الفصل الثامن عشر | مغامرات حاجي بابا الإصفهاني الفصل التاسع عشر. حاجي بابا يدخل في خدمة طبيب الشاه والعمل الأول الموكل إليه المؤلف: جيمس موريير المترجم: ( • م) |
الفصل العشرون |
الفصل التاسع عشر. حاجي بابا يدخل في خدمة طبيب الشاه والعمل الأول الموكل إليه
حالما عدت دعاني الطبيب إلى الغرفة وطلب مني الجلوس، فجلست وأنا أراعي كامل مراسم التواضع الذي يجب أن يظهره الأدنى للأعلى منه على مثل هذا الشرف. أعلمني أن الشاعر عندما حدثه عني أطنب في مدحي وأوصاه بي على أني الشخص الذي يمكن الاعتماد عليه، وأشار بوجه خاص إلى تعقلي وحصافتي، وإلى أنني عندي تجربة في الحياة، وإلى أنني واسع الحيلة، وفي حال كلفني بأي أمر يحتاج إلى حذر وتكتم فأنا خير من يتولاه بكل المهارة المطلوبة. انحنيت له مراراً وهو يتكلم وأبقيت يديّ مضمومتين باحترام أمامي مغطاتين بأطراف أكمامي وحرصت أن تبقى قدماي مستورتين تماماً. ثم تابع قائلاً: «عندي حاجة إلى شخص مثلك تماماً في هذه اللحظة تحديداً، وبما أنني أثق ثقة عميقة بتوصية صديقي عسكر، أنوي الاستفادة من مساعيك، وإن نجحت في تحقيق ما أتوقعه منك ثق أن ذلك سيكون خيراً لك، وأنني لن أنسى معروفك.»
ثم طلب مني أن أدنو منه أكثر وقال بصوت خافت، وهو يتلفت حول كتفيه وكأنه يخشى أن يسمعه أحد: «يا حاجي، لعلك تعلم أن سفيراً من الفرنجة قدم إلى البلاط مؤخراً، وبين حاشيته طبيب. وقد ذاع صيت هذا الكافر في بلدنا، فهو يعالج مرضاه بوسائل جديدة علينا، وجلب معه صندوقاً مليئاً بأدوية نجهل هنا، في بلاد فارس، حتى أسماءها. إنه لا يميز بين الأمراض الحارة والباردة ولا بين العلاجات الحارة والباردة كما أمرنا جالينوس وابن سينا، بل يعطي الزئبق كدواء مبرِّد ويطعن البطن بأداة حادة لعلاج الريح[1]، والأسوأ من كل هذا أنه يزعم أنه يستطيع الوقاية من الجدري بواسطة حقن مستخلص ما من الأبقار في الجسم، وهو اكتشاف جديد لأحد فلاسفتهم. هذا غير مقبول يا حاجي، فالجدري كان دائماً مصدراً هاماً للدخل، ولا أتحمل خسارته بسبب قدوم كافر جاء إلى بلدنا ليعاملنا معاملة البقر. لا يجوز أن ندعه يخطف الخبز من أفواهنا. ولكن ما أريدك أن تساعدني به هو شيء آخر. وقع الوزير العظيم مريضاً منذ يومين بعد أن أكل أكثر من عادته من الخس والخيار بالخل والسكر، فوصل ذلك إلى مسمع السفير الفرنجي، فهو بالفعل كان حاضراً أثناء أكل الخس فأرسل إليه طبيبه طالباً منه أن يسمح له بفحصه وعلاجه عسى أن يفرج عن ألمه. ويبدو أن الوزير العظيم والسفير لم تكن علاقاتهما على ما يرام لفترة ما لأن السفير طالب بامتيازات سياحية رفضها الوزير حرصاً منه على مصلحة فارس؛ وهنا رأى أن قبول طبيب هذا الكافر قد يكون فرصةً للمصالحة والتوصل إلى حل وسط. لو خبرتُ بالأمر في حينه لاستطعت بسهولة أن أحبط هذه المؤامرة، ولكن الطبيب الفرنجي لم يضيع لحظة فأعطاه دواءً هو عبارة عن حبة صغيرة بيضاء لا طعم لها، كما سمعت. ولسوء الحظ كان تأثيرها عجيباً حقاً، فقد ارتاح الوزير العظيم فوراً فصار لا يتحدث الآن إلا عن هذا ويقول أنه شعر كيف أن الحبة قد سحبت الرطوبة من أطراف أصابعه واكتشف في نفسه حيوية ونشاطاً من جديد حتى بات يسخر من شيخوخته بل بدأ يفكر بإكمال عدد زوجاته إلى العدد الذي يجيزه شرع الله تعالى ورسوله الكريم. ولكن النحس لم يتوقف عند ذلك الحد، إذ ذاعت أخبار الدواء والطبيب الفرنجي في البلاط، بل أول ما تحدث الشاه عنه في استقبال السلام صباح اليوم كانت الصفات العجيبة للدواء، فاستدعى الوزير العظيم ليكرر أمامه كل ما حكاه سابقاً عن الموضوع، فتحدث عن العجائب التي حدثت لشخصه والحضور يبدون إعجابهم واستحسانهم. ثم التفت جلالته إلي وطلب مني أن أشرح له كيف يمكن أن تنجم آثار بهذا الكبر عن أسباب بهذا الصغر، فاضطررت إلى ارتجال تعليل، فانحنيت انحناءة عميقة لأخفي ارتباكي ثم سجدتُ وقبّلت الأرض وقلتُ: «أفديك يا ملك الملوك! لم أر الدواء الذي أعطاه الطبيب الكافر إلى خادم جلالتك الوزير العظيم. ولكن حالما أراه سأبلغ جلالتك عن مكوناته. وأتوسل إلى جلالتك أن تضع في بالك أن القوة الفاعلة لهذا الدواء لابد وأنها روح شريرة تعادي الدين الحق لأنها أداة في يد كافر يسمي نبينا بالمحتال ولا يؤمن بالقضاء والقدر.»
وبعد أن قلت هذا لكي أطعن في سمعته المتنامية انصرفت وأنا أفكر في السبيل إلى كشف جميع أسرار هذا الكافر، ولا سيما معرفة طبيعة وصفته التي صنعت المعجزات؛ ومن حسن حظي أتيتَ أنتَ لتساعدني. وسأكلفك بأن تستشفي عقله وتنقب في علومه. ولكن بما أنني أريد عينة من نفس الدواء الذي أعطاه للوزير العظيم إذ عليّ أن أبلغ الشاه غداً عن تركيبه، عليك أن تبدأ خدمتك لي بأن تكثر من أكل الخس والخيار حتى تصيبك العلة عينها التي أصابت الوزير، ثم تراجع الفرنجي الذي سيعطيك بلا شك حبة تماثل تماماً تلك التي أعطاها للوزير فتحضرها إلي لأفحصها.»
فقلت وأنا أشعر بالخوف من هذا الطلب الغريب: ولكن، كيف أمثل أمام رجل لا أعرفه؟ ثم أنني سمعت قصصاً عجيبة كثيرة عن الفرنجة فلا أعرف كيف أتصرف معهم، فهل تعطيني بضع نصائح؟»
فأجاب الميرزا أحمق: «الحق معك، فأخلاقهم وعاداتهم تختلف تماماً عن أخلاقنا وعاداتنا، فاعلم أنهم بدل أن يحلقوا رؤوسهم ويطلقوا لحاهم يعملون العكس فلا ترى أثراً للشعر على ذقونهم، بينما شعر رأسهم كثيف وكأنهم نذروا ألا يحلقوه أبداً. كما أنهم يجلسون على منصات صغيرة، بينما نحن نتربع على الأرض، ويتناولون طعامهم بمخالب مصنوعة من حديد، بينما نأكل بأصابعنا، ويبقون ماشين جيئة وذهاباً، بينما نبقى جالسين، ويرتدون ملابس ضيقة، بينما نرتدي ملابس فضفاضة، ويكتبون من اليسار إلى اليمين بينما نكتب من اليمين إلى اليسار، ولا يصلون أبداً، بينما نحن نصلي الصلوات الخمس؛ أي باختصار الحديث عن عاداتهم لا ينتهي، ولكن ما لا شك به هو أنهم أقذر الناس في الدنيا، فهم لا يعتبرون أي شيء نجساً إذ يأكلون كل الحيوانات من الخنزير إلى السلحفاة دون أن يقرفوا ودون أن يذبحوها كما ينبغي. إنهم يشرّحون جثامين الموتى ولا يتطهرون بعد ذلك، وبعد الخروج لقضاء الحاجة لا يتشطفون بالماء ولا حتى يتيممون بالرمل.»
فسألته: «وهل يصدق الخبر أنهم سريعو الغضب، وأنّ أحدهم، إذا شككت في كلامه وقلت له أنت تكذب يبارزك حتى يقتلك أو تقتله؟»
فأجاب الطبيب: «هذا ما يقال عنهم، والله أعلم، فلم يحدث أن وصفت أحدهم بالكذاب. ولكن علي أن أحذرك من أمر: لو حدث أن أحدهم أعجب بشيء رآه عندك فإياك أن تقول لهم، كما عهدنا بين بعضنا، «مقدَّمة هدية لك، على حسابك»، لأنهم يأخذون هذه الكلمة بمعناها الحرفي فيقبلون الهدية وهي ليست كذلك ويضعونها في جيبهم، وما أكثر الجيوب في معاطفهم وسراويلهم! وعليك أن تحاول دائماً أن تقول ما تفكر به، فهذا ما يحبونه.»
فقلت: «إن كان الأمر كذلك، ألا تعتقد أن الطبيب الفرنجي سيكتشف الكذبة في فمي حين يراني أتمارض ولا مرض فيّ، وأطلب دواء لي، وهو لغيري؟»
فقال الميرزا: «لا، لا! يجب أن تكون مريضاً حقاً، ولن يكون هناك كذب. اذهب، يا حاجي، يا صديقي، كل خياراً فوراً واحضر لي الحبة بحلول المساء.» وهنا وضع يده على كتفي ودفعني برفق من الغرفة ليمنعني من التردد والاعتراض على طلبه العجيب، فتركته وأنا لا أعرف إن كان علي أن أفرح أم أبكي من هذا المنصب الذي حصلت عليه. لم أكن لأرضى بأن أوقع نفسي في مرضٍ بلا مكافأة متفق عليها، لذا رجعت وأنا أنوي مساومة سيدي على الأجر. ولكن عندما وصلت إلى الغرفة لم أجده فيها، فقد عاد على الأغلب إلى بيت الحريم؛ ولذا اضطررت إلى الذهاب لتنفيذ مهمتي التي كلفني بها.
هوامش
- ↑ المقصود هنا نزح استسقاء البطن ببزله، وهذه العملية لم يكن عند الأطباء الفرس علمٌ بها حتى تعلموها من الجراحين الأوروبيين.