الرئيسيةبحث

إحياء علوم الدين/كتاب الحلال والحرام/الباب السادس



الباب السادس
فيما يحل من مخالطة السلاطين الظلمة
وما يحرم وحكم غشيان مجالسهم والدخول عليهم والإكرام لهم


اعلم أن ذلك مع الأمراء والعمال الظلمة ثلاثة أحوال:

الحالة الأولى: وهي شرها أن تدخل عليهم.

والثانية: وهي دونها أن يدخلوا عليك.

والثالثة: وهي الأسلم أن تعتزل عنهم فلا تراهم ولا يرونك.

أما الحالة الأولى: وهي الدخول عليهم فهو مذموم جداً في الشرع وفيه تغليظات وتشديدات تواردت بها الأخبار والآثار، فنقلها لتعرف ذم الشرع له، ثم نتعرض لما يحرم منه وما يباح وما يكره على ما تقتضيه الفتوى في ظاهر العلم.

أما الأخبار: فإنه لما وصف رسول الله ﷺ الأمراء الظلمة قال: "فمن نابذهم نجا ومن اعتزلهم سلم أو كاد أن يسلم ومن وقع معهم في دنياهم فهو منهم" وذلك لأن من اعتزلهم سلم من إثمهم ولكن لم يسلم من عذاب يعمه معهم إن نزل بهم لتركه المنابذة والمنازعة. وقال ﷺ: "سيكون من بعدي أمراء يكذبون ويظلمون فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم ليس مني ولست منه ولم يرد علي الحوض" وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال ﷺ: "أبغض القراء إلى الله تعالى الذين يزورون الأمراء" وفي الخبر: "خير الأمراء الذين يأتون العلماء وشر العلماء الذين يأتون الأمراء" وفي الخبر: "العلماء أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان فإذا فعلوا لك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم" رواه أنس رضي الله عنه.

وأما الآثار: فقد قال حذيفة: إياكم ومواقف الفتن! قيل: وما هي? قال: أبواب الأمراء يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب ويقول ما ليس فيه. وقال أبو ذر لسلمة:يا سلمة. لا تغش أبواب السلاطين فإنك لا تصيب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينك أفضل منه، وقال سفيان: في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزوارون للملوك وقال الأوزاعي: ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملاً. وقال سمنون: ما أسمج بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد فيسأل عنه فيقال: عند الأمير. وكنت أسمع أنه يقال: إذا رأيتم العالم يحب الدنيا فاتهموه على دينكم حتى جربت ذلك، إذ ما دخلت قط على السلطان إلا وحاسبت نفسي بعد الخروج فأرى عليها الدرك مع ما أواجههم به من الغلظة والمخالفة لهواهم. وقال عبادة بن الصامت: حب القارئ الناسك الأمراء نفاق وحبه الأغنياء رياء. وقال أبو ذر: من كثر سواد قوم فهو منهم أي من كثر سواد الظلمة. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه فيخرج ولا دين له، قيل له: ولم? قال لأنه يرضيه بسخط من الله. واستعمل عمر بن عبد العزيز رجلاً فقيل: كان عاملاً للحجاج، فعزله، فقال الرجل: إنما عملت له على شيء يسير، فقال له عمر: حسبك بصحبته يوماً أو بعض يوم شؤماً وشراً. وقال الفضيل: ما ازداد رجل من ذي سلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً. وكان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت ويقول: إن في هذا لغنى عن هؤلاء السلاطين. وقال وهيب: هؤلاء الذين يدخلون على الملوك لهم أضر على الأمة من المقامرين. وقال محمد بن سلمة: الذباب على العذرة، أحسن من قارئ على باب هؤلاء. ولما خالط الزهري السلطان كتب أخ له في الدين إليه: عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن غرفك أن يدعو لك الله ويرحمك، أصبحت شيخاً كبيراً قد أثقلتك نعم الله لما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيه محمد ﷺ وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء قال الله تعالى: "لتبيننه للناس ولا تكتموه"، واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت أنك آنست وحشة الظالم وسهلت سبيل البغي بدنوك ممن لم يؤد حقاً ولم يترك باطلاً حين أدناك، اتخذوك قطباً تدور عليك رحى ظلمهم وجسراً يعبرون عليك إلى بلائهم وسلماً يصعدون فيه إلى ضلالتهم ويدخلون بك الشك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما عمروا في جنب ما خربوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك، فما يؤمن أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم: "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة" الآية. وإنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل فداو دينك فقد دخله سقم وهيئ زادك فقد حضر سفر بعيد "وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء" والسلام.

فهذه الأخبار والآثار تدل على ما في مخالطة السلاطين من الفتن وأنواع الفساد، ولكن نفصل ذلك تفصيلاً فقهياً نميز فيه المحظور عن المكروه والمباح. فنقول: الداخل على السلطان متعرض لأن يعصي الله تعالى إما بفعله أو بكسوته، وإما بقوله وإما باعتقاده فلا ينفك عن أحد هذه الأمور.

أما الفعل: فالدخول عليهم في غالب الأحوال يكون إلى دور مغصوبة وتخطيها والدخول فيها بغير إذن الملاك حرام، ولا يغرنك قول القائل: إن ذلك مما يتسامح به الناس كتمرة أو فتات خبز فإن ذلك صحيح في غير المغصوب، أما المغصوب فلا. لأنه إن قيل: إن كل جلسة خفيفة لا تنقص الملك فهي في محل التسامح? وكذلك الاجتياز فيجري هذا في كل واحد فيجري أيضاً في المجموع والغصب إنما تم بفعل الجميع، وإنما يتسامح به إذا انفرد إذ لو علم المالك به ربما لم يكرهه، فأما إذا كان ذلك طريقاً إلى الاستغراق بالاشتراك فحكم التحريم ينسحب على الكل، فلا يجوز أن يؤخذ ملك الرجل طريقاً اعتماداً على أن كل واحد من المارين إنما يخطو خطوة لا تنقص الملك، لأن المجموع مفوت للملك وهو ضريبة خفيفة في التعليم تباح ولكن بشرط الانفراد، فلو اجتمع جماعة بضربات توجب القتل وجب القصاص على الجميع مع أن كل واحدة من الضربات لو انفردت لكانت لا توجب قصاصاً. فإن فرض كونه الظالم في موضع غير مغصوب كالموات مثلاً فإن كانت تحت خيمة أو مظلة من ماله فهو حرام، والدخول إليه غير جائز لأنه انتفاع بالحرام واستظلال به، فإن فرض كل ذلك حلالاً فلا يعصى بالدخول من حيث إنه دخول ولا بقوله: السلام عليكم، ولكن إن سجد أو ركع أو مثل قائماً في سلامه وخدمته كان مكرماً للظالم بسبب ولايته التي هي آلة ظلمه والتواضع للظالم معصية. بل من التواضع لغني ليس يظالم لأجل غناه. لا لمعنى آخر اقتضى التواضع. نقص ثلثا دينه فكيف إذا تواضع للظالم? فلا يباح إلا مجرد السلام. فأما تقبيل اليد والانحناء في الخدمة فهو معصية إلا عند الخوف، أو لإمام عادل أو لعالم أو لمن يستحق ذلك بأمر ديني.

قبل أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه يد علي كرم الله وجهه لما أن لقيه بالشام فلم ينكر عليه. وقد بالغ بعض السلف حتى امتنع عن رد جوابهم في السلام والإعراض عنهم استحقاراً لهم وعد ذلك من محاسن القربات. فأما السكوت عن رد الجواب ففيه نظر، لأن ذلك واجب فلا ينبغي أن يسقط بالظلم. فإن ترك الداخل جميع ذلك واقتصر على السلام فلا يخلو من الجلوس على بساطهم وإذا كان أغلب أموالهم حراماً فلا يجوز الجلوس على فرشهم؛ هذا من حيث الفعل.

فأما السكوت: فهو أن سيرى في مجلسهم من الفرش الحرير وأواني الفضة والحرير الملبوس عليهم وعلى غلمانهم ما هو حرام. وكل من رأى سيئة وسكت عليها فهو شريك في تلك السيئة. بل يسمع من كلامهم ما هو فحش وكذب وشتم وإيذاء والسكوت على جميع ذلك حرام. بل يراهم لابسين الثياب الحرام وآكلين الطعام الحرام وجميع ما في أيديهم حرام والسكوت على ذلك غير جائز. فيجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلسانه إن لم يقدر بفعله.

فإن قلت: إنه يخاف على نفسه فهو معذور في السكوت? فهذا حق ولكنه مستغن عن أن يعرض نفسه لارتكاب ما لا يباح إلا بعذر، فإنه لو لم يدخل ولم يشاهد لم يتوجه عليه الخطاب بالحسبة حتى يسقط عنه بالعذر. وعند هذا أقول من علم فساداً في موضع وعلم أنه لا يقدر على إزالته فلا يجوز له أن يحضر ليجري ذلك بين يديه وهو يشاهده ويسكت، بل ينبغي أن يحترز عن مشاهدته.

وأما القول: فهو أن يدعو للظالم أو يثني عليه أو يصدقه فيما يقول من باطل بصريح قوله أو بتحريك رأسه أو باستبشار في وجهه، أو يظهر له الحب والموالاة والاشتياق إلى لقائه والحرص على طول عمره وبقائه، فإنه في الغالب لا يقتصر على السلام بل يتكلم ولا يعدو كلامه هذه الأقسام.

أما الدعاء له: فلا يحل إلا أن يقول: أصلحك الله أو وفقك الله للخيرات أو طول الله عمرك في طاعته أو ما يجري هذا المجرى. فأما الدعاء بالحراسة وطول البقاء وإسباغ النعمة مع الخطاب بالمولى وما في معناه فغير جائز. قال ﷺ: "من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن عصى الله في أرضه"، فإن جاوز الدعاء إلى الثناء فسيذكر ما ليس فيه فيكون به كاذباً ومنافقاً ومكرماً لظالم، وهذه ثلاث معاص. وقد قال ﷺ: "إن الله ليغضب إذا مدح الفاسق" وفي خبر آخر: "من أكرم فاسقاً فقد أعان على هدم الإسلام" فإن جاوز ذلك إلى التصديق له فيما يقول، والتزكية والثناء على ما يعمل: كان عاصياً بالتصديق وبالإعانة؛ فإن التزكية والثناء إعانة على المعصية وتحريك للرغبة فيه كما أن التكذيب والمذمة والتقبيح زجر عنه وتضعيف لدواعيه. والإعانة على المعصية معصية ولو بشطر كلمة. ولقد سئل سفيان الثوري رضي الله عنه عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء? فقال: لا، دعه حتى يموت فإن ذلك إعانة له. وقال غيره: يسقى إلى أن تثوب إليه نفسه ثم يعرض عنه. فإن جاوز ذلك إلى إظهار الحب والشوق إلى لقائه وطول بقائه: فإن كان كاذباً عصى معصية الكذب والنفاق، وإن كان صادقاً عصى بحبه بقاء الظالم وحقه أن يبغضه في الله ويمقته. فالبغض في الله واجب، ومحب المعصية والراضي بها عاص. ومن أحب ظالماً فإن أحبه لظلمه فهو عاص لمحبته وإن احبه لسبب آخر فهو عاص من حيث إنه لم يبغضه وكان الواجب عليه أن يبغضه. وإن اجتمع في شخص خير وشر وجب أن يحب لأجل ذلك الخير ويبغض لأجل ذلك الشر. وسيأتي في كتاب الإخوة والمتحابين في الله الجمع بين البغض والحب. فإن سلم من ذلك كله وهيهات فلا يسلم من فساد يتطرق إلى قلبه فإنه ينظر إلى توسعه في النعمة ويزدري نعم الله عليه ويكون مقتحماً نهي رسول الله ﷺ حيث قال: "يا معشر المهاجرين لا تدخلوا على أهل الدنيا فإنها مسخطة للرزق" وهذا مع ما فيه ن اقتداء غيره به في الدخول ومن تكثيره سواد الظلمة بنفسه وتجميله إياهم إن كان ممن يتجمل به، وكل ذلك إما مكروهات أو محظورات. دعي سعيد بن المسيب إلى البيعة للوليد وسليمان ابني عبد الملك بن مروان فقال: لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار فإن النبي ﷺ نهى عن بيعتين، فقال: ادخل من الباب واخرج من الباب الآخر، فقال: لا والله لا يقتدي بي أحد من الناس، فجلد مائة وألبس المسوح.

ولا يجوز الدخول عليهم إلا بعذرين: أحدهما: أن يكون من جهتهم أمر إلزام لا أمر إكرام وعلم أنه لو امتنع أو ذي أو فسد عليهم طاعة الرعية واضطرب عليهم أمر السياسة فيجب عليه الإجابة لا طاعة لهم بل مراعاة لمصلحة الخلق حتى لا تضطرب الولاية.

والثاني: أن يدخل عليهم في دفع ظلم عن مسلم سواه أو عن نفسه إما بطريق الحسبة أو بطريق التظلم، فذلك رخصة بشرط أن لا يكذب ولا يثني ولا يدع نصيحة يتوقع لها قبولاً فهذا حكم الدخول.

الحالة الثانية: أن يدخل عليك السلطان الظالم زائر فجواب السلام لا بد منه. وأما القيام والإكرام له فلا يحرم مقابلة له على إكرامه. فإنه بإكرام العلم والدين مستحق للإحماد كما أنه بالظلم مستحق للإبعاد. فالإكرام بالإكرام والجواب بالسلام. ولكن الأولى أن لا يقوم إن كان معه في خلوة ليظهر له بذلك عز الدين وحقارة الظلم، ويظهر غضبه للدين وإعراضه عمن أعرض عن الله فأعرض الله تعالى عنه. وإن كان الداخل عليه في جمع فمراعاة حشمة أرباب الولايات فيما بين الرعايا مهم فلا بأس بالقيام على هذه النية. وإن علم أن لا يورث فساداً في الرعية ولا يناله أذى من غضبه فترك الإكرام بالقيام أولى. ثم يجب عليه بعد أن وقع اللقاء أن ينصحه فإن كان يقارف ما لا يعرف تحريمه وهو يتوقع أن يتركه إذا عرف فليعرفه فذلك واجب. وأما ذكر تحريم ما يعلم تحريمه من السرف والظلم فلا فائدة فيه بل عليه أن يخوفه فيما يرتكبه من المعاصي مهما ظن أن التخويف يؤثر فيه. وعليه أن يرشده إلى طريق المصلحة إن كان يعرف طريقاً على وفق الشرع بحيث يحصل بها غرض الظالم من غير معصية ليصده بذلك عن الوصول إلى غرضه بالظلم. فإذاً يجب عليه التعريف في محل جهله والتخويف فيما هو مستجرئ عليه والإرشاد إلى ما هو غافل عنه مما يغنيه عن الظلم، فهذه ثلاثة أمور تلزمه إذا توقع للكلام فيه أثراً، وذلك أيضاً لازم عاى كل من اتفق له دخول عل السلطان بعذر أو بغير عذر. وعن محمد بن صالح قال: كنت عند حماد بن سلمة وإذا ليس في البيت إلا حصير وهو جالس عليه ومصحف يقرأ غيه وجراب فيه علمه ومطهرة يتوضأ منها? فبينا أنا عنده إذ دق داق الباب فإذا هو محمد بن سليمان فأذن له فدخل وجلس بين يديه ثم قال له: ما لي إذا رأيتك امتلأت منك رعباً? قال حماد: لأنه قال عليه السلام "إن العالم إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شيء وإن أراد أن يكنز به الكنوز هاب من كل شيء" ثم عرض عليه أربعين ألف درهم وقال: تأخذها وتستعين بها قال:ارددها على من ظلمته بها، قال: والله ما أعطيتك إلا مما ورثته، قال: لا حاجة لي بها قال: فتأخذها فتقسمها، قال لعلي إن عدلت في قسمتها أخاف أن يقول بعض من لم يرزق منها إنه لم يعدل في قسمتها فيأثم فازوها عني.

الحالة الثالثة: أن يعتزلهم فلا يراهم ولا يرونه وهو الواجب إذ لا سلامة إلا فيه؛ فعليه أن يعتقد بغضهم على ظلمهم ولا يحب بقاءهم ولا يثني عليهم ولا يستخبر عن أحوالهم ولا يتقرب إلى المتصلين بهم ولا يتأسف على ما يفوت بسبب مفارقتهم؛ وذلك إذا خطر بباله أمرهم، وإن غفل عنهم فهو الأحسن. وإذا خطر بباله تنعمهم فليذكر ما قاله حاتم الأصم: إنما بيني وبين الملوك يوم واحد فأما أمس فلا يجدون لذته وإني وإياهم في غد لعلى وجل وإنما هو اليوم وما عسى أن يكون في اليوم، وما قاله أبو الدرداء إذ قال: أهل الأموال يأكلون ونأكل ويشربون ونشرب ويلبسون ونلبس ولهم فضول أموال ينظرون إليها وننظر معهم إليها وعليهم حسابها ونحن منها براء. وكل من أحاط علمه بظلم ظالم ومعصية عاص فينبغي أن يحط ذلك من درجته في قلبه. فهذا واجب عليه لأن من صدر منه ما يكره نقص ذلك من رتبته في القلب لا محالة والمعصية ينبغي أن تكره فإنه إما أن يغفل عنها أو يرضى بها أو يكره ولا غفلة مع العلم ولا وجه للرضا فلا بد من الكراهة، فليكن جناية كل أحد على حق الله كجنايته على حقك فإن قلت: الكراهة لا تدخل تحت الاختيار فكيف تجب? قلنا: ليس كذلك فإن المحب يكره بضرورة الطبع ما هو مكروه عند محبوبه ومخالف له، فإن من لا يكره معصية الله لا يحب الله وإنما لا يحب الله من لا يعرفه والمعرفة واجبة والمحبة لله واجبة. وإذا أحبه كره ما كرهه واحب ما أحبه. وسيأتي تحقيق ذلك في كتاب المحبة والرضا.

فإن قلت: فقد كان العلماء السلف يدخلون على السلاطين? فأقول: نعم تعلم الدخول منهم ثم ادخل؛ كما حكي أن هشام بن عبد الملك قدم حاجاً إلى مكة فلما دخلها قال ائتوني برجل من الصحابة فقيل: يا أمير المؤمنين قد تفانوا فقال: من التابعين، فأتي بطاوس اليماني فلما دخل عليه خلع نعليه بحاشية بساطه ولم يسلم عليه بإمرة المؤمنين ولكن قال: السلام عليك يا هشام، ولم يكنه وجلس بإزائه وقال: كيف أنت يا هشام? فغضب هشام غضباً شديداً حتى هم بقتله؛ فقيل له: أنت في حرم الله وحرم رسوله ولا يمكن ذلك، فقال له: يا طاوس ما الذي حملك على ما صنعت? قال: وما الذي صنعت? فازداد غضباً وغيظاً؛ قال: خلعت نعليك بحاشية بساطي ولم تقبل يدي ولم تسلم علي بإمرة المؤمنين ولم تكنني وجلست بإزائي بغير إذني وقلت: كيف يا هشام? قال: أما ما فعلت من خلع نعلي بحاشية بساطك فإني أخلعهما بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات ولا يعاقبني ولا يغضب علي، وأما قولك لم تقبل يدي فإني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقولك لا يحل لرجل أن يقبل يد أحد إلا امرأته من شهوة أو ولده من رحمة، وأما قولك لم تسلم علي بإمرة المؤمنين فليس كل الناس راضين بإمرتك فكرهت أن أكذب، وأما قولك لم تكنني فإن الله تعالى سمى أنبياءه وأولياءه فقال: يا يحيى يا عيسى، وكنى أعداءه فقال: "تبت يدا أبي لهب". وأما قولك جلست بإزائي فإني سمعت أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه يقول: إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام. فقال له هشام: عظني، فقال: سمعت من أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يقول: إن في جهنم حيات كالقلال وعقارب كالبغال تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته. ثم قام وهرب.

وعن سفيان الثوري رضي الله عنه قال: أدخلت على أبي جعفر المنصور بمنى فقال لي: ارفع إلينا حاجتك، فقلت له: اتق الله فقد ملأت الأرض ظلماً وجوراً. قال: فطأطأ رأسه ثم رفعه فقال: ارفع إلينا حاجتك، فقلت: إنما أنزلت هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار وأبناؤهم يموتون جوعاً فاتق الله وأوصل إليهم حقوقهم، فطأطأ رأسه ثم رفعه فقال: ارفع إلينا حاجتك، فقلت: حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال لخازنه: كم أنفقت? قال: بضعة عشر درهماً، وأرى ههنا أموالاً لا تطيق الجمال حملها، وخرج فهكذا كانوا يدخلون على السلاطين إذا ألزموا وكانوا يغررون بأرواحهم للانتقام لله من ظلمهم. ودخل ابن أبي شميلة على عبد الملك ابن مروان فقال له: تكلم، فقال له: إن الناس لا ينجون في القيامة من غصصها ومراراتها ومعاينة الردى فيها إلا من أرضى الله بسخط نفسه، فبكى عبد الملك وقال: لأجعلن هذه الكلمة مثالاً نصب عيني ما عشت. ولما استعمل عثمان بن عفان رضي الله عنه عبد الله بن عامر أتاه أصحاب رسول الله ﷺ وأبطأ عنها أبو ذر. وكان له صديقاً. فعاتبه؛ فقال أبو ذر: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إنا لرجل إذا ولي ولاية تباعد الله عنه" ودخل مالك بن دينار على أمير البصرة فقال: أيها الأمير قرأت في بعض الكتب أن الله تعالى يقول ما أحمق من سلطان وما أجهل ممن عصاني! ومن اعز ممن اعتز بي? أيها الراعي السوء دفعت إليك غنماً سماناً صحاحاً فأكلت اللحم ولبست الصوف وتركتها عظاماً تتقعقع، فقال له والي البصرة: أتدري ما الذي يجرئك علينا ويجنبنا عنك?. قال: لا، قال: قلة الطمع فينا وترك الإمساك لما في أيدينا. وكان عمر بن عبد العزيز واقفاً مع سليمان بن عبد الملك، فسمع سليمان صوت الرعد فجزع ووضع صدره على مقدمة الرحل، فقال له عمر: هذا صوت رحمته فكيف إذا سمعت صوت عذابه? ثم نظر سليمان إلى الناس فقال: ما أكثر الناس، فقال عمر: خصماؤك يا أمير المؤمنين فقال له سليمان: ابتلاك الله بهم. وحكي أن سليمان بن عبد الملك قدم المدينة وهو يريد مكة فأرسل إلى أبي حازم فدعاه، فلما دخل عليه قال له سليمان: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت? فقال: لأنكم خربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب فقال: يا أبا حازم كيف القدوم على الله? قال: يا أمير المؤمنين أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه، فبكى سليمان وقال: ليت شعري ما لي عند الله?قال أبو حازم: اعرض نفسك على كتاب الله تعالى حيث قال: "إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم" قال سليمان: فأين رحمة الله? قال: قريب من المحسنين، ثم قال سليمان: يا أبا حازم أي عباد الله أكرم? قال: أهل البر والتقوى قال:فأي الأعمال أفضل? قال: أداء الفرائض مع اجتناب المحارم. قال: فأي الكلام أسمع? قال: قول الحق عند من تخاف وترجو قال: فأي المؤمنين أكيس? قال: رجل عمل بطاعة الله ودعا الناس إليها، قال: فأي المؤمنين أخسر? قال: رجل خطا في هوى أخيه وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره، قال سليمان: ما تقول فيما نحن فيه? قال: أو تعفيني? قال: لا بد فإنها نصيحة تسديها إلي، قال: يا أمير المؤمنين إن آباءك قهروا الناس بالسيف وأخذوا هذا الملك عنوة من غير مشورة المسلمين ولا رضا منهم حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة وقد ارتحلوا، فلو شعرت بما قالوا وما قيل لهم? فقال له رجل من جلسائه: بئسما قلت قال أبو حازم: إن الله قد أخذ الميثاق على العلماء ليبننه للناس ولا يكتمونه. قال: وكيف لنا أن نصلح هذا الفساد? قال: أن تأخذه من حله فتضعه في حقه، فقال سليمان: ومن يقدر على ذلك? فقال: من يطلب الجنة ويخاف من النار. فقال سليمان:ادع لي. فقال أبو حازم:اللهم إن كان سليمان وليك فيسره لخيري الدنيا والآخرة وإن كان عدوك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى، فقال سليمان: أوصني، فقال: أوصيك وأوجز، عظم ربك ونزهه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك. وقال عمر بن عبد العزيز لأبي حازم: عظني، فقال: اضطجع ثم اجعل الموت عند رأسك ثم انظر إلى ما تحب أن يكون فيك تلك الساعة فخذ به الآن، وما تكره أن يكون فيك تلك الساعة فدعه الآن، فلعل تلك الساعة قريبة. ودخل أعرابي على سليمان بن عبد الملك، فقال: تكلم يا أعرابي، فقال:

يا أمير المؤمنين إني مكلمك بكلام فاحتمله وإن كرهته فإن وراءه ما تحب إن قبلته، فقال: يا أعرابي إنا لنجود بسعة الاحتمال على من لا نرجو نصحه ولا نأمن غشه فكيف بمن نأمن غشه ونرجو نصحه? فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين إنه قد تكنفك رجال أساؤوا الاختيار لأنفسهم وابتاعوا دنياهم بدينهم ورضاك بسخط ربهم خافوك في الله تعالى ولم يخافوا الله فيك، حرب الآخرة سلم الدنيا فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله تعالى عليه فإنهم لم يألوا في الأمانة تضييعاً وفي الأمة خسفاً وعسفاً وأنت مسؤول عما اجترحوا وليسوا بمسؤولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك فإن أعظم الناس غبناً من باع آخرته بدنيا غيره، فقال له سليمان: يا أعرابي أما إنك قد سللت لسانك وهو أقطع سيفيك. قال: أجل يا أمير المؤمنين ولكن لا عليك.

وحكي أن أبا بكرة دخل على معاوية فقال: اتق الله يا معاوية واعلم أنك في كل يوم يخرج عنك وفي كل ليلة تأتي عليك لا تزداد من الدنيا إلا بعداً ومن الآخرة إلا قرباً، وعلى أثرك طالب لا تفوته وقد نصب لك علماً لا تجوزه فما أسرع ما تبلغ العلم وما أوشك ما يلحق بك الطالب، وإنا وما نحن فيه زائل وفي الذي نحن إليه صائرون باق إن خيراً فخير وإن شراً فشر. فهكذا كان دخول أهل العلم على السلاطين أعني علماء الآخرة، فأما علماء الدنيا فيدخلون ليتقربوا إلى قلوبهم فيدلونهم عل الرخص ويستنبطون لهم بدقائق الحيل طرق السعة فيما يوافق أغراضهم. وإن تكلموا بمثل ما ذكرناه في معرض الوعظ لم يكن قصدهم الإصلاح بل اكتساب الجاه والقبول عندهم. وفي هذا غروران يغتر بهما الحمقى: أحدهما: أن يظهر أن قصدي في الدخول عليهم إصلاحهم بالوعظ. وربما يلبسون على انفسهم بذلك وإنما الباعث لهم شهوة خفيفة للشهرة وتحصيل المعرفة عندهم، وعلامة الصدق في طلب الإصلاح انه لو تولى ذلك الوعظ غيره ممن هو من أقرانه في العلم ووقع موقع القبول وظهر به أثر الصلاح فينبغي أن يفرح به ويسكر الله تعالى كفايته هذا المهم، كمن وجب عليه أن يعالج مريضاً ضائعاً فقام بمعالجته غيره فإنه يعظم به فرحه. فإن كان يصادف في قلبه ترجيحاً لكلامه على كلام غيره فهو مغرور.

الثاني: أن يزعم أني أقصد الشفاعة لمسلم في دفع ظلامة. وهذا أيضاً مظنة الغرور. ومعياره ما تقدم ذكره.

وإذا ظهر طريق الدخول عليهم فلنرسم في الأحوال العارضة في مخالطة السلاطين ومباشرة أموالهم مسائل: مسألة: إذا بعث إليك السلطان مالاً لتفرقه على الفقراء فإن كان له مالك معين فلا يحل أخذه، وإن لم يكن بل كان حكمه أنه يجب التصدق به على المساكين. كما سبق. فلك أن تأخذه وتتولى التفرقة ولا تعصى بأخذه، ولكن من العلماء من امتنع عنه فعند هذا ينظر في الأولى فنقول: الأولى أن تأخذه إن أمنت ثلاث غوائل: الغائلة الأولى: أن يظن السلطان بسبب أخذك أن ماله طيب ولولا أنه طيب لما كنت تمد يدك إليه ولا تدخله ضمانك، فإن كان ذلك فلا تأخذه، فإن ذلك محذور ولا يفي الخير في مباشرتك التفرقة بما يحصل لك من الجرأة على كسب الحرام.

الغائلة الثانية: أن ينظر إليك غيرك من العلماء والجهال فيعتقدون أنه حلال فيقتدون بك في الأخذ ويستدلون به على جوازه ثم لا يفرقون، فهذا أعظم من الأول. فإن جماعة يستدلون بأخذ الشافعي رضي الله عنه على جواز الأخذ ويغفلون عن تفرقته وأخذه على نية التفرقة، فالمقتدي والمشتبه به ينبغي أن يحترز عن هذا غاية الاحتراز فإنه يكون فعله سبب ضلال خلق كثير. وقد حكى وهب بن منبه أن رجلاً أتي به إلى ملك بمشهد من الناس ليكرهه على أكل لحم الخنزير فلم يأكل، فقدم إليه لحم غنم وأكره بالسيف فلم يأكل، فقيل له في ذلك فقال: إن الناس قد اعتقدوا أني طولبت بأكل لحم الخنزير، فإذا خرجت سالماً وقدأكلت فلا يعلمون ماذا أكلت فيضلون. ودخل وهب بن منبه وطاوس على محمد بن يوسف - أخي الحجاج - وكان عاملاً وكان في غداة باردة في مجلس بارز فقال لغلامه: هلم ذلك الطيلسان وألقه على أبي عبد الرحمن - أي طاوس- وكان قعد على كرسي فألقي عليه فلم يزل يحرك كتفيه حتى ألقى الطيلسان عنه، فغضب محمد بن يوسف فقال وهب: كنت غنياً عن أن تغضبه لو أخذت الطيلسان وتصدقت به قال: نعم لولا أن يقول من بعدي إنه أخذه طاوس - ولا يصنع به ما أصنع به - إذن لفعلت.

الغائلة الثالثة: أنه يتحرك قلبك إلى حبه لتخصيصه إياك وإيثاره لك بما أنفذه إليك، فإن كان كذلك فلا تقبل ذلك هو السم القاتل والداء الدفين أعني ما يحبب الظلمة إليك، فإن من أحبته لا بد أن تحرص عليه وتداهن فيه. قالت عائشة رضي الله عنها: جبلت النفوس على حب من أحسن إليها. وقال عليه السلام: "اللهم لا تجعل لفاجر عندي يداً فيحبه قلبي" بين ﷺ أن القلب لا يكاد يمتنع من ذلك. وروي أن بعض الأمراء أرسل إلى مالك بن دينار بعشرة آلاف درهم فأخرجها كلها فأتاه محمد بن واسع فقال: ما صنعت بما أعطاك هذا المخلوق? قال: سل أصحابي? فقالوا: أخرجه كله، فقال: أنشدك الله أقلبك أشد حباً له الآن أم قبل أن أرسل إليك? قال: لا بل الآن، قال: إنما كنت أخاف هذا. وقد صدق فإنه إذا أحبه أحب بقاءه وكره عزله ونكبته وموته وأحب اتساع ولايته وكثرة ماله، وكل ذلك حب لأسباب الظلم وهو مذموم. قال سلمان وابن مسعود رضي الله عنهما: من رضي بأمر وإن غاب عنه كان كمن شهده قال تعالى: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا" قيل لا ترضوا بأعمالهم فإن كنت في القوة بحيث لا تزداد حباً لهم بذلك فلا بأس بالأخذ. وقد حكي عن بعض عباد البصرة أنه كان يأخذ أموالاً ويفرقها فقيل له: ألا تخاف أن تحبهم? فقال: لو أخذ رجل بيدي وأدخلني الجنة ثم عصى ربه ما أحبه قلبي، لأن الذي سخره للأخذ بيدي هو الذي أبغضه لأجله شكراً له على تسخيره إياه. وبهذا تبين أخذ المال الآن منهم وإن كان ذلك المال بعينه من وجه حلال محذور ومذموم لأنه لا ينفك عن هذه الغوائل.

مسألة: إن قال قائل: إذا جاز أخذ ماله وتفرقته فهل يجوز أن يسرق ماله أو تخفى وديعته وتنكر وتفرق على الناس? فنقول: ذلك غير جائز لأنه ربما يكون له مالك معين وهو على عزم أن يرده عليه، وليس هذا كما لو بعثه إليك، فإن العاقل لا يظن به أن يتصدق بمال يعلم مالكه فيدل تسليمه على أنه لا يعرف مالكه فإن كان ممن يشكل عليه مثله فلا يجوز أن يقبل منه المال ما لم يعرف ذلك ثم كيف يسرق ويحتمل أن يكون ملكه قد حصل له بشراء في ذمته? فإن اليد دلالة على الملك. فهذا لا سبيل إليه بل لو وجد لقطة وظهر أن صاحبها جندي واحتمل أن تكون له بشراء في الذمة أو غيره وجب الرد عليه. فإذاً لا يجوز سرقة ما لم لا منهم ولا ممن أودع عنده. ولا يجوز إنكار وديعتهم ويجب الحد على سارق مالهم إلا إذا ادعى السارق أنه ليس ملكاً لهم فعند ذلك يسقط الحد بالدعوى.

مسألة: المعاملة معهم حرام لأن أكثر مالهم حرام فما يؤخذ عوضاً فهو حرام، فإن أدى الثمن من موضع يعلم حله فيبقى النظر فيما سلم إليهم، فإن علم أنهم يعصون الله به كبيع الديباج منهم وهو يعلم أنهم يلبسونه فذلك حرام كبيع العنب من الخمار، وفي معناه بيع الفرس منهم، لا سيما في وقت ركوبهم إلى قتال المسلمين أو جباية أموالهم فإن ذلك إعانة لهم بفرسه وهي محظورة. فأما بيع الدراهم والدنانير منهم وما يجري مجراها مما لا يعصى في عينه بل يتوصل بها فهو مكروه لما فيه من إعانتهم على الظلم لنهم يستعينون على ظلمهم بالأموال والدواب وسائر الأسباب وهذه الكراهة جارية في الإهداء إليهم وفي العمل لهم من غير أجرة حتى في تعليمهم وتعليم أولادهم الكناية والترسل والحساب، وأما تعليم القرآن فلا يكره إلا من حيث أخذ الأجرة فإن ذلك حرام إلا من وجه يعلم حله، ولو انتصب وكيلاً لهم يشتري لهم في الأسواق من غير جعل أو أجرة فهو مكروه من حيث الإعانة، وإن اشترى لهم ما يعلم أنهم يقصدون به المعصية كالغلام والديباج للفرش واللبس والفرس للركوب إلى الظلم والقتل فذلك حرام. فمهما ظهر قصد المعصية بالمبتاع حصل التحريم ومهما لم يظهر واحتمل بحكم الحال ودلالتها عليه حصلت الكراهة.

مسألة: الأسواق التي بنوها بالمال الحرام تحرم التجارة فيها ولا يجوز سكناها، فإن سكنها تاجر واكتسب بطريق شرعي لم يحرم كسبه وكان عاصياً بسكناه، وللناس أن يشتروا منهم، ولكن لو وجدوا سوقاً أخرى فالأولى الشراء منها فإن ذلك إعانة لسكناهم وتكثيراً لكراء حوانيتهم، وكذلك معاملة السوق التي لا خراج لهم عليها أحب من معاملة سوق لهم عليها خراج، وقد بالغ القوم حتى تحرزوا من معاملة الفلاحين وأصحاب الأراضي التي لهم عليها الخراج فإنهم ربما يصرفون ما يأخذون إلى الخراج فيحصل به الإعانة، وهذا غلو في الدين وحرج على المسلمين فإن الخراج قد عم الأراضي ولا معنى للمنع منه، ولو جاز هذا لحرم على المالك زراعة الأرض حتى لا يطلب خراجها. وذلك مما يطول ويتداعى إلى حسم باب المعاش.

مسألة: معاملة قضاتهم وعمالهم وخدمهم حرام كمعاملتهم بل أشد. أما القضاة، فلأنهم يأخذون من أموالهم الحرام الصريح ويكثرون جمعهم ويغرون الخلق بزيهم فإنهم على زي العلماء ويختلطون بهم ويأخذون من أموالهم والطباع مجبولة على التشبه والاقتداء بذوي الجاه والحشمة. فهم سبب انقياد الخلق إليهم. وأما الخدم والحشم فأكثر أموالهم من الغضب الصريح ولا يقع في أيديهم مال المصلحة وميراث وجزية ولا وجه حلال حتى تضعف الشبهة باختلاط الحلال بمالهم. قال طاوس: لا أشهد عندهم وإن تحققت لأني أخاف تعديهم على من شهدت عليه. وبالجملة، إنما فسدت الرعية بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء فلولا القضاة السوء والعلماء السوء لقل فساد الملوك خوفاً من إنكارهم. ولذلك قال ﷺ: "لا تزال هذه الأمة تحت يدي الله وكنفه ما لم يمالئ قراؤها أمراءها". وإنما ذكر القراء لأنهم كانوا هم العلماء وإنما كان علمهم بالقرآن ومعانيه المفهومة بالسنة. وما وراء ذلك من العلوم فهي محدثة بعدهم. وقد قال سفيان: لا تخالط السلطان ولا من يخالطه. وقال صاحب القلم وصاحب الدواة وصاحب القرطاس وصاحب الليطة بعضهم شركاء بعض. وقد صدق فإن رسول الله ﷺ لعن في الخمر عشرة حتى العاصر والمعتصر وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "آكل الربا وموكله وشاهداه وكاتبه ملعونون على لسان محمد ﷺ". وكذا رواه جابر وعمر عن رسول الله ﷺ وقال ابن سيرين: لا تحمل للسلطان كتاباً حتى تعلم ما فيه، وامتنع سفيان رحمه الله من مناولة الخليفة في زمانه دواة بين يديه وقال: حتى أعلم ما تكتب بها فكل من حواليهم من خدمهم وأتباعهم ظلمة مثلهم يجب بغضهم في الله جميعاً.

وروي عن عثمان بن زائدة أنه سأله رجل من الجند وقال: أين الطريق? فسكت وأظهر الصمم وخاف أن يكون متوجهاً إلى ظلم فيكون هو بإرشاده إلى الطريق معيناً. وهذه المبالغة لم تنقل عن السلف مع الفساق من التجار والحاكة والحجامين وأهل الحمامات والصاغة والصباغين وأرباب الحرف مع غلبة الكذب والفسق عليهم، بل مع الكفار من أهل الذمة، وإنما هذا في الظلمة خاصة الآكلين لأموال اليتامى والمساكين والمواظبين على إيذاء المسلمين الذين تعاونوا على طمس رسوم الشريعة وشعائرها. وهذا لأن المعصية تنقسم إلى لازمة ومتعدية، والفسق لازم لا يتعدى، وكذا الكفر وهو جناية على حق الله تعالى وحسابه على الله وأما معصية الولاة بالظلم وهو متعد فإنما يغلظ أمرهم لذلك وبقدر عموم الظلم وعموم التعدي يزدادون عند الله مقتاً فيجب أن يزداد منهم اجتناباً ومن معاملتهم احترازاً فقد قال ﷺك "يقال للشرطي دع سوطك وادخل النار" وقال ﷺ: "من أشراط الساعة رجال معهم سياط كأذناب البقر"، فهذا حكمهم ومن عرف بذلك منهم فقد عرف ومن لم يعرف فعلامته القباء وطول الشوارب وسائر الهيئات المشهورة. فمن رئي على تلك الهيئة تعين اجتنابه ولا يكون ذلك من سوء الظن لأنه الذي جنى على نفسه إذ تزيا بزيهم، ومساواة الزي تدل على مساواة القلب ولا يتجانن إلا مجنون ولا يتشبه بالفساق إلا فاسق، نعم الفاسق قد يلتبس فيستبه بأهل الصلاح فأما الصلح فليس له أن يتشبه بأهل الفساد لأن تكثير لسوادهم، وإنما نزل قوله تعالى: "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" في قوم من المسلمين كانوا يكثرون جماعة المشركين بالمخالطة، وقد روي أن الله تعالى أوحى إلى يوشع بن نون إني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم وستين ألفاً من شرارهم، فقال: ما بال الأخيار? قال: إنهم لا يغضبون لغضبي فكانوا يؤاكلونهم ويشاربونهم. وبهذا يتبين أن بعض الظلمة والغضب لله عليهم واجب، وروى ابن مسعود عن النبي ﷺ: "إن الله لعن علماء بني إسرائيل إذ خالطوا الظالمين في معاشهم".

مسألة: المواضع التي بناها الظلمة كالقناطر والرباطات والمساجد والسقايات ينبغي أن يحتاط فيها وينظر. أما القنطرة فيجوز العبور عليها للحاجة، والورع الاحتراز ما أمكن وإن وجد عنه معدلاً تأكد الورع. وإنما جوزنا العبور وإن وجد معدلاً لأنه إذا لم يعرف لتلك الأعيان مالكاً كان حكمها أن ترصد للخيرات وهذا خير، فأما إذا عرف أن الآجر والحجر قد نقل من دار معلومة أو مقبرة أو مسجد معين فهذا لا يحل العبور عليه أصلاً إلا لضرورة يحل بها مثل ذلك من مال الغير، ثم يجب عليه الاستحلال من المالك الذي يعرفه. وأما المسجد فإن بني في أرض مغصوبة أو بخشب مغصوب من مسجد آخر أو ملك معين فلا يجوز دخوله أصلاً ولا للجمعة بل لو وقف الإمام فيه فليصل هو خلف الإمام وليقف خارج المسجد فإن الصلاة في الأرض المغصوبة تسقط الفرض وتنعقد في حق الاقتداء، فلذلك جوزنا للمقتدي الاقتداء بمن صلى في الأرض المغصوبة وإن عصى صاحبه بالوقوف في الغصب،. وإن كان من مال لا يعرف مالكه فالورع العدول إلى مسجد آخر إن وجد فإن لم يجد غيره فلا يترك الجمعة والجماعة به لأنه يحتمل أن يكون من الملك الذي بناه ولو على بعد وإن لم يكن له ملك معين فهو لمصالح المسلمين ومهما كان في المسجد الكبير بناء لسلطان ظالم فلا عذر لمن يصلي فيه مع اتساع المسجد، أعني في الورع، قيل لأحمد بن حنبل: ما حجتك في ترك الخروج إلى الصلاة في جماعة ة نحن بالعسكر? فقال: حجتي أن الحسن وإبراهيم التيمي خافا أن يفتنهما الحجاج وأن أخاف أن أفتن أيضاً. وأما الخلوق والتجصيص فلا يمنع من الدخول لأنه غير منتفع به في الصلاة وإنما هو زينة والأولى أنه لا ينظر إليه، وأما البواري التي فرشوها فإن كان لها مالك معين فيحرم الجلوس عليها وإلا فبعد أن أرصدت لمصلحة عامة جاز افتراشها، ولكن الورع العدول عنها فإنها محل شبهة. وأما السقاية فحكمها ما ذكرناه وليس من الورع الوضوء والشرب منها والدخول إليها إلا إذا كان يخاف فوات الصلاة فيتوضأ وكذا مصانع طريق مكة. وأما الرباطات والمدارس فإن كانت رقبة الأرض مغصوبة أو الآجر منقولاً من موضع معين يمكن الرد إلى مستحقه فلا رخصة للدخول فيه وإن التبس المالك فقد أرصد لجهة من الخير، والورع اجتنابه ولكن لا يلزم الفسق بدخوله. وهذه الأبنية إن أرصدت من خدم السلاطين فالأمر فيها أشد إذ ليس لهم صرف الأموال الضائعة إلى المصالح ولأن الحرام أغلب على أموالهم إذ ليس لهم أخذ مال المصالح وإنما يجوز ذلك للولاة وأرباب الأمر.

مسألة: الأرض المغصوبة إذا جعلت شارعاً لم يجز أن يتخطى فيه البتة وإن لم يكن له مالك معين جاز، والورع العدول إن أمكن، فإن كان الشارع مباحاً وفوقه ساباط جاز العبور وجاز الجلوس تحت الساباط على وجه لا يحتاج فيه إلى السقف كما يقف في الشارع لشغل، فإذا انتفع بالسقف في دفع حر الشمس أو المطر أو غيره فهو حرام لأن السقف لا يراد إلا لذلك، وهكذا حكم من يدخل مسجداً أو أرضاً مباحة سقف أو حوط بغصب فإنه بمجرد التخطي لا يكون منتفعاً بالحيطان والسقف إلا إذا كان له فائدة في الحيطان والسقف لحر أو برد تستر عن بصر أو غيره، فذلك حرام لأنه انتفاع بالحرام إذ لم يحرم الجلوس على الغصب لما فيه من المماسة بل للانتفاع، والأرض تراد للاستقرار عليها والسقف للاستظلال به فرق بينهما.