباب الثلاثة التي هي في الخاصة فهي أغمضها وأدقها، لأنها شرور خبأها الشيطان في معرض الخيرات وفيها خير ولكن شباب الشيطان بها الشر.

الأول: أن تنبعث من الدين داعية التعجب في إنكار المنكر والخطأ في الدين، فيقول ما أعجب ما رأيت من فلا! فإنه قد يكون به صادقاً ويكون تعجبه من المنكر، ولكن كان حقه أن يتعجب ولا يذكر اسمه فيسهل الشطيان عليه ذكر اسمه في إظهار تعجبه، فصار به مغتاباً وآثماً من حيث لا يدري. ومن ذلك قول الرجل: تعجبت من فلا كيف يحب جاريته وهي قبيحة? وكيف يجلس بين يدي فلان وهو جاهل?.

الثاني: الرحمة وهو أن يغتم بسبب ما يبتلي به فيقول: مسكين فلان قد غمني أمره وما ابتلي به، فيكون صادقاً في دعوى الاغتمام ويلهيه الغم عن الحذر من ذكر اسمه فيذكره فيصيره به مغتاباً فيكون غمه ورحمته خيراً، وكذا تعجبه ولكن ساقه الشيطان إلى شر من حيث لا يدري، والترحم والاغتمام ممكن دون ذكر اسمه فيهيجه الشيطان على ذكر اسمه ليبطل به ثواب اغتمامه وترحمه.

الثالث: الغضب لله تعالى فإنه قد يغضب على منكر قارفه إنسان إذا رآه أو سمعه فيظهر غضبه ويذكر اسمه، وكان الواجب أن يظهر غضبه عليه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يظهره على غيره، أو يستر اسمه ولا يذكره بالسوء، فهذه الثلاثة مما يغمض دركها على العلماء فضلاً عن العوام، فإنهم يظنون أن التعجب والرحمة والغضب إذا كان لله تعالى كان عذراً في ذكر الاسم وهو خطأ، بل المرخص في الغيبة حاجات مخصوصة لا مندوحة فيها عن ذكر الاسم -كما سيأتي ذكره- روي عن عامر بن وائلة: أن رجلاً مر على قوم في حياة رسول الله ﷺ فسلم عليهم فردوا عليه السلام، فلما جاوزهم قال رجل منهم: إني لأبغض هذا في الله تعالى فقال أهل المجلس: لبئس ما قلت والله لننبئنه، ثم قالوا: يا فلان لرجل منهم -قم فأدركه وأخبره بما قال فأدركه رسولهم فأخبره فأتى الرجل رسول الله ﷺ وحكى له ما قال وسأله أن يدعو له، فدعاه وسأله فقال: قد قلت ذلك فقال ﷺ "لم تبغضه?" فقال: أنا جاره وأنا به خابرن والله ما رأيته يصلي صلاة قط إلا هذه المكتوبة، قال: فاسأله يا رسول الله هل رآني أخرتها عن وقتها أو أسأت الوضوء لها أو الركوع أو السجود فيها? فسأله فقال لا، فقال: واللهما رأيته يصوم شهراً قط إلا هذا الشهر الذي يصومه البر والفاجر، قال: فاسأله يا رسول الله هل رآني قط أفطرت فيه أو نقصت من حقه شيئاً? فسأله عنه فقال: لا، فقال: والله ما رأيته يعطي سائلاً ولا مسكيناً قط ولا رأيته ينفق شيئاً من ماله في سبيل الله إلا هذه الزكاة التي يؤديها البر والفاجر، قال: فاسأله يا رسول الله هل رآني نقصت منها أو ماكست فيها طالبها الذي يسألها? فسأله فقال: لا، فقال ﷺ للرجل "قم فلعله خير منك .

بيان العلاج الذي يمنع اللسان عن الغيبة

اعلم أن مساوئ الأخلاق كلها إنما تعالج بمعجون العلم والعمل، وإنما علاج كل علة بمضادة سببها، فلنفحص عن سببها. وعلاج كف اللسان عن الغيبة على وجهين: أحدهما على الجملة، والآخر على التفصيل: أما على الجملة: فهو أن يعلم تعرض لسخط الله تعالى بغيبته بهذه الأخبار التي رويناها وأن يعلم أنها محبطة لحسناته يوم القيامة، فإنها تنقل حسناته يوم القيامة إلى من اغتابه بدلاً عما استباحه من عرض، فإن لم تكن له حسنات نقل إليه من سيئات خصمه، وهو مع ذلك متعرض لمقت الله عز وجل ومشبه عنده بآكل الميتة، بل العبد يدخل النار بأن تترجح كفة سيئاته على كفة حسناته وربما تنقل إليه سيئة واحدة ممن اغتابه فيحصل بها الرجحان ويدخل بها النار "وإنما أقل الدرجات أن تنقص من ثواب أعماله وذلك بعد المخاصمة والمطالبة والسؤال والجواب والحساب. قال ﷺ "ما النار في اليبس بأسرع من الغيبة في حسنات العبد وروي أن رجلاً قال للحسن: بلغني أنك تغتابني، فقال: ما بلغ من قدرك عندي أني أحكمك في حسناتي. فهما آمن العبد بما ورد من الأخبار في الغيبة لم يطلق لسانه بها خوفاً من ذلك، وينفعه أيضاً أن يتدبر في نفسه فإن وجد فيها عيباً فينبغي أن يستحي من أن يترك ذم نفسه ويذم غيره، بل ينبغي أن يتحقق أن عجز غيره عن نفسه في التنزه عن ذلك العيب كعجزه، وهذا إن كان عيباً يتعلق بفعله واختياره، وإن كان أمراً خلقياً فالذم للخالق فإن من ذم صنعة فقد ذم صانعها. قال رجل لحكيم: يا قبيح الوجه، قال: ما كان خلق وجهي إلي فأحسنه. وإذا لم يجد عيباً في نفسه فليشكر الله تعالى ولا يلوثن نفسه بأعظم العيوب، فإن ثلب الناس وأكل لحم الميتة من أعظم العيوب، بل لو أنصف لعلم أن ظنه بنفسه أنه بريء من كل عيب جهل بنفسه وهو من أعظم العيوب، وينفعه أن يعلم أن تألم غيره بغيبته كتألمه بغيبه غيره له، فإذا كان لا يرضى لنفسه أن يغتاب فينبغي أن لا يرضى لغيره ما لا يرضاه لنفسه. فهذه معالجات جملية.

أما التفصيل فهو أن ينظر في السبب الباعث له على الغيبة فإن علاج العلة بقطع سببها وقد قدمنا الأسباب.

أما الغضب فيعالجه بما سيأتي في كتاب آفات الغضب وهو أن يقول: إني إذا أمضيت غضبي عليه فلعل الله تعالى يمضي غضبه علي بسبب الغيبة إذ نهاني عنها فاجترأت على نهيه واستخففت بزجره وقد قال ﷺ "إن لجهنم باباً لا يدخل منه إلا من شفى غيظه بمعصية الله وقال ﷺ "من اتقى ربه كل لسانه ولم يشف غيظه وقال ﷺ "من كظم غظياً وهو يقدر على أن يمضيه دعاه الله تعالى يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء وفي بعض الكتب المنزلة على بعض النبيين: يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب فلا أمحقك فيمن أمحق.

وأما الموافقة فبأن تعلم أن الله تعالى يغضب عليك إذا طلب سخطه في رضا المخلوقين، فكيف ترضى لنفسك أن توقر عيرك وتحقر مولاك فتترك رضاه لرضاهم إلا أن يكون غضبك لله تعالى? وذلك لا يوجب أن نذكر المغضوب عليه بسوء بل ينبغي أن تغضب لله أيضاً على رفقائك إذا ذكروه بالسوء، فإنهم عصوا ربك بأفحش الذنوب وهي الغيبة.

وأما تنزيه النف بنسبة الغير إلى الخيانة حيث يستغنى عن ذكر الغير، فتعالجه بأن تعرف أن التعرض لمقت الخالق أشد من التعرض لمقت المخلوقين وأنت بالغيبة متعرض لسخط الله يقيناً ولا تدري أنك تتخلص من سخط الناس أم لا! فتخلص نفسك في الدنيا بالتوهم وتهلك بالآخرة وتخسر حسناتك بالحقيقة ويحصل لك ذم الله تعالى نقداً وتنتظر دفع ذم الخلق نسيئة وهذا غاية الجهل والخذلان.

وأما عذرك كقولك إن أكلت الحرام ففلان يأكله وإن قبلت مال السلطان ففلان يقبله فهذا جهل لأنك تعتذر بالاقتداء بمن لا يجوز الاقتداء به فإن من خالف أمر الله تعالى لا يقتدى به كائناً من كان ولو دخل غيرك النار وأنت تقدر على أن لا تدخلها لم توافقه ولو وافقته لسفه عقلك. ففيما ذكرته غيبة وزيادة معصية أضفتها إلى ما اعتذرت عنه وسجلت مع الجمع بين المعصيتين على جهلك وغباوتك وكنت كالشاة تنظر إلى المعزى تردى نفسها من قلة الجبل فهي أيضاً تردى نفسها، ولو كان لها لسان ناطق بالعذر وصرخت بالعذر وقالت: العنز أكيس مني وقد أهلكت نفسها فكذلك أنا أفعل، لكنت تضحك من جهلها وحالك مثل حالها ثم لا تعجب ولا تضحك من نفسك.

وأما قصدك المباهاة وتزكية النفس بزيادة الفضل بأن تقدح في غيرك فينبغي أن تعلم أنك بما ذكرته به أبطلت فضلك عند الله وأنت من اعتقاد الناس فضلك على خطر، وربما نقص اعتقادهم فيك إذا عرفوك بثلب الناس فتكون قد بعت ما عند الخالق يقيناً بما عند المخلوقين وهما، ولو حصل لك من المخلوقين اعتقاد الفضل لكانوا لا يغنون عنك من الله شيئاً.

وأما الغيبة لأجل الحسد فهو جمع بين عذابين لأنك حسدته على نعمة الدنيا وكنت في الدنيا معذباً بالحسد، فما قنعت بذلك حتى أضفت إليه عذاب الآخرة، فكنت خاسراً نفسك في الدنيا فصرت أيضاً خاسراً في الآخرة لتجمع بين النكالين، فقد قصدت محسودك فأصبت نفسك وأهديت إليه حسناتك. فإذا أنت صديقه وعدو نفسك إذ لا تضره غيبتك وتضرك، وتنفعه إذ تنقل إليه حسناتك أو تنقل إليك سيئاته ولا تنفعك وقد جمعت إلى خبث الحسد جهل الحماقة. وربما يكون حسدك وقدحك سبب انتشار فضل محسودك كما قيل: وإذا أراد الله نشر فضيلـه طويت أتاح لها لسان حسود

وأما الاستهزاء فمقصودك منه إخزاء غيرك عند الناس بإخزاء نفسك عند الله تعالى وعند الملائكة والنبيين عليهم الصلاة والسلام، فلو تفكرت في حسرتك وجنايتك وخجلتك وخزيك يوم القيامة يوم تحمل سيئات من استهزأت به وتساق إلى النار لأدهشك ذلك عن إخزاء صاحبك! ولو عرفت حالك لكنت أولى أن تضحك منك، فإنك سخرت به عند نفر قليل وعرضت نفسك لأن يأخذ يوم القيامة بيدك على ملأ من الناس ويسوقك تحت سيئاته كما يساق الحمار إلى النار، مستهزئاً بك وفرحاً بخزيك ومسروراً بنصرة الله تعالى إياه عليك وتسلطه على الانتقام منك.

وأما الرحمة له على إثمه فهو حسن، ولكن حسدك إبليس فأضلك، واستنطقك بما ينقل من حسناتك إليه ما هو أكثر من رحمتك، فيكون جبر الإثم المرحوم فيخرج عن كونه مرحومماً، وتنقلب أنت مستحقاً لأن تكون مرحوماً، إذ حبط أجرك ونقصت من حسناتك، وكذلك الغضب لله تعالى لا يوجد الغيبة، وإنما الشيطان حبب إليك الغيبة ليحبط أجر غضبك وتصير معرضاً لمقت الله عز وجل بالغيبة.

وأما التعجب إذا أخرجك إلى الغيبة فتعجب من نفسك أنت? كيف أهلكت نفسك ودينك بدين غيرك أو بدنياه وأنت مع ذلك لا تأمن من عقوبة الدنيا! وهو أن يهتك الله سترك كما هتكت بالتعجب ستر أخيك. فإذن علاج جميع ذلك المعرفة فقط والتحقق بهذه الأمور التي هي من أبواب الإيمان، فمن قوي إيمانه بجميع ذلك انكف لسانه عن الغيبة لا محالة.

بيان تحريم الغيبة بالقلب

اعلم أن سوء الظن حرام مثل سوء القول، فكما يحرم عليك أن تحدث غيرك بلسانك بمساوئ الغير فليس لك أن تحدث نفسك تسيء الظن بأخيك، ولست أعني به إلا عقد القلب وحكه على غيره بالسوء. فأما الخواطر وحديث النفس فهو معفو عنه بل الشك أيضاً معفو عنه، ولكن المنهي عنه أن يظن، والظن عبارة عما تركن إليه النفس ويميل إليه القلب. فقد قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم" وسبب تحريمه أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب، فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءاً إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل، فعند ذلك لا يمكنك إلا أن تعتقد ما علمته وشاهدته، وما لم تشاهده بعينك ولم تسمعه بأذنك ثم وقع في قلبك فإنما الشيطان يلقيه إليك، فينبغي أن تكذبه فإنه أفسق الفساق، وقد قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة" فلا يجوز تصديق إبليس، وإن كان ثم مخيلة تدل على فساد واحتمل خلافه لم يجز أن تصدق به، لأن الفاسق يتصور أن بصدق في خيره ولكن لا يجوز لك أن تصدق به، حتى إن من استنكه فوجد منه رائحة الخمر لا يجوز أن يحد، إذ يقال يمكن أن يكون قد تمضمض بالخمر ومجها وما شربها، أو حمل عليه قهراً، فكل ذلك لا محالة دلالة محتملة فلا يجوز تصديقها بالقلب وإساءة الظن بالمسلم بها، وقد قال ﷺ "إن الله حرم من المسلم دمه وماله وأن يظن به ظن السوء فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال وهو نفس مشاهدته أو بينة عادلة، فإذا لم يكن كذلك وخطر لك وسواس سوء الظن فينبغي أن تدفعه عن نفسك وتقرر عليها أن حاله عندك مستور كما كان، وأن ما رأيته منه يحتمل الخير والشر.

فإن قلت: فبماذا يعرف عقد الظن والشكوك تختلج والنفس تحدث? فتقول: أمارة عقد سوء الظن أن يتغير القلب معه عما كان فينفر عنه نفوراً ما، ويستثقله ويفتر عن مراعاته وتفقده وإكرامه والاغتنام بسببه؛ فهذه أمارات عقد الظن وتحقيقه.

وقد قال ﷺ "ثلاث في المؤمن وله منهن مخرج فمخرجه من سوء الظن أن لا يحققه أي لا يحققه في نفسه بعقد ولا فعل ولا في القلب ولا في الجوارح. أما في القلب: فبتغيره إلى النفرة والكراهة. وأما في الجوارح: فبالعمل بموجبه. والشيطان قد يقرر على القلب بأدنى مخيلة مساءة الناس، ويلقي إليه أن هذا من فطنتك وسرعة فهمك وذكائك وأن المؤمن ينظر بنور الله تعالى، وهو على التحقيق ناظر بغرور الشيطان وظلمته.

وأما إذا أخبرك به عدل فمال ظنك إلى تصديقه كنت معذرواً، لأنك لو كذبته لكنت جانياً على هذا العدل إذ ظننت به الكذب، وذلك أيضاً من سوء الظن، فلا ينبغي أن تحسن الظن بواحد وتسيء بالآخر. نعم ينبغي أن تبحث هل بينهما عداوة ومحاسدة وتعنت فتتطرق التهمة بسببه? فقد رد الشرع شهادة الأب العدل للولد للتهمة ورد شهادة العدو فلك عند ذلك أن تتوقف، وإن كان عدلاً فلا تصدقه ولا تكذبه، ولكن تقول في نفسك: المذكور حاله كان عندي في ستر الله تعالى، وكان أمره محجوباً عني وقد بقي كما كان لم ينكشف لي شيء من أمره، وقد يكون الرجل ظاهره العدالة ولا محاسدة بينه وبين المذكور، ولكن قد يكون من عادته التعرض للناس وذكر مساويهم، فهذا قد يظن أنه عدل وليس بعدل، فإن المغتاب فاسق، وإن كان ذلك من عادته ردت شهادته إلا أن الناس لكثرة الاعتياد تساهلوا في أمر الغيبة ولم يكترثوا بتناول أعراض الخلق.

ومهما خطر لك خاطر بسوء على مسلم فينبغي أن تزيد في مراعاته وتدعو له بالخير، فإن ذلك يغيظ الشيطان ويدفعه عنك فلا يلقى إليك الخاطر السوء خيفة من اشتغالك بالدعاء والمراعاة. ومهما عرفت هفوة مسلم بحجة فانصحه في السر ولا يخدعنك الشيطان فيدعوك إلى اغتيابه، وإذا وعظته فلا تعظه وأنت مسرور باطلاعك على نقصه لينظر إليك بعين التعظيم وتنظر إليه بعين الاستحقار وتترفع عليه، بإيذاء الواعظ. وليكن قصدك تخليصه من الإثم وأنت حزين، كما تحزن على نفسك إذا دخل عليلا نقصان في دينك: وينبغي أن يكون تركه لذلك من غير نصحك أحب إليك من تركه بالنصيحة. فإذا أنت فعلت ذلك كنت قد جمعت بين أجر الوعظ وأجر الغم بمصيبته وأجر الإعانة له على دينه.

ومن ثمرات سوء الظن التجسس، فإن القلب لا يقنع بالظن ويطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس وهو أيضاً منهي عنه، قال الله تعالى "ولا تجسسوا" فالغيبة وسوء الظن والتجسس منهي عنه في آية واحدة. ومعنى التجسس أن لا يترك عباد الله تحت ستر الله، فيتوصل إلا الإطلاع وهتك الستر حتى ينكشف له ما لو كان مستوراً عنه كان أسلم لقلبه ودينه. وقد ذكرنا في كتاب الأمر بالمعروف حكم التجسس وحقيقته.

بيان الأعذار المرخصة في الغيبة

اعلم أن المرخص في ذكر مساوئ الغير هو غرض صحيح في الشرع لا يمكن التوصل إليه إلا به فيدفع ذلك إثم الغيبة وهي ستة أمور: الأول: التظلم فإن من ذكر قاضياً بالظلم والخيانة وأخذ الرشوة كان مغتاباً عاصياً إن لم يكن مظلوماً. أما المظلوم من جهة القاضي فله أن يتظلم إلى السلطان وينسبه إلى الظلم إذ لا يمكنه استيفاء حقه إلا به قال ﷺ "إن لصاحب الحق مقالاً وقال عليه السلام "مطل الغنى ظلم وقال عليه السلام "لي الواجد يحل عقوبته وعرضه .

الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى منهج الصلاح، كما روي أن عمر رضي الله عنه مر على عثمان -وقيل على طلحة- رضي الله عنه فسلم عليه فلم يرد السلام. فذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه فذكر له ذلك، فجاء أبو بكر إليه ليصلح ذلك ولم يكن ذلك غيبة عندهم. وكذلك لما بلغ عمر رضي الله عنه أن أبا جندل قا عاقر الخمر بالشام كتب إليه "بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب" الآية فتاب، ولم ير ذلك عمر ممن أبلغه غيبة، إذ كان قصده أن ينكر عليه ذلك فينفعه نصحه ما لا ينفعه نصح غيره، وإنما إباحة هذا بالقصد الصحيح فإن لم يكن ذلك هو المقصود كان حراماً.

الثالث: الاستفتاء كما يقول المفتي؛ ظلمتي أبي أو زوجتي أو أخي فكيف طريق في الخلاص? والأسلم التعريض بأن يقول: ما قولك في رجل ظلمه أبوه أو أخوه أو زوجته? ولكن التعيين مباح بهذا القدر لما روي عن هند بنت عتبة أنها قالت للنبي ﷺ "إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي أفآخذ من غير علمه فقال "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف فذكرت الشح والظلم لها ولولدها ولم يزجرها ﷺ إذ كان قصدها الاستفتاء.

الرابع: تحذير المسلم من الشر، فإذا رأيت فقيهاً يتردد إلى مبتدع أو فاسق وخفت أن تتعدى إليه بدعته وفسقه فلك أن تكشف له بدعته وفسقه، مهما كان الباعث لك الخوف عليه من سراية البدعة والفسق لا غيره، وذلك موضع الغرور إذ قد يكون الحسد هو الباعث ويلبس الشيطان ذلك بإظهار الشفقة على الخلق، وكذلك من اشترى مملوكاً وقد عرفت المملوك بالسرقة أو بالفسق أو بعيب آخر فلك أن تذكر ذلك، فإن سكوتك ضرر المشترى وفي ذكرك ضرر العبد، والمشترى أولى بمراعاة جانبه. وكذلك المزكي إذا سئل عن الشاهد فله الطعن فيه إن علم مطعناً، وكذلك المستشار في التزويج وإيداع الأمانة له أن يذكر ما يعرفه على قصد النصح للمستشير لا على قصد الوقيعة: فإن علم أن يترك التزويج بمجرد قوله: لا تصلح لك، فهو الواجب وفيه الكفاية وإن علم أنه لا ينزجر إلا بالتصريح بعيبه فله أن يصرح به، إذ قال رسول الله ﷺ "أترعوون عن ذكر الفاجر اهتكوه حتى يعرفه الناس اذكروه بما فيه حتى يحذره الناس وكانوا يقولون ثلاثة لا غيبة لهم: الإمام الجائر والمبتدع والمجاهر بفسقه.

الخامس: أن يكون الإنسان معروفاً بلقب يعرب عن عيبه كالأعرج والأعمش، فلا إثم على من يقول روى أبو الزناد عن الأعرج، وسلمان عن الأعمش، وما يجري مجراه فقد فعل العلماء ذلك لضرورة التعريف، ولأن ذلك قد صار بحيث لا يكرهه صاحبه لو علمه بعد أن صار مشهوراً به. نعم إن وجد عنه معدلاً وأمكنه التعريف بعبارة أخرى فهو أولى، ولذلك يقال للأعمى: البصير، عدولاً عن اسم النقص.

السادس: أن يكون مجاهراً بالفسق كالمخنث وصاحب الماخور والمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس، وكان ممن يتظاهر به بحيث لا يستنكف. من أن يذكر له ولا يكره أن يذكر به، فإذا ذكرت فيه ما يتظاهر به فلا إثم عليك قال رسول الله ﷺ " من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له وقال عمر رضي الله عنه ليس لفاجر حرمة وأراد به المجاهر بفسقه دون المستتر إذ المستتر لا بد من مراعاة حرمته. وقال الصلت بن طريف: قلت للحسن: الرجل الفاسق المعلن بفجوره ذكرى له بما فيه غيبة له? قال: لا ولا كرامة. وقال الحسن: ثلاثة لا غيبة لهم؛ صاحب الهوى والفاسق المعلن بفسقه والإمام الجائر فهؤلاء الثلاثة بجمعهم أنهم يتظاهرون به وربما يتفاخرون به، فكيف يكرهون ذلك وهم يقصدون إظهاره? نعم لو ذكره بغير ما يتظاهر به إثم. وقال عوف: دخلت على ابن سيرين فتناولت عنده الحجاج فقال: إن الله حكم عدل، ينتقم للحجاج ممن اغتابه من الحجاج لمن ظلمه، وإنك إذا لقيت الله تعالى غداً كان أصغر ذنب أصبته أشد عليك من أعظم ذنب أصابه الحجاج.

بيان كفارة الغيبة

اعلم أن الواجب على المغتاب أن يندم ويتوب ويتأسف على ما فعله ليخرج به من حق الله سبحانه، ثم يستحل المغتاب ليحله فيخرج من مظلمته! وينبغي أن يستحله وهو حزين متأسف نادم على فعله? إذ المرائي قد يستحل ليظهر من نفسه الورع وفي الباطن لا يكون نادماً، فيكون قد قارف معصية أخرى وقال الحسن. يكفيه الاستغفار دون الاستحلال. وربما استدل في ذلك بما روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ، كفارة من اغتبته أن تستغفر له وقال مجاهد كفارة أكلك لحم أخيك: أن تثني عليه وتدعو له بخير. وسئل عطاء بن أبي رباح عن التوبة من الغيبة قال: أن تمشي إلى صاحبك فتقول له؛ كذبت فيما قلت وظلمتك وأسأت فإن شئت أخذت بحقك وإن شئت عفوت، وهذا هو الأصح، وقول القائل: العرض لا عوض له فلا يجب الاستحلال منه بخلاف المال كلام ضعيف، إذ قد وجب في العرض حد القذف وتثبت المطالبة به. بل في الحديث الصحيح ما روي أنه ﷺ قال "من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليستحللها منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم، إنما يؤخذ من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فزيدت على سيئاته وقالت عائشة رضي الله عنها لامرأة قالت لأخرى أنها طويلة الذيل: قد اغتبتيها فاستحليها. فإذن لا بد من الاستحلال إن قدر عليه، فإن كان غائباً أو ميتاً فينبغي أن يكثر له الاستغفار والدعاء ويكثر من الحسنات.

فإن قلت: فالتحليل هل يجب? فأقول: لا، لأنه تبرع والتبرع فضل، وليس بواجب ولكنه مستحسن وسبيل المعتذر أن يبالغ في الثناء عليه والتودد إليه ويلازم ذلك حتى يطيب قلبه، فإن لم يطب قلبه كان اعتذاره وتودده حسنة محسوبة له يقابل بها سيئة الغيبة في القيامة.

وكان بعض السلف لا يحلل. قال سعيد بن المسيب: لا أحلل من ظلمني. وقال ابن سيرين: إني لم أحرمها عليه فأحللها له عن الله حرم الغيبة عليه وما كنت لأحلل ما حرم الله أبداً.

فإن قلت: فما معنى قول النبي ﷺ ينبغي أن يستحلها وتحليل ما حرمه الله تعالى غير ممكن? فنقول: المراد به العفو عن المظلمة لا أن ينقلب الحرام حلالاً، وما قاله ابن سيرين حسن في التحليل قبل الغيبة فإنه لا يجوز له أن يحلل لغيره الغيبة.

فإن قلت: فما معنى قول النبي ﷺ "أيعجز أحدكم أن يكون كابي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال اللهم إني قد تصدقت بعرضي على الناس فكيف يتصدق بالعرض ومن تصدق به فهل يباح تناوله فإن كان لا تنفيذ صدقته فما معنى الحث عليه? فنقول: معناه أني لا أطلب مظلمة في القيامة منه ولا أخاصمه، وإلا فلا تصير الغيبة حلالاً به ولا تسقط المظلمة عنه، لأنه عفو قبل الوجوب إلا أنه وعد، وله العزم على الوفاء بأن لا يخاصم، فإن رجع وخاصم كان القياس كسائر الحقوق أن له ذلك. بل صرح الفقهاء أن من أباح القذف لم يسقط حقه من حد القاذف، ومظلمة الآخرة مثل مظلمة الدنيا، وعلى الجملة فالعفو أفضل.

قال الحسن إذا جثت الأمم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة نودوا ليقم من كان له أجر على الله فلا يقوم إلا العافون عن الناس في الدنيا. وقد قال الله تعالى "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" فقال النبي ﷺ "يا جبريل ما هذا العفو?، قال: إن الله تعالى يأمرك أن تعفو عمن ظلمك وتصل من قطعك وتعطي من حرمك . وروي عن الحسن أن رجلاً قال له: إن فلاناً قد اغتباك فبعث إليه رطباً على طبق وقال: قد بلغني أنك أهديت إلي من حسناتك فأردت أن أكافئك عليها فاعذرني فإني لا أقدر أن أكافئك على التمام.

الآفة السادسة عشرة

النميمة

قال الله تعالى "هماز مشاء بنميم" ثم قال "عتل بعد ذلك زنيم" قال عبد الله بن المبارك: الزنيم ولد الزنا الذي لا يكتم الحديث، وأشار به إلى أن كل من لم يكتم الحديث ومشى بالنميمة دل على أنه ولد زنا استنباطاً من قوله عز وجل "عتل بعد ذلك زنيم" والزنيم هو الدعى وقال تعالى "ويل لكل همزة لمزة" قيل الهمزة: النمام، وقال تعالى "حمالة الحطب" قيل إنها كانت نمامة حمالة للحديث وقال تعالى "فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً" قيل كانت امرأة لوط تخبر بالضيفان وامرأة نوح تخبر أنه مجنون وقد قال ﷺ "لا يدخل الجنة نمام وفي حديث آخر "لا يدخل الجنة قتات" والقتات هو النمام وقال أبو هريرة قال رسول الله ﷺ "أحبكم إلى الله أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون، وإن أبغضكم إلى الله المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الإخوان، الملتمسون للبرءاء العثرات وقال ﷺ "ألا أخبركم بشراركم" قالوا: بلى، قال "المشاءون بالنميمة المفسدون بين الأحبة الباغون للبرءاء العيب وقال أبو ذر: قال رسول الله ﷺ "من أشاع على مسلم كلمة ليشينه بها بغير حق شانه الله بها في النار يوم القيامة وقال أبو الدرداء: قال رسول الله ﷺ "أيما رجل أشاع على رجل كلمة وهو منها بريء ليشينه بها في الدنيا كان حقاً على الله أن يذيبه بها يوم القيامة في النار وقال أبو هريرة: قال رسول الله ﷺ "من شهد على مسلم بشهادة ليس لها بأهل فليتبوأ مقعده من النار ويقال: إن ثلث عذاب القبر من النميمة. وعن ابن عمر عن النبي ﷺ "إن الله لما خلق الجنة قال لها تكلمي فقالت سعد من دخلني فقال الجبار جل جلاله وعزتي وجلالي لا يسكن فيك ثمانية نفر من الناس، لا يسكنك مدمن خمر ولا مصر على الزنا ولا قتات وهو النمام ولا ديوث ولا شرطي ولا مخنث ولا قاطع رحم ولا الذي يقول على عهد الله إن لم أفعل كذا وكذا لم يف به وروى كعب الأحبار أن بني إسرائيل أصابهم قحط فاستسقى موسى عليه السلام مرات فما سقوا فأوحى الله تعالى إليه: إني لا أستجيب لك ولمن معك وفيكم نمام قد أصر على النميمة. فقال موسى: يا رب من هو? دلني عليه حتى أخرجه من بيننا. قال: يا موسى أنهاكم عن النميمة وأكون نماماً، فتابوا جميعاً فسقوا. ويقال اتبع رجل حكيماً سبعمائة فرسخ في سبع كلمات فلما قدم عليه قال: إني جئتك للذي آتاك الله تعالى من العلم أخبرني عن السماء وما أثقل منها? وعن الأرض وما أوسع منها? وعن الصخر وما أقسى منه? وعن النار وما أحر منها? وعن الزمهرير وما أبرد منه? وعن البحر وما أغنى منه? وعن اليتيم وما أذل منه? فقال له الحكيم: البهتان على البريء أثقل من السموات، والحق أوسع من الأرض، والقلب القانع أغنى من البحر، والحرص والحسد أحر من النار، والحاجة إلى القريب إذا لم تنجح أبرد من الزمهرير، وقلب الكافر أقسى من الحجر، والنمام إذا بان أمره أذل من اليتيم.

بيان حد النميمة وما يجب في ردها

اعلم أن اسم النميمية إنما يطلق في الأكثر على من ينم قول الغير إلى المقول فيه، كما تقول فلان كان يتكلم فيك بكذا وكذا، وليست النميمة مختصة به. بل حدها كشف ما يكره كشفه، سواء كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه، أو كرهه ثالث. وسواء كان ذلك عيباً ونقصاً في المنقول عنه أو لم يكن بل حقيقة النميمة إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه، بل كل ما رآه الإنسان من أحوال الناس مما يكره فينبغي أن يسكت عنه إلا ما في حكايته فائدة لمسلم أو دفع لمعصية، كما إذا رأى من يتناول مال غيره فعليه أن يشهد به مراعاة لحق المشهود له، فأما إذا رآه يخفي مالاً لنفسه فذكره هو نميمة وإفشاء للسر، فإن كان ما ينم به نقصاً وعيباً في المحكي عنه كان قد جمع بين الغيبة والنميمة. فالباعث على النميمة إما إرادة السوء للمحكي عنه أو إظهار الحب للمحكي له، أو التفرج بالحديث والخوض في الفضول والباطل.

وكل من حملت إليه النميمة وقيل له إن فلاناً قال فيك كذا وكذا أو فعل في حقك كذا أو هو يدبر في إفساد أمرك أو في ممالأة عدوك أو تقبيح حالك أو ما يجري مجراه فعليه ستة أمور، الأول: أن لا يصدقه لأن النمام فاسق وهو مردود الشهادة قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة" الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصح له ويقبح عليه فعله قال الله تعالى "وأمر بالمعروف وانه عن المنكر" الثالث: أن يبغضه في الله تعالى فإنه بغيض عند الله تعالى ويجب بغض من يبغضه الله تعالى. والرابع: أن لا تظن بأخيك الغائب السوء لقول الله تعالى "اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم" الخامس: أن لا يحملك ما حكى لك على التجسس والبحث لتحقق، اتباعاً لقول الله تعالى "ولا تجسسوا" السادس: أن لا ترضى لنفسك ما نهيت النمام عنه ولا تحكي نميمته فتقول فلان قد حكى لي كذا وكذا، فتكون به نماماً ومغتاباً وقد تكون قد أتيت ما عنه نهيت. وقد روي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه دخل عليه رجل فذكر له عن رجل شيئاً فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك فإن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية "إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا" وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية "هماز مشاء بنميم" وإن شئت عفونا عنك? فقال: العفو يا أمير المؤمنين لا أعود إليه أبداً. وذكر أن حكيماً من الحكماء زاره بعض إخوانه فأخبره بخبر عن بعض أصدقائه فقال له الحكيم: قد أبطأت في الزيارة وأتيت بثلاث جنايات، بغضت أخي إلي، وشغلت قلبي الفارغ، واتهمت نفسك الأمينة. وروي أن سليمان بن عبد الملك كان جالساً وعنده الزهري فجاءه رجل فقال له سليمان: بلغني أنك وقعت في وقلت كذا وكذا، فقال الرجل: ما فعلت ولا قلت? فقال سليمان: إن الذي أخبرني صادق، فقال له الزهري: لا يكون النمام صادقاً، فقال سليمان: صدقت، ثم قال للرجل: اذهب بسلام.

وقال الحسن من نم إليك نم عليك. وهذه إشارة إلى أن النمام ينبغي أن يبغض ولا يوثق بقوله ولا بصداقته. وكيف لا يبغض وهو لا ينفك عن الكذب والغيبة والغدر والخيانة والغل والحسد والنفاق والإفساد بين الناس والخديعة وهو ممن يسعون في قطع ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض? وقال تعالى "إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق" والنمام منهم. وقال ﷺ "إن من شرار الناس من اتقاه الناس لشره والنمام منهم. وقال "لا يدخل الجنة قاطع" قيل وما القاطع? قال "قاطع بين الناس وهو النمام وقيل قاطع الرحم.

وروي عن علي رضي الله عنه أن رجلاً سعى إليه برجل فقال له: يا هذا نحن نسأل عما قلت فإن كنت صادقاً مقتناك وإن كنت كاذباً عاقبناك وإن شئت نقيلك أقلناك، فقال: أقلني يا أمير المؤمنين. وقيل لمحمد بن كعب القرظي أي خصال المؤمن أوضع له? فقال: كثرة الكلام وإفشاء السر وقبول قول كل أحد. وقال رجل لعبد الله ابن عامر -وكان أميراً- بلغني أن فلاناً أعلم الأمير أني ذكرته بسوء، قال: قد كان ذلك، قال: فأخبرني بما قال لك حتى أظهر كذبه عندك? قال: ما أحب أن أشتم نفسي بلساني وحسبي أني لم أصدقه فيما قال ولا أقطع عنك الوصال.

وذكرت السعاية عند بعض الصالحين فقال: ما ظنكم بقوم يحمد الصدق من كل طائفة من الناس إلا منهم? وقال مصعب بن الزبير: نحن نرى أن قبول السعاية شر من السعاية لأن السعاية دلالة والقبول إجازة، وليس من دل على شيء فأخبر به كمن قبله وأجازه، فاتقوا الساعي فلو كان صادقاً في قوله لكان لئيماً في صدقه حيث لم يحفظ الحرمة ولم يستر العورة. والسعاية هي النميمة إلا أنها إذا كانت إلى من يخاف جانبه سميت سعاية وقد قال ﷺ "الساعي بالناس إلى الناس لغيرة رشدة يعني ليس بولد حلال. ودخل رجل على سليمان بن عبد الملك فاستأذنه في الكلام وقال: إني مكلمك يا أمير المؤمنين بكلام فاحتمله إن كرهته فإن وراءه ما تحب إن قبلته، فقال: قل، فقال: يا أمير المؤمنين إنه قد اكتنفك رجال ابتاعوا دنياك بدينهم ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه ولا تصح إليهم فيما استحفظك الله إياه فإنهم لن يألوا في الأمة خسفاً وفي الأمانة تضييعاً والأعراض قطعاً وانتهاكاً، أعلى قربهم البغي والنميمة، وأجل وسائلهم الغيبة والوقيعة وأنت مسؤول عما أجرموا وليسوا المسؤولين عما أجرمت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك فإن أعظم الناس غبناً من باع آخرته بدنيا غيره. وسعى رجل بزياد الأعجم إلى سليمان بن عبد الملك فجمع بينهما للموافقة فأقبل زيادة على الرجل وقال: فأنت امرؤ إما ائتمنتك خالـياً فخنت وإما قلت قولاً بلا علم

فأنت من الأمر الذي كان بيننا بمنزلة بين الخـيانة والإثـم

وقال رجل لعمرو بن عبيد: إن الأسواري ما يزال يذكرك في قصصه بشر، فقال له عمرو: يا هذا ما رعيت حق مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أديت حقي حين أعلمتني عن أخي ما أكره ولكن أعمله أن الموت يعمنا والقبر يضمنا والقيامة تجمعنا والله تعالى يحكم بيننا وهو خير الحاكمين. ورفع بعض السعاة إلى الصاحب بن عباد رقعة نبه فيها على مال يتيم يجمله على أخذه لكثرته، فوقع على ظهرها: السعاية قبيحة وإن كانت صحيحة، فإن كنت أجريتها مجرى النصح فخسرانك فيها افضل من الربح، ومعاذ الله أن نقبل مهتوكاً في مستور، ولولا أنك في خفارة شيبتك لقابلناك بما يقتضيه فعلك في مثلك، فتوق يا ملعون العيب فإن الله أعلم بالغيب، الميت رحمه الله، واليتيم جبره الله، والمال ثمره الله، والساعي لعنه الله. وقال لقمان لابنه: يا بني أوصيك بخلال إن تمسكت بهن لم تزل سيداً ابسط خلقك للقريب والبعيد. وأمسك جهلك عن الكريم واللئيم، واحفظ إخوانك وصل أقاربك وآمنهم من قبول قول ساع أو سماع باغ يريد فسادك ويروم خداعك، وليكن إخوانك من إذا فارقتهم وفارقوك لم تعبهم ولم يعيبوك. وقال بعضهم: النميمة مبنية على الكذب والحسد والنفاق وهي أثافي الذل. وقال بعضهم: لو صح ما نقله النمام إليك لكان المجترئ بالشتم عليك، والمنقول عنه أولى بحلمك لأنه لم يقابلك بشتمك.

وعلى الجملة فشر النمام عظيم ينبغي أن يتوقى. قال حماد بن سلمة: باع رجل عبداً وقال للمشتري؛ ما فيه عيب إلا النميمة، قال: رضيت، فاشتراه، فمكث الغلام أياماً ثم قال زوجة مولاه: إن سيدي لا يحبك وهو يريد أن يتسرى عليك، فخذي المؤسى واحلقي من شعر قفاه عند نومه شعرات حتى أسحره عليها فيحبك، ثم قال للزوج: إن امرأتك اتخذت خليلاً وتريد أن تقتلك، فتناوم لهام حتى تعرف ذلك، فتناوم لها فجاءت المرأى بالموسى فظن أنها تريد قتله فقام إليها فقتلها. فجاء أهل المرأة فقتلوا الزوج، ووقع القتال بين القبيلتين. فنسأل الله حسن التوفيق.

الآفة السابعة عشرة

كلام ذي اللسانين الذي يتردد بين المتعاديين

ويكلم كل واحد منهما بكلام يوافقه، وقلما يخلو عنه من يشاهد متعاديين وذلك عين النفاق.

قال عمار بن ياسر: قال رسول الله ﷺ "من كان له وجهان في الدنيا كان له لسانان من نار يوم القيامة وقال أبو هريرة: قال رسول الله ﷺ "تجدون من شر عباد الله يوم القيامة ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بحديث وهؤلاء بحديث وفي لفظ آخر "الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه" وقال أبو هريرة: لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أميناً عند الله. وقال مالك بن دينار: قرأت في التوارة بطلب الأمانة والرجل مع صاحبه بشفتين مختلفتين يهلك الله تعالى يوم القيامة كل شفتين مختلفتين. وقال ﷺ "أبغض خليقة الله إلى الله يوم القيامة الكذابون والمستكبرون والذين يكثرون البغضاء لإخوانهم في صدورهم فإذا لقوهم تملقوا لهم والذين إذا دعوا إلى الله ورسوله كانوا بكاء وإذا دعوا إلى الشيطان وأمره كانوا سراعاً وقال ابن مسعود: لا يكونن أحدكم إمعة، قالوا: وما الإمعة? قال الذي يجري مع كل ريح. واتفقوا على أن ملاقاة الاثنين بوجهين نفاق، وللنفاق علامات كثيرة وهذه من جملتها.

وقد روي أن رجلاً من أصحاب رسول الله ﷺ مات فلم يصل عليه حذيفة فقال له عمر: يموت رجل من أصحاب رسول الله ﷺ ولم تصل عليه? فقال: يا أمير المؤمنين إنهم منهم، فقال: نشدتك الله أنا منهم أم لا? قال: اللهم لا ولا أؤمن منها أحداً بعدك.

فإن قلت: بماذا يصير الرجل ذا لسانين وما حد ذلك? فأقول: إذا دخل على متعاديين وجامل كل واحد منهما وكان صادقاً فيه لم يكن منافقاً ولا ذا لسانين، فإن الواحد قد يصادق متعاديين ولكن صداقة ضعيفة لا تنتهي إلى حد الأخوة، إذ لو تحققت الصداقة لاقتضت معاداة الأعداء -كما ذكرنا في كتاب آداب الصحبة والأخوة- نعم لو نقل كلام كل واحد منهما إلى الآخر فهو ذو لسانين وهو شر من النميمة، إذ يصير نماماً بأن ينقل من أحد الجانبين فقط فإذا نقل من الجانبين فهو شر من النمام، وإن لم ينقل كلاماً ولكن حسن لكل واحد منهما ما هو عليه من المعاداة مع صاحبه فهذا ذو لسانين، وكذلك إذا وعد كل واحد منهما بأن ينصره، وكذلك إذا أثنى على واحد منهما في معاداته. وكذلك إذا أثنى على أحدهما وكان إذا خرج من عنده يذمه فهو ذو لسانين. بل ينبغي أن يسكت أو يثني على المحق من المتعاديين. ويثني عليه في غيبته وفي حضوره وبين يدي عدوه.

قيل لابن عمر رضي الله عنهما: إنا ندخل على أمرائنا فنقول القول فإذا خرجنا قلنا غيره فقال: كنا نعد هذا نفاقاً في عهد رسول الله ﷺ وهذا نفاق مهما كان مستغنياً عن الدخول على الأمير وعن الثناء عليه، فلو استغنى عن الدخول لو قنع بالقليل وترك المال والجاه فدخل لضرورة الجاه والغنى وأثنى فهو منافق. وهذا معنى قوله ﷺ "حب المال والجاه ينبتان النفاق في القبل كما ينبت الماء البقل لأنه يحوج إلى الأمراء وإلى مراعاتهم ومراءاتهم. فأما إذا ابتلى به لضرورة وخاف إن لم يثن فهو معذور، فإن اتقاء الشر جائز. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم وقالت عائشة رضي الله عنها: استأذن رجل على رسول الله ﷺ فقال "ائذنوا له فبئس رجل العشيرة هو" ثم لما دخل ألان له القول، فلما خرج قلت: يا رسول الله قلت فيه ما قلت ثم ألنت له القول، فقال "يا عائشة إن شر الناس الذي يكرم اتقاء شره ولكن هذا ورد في الإقبال وفي الكشر والتبسم: فأما الثناء فهو كذب صراح ولا يجوز إلا لضرورة أو إكراه يباح الكذب بمثله -كما ذكرنا في آفة الكذب- بل لا يجوز الثناء ولا التصديق ولا تحريك الرأس في معرض التقرير على كلام باطل، فإن فعل ذلك فهو منافق، بل ينبغي أن ينكر، فإن لم يقدر فيسكت بلسانه في معرض التقرير على كل كلام باطل، فإن فعل ذلك فهو منافق، بل ينبغي أن ينكر، فإن لم يقدر فيسكت بلسانه وينكر بقلبه.

الآفة الثامنة عشرة

المدح

وهو منهي عنه في بعض المواضع. أما الذم فهو الغيبة والوقيعة وقد ذكرنا حكمها. والمدح يدخله ست آفات: أربع في المادح، واثنتان في الممدوح.

فأما المادح، فالأولى: أنه قد يفرط فينتهي به إلى الكذب. قال خالد بن معدان: من مدح إماماً أو أحداً بما ليس فيه على رؤوس الأشهاد بعثه الله يوم القيامة يتعثر بلسانه.

والثانية: أنه قد يدخله الرياء فإنه بالمدح مظهر للحب، وقد لا يكون مضمراً له ولا معتقداً لجميع ما يقوله فيصير به مرائياً منافقاً.

الثالثة: أنه قد يقول ما لا يتحققه ولا سبيل له إلى الإطلاع عليه، وروي أن رجلاً مدح رجلاً عند النبي ﷺ فقال له عليه السلام "ويحك قطعت عنق صاحبك لو سمعها ما أفلح" ثم قال "إن كان أحدكم لا بد مادحاً أخاه فليقل أحسب فلاناً ولا أزكى على الله أحداً حسيبه الله إن كان يرى أنه كذلك وهذه الآفة تتطرق إلى المدح بالأوصاف المطلقة التي تعرف بالأدلة كقولة إنه متق وورع وزاهد وخير وما يجري مجراه، فأما إذا قال رأيته يصلي بالليل ويتصدق ويحج فهذه أمور مستيقنة. ومن ذلك قوله إنه عدل رضا فإن ذلك خفي فلا ينبغي أن يجزم القول فيه إلا بعد خبرة باطنة. سمع عمر رضي الله عنه رجلاً يثني على رجل فقال: أسافرت معه? قال: لا، قال: أخالطته في المبايعة والمعاملة? قال: لا. قال: فأنت جاره صباحه ومساءه? قال: لا. فقال: والله الذي لا إله إلا هو لا أراك تعرفه.

الرابعة: أنه قد يفرح الممدوح وهو ظالم أو فاسق وذلك غير جائز قال رسول الله ﷺ "إن الله تعالى يغضب إذا مدح الفاسق وقال الحسن: من دعا لظالم بطول البقاء فقد أحب أن يعصي الله تعالى في أرضه، والظالم الفاسق ينبغي أن يذم ليغتم ولا يمدح ليفرح.

وأما الممدوح فيضره من وجهين؛ أحدهما: أنه يحدث فيه كبراً وإعجاباً وهما مهلكان. قال الحسن رضي الله عنه كان عمر رضي الله عنه جالساً ومعه الدرة والناس حوله إذ أقبل الجارود بن المنذر، فقال رجل: هذا سيد ربيعة، فسمعها عمر ومن حوله وسمعها الجارود، فلما دنا منه خفقه بالدرة فقال: ما لي ولك يا أمير المؤمنين? قال: ما لي ولك أما سمعتها? قال: سمعتها فمه، قال: خشيت أن يخالط قلبك منها شيء فأحببت أن أطأطئ منك.

الثاني: هو أنه إذا أنثى عليه بالخير فرح به وفتر ورضي عن نفسه ومن أعجب بنفسه قل تشمره وإنما يتشمر للعمل من يرى نفسه مقصراً. فأما إذا انطلقت الألسن بالثناء عليه ظن أنه قد أدرك ولهذا قال عليه السلام "قطعت عنق صاحبك لو سمعها ما أفلح" وقال ﷺ "إذا مدحت أخاك في وجهه فكأنما أمررت على حلقه موسى وميضاً وقال أيضاً لمن مدح رجلاً "عقرت الرجل عقرك الله وقال مطرف: ما سمعت قط ثناء ولا مدحة إلا تصاغرت إلى نفسي. وقال زياد بن أبي مسلم: ليس أحد يسمع ثناء عليه أو مدحة إلا تراءى له الشطيان، ولكن المؤمن يراجع، فقال ابن المبارك: لقد صدق كلاهما أما ما ذكره زياد فذلك قلب العوام، وأما ما ذكره مطرف فذلك قلب الخواص. وقال ﷺ "لو مشى رجل إلى رجل بسكين مرهف كان خيراً له من أن يثني عليه في وجهه وقال عمر رضي الله عنه: المدح هو الذبح. وذلك لأن المذبوح هو الذي يفتر عن العمل والمدح يوجب الفتور، أو لأن المدح يورث العجب والكبر وهما مهلكان كالذبح؛ لذلك شبهه به. فإن سلم المدح من هذه الآفات في حق المادح والممدوح لم يكن به بأس بل ربما كان مندوباً غليه. ولذلك أثنى رسول الله ﷺ على الصحابة فقال "لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالم لرجح وقال في عمر "لو لم أبعث لبعثت يا عمر وأي ثناء يزيد على هذا? ولكنه ﷺ قال عن صدق وبصيرة. وكانوا رضي الله عنهم أجل رتبة من أن يورثهم ذلك كبراً وعجباً وفتوراً. بل مدح الرجل نفسه قبيح لما فيه من الكبر والتفاخر إذ قال ﷺ "أنا سيد ولد آدم ولا فخر أي لست أقول هذا تفاخراً كما يقصد الناس بالثناء على أنفسهم. وذلك لأن افتخاره ﷺ كان بالله وبالقرب من الله لا بولد آدم وتقدمه عليه؛ كما أن المقبول عند الملك قبولاً عظيماً إنما يفتخر بقبوله إياه وبه يفرح لا بتقدمهعلى بعض رعاياه. وبتفصيل هذه الآفات تقدر على جمع بين ذم المدح وبين الحث عليه قال ﷺ "وجبت لما أثنوا على بعض الموتى. وقال مجاهد: إن لبني آدم جلساء من الملائكة فإذا ذكر الرجل المسلم أخاه المسلم بخير قالت الملائكة: ولك بمثله، وإذا ذكره بسوء قالت الملائكة: يا ابن آدم المستور عورتك أربع على نفسك واحم الله الذي ستر عورتك. فهذه آفات المدح.

بيان ما على الممدوح

اعلم أن على الممدوح أن يكون شديد الاحتراز عن آفة الكبر والعجب وآفة الفتور، ولا ينجو منه إلا بأن يعرف نفسه ويتأمل ما في خطر الخاتمة ودقائق الرياء وآفات الأعمال، فإنه يعرف من نفسه ما لا يعرفه المادح ولو انكشف له جميع أسراره وما يجري على خواطره لكف المادح عن مدحه وعليه أن يظهر كراهة المدح بإذلال المادح. قال ﷺ "احثوا التراب في وجوه المادحين وقال سفيان بن عيينة: لا يضر المدح من عرف نفسه. وأثنى على رجل من الصالحين فقال: اللهم إن هؤلاء لا يعرفوني وأنت تعرفني. وقال آخر لما أثنى عليه: اللهم إن عبدك هذا تقرب إلي بمقتك وأنا أشهدك على مقته. وقال علي رضي الله عنه لما أثنى عليه: اللهم اغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون واجعلني خيراً مما يظنون. وأثنى رجل على عمر رضي الله عنه فقال: أتهلكني وتهلك نفسك? وأثنى رجل على علي كرم الله وجهه في وجهه -وكان قد بلغه أنه يقع فيه- فقال: أنا دون ما قلت وفوق ما في نفسك.

الآفة التاسعة عشر

الغفلة عن دقائق الخطأ في فحوى الكلام

لا سيما فيما يتعلق بالله وصفاته

ويرتبط بأمور الدين فلا يقدر على تقويم اللفظ في أمور الدين إلا العلماء الفصحاء، فمن قصر في علم أو فصاحة لم يخل كلامه عن الزلل لكن الله تعالى يعفو عنه لجهله. مثاله: ما قال حذيفة: قال النبي ﷺ "لا يقل أحدكم ما شاء الله وشئت ولكن ليقل ما شاء الله ثم شئت وذلك لأن في العطف المطلق تشريكاً وتسوية وهو على خلاف الاحترام. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ يكلمه في بعض الأمر فقال ما شاء الله وشئت، فقال ﷺ "أجعلتني لله عديلاً بل ما شاء الله وحده . وخطب رجل عند رسول الله ﷺ فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال "قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوى فكره رسول الله ﷺ قوله: ومن يعصهما، لأنه تسوية وجمع. وكان إبراهيم يكره أن يقول الرجل: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: أعوذ بالله ثم بك. وأن يقول: لولا الله ثم فلان? ولا يقول: لولا الله وفلان? وكره بعضهم أن يقال: اللهم أعتقنا من النار، وكان يقول: العتق يكون بعد الورود. وكانوا يستجيرون من النار ويتعوذون من النار. وقال رجل: اللهم اجعلني ممن تصيبه شفاعة محمد ﷺ فقال حذيفة: إن الله يغني المؤمنين عن شفاعة محمد وتكون شفاعته للمذنبين من المسلمين. وقال إبراهيم: إذا قال الرجل للرجل يا حمار يا خنزير! قيل له يوم القيامة، حماراً رأيتني خلقته خنزيراً رأيتني خلقته؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن أحدكم ليشرك حتى يشرك بكلبه، فيقول: لولاه لسرقنا الليلة. وقال عمر رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ "إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت قال عمر رضي الله عنه: فوالله ما حلفت بها منذ سمعتها: وقال ﷺ "لا تسموا العنب كرماً إنما الكرم الرجل المسلم4" وقال أبو هريرة: قال رسول الله ﷺ "لا يقولن أحدكم عبدي ولا أمتي كلكم عبيد الله وكل نسائكم إماء الله وليقل غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي، ولا يقول المملوك ربي ولا ربتي وليق سيدي وسيدتي فكلكم عبيد الله الرب الله سبحانه وتعالى" وقال ﷺ "لا تقولوا للفاسق سيدنا فإنه إن يكن سيدكم فقد أسخطتم ربكم وقال ﷺ "من قال أنا بريء من الإسلام فإن كان صادقاً فهو كما قال وإن كان كاذباً فلن يرجع إلى الإسلام سالماً فهذا وأمثاله مما يدخل في الكلام ولا يمكن حصره.

ومن تأمل جميع ما أوردنا من آفات اللسان علم أنه إذا أطلق لسانه لم يسلم وعند ذلك يعرف سر قوله ﷺ "من صمت نجا لأن هذه الآفات كلها مهالك ومعاطب وهي على طريق المتكلم فإن سكت سلم من الكل، وإن نطق وتكلم خاطر بنفسه إلا أن يوافقه لسان فصيح وعلم غزير وورع حافظ ومراقبة لازمة، ويقلل من الكلام فعساه يسلم عند ذلك، وهو مع جميع ذلك لا ينفك عن الخطر، فإن كنت لا تقدر على أن تكون ممن تكلم فغنم فكن ممن سكت فسلم فالسلامة إحدى الغنيمتين.

الآفة العشرون

سؤال العوام عن صفات الله تعالى وعن كلامه

وعن الحروف وأنها قديمة أو محدثة?

ومن حقهم الاشتغال بالعمل بما في القرآن إلا أن ذلك ثقيل على النفوس والفضول خفيف على القلب. والعامي يفرح بالخوض في العلم، إذ الشيطان يخيل إليه أنك من العلماء وأهل الفضل، ولا يزال يحبب إليه ذلك حتى يتكلم في العلم بما هو كفر وهو لا يدري. وكل كبيرة يرتكبها العامي فهي أسلم له من أن يتكلم في العلم لا سيما فيما يتعلق بالله وصفاته. وإنما شأن العوام الاشتغال بالعبادات والإيمان بما ورد به القرآن، والتسليم لما جاء به الرسل من غير بحث، وسؤالهم عن غير ما يتعلق بالعبادات سوء أدب منهم يستحقون به المقت من الله عز وجل ويتعرضون لخطر الكفر، وهو كسؤال ساسة الدواب عن أسرار الملوك وهو موجب للعقوبة. وكل من سأل عن علم غامض ولم يبلغ فهمه تلك الدرجة فهو مذموم، فإنه بالإضافة إليه عامي. ولذلك قال ﷺ "ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم وقال أنس: سأل الناس رسول الله ﷺ يوماً فأكثروا عليه وأغضبوه فصعد المنبر وقال "سلوني لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به، فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله من أبي? فقال "أبوك حذافة" فقال إليه شابان أخوان فقالا: يا رسول الله من أبوناً? فقال: أبوكما الذي تدعيان إليه، ثم قام إليه رجل آخر فقال: يا رسول الله أفي الجنة أنا أم في النار? فقال "لا بل في النار" فلما رأى الناس غضب رسول الله ﷺ أمسكوا فقام إليه عمر رضي الله عنه فقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد ﷺ نبياً، فقال "اجلس يا عمر رحمك الله إنك ما علمت لموفق .

وفي الحديث: نهى رسول الله ﷺ عن القيل والقال وإضاعة المال وكثرة السؤال وقال ﷺ "يوشك الناس يتساءلون بينهم حتى يقولوا قد خلق الله الخلق فمن خلق الله? فإذا قالوا ذلك فقولوا "قل هو الله أحد الله الصمد" حتى تختموا السورة ثم ليتفل أحدكم عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم .

وقال جابر: ما نزلت آية المتلاعنين إلا لكثرة السؤال . وفي قصة موسى والخضر عليهما السلام تنبيه على المنع من السؤال قبل أوان استحقاقه إذ قال "فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً" فلما سأل عن السفينة أنكر عليه حتى اعتذر وقال "لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً" فلم يصبر حتى سأل ثلاثاً قال "هذا فراق بيني وبينك" وفارقه.

فسؤال العوام عن غوامض الدين من أعظم الآفات وهو من المثيرات للفتن، فيجب قمعهم ومنعهم من ذلك. وخوضهم في حروف القرآن يضاهي حال من كتب الملك إليه كتاباً ورسم له فيه أموراً فلم يشتغل بشي منها، وضيع زمانه في أن قرطاس الكتاب عتيق أو حديث? فاستحق بذلك العقوبة لا محالة. فكذلك تضييع العامي حدود القرآن واشتغاله بحروفه أهي قديمة أم حديثة? وكذلك سائر صفات الله سبحانه وتعالى. والله تعالى أعلم.