→ كتاب آداب الكسب والمعاش | إحياء علوم الدين كتاب آداب الكسب والمعاش- الباب الأول المؤلف: أبو حامد الغزالي |
الباب الثاني ← |
أما من الكتاب فقوله تعالى "وجعلنا النهار معاشاً" فذكره في معرض الامتنان. وقال تعالى "وجعلنا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون" فجعلها ربك نعمة وطلب الشكر عليها. وقال تعالى "فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله" وأما الأخبار؛ فقد قال ﷺ "من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهم في طلب المعيشة" وقال عليه الصلاة والسلام "التاجر الصدوق يحشر يوم القيامة مع الصديقين والشهداء" وقال ﷺ "من طلب الدنيا حلالاً وتعففاً عن المسألة وسعياً على عياله وتعطفاً على جاره لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر" وكان ﷺ جالساً مع أصحابه ذات يوم فنظروا إلى شاب ذي جلد وقوة وقد بكر يسعى، فقالوا: ويح هذا، لو كان شبابه وجلده في سبيل الله؛ فقال ﷺ "لا تقولوا هذا، فإنه إن كان يسعى على نفسه ليكفلها عن المسألة ويغنيها عن الناس فهو في سبيل الله؛ وإن كان يسعى على أبوين ضعيفين أو ذرية ضعاف ليغنيهم ويكفيهم فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى تفاخراً وتكاثراً فهو في سبيل الشيطان" وقال ﷺ "إن الله يحب العبد يتخذ المهنة ليستغني بها عن الناس، ويبغض العبد يتعلم العلم يتخذه مهنة" وفي الخبر "إن الله تعالى يحب المؤمن المحترف" وقال ﷺ "أحل ما أكل الرجل من كسبه وكل بيع مبرور".
وفي خبر آخر: "أحل ما أكل العبد كسب يد الصانع إذا نصح" وقال عليه الصلاة والسلام: "عليكم بالتجارة فإن فيها تسعة أعشار الرزق" وروي أن عيسى عليه السلام رأى رجلاً فقال: ما تصنع? قال: أتعبد. قال من يعولك? قال أخي. قال أخوك أعبد منك. وقال نبينا ﷺ: "إني لا أعلم شيئاً يقربكم من الجنة ويبعدكم من النار إلا أمرتكم به، وإني لا أعلم شيئاً يبعدكم من الجنة ويقربكم من النار إلا نهيتكم عنه، وإن الروح الأمين نفث في روعي: إن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" أمر بالإجمال في الطلب ولم يقل اتركوا الطلب، ثم قال في آخره "ولا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله تعالى، فإن الله لا ينال ما عنده بمعصية" وقال ﷺ: "الأسواق موائد الله تعالى، فمن أتاها أصاب منها" وقال عليه السلام: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير من أن يأتي رجلاً أعطاه الله تعالى من فضله فيسأله أعطاه أو منعه" وقال: "من فتح على نفسه باباً من السؤال فتح الله عليه سبعين باباً من الفقر". وأما الآثار، فقد قال لقمان الحكيم لابنه: يا بني، استغن بالكسب الحلال عن الفقر، فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال : رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته، وأعظم من هذه الثلاث :استخفاف الناس به. وقال عمر رضي الله عنه: لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق يقول اللهم ارزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة. وكان زيد بن مسلمة يغرس في أرضه فقال له عمر رضي الله عنه: أصبت، استغن عن الناس يكن أصون لدينك وأكرم لك عليهم، كما قال صاحبكم أحيحة: فلن أزال على الزوراء أغمرها إن الكريم على الإخوان ذو المال.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إني لأكره أن أرى الرجل فارغاً لا في أمر دنياه ولا في أمر آخرته. وسئل إبراهيم عن التاجر الصدوق، أهو أحب إليك أم المتفرغ للعبادة? قال التاجر الصدوق أحب إلي، لأنه في جهاد يأتيه الشيطان من طريق المكيال والميزان ومن قبل الأخذ والعطاء فيجاهده، وخالفه الحسن البصري في هذا. وقال عمر رضي الله عنه: ما من موضع يأتيني الموت فيه أحب إلي من موطن أتسوق فيه لأهلي أبيع وأشتري. وقال الهيثم: ربما يبلغني عن الرجل يقع في فأذكر استغنائي عنه فيهون ذلك علي. وقال أيوب: كسب فيه شيء أحب إلي من سؤال الناس. وجاءت ريح عاصفة في البحر، فقال أهل السفينة لإبراهيم بن أدهم رحمه الله وكان معهم فيها: أما ترى هذه الشدة? فقال: ما هذه الشدة، وإنما الشدة الحاجة إلى الناس. وقال أيوب قال لي أبو قلابة: الزم السوق فإن الغنى من العافية،يعني الغنى عن الناس. وقيل لأحمد: ما تقول فيمن جلس في بيته أو مسجده وقال لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي? فقال أحمد: هذا الرجل جهل العلم، أما سمع قول النبي ﷺ "إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي" وقوله عليه السلام حين ذكر الطير فقال: "تغدوا خماصاً وتروح بطاناً" فذكر أنها تغدوا في طلب الرزق، وكان أصحاب رسول الله ﷺ يتجرون في البر والبحر ويعملون في نخيلهم والقدوة بهم. وقال أبو قلابة لرجل: لأن أراك تطلب معاشك أحب إلي من أن أراك في زاوية المسجد. وروي أن الأوزاعي لقي إبراهيم بن أدهم رحمهم الله وعلى عنقه حزمة حطب؛ فقال له: يا أبا إسحق إلى متى هذا? إخوانك يكفونك؛ فقال: دعني عن هذا يا أبا عمرو، فإنه بلغني أنه من وقف موقف مذلة في طلب الحلال وجبت له الجنة. وقال أبو سليمان الداراني: ليس العبادة عندنا أن تصف قدميك وغيرك يقوت لك? ولكن ابدأ برغيفك فأحرزهما ثم تعبد. وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: ينادي مناد يوم القيامة: أين بغضاء الله في أرضه؛ فيقوم سؤال المساجد، فهذه مذمة الشرع للسؤال والاتكال على كفاية الأغيار. ومن ليس له مال موروث فلا ينجيه من ذلك إلا الكسب والتجارة.
فإن قلت: فقد قال ﷺ "ما أوحي إلي أن أجمع المال وكن من التاجرين، ولكن أوحي إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" وقيل لسلمان الفارسي. أوصنا؛ فقال: من استطاع منكم أن يموت حاجاً أو غازياً أو عامراً لمسجد ربه فليفعل، ولا يموتن باجراً ولا خائناً. فالجواب: أن وجه الجمع بين الأخبار تفصيل الأحوال؛ فنقول: لسنا نقول التجارة أفضل مطلقاً من كل شيء، ولكن التجارة إما أن تطلب بها الكفاية أو الثروة أو الزيادة على الكفاية؛ فإن طلب منها الزيادة على الكفاية لاستكثار المال وادخاره لا ليصرف إلى الخيرات والصدقات فهي مذمومة، لأنه إقبال على الدنيا التي حبها رأس كل خطيئة، فإن كان مع ذلك ظالماً خائناً فهو ظلم وفسق، وهذا ما أراده سلمان بقوله؛ لا تمت تاجراً ولا خائناً، وأراد بالتاجر: طالب الزيادة، فأما إذا طلب بها الكفاية لنفسه وأولاده وكان يقدر على كفايتهم بالسؤال فالتجارة تعففاً عن السؤال أفضل، وإن كان لا يحتاج إلى السؤال وكان يعطى عن غير سؤال فالكسب أفضل، لأنه إنما يعطى لأنه سائل بلسان حاله ومناد بين الناس بفقره، فالتعفف والتستر أوفى من البطالة، بل من الاشتغال بالعبادات البدنية وترك الكسب أفضل لأربعة: عابد بالعبادات البدنية؛ أو رجل له سير بالباطن وعمل بالقلب في علوم الأحوال والمكاشفات، أو عالم مشتغل بتربية علم الظاهر مما ينتفع الناس به في دينهم كالمفتي والمفسر والمحدث وأمثالهم، أو رجل مشتغل بمصالح المسلمين وقد تكفل بأمورهم كالسلطان والقاضي والشاهد، فهؤلاء إذا كانوا يكفون من الأموال المرصدة للمصالح أو الأوقاف المسبلة على الفقراء أو العلماء، فإقبالهم على ما هم فيه أفضل من اشتغالهم بالكسب، ولهذا أوحي إلى رسول الله ﷺ أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين ولم يوح إليه أن كن من التاجرين لأنه كان جامعاً لهذه المعاني الأربعة إلى زيادات لا يحيط بها الوصف، ولهذا أشار الصابة على أبي بكر رضي الله عنهم بترك التجارة لما توفي أوصى برده إلى بيت المال، ولنه رآه في الابتداء أولى، ولهؤلاء الأربعة حالتان أخريان: إحداهما أن تكون كفايتهم عند ترك المكسب من أيدي الناس وما يتصدق به عليهم من زكاة أو صدقة من غير حاجة إلى سؤال، فترك الكسب والاشتغال بما هم فيه أولى، إذ فيه إعانة الناس على الخيرات وقبول منهم لما هو حق عليهم وأفضل لهم. الحالة الثانية: الحاجة إلى السؤال، وهذا في محل النظر، والتشديدات التي رويناها في السؤال وذمه تدل ظاهراً على أن التعفف عن السؤال أولى وإطلاق القول فيه من غير ملاحظة الأحوال والأشخاص عسير، بل هو موكول إلى اجتهاد العبد ونظره لنفسه بأن يقابل ما يلقي في السؤال من المذلة وهتك المروءة والحاجة إلى التثقيل والإلحاح بما يحصل من اشتغاله بالعلم والعمل من الفائدة له ولغيره، فرب شخصٍ تكثر فائدة الخلق وفائدته في اشتغاله بالعلم والمحذور، فينبغي أن يستفتي المريد فيه قلبه وإن أفتاه المفتون، فإن الفتاوى لا تحيط بتفاصيل الصور ودقائق الأحوال ولقد كان في السلف من له ثلثمائة وستون صديقاً تنزل على كل واحد منهم ليلة ومنهم من له ثلاثون، وكانوا يشتغلون بالعبادة لعلمهم بأن المتكلفين بهم يتقلدون منة من قبولهم لمبراتهم، فكان قبولهم لمبراتهم خيراً مضافاً لهم إلى عباداتهم، فينبغي أن يدقق النظر في هذه الأمور فإن أجر الآخذ كأجر المعطي مهما كان الآخذ يستعين به على الدين والمعطي يعطيه عن طيب قلب. ومن اطلع على هذه المعاني أمكنه أن يتعرف حال نفسه ويستوضح من قلبه ما هو الأفضل له بالإضافة إلى حاله ووقته، فهذه فضيلة الكسب، وليكن العقد الذي به الاكتساب جامعاً لأربعة أمور: الصحة، والعدل، والإحسان، والشفقة على الدين. ونحن نعقد في كل واحد باباً، ونبتدىء بذكر أسباب الصحة في الباب الثاني.